الجمعة، 30 نوفمبر 2012

المجتمعات الاسلامية المعاصرة.. بين الاسلام والطائفية


الإسلام بمعناه الشامل: هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعبادته، فهو دين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. والإسلام في صورته الأخيرة الخاتمة: هو الدين الذي بعث به الله تعالى رسوله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمون هم الذين يدينون لله تعالى بهذا الدين.
ودين الإسلام له ثلاث شعبٍ كبرى هي: شعبةُ الإسلام، وشعبة الإيمان، وشعبة الإحسان.
فشعبة الإسلام: وهي المرقاة الأولى في هذا الدين، تشمل النطقَ بالشهادتين، وإقامَ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحجّ إلى البيت الحرام. فمن قام بأركان الإسلام هذه؛ فهو مسلم.
وشعبة الإيمان: وهي المرقاة الثانية الأعلى في هذا الدين وتشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر. فمن يعتقد بأركان الإيمان هذه؛ فهو مؤمن إن شاء الله تعالى. وأما الإيمان بالقدر فقد اختلف المسلمون في فهم كيفيّة الاعتقاد به على مذاهب كثيرة:
فأهل السنة لهم مذاهب متعددة في مفهوم القدر؛ فالأشاعرة يؤمنون بما يسمونه الكسب، ومعناه منحُ الله تعالى العبد قدْراً من الحرية يمكّنه من اكتساب أفعاله، مع خضوع كسـبه لإرادة الله تعالى، ويوافقهم الإباضية في نظرية الكسب.
وأكثر الصوفية وأهل الحديث جبرية (رفعت الأقلام، وجفّت الصحف)، والمعتزلة يرون أنّ الله تعالى أقدرَ العبدَ على خلق أفعال نفسه، وللعبد الحرية المطلقة في الاختيار، ويوافقهم الزيدية والإمامية المعاصرة على هذا. وجميع هذه الفرق؛ تعتقد بتدخّل اللطف الإلهيّ لتدارك العبد المسلم.
وقد كانت فِرق الجبرية والأشاعرة والمعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج حاضرةً في القرن الرابع الهجريّ، عصر نضوج الثقافة وتشكّل المدارس الإسلامية، وجميعها كانت معاصرة لأواخر عصر السلف، فقبل المحدثون روايةَ الإماميّ والزيدي والقدري والمرجئ، ولو كان هؤلاء كفّاراً؛ لما جاز قَبولُ رواياتهم في الدين!
ثمّ تأسست في القرن الرابع فرقة الأشاعرة، وفرقة الماتريدية، وهاتان الفرقتان تكوّنان اليوم (90%) من أهل السنة بالمصطلح السياسيّ، وإن كان الأشاعرة يضلّلون المثبتةَ من الحنابلة، والحنابلة يضللون بقيةَ أهل السنة الذين هم جمهور الأمة الأعظم!
وشعبةُ الإحسان: وهي ذروة مقام العبودية السامي، فهي الرقابة الذاتيّة لكلّ مسلم (أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك) وهي السمو في مراتب كمال العبودية لله تعالى وحده. وشعبة الإحسان هي بالضبط «تزكية النفس الإنسانية» وتكون بتحقيق الشعب الثلاثِ الآتية:
تلاوة القرآن مع التدبّر.
والصلوات المفروضة والمندوبة، وأهمّ المندوبة؛ السنن الراتبة وقيامُ الليل.
الأذكار والأوراد الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.
ويجمع آليّات القيامِ في مرتبة الإحسان؛ قول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت : 45]، فَمَن يقوم لله تعالى بهذه الشعب الثلاث، وَفق منهج إسلاميّ صحيح؛ فهو من المحسنين الصالحين، إن شاء الله تعالى. والخلاف بين طوائف الأمة الإسلامية الأربع؛ هو اختلافٌ سياسيّ في أصله، ثمّ علّقنا على هذا الخلاف السياسيّ أحكاماً عقديّةً وفقهيّة، تأتي بعد أركان الدين الإسلامي التي تقدمت. وتوضيح ذلك بمثالٍ عمليّ؛ أنفع..
فمسألة الصحابة؛ هي مسألة سياسيّة، وليست ركناً من أركان الإيمان أو الإسلام أو الإحسان. إنّ الصحابة رضي الله عنهم اضطُروا في سقيفة بني ساعدة أن يسارعوا في اختيار خليفةٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وكان الظرف مواتياً لاختيار أبي بكر ر ضي الله عنه، دون أن يكون أحدٌ من بني عبد مناف قادةِ قريشٍ وسادتها موجوداً، ولا ريب في أنّ أبا بكرٍ عظيم كبير كريم، لكن اختياره لم يكن بناءً على مشورة قيادات الأمة، كما هو منهج اختيار الحاكم عند أهل السنة، ولا كان اختياره وفق الأعراف العربية التي كانت سائدةً قبل الإسلام وبعد الإسلام في انتقال الزعامة والسيادة، ففريق من المسلمين قالوا: ما دام أبو بكر كفؤاً كريماً، وما دام كثيرٌ من الناس قد بايعوه، ونقض بيعتهم يعني نقضهم العهد، وهذا محال في عرف العرب المسلمين في ذلك العصر، فلتمض الأمور على هذا الاتجاه. وأدخلوا فيما بعدُ إرادةَ الله في المسألة، بمعنى أن إرادته تعالى تدخّلت في سياقة الأمور لتخلص إلى هذه النتيجة، وأكثر أهل السنة على هذا!
وفريق رأوا أن تلك الطريقة في الاختيار ستكرّس مبدأ التغلّب، وبالتالي فهي خطأ وما تولّد عن الخطأ فهو خطأ، وبالتالي فبيعة أبي بكر غير صحيحة عندهم.
وفريق ثالث من زعماء قبائل العرب الذين يرون استحقاق القيادة لذي الشرف الأسمى وذي الكرم وذي القوة والشجاعة والقُرب من القائد المتوفى، وكانت تلك الصفات وافرةً في عليّ أكثرَ من أي شخصية أخرى في المسلمين، ناهيك عن كونه هو خليفةَ والده سيّد قريشٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فلو لم تكن الرسالة قد حصلت؛ لكان عليّ هو سيد قريش وهو بالتالي سيد العرب وفارسهم، وجميع فرسان العرب تعترف بهذا، ولا تعترف به لأيٍّ من الصحابة سواه على الإطلاق! ولا أريد أن أسترسل في هذه المسألة أكثر من هذا؛ لأنّ الهدف توضيح سبب الافتراق السياسيّ بين من رضي بما حصل اضطراراً، ومن رفض ذلك؛ لأنه خلاف الأصول والمتعارف عليه. وتوالت الأخطاء في اختيار الخليفة، حتى كان اختيار عليّ نفسه تحت تهديد الثوار قَتلةِ عثمان الشهيد رضي الله تعالى عنه.
وحين خرجَ معاوية بن أبي سفيان على إمام عصره عليّ بحجة مساهمته بقتل عثمان أو تخاذله عن نصرته، وعدم القصاص من قتلته؛ كانت الأمةُ كلها مع عليّ لقتال الباغي معاوية الخارج على الإمام الحقّ، وعدّوه ظالماً لعليّ، متطاولاً على ما ليس له بحقّ.
وفي فتنة التحكيم؛ رفض كثيرٌ من أصحاب عليّ قَبوله التحكيم، وخرجوا على قيادته وكوّنوا لأنفسهم جماعةً يقودها عبدالله بن وهب الراسبي، وهو من جيل الصحابة وحصلت ظروف اضطُرّ عليّ إلى قتالهم واستئصالهم في معركة النهروان. فانشقّ عن جيشه جماعةٌ منه تألّماً لقتل أقاربهم وقرّائهم الذين لم يخالفوا عليّاً لا في عقيدة ولا في فقه ولا في أخلاق، إنما خالفوه في مسألة سياسية! هؤلاء يوالون أبا بكر وعمر ويجلّونهما، لكنهم يكفّرون عثمان كفر شركٍ ناقلٍ عن الملّة لتغييره أحكام الله في نظرهم، ويكفّرون عليّاً كفر نعمة؛ لاعتقادهم أنه ظالم آثم في رضاه بالتحكيم، ثم في قتل جماعتهم.
فأنت ترى أنّ أسباب الاختلاف هي مسألة سياسية؛ تمخّض عنها فرقة كبيرةٌ تماشي الحاكم حتى لو كان ظالماً متغلّباً؛ حفاظاً على الدين واستمرار وحدة الأمة، فيما رأى علماؤها المرضيّ عنهم من السلطان، وهذه الفرقة هي التي اصطلح على تسميتها أهل السنة. وفرقة تطوّرت أفكارها وازدادت أحقادها مع استمرار مناصرة عامة المسلمين (أهل السنة) للحاكم المتغلب، بأي صورة كان تغلبه، وكردّة فعل عنيفة للاضطهاد الذي عاشوه في ظلّ الحكام الذين غلبوا على أهل السنة؛ صار هؤلاء يكرهون أبا بكر عمر؛ لأنهما هما اللذان تسرعا، وسنّا في هذه الأمة سنة الغلبة، فحرما آل البيت من حقهم في قيادة الأمة. وكرها عثمان لأنه غيّر وبدّل في اجتهادهم المدعوم بأدلتهم، وهذه الفرقة هم الشيعة ثم هم أنفسهم انقسموا على فرقتين كبيرتين هما: الشيعة الجعفرية الإمامية، وهي الفرقة الأكثر عدداً، والشيعة الزيدية، وهم الذين يقولون: إنّ عليّاً هو أحقّ الأمة بالخلافة، لكنه تنازل عن حقّه لمصلحة الأمة، وأطاع أبا بكرٍ وعمر، وقبل أعطياتهما فهما أخطآ في أخذ البيعة من غير مشورة، لكنه خطأٌ غير مقصود لإقصاء عليّ، وإنما كان اضطراراً، فهو خطأ مغفور إن شاء الله تعالى.
أما الخوارج؛ فقد عدّوا أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم يخالفون أهل السنة والشيعة في موقفهم من عثمان وعليّ؛ ولذلك كانت لهم فرقتهم الخاصة بهم. والملاحظ أن اختلافهم جميعاً؛كان مبنياً على اجتهادٍ ساغ لدى قادتهم، وصارت كل طائفة تعتقد أنها على الحقّ، وأن غيرها على خطأٍ أو باطل!
وأهل السنة هم الجمهور الأعظم؛ يعتقدون أنهم هم أهل الحق، ولهذا يطلقون على أنفسهم اسم الفرقة الناجية، وأنّ غيرهم مبتدعةٌ ضالّون!
ومع الزمن صار التشيّع تهمةً ينفيها عن نفسه كلّ إنسانٍ يعيش بين أهل السنة؛ خوفاً من تصفيته، أو تهميشه وإهانته، ونتيجة التشنج الطائفيّ؛ صار كلّ باحثٍ يخالف الإطار العام الذي صاغه حكّام أهل السنة؛ يعدُّ مبتدعاً، ويوصف بالتشيع والرفض والزندقة، خصوصاً إذا شمّوا منه رائحة ميلٍ إلى آل البيت، وانتقادٍ لأمر ما مما جرى في عصر الصحابة، وهذا ظاهر واضح في اتّهامهم عشراتٍ من علماء الحديث بالتشيع والرفض بل والزندقة، وهم من خيار عباد الله تعالى، والشيعة لا يعرفونهم ولا يعترفون بهم ولا يعدّونهم من علمائهم، من مثل الحافظ عبدالرحمن ابن خراش (283 هـ) والنسائيّ (301 هـ) والحاكم النيسابوري (405 هـ) وغيرهم كثير!
أما الشيعة؛ فقد جاوزوا الحدّ في خصومتهم وتشدّدهم، فمنهم من يكفّر الصحابةَ كلّهم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا عدداً محدوداً، لا يتجاوز في أكبر إحصائية لهؤلاء سبعةً وعشرين صحابياً!
ومنهم من كفّر أبا بكر وعمر وعثمان وجميع من خرج على عليّ من كبار الصحابة أمثال طلحة والزبير وابن الزبير، ثم معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب ونفرٍ آخرين، وأطلقوا على أتباعهم لقب العامّة؛ لأنهم أتباع الظالمين بالترغيب والترهيب، والعامة عندهم ليسوا بكافرين، لكنهم أعوان الطغاة.
والخوارج قد انقرضوا، ولم يبق منهم سوى فرقة الإباضية الصغيرة نسبيّاً، وأظنّ عددهم لا يتجاوز ثلاثةَ ملايين نسمة في العالم.
أما الشيعة الزيدية؛ فقد يصل عددهم إلى خمسة عشر مليوناً، ويُقدّر عدد الإمامية بمائتي مليون نسمة في العالم. والسؤال الضروريّ اليوم: هؤلاء جميعهم يؤمنون بأركان الإيمان وأركان الإسلام وبالإحسان التي يسميها أهل السنة التزكية، ويسميها جماهيرهم التصوّف، ويسميها الإمامية (العرفان)، أقول: إذا كان هؤلاء يعتقدون بهذه العقائد كلّها، والصحابة جميعهم بمن فيهم عليّ ليسوا من أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وإن كانوا من حملتها والناشرين لها والمدافعين عنها، وإذا كان لكلّ فرقة من هذه الفرق أدلّتها، أو شبهاتها على الأقل؛ فنحن لا يجوز لنا التكفير والتفسيق في الجملة، كما لا يجوز لنا ادّعاءُ الحقّ المطلق في جميع شؤون الحياة العقدية والفكرية والفقهية والأخلاقية والسياسية. وإنّ الذي أراه أنّ الأمة متّفقة على أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وما وراء ذلك يكون اختلافها في التطبيقات والفروعيات، التي لا تتجاوز (5%) على أقصى تقدير باستثناء المسائل السياسية وما تفرّع عنها.
نعم يمكن ادّعاءُ أنّ أهل السنة أكثر الفرق الإسلامية حقّاً في مسائل الخلاف، لكنّ هذا لا يسوّغ لنا ذلك العداء الذي يقودنا إليه الحكّام الظلمة على مدار التاريخ؛ لنبقى وَقود نارهم، وقرابين فداءٍ لعروشهم الظالمة لنا قبل غيرنا من الفرق الأخرى.
فالدين الإسلامي: هو أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، والفرق الإسلامية جميعها متّفقةٌ عليها، وبالتالي فهي فرق مسلمة مؤمنة، ومذهب سلف الأمة؛ العذر بالجهل، والعذر بالاجتهاد.
فهذه جملة ما ينبغي إدراكه وفهمه في واحدة من أشهر مسائل الخلاف، ليتسنى للمسلمين أن يوحدوا صفوفهم ويعيشوا في إخاء وسلام.

الخميس، 29 نوفمبر 2012

امة الاسلام واحدة

قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 92] وانظر [المؤمنون:52]


وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ) أخرجه أبو داود (2751) وهذا لفظه، والنسائي (4734) وأصله عند البخاري (1870) ومسلم(1370).
والمسلمون في اجتهادي: كلّ من ينتسب إلى الإسلام انتساباً حقيقياً، ويعتزّ بهذا الانتساب، حتى لو كان فكره منحرفاً.
والحكم عليه بأنه غير مسلمٍ؛ لانحرافه؛ قضاء يقوم به أهل العلم المجتهدون الأحرار الذين يحبون المسلمين ويرحمونهم، ويشفقون عليهم من عذاب الله تعالى ومن النار... نحن دعاة إلى الله تعالى، وإلى الحق، فمن قال لنا: أنا مسلم؛ قبلنا قوله من دون تردد ولا تشكيك، ثم استفسرنا منه عن مفهومه للدين، فإن كان ما لديه من مفهوم صحيحاً باركنا له ذاك الفهم الصحيح، وإن كان ما لديه خطاً؛ بيّنا له خطأه من القرآن العظيم ومن مواضع اجماع الأمة التواضعي فقط، وأرشدناه إلى الصواب.
إذا كنا أتباع من بعثه الله رحمةً للعالمين؛ فيجب أن نكون أولاً رحمةً للمؤمنين الذين ينتمون إلى هذا الدين، ولا ينتمون إلى غيره، مهما كانوا مخطئين، ومهما كانوا جاهلين! فالمسلم الذين يظن نفسه مسلماً، ولا يعلم لنفسه ديناً سوى الإسلام، وكان نشأ في بيئة منحرفة في فهم الإسلام أو في بعض مفاهيمها عن الإسلام، فهل واجبنا الأخذ بيده إلى ساحة الحق لننقذه من مصيره الحزين يوم القيامة، أو واجبنا أن نقول له: أنت كافر، أنت ضالّ، أنت ملحد! فنزيده ضلالاً إلى ضلاله، ونزيده استمساكاً بباطله الذي لا يعرف غيره؟
والقواسم المشتركة بين المسلمين كثيرة جداً، فلا يختلف المسلمون بجميع فرقهم على أنّ فرائض الإسلام العملية هي: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج، والجهاد لدفع الصائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلهم يعتقدون بذلك.
وجميع المسلمين يعتقدون أن أركان الإيمان المتفق عليها هي المجموعة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) [النساء : 136]، الجميع يعتقدون بذلك، ويعتقدون أن من يكفر بواحد من هذه الأركان؛ فقد خرج من الملة بعد إقامة الحجة عليه.
ويعتقد جميع المسلمين بوجوب الصدق والأمانة والحفاظ على ضروريات الإسلام (حفظ النفس والدين والنسل والعرض والمال)، جميعهم يعتقدون بوجوب ذلك وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة.
ويعتقد جميع المسلمين بحرمة الزنا والخمر والكذب والغش والغيبة والنميمة والخيانة والجاسوسية، وسائر المناهي الكثيرة جداً والواردة في كتاب الله تعالى، فلا أعلم عالماً من المسلمين أجاز واحدة من هذه المناهي في الأحوال الطبيعية.
والإسلام نظم كثيرة، فهناك نظام الإسلام العقدي، ونظام الإسلام العبادي، ونظام الإسلام الأخلاقي، ونظام الإسلام الجنائي، ونظام الإسلام الاقتصادي ونظام الإسلام السياسي... وغيرها كثير. والمسلمون يتفقون على معظم أسس الأنظمة السابقة باستثناء النظام السياسي، فيجب أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن نقرأ بهدوء وروية تاريخنا الإسلامي في العصر الراشدي فقط؛ لنرى حسن النية من الجميع، وحرص الجميع على أمة الإسلام، لكن لنحصر (أخطاء السقيفة وآثارها) و(أخطاء أبي بكر وآثارها) و(أخطاء عمر وآثارها) و(أخطاء عثمان وآثارها) و(أخطاء عليّ وآثارها) ثم ننظر في ظروف أخطاء كل واحدٍ من هؤلاء وأسبابها، ومنها حجمه الحقيقي من العلم الشرعي ومن العلم السياسي، ثم لنرصد نسبة الآثار المؤلمة لكل واحد منهم على حدة، ثم لنجمع هذه الأخطاء بعضها مع بعض، فسنرى كمّاً كبيراً جداً من الأخطاء، إن كان يُعذر به كل واحدٍ منهم على حدته فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نسوّغ هذه الأخطاء، فضلاً عن أن نصوب فاعلها، كما لا يجوز أن نتبناها ونجعلها من ضمن المنهج السياسي الإسلامي.
فإن نحن فعلنا هذا، وليأخذ ما شاء من الوقت؛ فسيصبح لدينا معيار واضح لمعرفة سبب الخطأ الأكبر في مسيرة الراشدين، وهو عدم اكتشافهم أو اكتشاف أكثرهم لمنهج القرآن السياسيّ، ثم تأتي مسألة جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل والأعلم، ثم تأتي مسألة مراعاة البيئة في الاختيار... فأمة الإسلام في ذلك الوقت كانت لا تزال تعظم الشجاعة والقوة، وتعظم العلم والتقوى، وتعظم النسب والرفعة، وتعظم القرب من الحاكم السابق، ولا ترى من حاجة إلى إخراج السلطان من عشيرته ما دام فيها الكفء القادر... والمسلمون لم يراعوا في السقيفة هذه الأمور كلها؛ لأن السقيفة كلها كانت فلتة، لكن وقى الله شرها كما قال عمر... لكن أنا أقول: وقى الله شرها مؤقتاً، ثم كانت تداعياتها السلبية وآثارها مدمرة للنظام السياسيّ الإسلامي على الأقل في اختيار الخليفة وصلاحيات الحاكم والتأبيد في خلافته!
فلتطلعوا على أهم ما كتب في الموضوع، لا للطعن على أحد من الراشدين رضي الله عنهم، لكن لتتحققوا من صحة كلامي هذا أوّلاً، ثم لتتجاوزوا تاريخ الراشدين السياسي (الاضطراريّ كله) ولتنظروا في معالم النظام السياسي في القرآن العظيم بتجرد وموضوعية؛ بعيداً عن الأحكام المسبقة.
ولتنتبهوا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ صفات حكام الأقاليم غير الخليفة الأعظم فهذا عليّ نفسه ولى عبدالله بن عباس على البصرة وكان عالما وداهية وسياسياً، لكنه ولى الأشتر النخعي لفروسيته وبطولته، ولم يكن عالماً، ولا عشر عالم، وغيره من ولاة علي ممن هم على شاكلته عديدون.
فلو نحن اشترطنا في الخليفة الاجتهاد، فهل نشترطه في (مرسي، والمرزوقي والمالكي؟) مثلاً!!؟
وإذا لم يمكنا جمع الأمة في دولة واحدة، أو في عشر دول، فهل نكون كفرنا، أو فسقنا، أو ضللنا، أوليس علي هو أوّل من أرسل إلى معاوية يقول له ما معناه: (لقد تفانى الناس، ورأيت من حرصك على الدنيا والإمارة ما سيحاسبك عليه الله تعالى يوم تلقاه، وأنت من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة، وقد رأيت رأيا أرجو أن يكون فيه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلك الشام وما وراءها، ولي العراق والحجاز وما وراءهما) معنى هذا أورده الطبري في تاريخه مسنداً، لكنني لم أحقق في سنده لا على منهج المحدثين ولا على منهج المؤرخين؟ فانظروا في واقعية هذا الطرح، واعلموا أنه مذهب الزيدية والإباضية.
الذي أريد أن أخلص إليه هو ضرورة فهم (مفهوم الحاكمية في القرآن) و(مفهوم الحاكم في القرآن) و(مفهوم الشورى في القرآن) و(مفهوم العدل في القرآن) ومفهوم (وحدة الأمة في القرآن) هل هي وحدة سياسية اندماجية؟ أو هي وحدة توافقية تنسيقية في أمور السياسة، وهي وحدة فكرية وعقدية، أو هكذا يجب أن تكون؟
والله من وراء القصد
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين