مَسائل حديثيّة (15):
أخطاءُ الإمامِ عَليٍّ عليه السلام (1)!؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
أرسل إليّ أحدُ إخواني وأهلي مقطعاً للواعظ الكويتيّ عثمان
الخميس، يسردُ فيه أخطاء الإمام عليّ عليه السلام.
وطَلَب مني هذا الأخ الفاضل أن أبدي وجهةَ نظري العلمية فيما
قاله الشيخ الخميس!
أقول وبالله التوفيق:
لن يكون ردّي على الشيخ عثمان الخميس – شفاه الله تعالى من دائب النصب – فهو واعظ، من جملة الوعّاظ الذين يعتقدون بصحّة جميع ما في
الصحيحين؛ لجهلهم بعلوم الحديث.
وأذكّر بأنني خرّجت هذه الأحاديثَ سابقاً، في منشورات مستقلّة،
بيد أنني متكاسل في البحث عنها.
- الحديث الأوّل: تحريق السبئيّة بالنار.
أخرج البخاريّ في الجهاد والسير، باب لا يعذَّب بعذاب الله
(3017) من حديث سفيانَ بن عيينة عن أَيُّوبَ السَختيانيّ، عَنْ عِكْرِمَةَ مولى
ابن عبّاس؛ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَرَّقَ قَوْمًا.
فَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا؛ لَمْ
أُحَرِّقْهُمْ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
قَالَ: (لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ) وَلَقَتَلْتُهُمْ كَمَا
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ؛ فَاقْتُلُوهُ).
وأعاده البخاريّ في كتاب استتابة المرتدين والمعاندين (6922) من
حديث حَمَّاد بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ أُتِيَ عَلِيٌّ
رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ، فَأَحْرَقَهُمْ» بمثل الحديث السابق.
وأخرجه جمع من المحدّثين، والترمذيّ (1458) وقال: «حديث حسن
صحيح».
وأعرض مسلمٌ عن هذه القصّة التافهة، ولم يحتجّ بعكرمة في حديث
واحدٍ قطّ!
قال عداب: الحديث صحيح الإسناد إلى عكرمة مولى ابن عبّاس.
فيكون في الإسناد أربعُ عِلَل:
الأولى: أنّ عكرمة لم يلقَ عليّاً عليه السلام.
قال العلائيّ في جامع التحصيل (532): «عكرمة مولى ابن عباس رضي
الله عنهما، يريد رضي الله عن عبدالله والعبّاس، وليس عن عكرمة هذا.
قال ابن المدينيّ: لا أعلمه سمع من أحدٍ مِن أزواج النبي صلى
الله عليه وسلم شيئاً.
وقال أبو حاتم الرازيّ: لم يسمع من سعد بن أبي وقاصٍ، ولا من
عائشة.
وقال أبو زرعة: عكرمة عن أبي بكر الصديق، وعن علي رضي الله
عنهما؛ مرسل».
والثانية: أنّ عكرمة خارجيّ صُفريّ ناصبيّ، كما في الكامل (6:
470) لابن عديٍّ وغيره، وهو يبغض الإمام عليّاً، فهو منافق نفاقاً عمليّاً في أحسن
أحواله.
والراوي إذا روى ما يؤيّد بدعته؛ نُظِرَ له عن متابع أو شاهد.
ولم يتابع عكرمةَ هذا أحدٌ على نسبة تحريق الإمام عليّ الزنادقةَ
أحياءً أحدٌ!
والثالثة: أنّ عكرمةَ كذّاب عند عددٍ من أهل العلم.
نقل ابن عديّ في الكامل (6: 469) عن عطاء بن أبي رباح، وعن محمد
بن سيرين، وهما معاصران له أنهما قالاً: هو كذّاب.
فأيّ حديثٍ ينفرد به عكرمة؛ لا يساوي عندنا بصلةٌ منتنة!
والرابعة: أنّ الرجلَ كان وضيعَ النفسِ، فاقدَ المروءة، فكان
يسافر إلى البلدان، ويأتي أمراء الظالمين، يطلب جوائزهم.
فالبدعةُ وخوارم المروءة وحدهما كافيان، في ردّ حديثِ هذا
المفتريّ الأفّاق، سواءٌ أخرج له البخاريّ، أم أخرج له الجميع!
والبخاريّ يعتقد اعتقاداً باطلاً بأنّ الخوارجَ لا يكذبون،
ولذلك أخرج حديث عكرمة، وحديث عمرانَ بن حطّان.
فأخرج لعكرمة (139) روايةً مكرّرةً في صحيحه، بينما لم يخرج له
مسلم سوى حديثاً واحداً من طريقين، قرنه في إحداهما بطاوس (1208) والثانية بسعيد
بن جبير (1208) وأعرض عن هذه القصة الساقطة.
وأخرج لعمران بن حطّان روايتين (5835، 5952) بينما تحاماه مسلم
تماماً.
وساق الإمام الشافعي في الأم (1: 294) حديثَ عكرمة هذا، ثمّ قال
في ختام كلامه: «أهل الحديث لا يُثبتونَه؛ لأنه منقطع»!؟
ولا مانع أن نضيف رأي الإمام أبي عمر بن عبدالبرَ الأندلسيّ.
ففي كتاب التمهيد له (5: 317) قَالَ: «قَدْ رُوِّينَا مِنْ
وُجُوهٍ أَنَّ عَلِيًّا إِنَّمَا أَحْرَقَهُمْ بَعْدَ قَتْلِهِمْ.
ذَكَرَ الْعُقَيْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ وَذَكَرَهُ أَبُو زَيْدٍ عُمَرُ بْنُ
شَبَّةَ قَالَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ قَالَ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ
سَوَّارٍ قَالَ حَدَّثَنَا خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ عَنْ سَلَّامِ بْنِ أَبِي
الْقَاسِمِ عَنْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي عُثْمَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: جَاءَ
نَاسٌ مِنَ الشِّيَعَةِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالُوا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ:
أَنْتَ هُوَ !
قَالَ: مَنْ أَنَا؟ قَالُوا: أَنْتَ هُوَ!
قَالَ: وَيْلَكُمُ مَنْ أَنَا؟
قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا.
قَالَ: وَيْلَكُمُ، ارْجِعُوا، فَتُوبُوا !
فَأَبَوْا، فَضَرَبَ أَعْنَاقَهُمْ، ثُمَّ قَالَ يَا قَنْبَرُ،
ائْتِنِي بِحُزَمِ الْحَطَبِ، فَحَفَرَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أُخْدُودًا
فَأَحْرَقَهُمْ».
وهذه القصّة – إن
صحّت – فلا
يلحق الإمامَ منها شنارٌ؛ لأنّ تحريقهم بعد قتلهم ليس مثلةً من جهة، ولأنّ الشاةَ
لا يضرها سلخها بعد ذبحها.
وأخرج الإمام أحمد في مسنده (2968) من حديث عَبْدِالصَّمَدِ
بْنِ عَبْدِالْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٍ الدستوائيّ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ
أَنَسِ بنِ مَالِكٍ، عَنِ ابن عَبَّاسٍ؛ أَنَّ عَلِيًّا أُتِيَ بِأُنَاسٍ مِنَ
الزُّطِّ يَعْبُدُونَ وَثَنًا، فَأَحْرَقَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
(إِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ).
وأخرجه ابن حبّان في صحيحه (4475) من الطريق ذاتها، مقتصراً على
المرفوع من الحديث: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ
فَاقْتُلُوهُ) من دون ذكر قصة التحريق.
أمّا حديث أنسٍ هذا في نسبة التحريق إلى الإمام عليّ عليه
السلام؛ فيكفينا في ردّها قول أبي حاتم الرازيّ: «كَذَا يَرْوِيهِ عبدالصَّمد!
وَإِنَّمَا هُوَ: قَتَادة عَنْ عِكْرِمَة؛ أنَّ عَلِيًّا...الحديث.
يعني أنّ حديث أنسٍ خطأ، أخطأ به عبدالصمد بن عبدالوارث.
وفي هذا القدر كفاية لبيان أنّ نسبةَ تحريقِ الناس أحياء، إلى
سيّدنا الإمام عليّ السلام؛ باطلة من حديث قتادة عن أنس، ومن حديث عكرمة عن عليّ
عليه السلام.
وإلى لقاء قادمٍ في الردّ على مَن أحصى أخطاء الإمام عليٍّ عليه
السلام، من الواعظين الجهلاء!
والله تعالى أعلم
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق