الخميس، 2 مايو 2024

          مَسائل حديثية (98):

كيف يخرّجُ البُخاريُّ ومسلمٌ عن كذّابين؟

إسماعيلُ ابن أبي أويسٍ نموذجاً!!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ من بعضِ أولئك الذين يَدْعون الناسَ إلى الاقتصار في أمور الدينِ على القرآن الكريم وحسب؛ قال: كيف آمَن البخاريَّ ومسلماً على الدِين، وهما يَرويان عن كذّابين ووضّاعين؟

قلت له: اُذْكُر لي رجُلاً واحداً من أولئك الوضّاعين، حتى أُجيبَكَ إجابةً علميّة؟

قال: إسماعيل ابن أبي أويس، ابن أخت مالك بن أنس، فقد ملأ البخاريّ صحيحَه من رواياتِه، وكذلك أخرج له مسلم - وإنْ كان أقلَّ - وهما سيّدا المحدّثين عندكم!

أقول وبالله التوفيق:

اختيارُ مُحاوري اسمَ ابن أبي أُويسٍ، ضَربَةُ معلّم كما يقولون؛ لأنّ البخاريّ أكثرَ عنه فعلاً، على خلاف ما وهم البخاريّ، فقال: إنّه لم يخرّج عنه إلّا القليل!

وقبل أن أتكلّمَ على مرويّات ابن أبي أويسٍ هذا؛ يحسن أن أنقلَ إليكم منزلَتَه عند علماء الجرح والتعديل، وأبدأ بكتب الضعفاء:

(1) ترجمه العقيلي (ت: 322 هـ) في كتابه الضعفاء الكبير (1: 87) وقال:

«إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ ابنِ أَبِي أُوَيْسٍ الْمَدِينِيُّ:

حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: أَبُو أُوَيْسٍ «عبدالله» وَابْنُهُ ضَعِيفَانِ.

وَحَدَّثَنِي أُسَامَةُ الدَّقَاقُ - بَصْرِيٌّ - يَقُولُ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: يَسْوَى فَلْسَيْنِ».

وترجم لوالده عبدالله في الضعفاء (2: 270) ونقل تضعيفه عن العلماء.

(2) ترجمه ابنُ عديّ (ت: 365 هـ) في ضعفائه (1: 525) وقال:

«إسماعيلُ بنُ أبي أُوَيسٍ: واسم أبي أويس: عَبدُاللهِ بن عَبدِاللهِ بن أبي أويس بن أبي عامر الأصبحي، وَهو ابن أختِ مالك بن أنس، مِن أهل المدينة، يُكَنَّى أبا عَبدِاللهِ».

ثمّ نقل أقوال علماء الرجال فيه على النحو الآتي:

- عثمان بن سَعِيد الدارميّ قالَ: قُلتُ ليحيى بن مَعِين: ابن أبي أويسٍ، يعني إسماعيل؟ قَال: لاَ بأس به.

- أحمد بن حنبل يقول: إسماعيلُ ابن أبي أويس: ليس به بأس، وأبوه ضَعِيفُ الْحَدِيثِ.

- يَحْيى بن مَعِين يقول: ابن أبي أويس وأبوه: يسرقان الحديث.

- النضر بن سلمة المروزي يقول: ابن أبي أويس كذاب، كان يحدث عن مالك بمسائل عَبداللهِ بن وهب.

- وقال النسائي: ضعيف.

وساق ابنُ عديّ من طريقه عدداً من الأحاديث عن خاله مالك وغيرِه، وضعّفها، ثم ختم ترجمته بقوله: «هَذَا الْحَدِيثُ مُنْكَرٌ عَنْ مَالِكٍ، لا أَعْرِفُهُ إِلا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْهُ.

وَابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ هَذَا؛ رَوَى عَنْ خَالِهِ مَالِكٍ أَحَادِيثَ، غَيْرَ أَنَّهُ لا يُتَابِعُهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا.

وَروى عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ شُيُوخِهِ، وَقَدْ حَدَّثَ عَنْهُ النَّاسُ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ابْنُ مَعِين وَأَحْمَدُ.

وَالْبُخَارِيُّ، يُحَدِّثُ عَنْهُ الْكَثِيرَ، وَهو خَيْرٌ مِنْ أَبِيهِ أَبِي أُوَيْسٍ».

وترجمه ابن الجوزيّ (ت: 597 هـ) في ضعفائه (395) وقال: «قَالَ يحيى بنُ معين: ابْن أبي أويس وَأَبوهُ يسرقان الحَدِيث، وَأَبوهُ لَا يُسَاوِي نواة:

وَقَالَ النَّضر بن سَلمَة الْمَروزِي: إسماعيلُ  كَذَّاب.

وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف.

وَعَن يحيى بنِ معينٍ رواية أخرى قال: «لَا بَأْس بِهِ».

وترجمه المزيُّ (ت: 743 هـ) في تهذيبه (3: 124) ونقل ما تقدّم من أقوال العلماء، وزاد:

قَال أَبُو بَكْر بْن أَبي خيثمة عَن يحيى بْن مَعِين قال: إسماعيلُ صدوق ضعيف العقل، ليس بذاك، يعني أنه لا يحسن الْحَدِيث، ولا يَعرف أن يُؤديَه، أو يَقرَأ من غيرِ كتابه.

وَقَال إِبْرَاهِيم بْن عَبداللهِ الجنيد عن يحيى بن معين: مُخَلّط، يكذب، ليس بشيءٍ!

وَقَال أَبُو حاتم الرازيّ : محله الصدق، وكَانَ مُغفّلاً!

ورمز المزيّ إلى أنّ الأئمة الستة (خ م د ت ق) أخرجوا له، سوى النسائيّ!

وترجمه الذهبيّ (ت: 748 هـ) في ميزان الاعتدال (811) ونقل أقوال المتقدّمين السابقة، وزاد: «استوفيت أخباره في تاريخ الإسلام» (5: 534) وهناك زاد:

قال الدَّارَقُطْنيّ: ليس أختاره في الصّحيح.

قال الفضل بن زياد: سَمِعْتُ أحمد بن حنبل وقيل له: مَن بالمدينة اليوم؟ قال: ابن أبي أويس؛ هو عالم كثير العِلْم، أو نحو هذا.

وقال أحمد بن حنبل مرّة: هو ثقة. قام في أمر المحنة، مقامًا محمودًا.

وقال البَرْقَانيّ: قلت للدَّارَقُطْنيّ: لِم ضعّف النَّسائيّ إسماعيل بن أبي أُوَيْس؟ فقال: ذكر محمد بن موسى الهاشميّ، وهو إمام كان النَّسائيّ يخصّه بما لم يخصّ به ولده، فقال: حكى لي النَّسائيّ أنّه حكى له سَلَمَةُ بن شَبِيب عنه، قال: ثمّ توقف أبو عبد الرحمن النَّسائيّ، فما زلت أداريه أن يحكي لي الحكاية، حَتّى قال: قال لي سَلَمَةُ: سَمِعْتُ إسماعيل بن أبي أُوَيْس يقول: ربّما كنت أضع الحديث لأهل المدينةِ، إذا اختلفوا في شيء فيما بينهم، فقلت للدَّارَقُطْنيّ: من حكى لك هذا عن محمد بن موسى؟ فقال: الوزير، يعني ابن حنزابة، وكتبتها من كتابه.

وختم الذهبيّ ترجمته بقوله: «قلت: استقرّ الأمرُ على توثيقه وتجنُّب ما يُنكر له».

وترجمه الذهبيّ في النبلاء (10: 391) وقال: « الإِمَامُ الحَافِظُ الصَّدُوْقُ».

ونقل الأقوال السابقة وقال: «الرَّجُلُ قَدْ وَثَبَ إِلَى ذَاكَ البِرِّ، وَاعتَمَدَهُ صَاحِبَا الصَّحِيْحَيْنِ، وَلاَ رَيْبَ أَنَّهُ صَاحِبُ أَفرَادٍ وَمَنَاكِيْرَ تَنْغَمِرُ فِي سَعَةِ مَا رَوَى؛ فَإِنَّهُ مِنْ أَوْعِيَةِ العِلْمِ، وَهُوَ أَقْوَى مِنْ عَبْدِاللهِ كَاتِبِ اللَّيْثِ!

وَكَانَ عَالِمَ أَهْلِ المَدِيْنَةِ، وَمُحَدِّثَهُم فِي زَمَانِهِ، عَلَى نَقْصٍ فِي حِفْظِهِ وَإِتْقَانِه، وَلَوْلاَ أَنَّ الشَّيخَينِ احْتَجَّا بِهِ؛ لَزُحْزِحَ حَدِيْثُهُ عَنْ دَرَجَةِ الصَّحِيْحِ إِلَى دَرَجَةِ الحَسَنِ، هَذَا الَّذِي عِنْدِي فِيْهِ».

وأختم ترجمتَه بقولِ من تعامل مع أحاديثِه الكثيرة عند البخاري تطبيقيّاً فيه.

قال الحافظ ابن حجر (ت: 852 هـ) في هدي الساري (2: 357): «احْتجّ بِهِ الشَّيْخَانِ (خ م) إِلَّا أَنَّهُمَا لم يكثرا من تَخْرِيج حَدِيثه، وَلَا أخرج لَهُ البُخَارِيّ مِمَّا تفرد بِهِ سوى حديثين.

وَأما مُسلم فَأخْرج لَهُ أقلَّ مِمَّا أخرج لَهُ البُخَارِيّ، وروى لَهُ الْبَاقُونَ سوى النَّسَائِيِّ، فَإِنَّهُ أطلق القَوْل بضعفه، وروى عَن سَلمَة بن شبيب مَا يُوجب طرح رِوَايَته.

وروينا فِي مَنَاقِب البُخَارِيّ بِسَنَد صَحِيح أَن إِسْمَاعِيل أخرج لِلبخاريِّ أُصُوله وَأذن لَهُ أَن ينتقي مِنْهَا، وَأَن يُعلِّم لَهُ على مَا يحدث بِهِ ليحُدّث بِهِ، ويُعرِض عَمَّا سواهُ!

وَهُوَ مُشْعر بِأَنّ مَا أخرجه البُخَارِيّ عَنهُ؛ هُوَ من صَحِيح حَدِيثه؛ لِأَنَّهُ كَتَبَه من أُصُوله.

وعَلى هَذَا؛ لَا يُحْتَج بِشَيْء من حَدِيثه، غيرَ مَا فِي الصَّحِيح؛ من أجل مَا قدح فِيهِ النَّسَائِيّ وَغَيرُه، إِلَّا إنْ شَاركهُ فِيهِ غَيره، فَيعْتَبر بِهِ».

وقال في التقريب (460): «صدوقٌ أخطأ في أحاديث من حفظه».

قال الفقير عداب: حرصتُ في نقل ترجمته على التتبّع التاريخي، ولم أرتّب أقوال العلماء على طرفي التعديلِ والتجريح.

وخلاصةُ حال هذا الراوي:

أنّه مقرئٌ، وإنْ لم يتصدّر للإقراء كثيراً.

أنّه فقيه من فقهاء عصره في المدينة.

أنّه حافظ، في حفظه لين.

أنّ بعضَ العلماء بالغَ في الحطّ عليه، فاتّهمه بوضع الحديثِ بإقراره، ثمّ تاب من ذلك!

اختلف فيه قول  يحيى معين، فقال: لا بأس به حيناً، وضعّفه أحياناً!

وقوّى أمره الإمام أحمد، ووصفه بالعلم والثبات!

ويرى الذهبيّ حديثَه في مرتبة الحسن، إلّا ما حكم العلماء بنكارتِه وضعفه!

وفي الحلقاتِ التالية؛ نرصد الجانب التطبيقيّ لأحاديثه عند مسلمٍ أوّلاً - لقلّة أحاديثِه عنده - ثم عند البخاريّ الذي أخرج عنه رواياتٍ كثيرة!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.