التصوّف العليم (5):
لماذا تُبْغِضُ شُيوخَ التصوّف ؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
قال لي أحدهم: عَهْدي بك يا شيخُ عدابُ صوفيّاً، وعندما كنت
عندما في العراق؛ لازمت الشيخ محمد عبدالكريم الكسنزان، قدّس الله سرّه العزيز،
حتى مغادرتك العراق عام (2002م).
ثمّ انقلبت على السادةِ الصوفيّة، وصرتَ تكتبُ المنشورات ضدّهم!
قلت له:
قال لي:
قلت له:
وقال لي ؟!!
أقول وبالله التوفيق:
أنا الفقير عداب، نشأتُ صوفيّاً بين أبوين – والله الشاهد –
من أهل الكشفِ والبصيرة!
وأخذت الطريقَ على الشيخ عبدالقادر عيسى، عام (1960) ولي من
العمر عشرُ سنين.
وبأمرٍ من الشيخ عبدالقادر عيسى، وبإذن من جدي ووالدي؛ لا زمت تلميذه
الشيخ فارس بن أحمد السالم أكثرَ من سنتين.
وفي أواخر عام (1962) لزمت درس الشيخ محمد الحامد العلميّ،
وأخذت عليه الطريق النقشبندي عام (1963) وواظبت على حضور مجلس الختم بعد صلاة
العشاء، حتى أكرمني الله تعالى، فشاهدت الجنة والنار يقظة في صلاةِ عشاء، ورأيت
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم حينئذٍ، ومعه بعض أصحابه الكبار.
وظللت سالكاً الطريق النقشبنديّ طيلةَ حياة الشيخ محمد الحامد،
ثمّ سلكت وبايعت الشيخ محمد عليّ المراد.
وظللت على طريق النقشبنديّ حتى أُخرت من الحجاز، عام (1991م).
وفي الحجاز أكرمني الله تبارك وتعالى برؤية الحبيب المصطفى في
المنام كثيراً، وكثيراً جدّاً.
وبعض الناس ينسبني إلى الوهّابية، لصحبتي شيخي، وصاحب الفضل
عليّ عبدالعزيز ابن باز، وهذا من ضيق الأفق!
فقد كنت أقتنص مواسمَ الحجّ، وألتقي بشيوخ من شتى الفرق
الإسلامية، حتى البهرة والآغاخانية والإباضيّة، ولا والله ما كان ذلك سرّاً، بل
كان جهاراً نهاراً!
وكان الإمام محمد بن عبدالله الشيرازي الحسينيّ الإيرانيّ، ينصب
مخيّمه في أوّل طلعة الفَلْق في كلّ عام، وكنت أزوره باستمرار، وأتحاور معه
أحياناً، ومع خلفائه في الأكثر في أمور الخلاف بين أهل السنّة والشيعة.
وفي واحدٍ من الأعوام التقيت أحدَ أئمة الشيعة الزيديّة، في
سهرة طويلة، فقلت له في آخرها: كنتُ أسمع من شيوخنا في سوريا ومصر أنّ الزيدية
أقرب إلى أهل السنّة، لكنني – والله – أراكم أشدّ تعصّباً من الشيعة الإمامية، ومن الوهابيّة!
والتقيت في مكة المكرمة عشراتِ العلماء، وحضرت عدداً من مجالس
التصوّف في منزل شيخنا محمد نور سيف المهريّ بمكة، وفي المدينة المنورة أيضاً!
وعندما سُجنتُ في الطائف في رمضان عام (1412) أكرمني الله تعالى
في السجن بكرامةٍ، كانت باكورةَ الفتح، بِبَركة التصوّف.
مشكلة الناس أنهم يظنّون، فيتّهمون، فيلقون الكلام جزافاً!
ربما يسبّب هذا الإشكال على بعض المغرضين أنني لست رجلاً
مذهبيّاً، ولا أوجب التقليد على أحد، ولست مقلّداً، ولم أتعصّب منذ سنة (1970) وحتى
هذا اليوم إلى أيّ طائفة أو مذهب، ولو جوّزت للعالمٍ التقليدَ؛ لما جوّزت له
تقليدَ غير الشافعيّ على الإطلاق!
لا تفضيلاً لمذهب الشافعيّ على مذاهب أهل البيت، معاذ الله
تعالى، وإنما لأنّ الشافعيّ أسس وأنضج وكتب مذهبه بنفسه، بخلاف سائرِ الأئمة سواه،
فهم لم يكتبوا أصولهم ولا مذاهبهم، يستوي في ذلك أئمة أهل البيت وغيرهم!
والقول بغير ذلك سفسطةٌ، لا تساوي فلساً!
هذا الموقف الفكريّ من قضيّة المذهبية والاجتهاد؛ هو الذي يدعو
بعض الناس إلى القول بأنني كنت وهّابيّاً، أو سلفيّاً !
دخلت مرّةً إلى دار الحديث الخيريّة، التي كنت أستاذاً محاضراً
فيها، فوجدتهم كتبوا على اللوحة الإرشادية : «يقال للذين ينفون
المكانَ على الله تعالى، هل المكانة سوى مؤّنث المكان»؟
فقلت لأحد الطلبة: أعطني لوح طبشور، فأعطاني، فكتبت: «كاتب
هذا الكلام حمار» !!
كوّنوا لي لجنةَ محاكمةٍ، وحدّدوا يومها وساعتها، فلم أحضر، وأبلغوا
هم الشيخ عبدالعزيز ابن باز بما كتبتُ، وبعدم حضوري مجلس المحاكمة، فلا أدري ماذا
قال لهم!
لكنّه اتّصل بي بعد يومين أو ثلاثة من الطائف، وقال لي: التحق
بعملك، الله يهديك يا شيخ عداب، إنّ الطلاب بحاجة إليك... إلخ!
وحين كتب بي «أحد عملاء المخابرات السعودية» إلى الشيخ
عبدالعزيز تقريراً بفساد عقيدتي وتصوّفي وأنني أبغض السلف والشيخ ناصر الألبانيّ
والشيخ محمد بن عبدالوّهاب؛ غضب الشيخ عليّ غضباً شديداً، فجئت إليه بعد صلاة
الفجر
في مكة المكرمة، وألقيت السلامَ عليه، فلم يردّ عليّ وقال: الذي أبلغنا ليس بفاسق!
قلت له: بلى هو فاسق ومنافق أيضاً، وأنت يا شيخ عبدالعزيز قاض،
ولا يجوز لك أن تقضي كما قضى داود عليه السلام، اسمع مني كما سمعت من خصمي، أنا
والله لا أخافك ولا أرجوك، إنما أحبّك وأحترمك، وأنت من أصحاب الفضل عليّ!
فحدّد لي موعداً بعد الساعة العاشرة ليلاً.
فكتبت له في أثناء النهار ثلاثَ عشرة صفحة، وسلّمته إيّاها،
فقرأها عليه بحضوري الشيخ إبراهيم الحصيّن التميمي.
كان فيها: «واعلم يا سماحة الشيخ أنني لست حنبليّاً في
الصفات ولا في الفقه، وهب أنّ اجتهادي أوصلني إلى مثل رأي المعتزلة، وأوصلني إلى
بغضك وبغض الشيخ ناصر والشيخ محمد بن عبدالوهّاب، بل حتى بغض أحمد ابن حنبلٍ ذاته،
فهل يلزمني سوى اجتهادي»؟
فقال: «لا والله مثلك لا يلزمه إلا اجتهاده» وانتهت الوشاية
القذرة في مهدها!
وفي مجلس مع صهر الشيخ الألبانيّ، أخي الفاضل الدكتور رضا بن
نعسان معطي، قلت له: تعرف يا شيخ رضا؟
قال: تفضلّ !
قلت له: اثنان من المسلمين، لم أستطع أن أحبّهما مدة دقيقةٍ
واحدة في حياتي!؟
قال: يا لطيف، من هما؟
قلت له: عمّك الشيخ ناصر الألباني، والشيخ محمد بن عبدالوهّاب.
فالذي يتّهمني بأنني كنت وهّابيّاً؛ كذّاب فاجر، كائناً مَن
كان!
ولو كنت وهّابياً؛ لما خجلت من ذلك، فسائر عوامّ الأمة يمرّون
بمرحلة «صوفيّ
أو وهابيّ» ولا بدّ!
عقب تسفيري من الحجاز، واستقراري في الأردنّ؛ تعرّفت إلى
شيخنا الجليل الفاضل علي أبو زيد الرفاعيّ، فسلكت عليه الطريقَ الرفاعيّ، وفتح
الله تعالى عليّ فتوحاً عظيماً في الظاهر والباطن.
وكان منزلي «زاويةً» للطريقة الرفاعية، بإذن الشيخ علي أبو
زيد.
وحين انتقلت إلى العراق سلكت على يدي شيخنا الجليل الفاضل
حاتم كاظم الدليمي الرفاعيّ وأكرمنا الله معه بكراماتٍ تتعذر على الحصر!
وفي عام (1995) عندما ردّت اللجنة الأنباريّة الناصبيّة
أطروحتي للدكتوراه؛ لم يكن الشيخ حاتم قادراً على الوقوف بجانبيّ في هذه المحنة.
جلستُ في بيتي، وانخذل عني بعض تلامذتي المجازين مني، لكنّ
أكثرهم ولله الحمد استمرّوا معي!
لكنّ وضعي كان سيّئاً، والتشهير والتكفير على المنابر؛
جعلني حبيس بيتي، وإلا فإنني سأخوض معاركَ قتاليّة مع حمقى أهل العراق!
في هذه الأثناء؛ زارني حضرة الشيخ محمد نهرو بن الشيخ محمد
بن عبدالكريم الكسنزانيّ ومعه وفدٌ من التكية الكسنزانية في بغداد، وقال: إنّ حضرة
الوالد الشيخ يطلب منك الإشراف على دورة الكسنزان الأولى، فاعتذرت منه بشدّة، حتى
خرج خجلاً من عدم استجابتي.
فذهب إلى والده الشيخ محمد، ثمّ رجع، وقال: يقول لك السيد
الوالد: الأمر ليس إليك ولا إلى الشيخ، أنت مأمور من جدودك بالإشراف على دورة
الكسنزان الأولى، وستقوم بها غصباً ما عليك!
ذهبتُ إلى حضرة الشيخ محمّد الجليل الفاضل، وقصّ عليّ
تكليفَ الأجدادِ بالقيام على هذا العمل العلميّ الجليل، فقلت له: يا مولانا، لا
أظنّه يخفى عليك ما فعله بي نواصب الأنبار !؟
فقال الشيخ محمد: متى قمت بهذا العمل، فلا تستطيع قوّة على
وجه الأرض أن تقترب منك، فأنت في رعاية أجدادنا الكرام، ثمّ أنت أخي وابن عميّ،
مَن يتجرّأ عليك بكلمة؛ ألقيث رأسه عن جسده» أو كلاماً بهذا المعنى!
بايعتُ الشيخ محمّداً الكسنزان بيعة الطريق، وقلت: «على قدر
جهدي وطاقتي واختياري» فأنا لست من العوام، فوافق!
وبقيت معلّم الطريقةِ الكسنزانية ومفتيها والمحاور باسمها،
حتى خرجت من العراق عام (2002).
وعندما استقرّ الشيخ محمد الكسنزان في عمّان، كنت أزوره
وأزور أولاده الكرام.
ولم يحدث قطُّ أنني تهجّمت عليهم، أو نلتُ منهم، أو تبرّأتُ
من الطريق، فهذا كلّه كذب وزور!
إنّما كتبت مقالاتِ «التصوّف العليم» تصويباً لمسيرة
التصوّف، وليس هجوماً على أحد!
في حياة الشيخ محمد الكسنزان، كنت أختلف معه في بعض
المسائل، وكان يستمع إليّ، ففي بعض الأحيان يقبلُ مني، وفي بعضها الآخر يُشعرني
بعدم قناعته، وهو في الحالين رأس اللطف والاحترام والأدب!
وكذلك كانت الحال مع الشيخ حاتم الرفاعي، وسائر شيوخ
التصوّف الذين التقيت بهم في بغداد، والأردنّ وغيرهما، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.
أنا الفقير إلى الله تعالى صوفيّ شاذليّ رفاعيّ قادريّ
نقشبنديّ ، ومأذون بالإرشاد والتسليك في الطرق الثلاثِ الأولى، ومأذون بالختم وإعطاء
الإذن بالأوراد على الطريقة النقشبندية فحسب.
لكنّني أرفضُ الغلوَّ بالمشايخ رفضاً باتّاً، وجميع الألقاب
التي يضفونها على شيوخنا المعاصرين مبالغ فيها، فليس فيهم واحدٌ غوثاً، ولا قطباً،
ولا بدلاً، ولا وتداً.
إنّما هم من عوامّ المشايخ الصوفيّة، أصحاب الصدق والإخلاص
والتقوى – ولا أزكّيهم على الله تعالى – وقد شاهدت بنفسي
منهم كراماتٍ، توجب عليّ أن أقول: إنهم من عبادِ الله الصالحين.
وماداموا جميعاً ليسوا علماءَ في نظري، ومادام أحد لا
يستطيع أن يأتي ببرهان على أنهم معصمون أو محفوظون من الخطأ؛ فهم عرضة للأخطاء
الصغيرة والكبيرة معاً!
وليس معنى أنهم عرضة لذلك؛ أنهم وقعوا بذلك فعلاً، أعوذ
بالله تعالى أن أقول ذلك.
فمهمّتي أنا الفقير الصوفيّ المشتغل بالعلوم الشرعيّة؛ أن
أظهر الأخطاءَ العقدية والفكرية والسلوكية والأخلاقية، التي أسمعها أو أقرؤها، وأحذّر
منها بالقلم واللسان.
فمَن قَبِلَ من الشيوخِ وأصلح؛ فيكون أحسنَ واتّقى الله
تعالى، ومن لم يَقبلْ، وراح يزعم أنّني جاهلٌ، لا أعرف عن «التصوّف» شيئاً؛ فهو
الجاهل المركّب، وتصوّفٌ لا أعرفه أنا الفقير؛ هو تصوّفٌ باطل، ليس عليه من الله
تعالى ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم برهان البتة!
ولعمري إذا كان تلامذتي العوامّ، يعرفون التصوّف الصحيح
أكثر مني؛ فتلك كارثة في العقل البشريّ حقّاً!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق