اجتماعيات (16):
الشيوخ الذين
لم يؤلّفوا الكتب !؟
بسم
الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا
فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ
بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).
ذكرت في منشور أمس جملةَ «
إنّ العالم؛ هو الباحث المؤلّف الناقد، ومَن ليس بمؤلّف؛ فليس بعالمٍ البتة، ربما
يكون أيَّ شيء آخر، لكنه ليس عالماً»!
فعلّق أحدُ الإخوةِ
بقوله: «لا يشترط في العالم التأليف... وهناك علماء لم يصنّفوا الكتب، لكنهم
صنّفوا الرجال».
أقول وبالله التوفيق:
هذه الجملة سمعتها
أكثر من مائة مرّة بيقين، وهي عندي صحيحة من وجه، وباطلةٌ بيقين من وجه آخر!
قالوها عن شيخنا محمد
الحامد الحموي.
وقالوها عن شيخنا خالد
الشقفة الحموي.
وقالوها عن شيخنا زاكي
الدندشي الحموي.
وقالوها عن شيخنا حسن
حبنّكة الدمشقيّ.
وقالوها عن شيخنا محمد
سعيد رمضان البوطي الدمشقيّ.
وقالوها عن شيخنا
عبدالغني عبدالخالق المصريّ.
وقالوها عن شيخنا محمد
عبداللطيف سالم «الحافظ التجاني».
وقالوها في عشراتٍ
غيرهم من شيوخنا، رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.
ولنأخذ شيخنا محمد بن محمود الحامد الحمويّ أنموذجاً كريماً، إذ صحبته من
(10/ 1962) حتى واريناه مثواه الأخير، في (6/ 5/ 1969).
الشيخ محمد
الحامد كان يدرّس في ثانويّة ابن رُشد مادّة الديانة.
وكان خطيباً
في جامع السلطان، وجامع المدفن.
ومدرّساً
عامّاً في جامع السلطان، وجامع الأحدب.
وكان عضوَ
جمعيّة العلماء في مدينة حماة.
وكان عضو
لجنة الإفتاء في مديريّة الأوقاف، بحماة.
وجهوده
العلميةُ والاجتماعية في مدينة حماة؛ لا ينكرها حتى العميان.
وحدّث عن
ورعه وتقواه وإنفاقه في سبيل الله تعالى، ما شئت أن تحدّث.
كُتبه
ورسائله التي صنّفها؛ يحبّها عامّة الحمويين، ويُجلّها تلامذته على وجه الخصوص.
لكنْ ليس
لها تلك القيمة العلمية خارج هذه الدائرة.
في عام
(1976م) طلب مني أحد الطابعين في مصر أنّ أبلّغ شيخي محمود بن محمد الحامد، برغبته
بطباعة رسائل الشيخ محمد الحامد، شريطةَ أن يقوم الشيخ محمود بتخريج أحاديثها.
حين عرضت
الموضوع على الشيخ محمود؛ قال: أنا لا أجيد تخريج الأحاديث، حاولت مرّةً البحثَ عن
حديثٍ، فجهدتُ ولم أجده، أو كلاماً كهذا.
قلت له:
بصفتي الآن أدرس علم الحديث على سيدي الحافظ التجاني، هل تسمح لي بأن أخرّج
أحاديثَ إحدى الرسائلِ، وأعرضها عليه، ثم أعرضها عليك، قبل طباعتها، ومن دون ذِكر
اسمي أو صفتي على غلاف الرسالة أو في داخلها؟
قال حفظه
المولى لنا ما معناه: «لا لا لا ،
قل لهذا الرجل: إن شاء أن يطبعها كما هي؛ فنحن نأذن له بذلك، وإلّا فغير مسموح
لأحدٍ أن يتدخّل في مادّة الرسائلِ، والدي أعلم بما كتب ووضع في رسائله».
أخبرتُ
الطابعَ بذلك؛ فقال: ذهب العصرُ الذي كان يقبل الناسُ من المؤلف كلَّ ما يكتب،
وأعرض عن طباعة الرسائل.
وعندما يدور
حوارٌ بيننا وبين غيرنا من الحمويين، ويقولون لنا: إنّ كتب الشيخ محمد الحامد
حنفية مذهبية، وليس فيها ذاك العمق البرهانيّ، والمنهجية العلميّة !؟
كنّا نقول
لهم: كان شيخنا الحامد يربي الرجال، ولم يكن لديه وقتٌ للتأليف!
فيقولون:
لكنّه ألّف وكتب، وأنتم في تراجمه تفتخرون بتآليفه!
الحقّ الذي
لا بدّ من لفتِ أنظار الناس إليه؛ أنّ مقرئي المتون المجازين المجيزين؛ هم الذين
يحقّ لهم أن يقولوا، أو يقال عنهم: «صنعوا رجالاً»!
أمّا
أصحاب الدروس العامّة، مثل شيخنا الحامد، ومثلي؛ فهم مساهمون في بناء الرجال!
شيخنا
وأستاذنا الدكتور مصطفى الزلميّ؛ لزم واحداً من شيوخه الأكراد، فأقرأه علوم العربية
والمنطق والفلسفة الإسلامية وعلم الكلام، وأصول الفقه والفقه والتفسير والحديث.
وفقَ
المنهج الذي كان معمولاً به في بلاد الأكراد، ثمّ أجازه شيخه هذا بالمعقول
والمنقول
رحمهما
الله تعالى.
فيمكننا
أن نقول: إنّ هذا الشيخ أسّسَ وصنع الدكتور مصطفى الزلميّ، الذي طوّر نفسه واجتهد،
حتى حصل على شهادتي دكتوراه، في الشريعة وفي القانون.
ثمّ
ترقّى في الدرجات العلمية، حتى حصل على لقب أستاذِ متمرّس.
لكنْ هل
يحقّ لواحدٍ منّا نحن طلّابَه المجازين منه أن نقول: صنعنا الدكتور الزلميّ؟
بالتأكيد لا
!
لأنّنا قد
اشترك في صناعتنا عشرات، وربما أكثر من (100) شيخ، واحدٌ منهم الدكتور الزلميّ،
والآخر الشريف محمد الحافظ التجاني، والشيخ محمد الحامد!
شيخي
وأستاذي الدكتور غسّان عبدالسلام حمدون الواعي، من أبرز تلامذة الشيخ محمد الحامد
المعجبين به، وهو ممن يردّد هذه المقولة عن شيخنا الحامد كثيراً.
سألته
مرّة، أطال الله بقاءه في عافية وستر وعمل
صالح: أنت لازمت شيخنا الحامد ملازمةً تامّةً، أو شبه تامّة عشر سنين، هل تعدّ
نفسكَ خرّيج الشيخ محمد الحامد؟
حادَ عن
الجواب، كعادته، وقال: أنا استفدت في اليمن كثيراً، وكثيراً جدّاً!
ثمّ ذكر لي
الذين أخذ عليهم علم القراءات، وعلم العربية، والفقه الزيديّ، ووو!
فشيخي غّسان
إذن؛ ليس خرّيجَ الشيخ محمد الحامد، ولا هو الذي صنعه!
وأنا مثل
شيخي غسّان، فقد صحبت شيخنا الحامد ستّ سنين، لم نقرأ عليه متناً كاملاً قطّ، ولا
أنجزنا في أيّ علمٍ من العلوم التي كان يعلّمنا إيّاها كتاباً البتّة!
وما يقولونه
عن الدرس الصباحي الخاصّ؛ فهو درس مذاكرةٍ، أكثرَ منه درساً علميّاً.
وممّن كان
مواظباً على الدرس الخاصّ الأستاذ الشاعر الأديب السيّد محمد منير الجنباز الحسينيّ،
حفظه المولى تعالى، والأستاذ الشاعر الأديب السيّد عبدالقادر أحمد الحدّاد
الجيلانيّ الحسنيّ، رحمه الله تعالى.
وقد سألت
كلّاً منهما عن «الدرس الخاصّ»
الذي كان بعضهم يهوّل من عظمته!
فقال لي
الأستاذ محمد منير: هو درس مفيدٌ من دون شكٍّ، لكنّ وقته قصير، وهو أقرب إلى
المذاكرة، منه إلى الدروس المتخصصة.
وسألتُ عنه
الأستاذ عبدالقادر، فقال: مجلس أنسٍ ومذاكرة وحوار ومسامرة!
فالشيخ غسّان
إنما صنعه اجتهادُه بتوفيق الله تعالى إيّاه، على أيدي شيوخٍ كثيرين، واحدٌ منهم
الشيخ محمد الحامد.
ختاماً: لا
يحقّ لأحدٍ من أصحاب الدروس العامّة أن يقالَ عنه: صنع الرجال!
لأنّ
الرجالَ؛ هم صنعوا أنفسهم، بتلقيهم العلومَ على عشراتِ الشيوخِ، في فنونٍ متعدّدة.
وقد كان
عددٌ من طلّابي أصحاب الدرسِ الخاصّ، أرداوا أن يَنْحَوا هذا المنهج، فحذّرتهم
منه، ووجّهتهم إلى ضرورة الأخذ على المشايخِ الآخرين؛ لأنني لن أستطيع إعطاءَهم
كلَّ ما يحتاجونه من علوم.
وأنا الآن
نادمٌ على هذا أشدّ الندم، فلو أنني علّمتهم جميعَ المتون التي تلقّيتها على شيوخي،
بقراءة سريعة عجلى؛ لكان خيراً بكثيرٍ مما حرصت على تعليمهم إيّاه من «منهجيّة
التفكير الصحيح».
]رَبَّنا:
ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ
مِنَ الْخَاسِرِينَ[.
هذا.. وصلّى
الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق