الأحد، 28 يناير 2024

        مَسائل حديثية (68):

تصحيح الحديثِ بتعدّد الطرق؛ إلزامُ المخالفِ بما لا يلزم!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحدُ الإخوةِ العلماءِ مقالاً بعنوان «إلزامُ طه الدليميّ وعداب بإثبات منقبة النوم في فراش النبوّة لأمير المؤمنين أبي تراب» عليه السلام.

وصفني فيها كاتبُ المقال - هداه الله تعالى - بأنني متشيّع وتشيّعي مشوبٌ بنوعٍ من الرفض!

ثم قال في صدر مقاله: «ونحن نسوق ما وقفنا عليه من طرقِه - حديث النوم في فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم - بما يظهر معه إكذابُ الدليميّ وعداب».

ثمّ ساق للحديثِ اثنتي عشرةَ روايةً وطريقاً، وختم مقالَه هذا بقوله:

«وهذه الرواياتُ كما ترى؛ لا تخلو من مقالٍ، لكنّ مجموعها ينتهضُ دون ريبٍ لتصحيح ثبوتِ هذه المنقبةِ والكرامةِ لأمير المؤمنين عليه السلام، بمجموع هذه الطرق الاثني عشر، التي لم يسمع بها الدليميّ وعداب، وثبت خلافُ ما قالاه، وسقط كلامهما، ولاح لكلّ عاقلٍ منصفٍ تهافتهما وقلّةُ اطّلاعهما على الحديثِ، وإطلاقُهما الكلامَ جزافاً، دون علمٍ أو ورع» انتهى كلامه.

أقول وبالله التوفيق:

أنت عندما تريد أن تصف إنساناً بالرفضِ - وهو يأبى هذا الوصفَ، ويتبرأ منه - عليك أن تسوق أدلّة كافيةً لإثبات تهمةٍ أنت تعدُّ الموصوفَ بها كافراً، أو على شفير الكفر، لا أن تستنبط ذلك استنباطاً وفقَ ظنونك الطائفيّةِ المريضةِ!

في منشوراتي التي يطّلع عليها كاتب هذا المنشور، ويتعلّم منها بالتأكيد - مع الإنكار والنكران - عرّفت الرافضيَّ بأنه (الذي يعتقد بالنصّ والتعيين والعصمة وانحصار الأئمّة في ذرية الحسين، والبداء والرجعة والمهديّ) وأنا لا أعتقد بشيءٍ مما تقدّمَ ظاهراً ولا باطناً!

والرافضيّ يسبّ أبا بكرٍ وعمر ولا يتورع عن لعنهما، ويبغض أصحاب الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل ويبغضُ أبا بكرٍ وعمرَ أكثر مما يبغض معاويةَ وعمرَو بنَ العاص!

ولا يستطيع هو ولا غيره؛ أن يقيم دليلاً واحداً على أنني أقول بشيءٍ ممّا تقدّم.

فكاتب المقال إذنْ هو الكذاب المفتري، وليس الفقير عداباً.

ثم إنّ كاتب هذا المقالِ يناقضُ نفسَه بنفسه، تناقضاً صارخاً مُشيناً لأمثاله!

هو من جهة يقول: «إنّ طرق الأحاديثِ والروايات؛ لا تخلو من مقالٍ - يعني كلّ طريقٍ على حدتها؛ ضعيفةٌ»!

ثم يقول: إنّ هذه الطرقَ يشدُّ بعضُها بعضاً، فتُثبت هذه المنقبة لأمير المؤمنين!

وصاحب المقالِ ليس جاهلاً بعلومِ الحديثِ، لكنّه أنباريٌّ صلفٌ وقح مكابر!

إذْ من المسلّماتِ في علوم الحديثِ، وفي أصول الفقهِ، وحتى في علم الكلامِ؛ أنّك تلزمُ خصمك بما يلتزم به، وبما تشترك وإيّاه على القول به.

وكتبي ومقالاتي ومنشوراتي؛ تصرخُ صراخاً بأنني لا أذهب مذهبَ الترقيع «تقويةُ الضعيفِ بمثله».

ولست أنا وحدي من لا يعتدّ بتقويةِ الضعيف بمثلِه، فهذا مالكُ بن أنسٍ وسفيان الثوريّ وشعبةُ بن الحجّاج ويحيى بن سعيدٍ القطّان وعبدالرحمن بن مهديٍّ وسفيانُ بن عيينةَ، جميعهم لا يعتدّ بهذه النظريّة المهترئةِ من أساسها!

وقد قام باحثٌ جادٌّ بتجليةِ هذه المسألةِ، وتتبّع أقوال العلماء فيها، فوصل إلى أنّ الإمامَ الترمذيّ نفسَه «لم يكنْ يقوّي الضعيفَ بمثيله، كما أنّ التحسين عنده كان على أنواعٍ، ليس من بينها الاصطلاحُ المتعارَف عليه بين متأخّري أهل الحديثِ، وهو «الحسن لغيره» المعروف بشدّ الحديثِ بطرق كلها ضعاف...».

انظر موقف علماء الحديث من نظرية الاعتبار بالضعيف ومثيله للدكتور أسامة عبدالرحيم العَطيانيّ (ص: 198) وانظر خاتمةَ الكتاب (ص: 395) فما بعد.

أنت أيها المتطاول المفتري: لو كنتَ تجهلُ ما قدّمتُ؛ لعذرتُك؛ لأنّ عذْرَ الجهّال لا مناصَ من تفعيلِه، وإلّا أصبنا أمّة الإسلامِ بحرجٍ كبير!

لكنّك تعرفُ أنّ ما أقوله أنا من عدم الاعتداد بتقوية الضعيف بمثيله؛ هو مذهب المتقدّمين من أهلِ الحديثِ بوجهٍ عامٍ، وأنا أتبنّى موقفَهم هذا؛ لأنّه الأحوطِ في الدين.

أليس عيباً على وجهِك أن تتّهم مسلماً بالكذبِ والجهل وقلّة الورع، وأنت تعلمُ في قرارَة نفسك أنّك مفترٍ كذّابٌ، تتّهم الناسَ بما تعلم أنّهم بريئون منه؟

وأمّا اتّهامك إيّاي بالجهل؛ فأنا أشرفتُ عمليّاً على أطروحة الزميل نهاد عبدالحليم عبيد (1985 - 1987) الأحاديث المرفوعة الواردةُ في فضل الإمام عليّ، التي ربما استقيتَ منها أكثرَ طرق حديثك هذا، قبل أن تفطمك أمّك!

وحسبنا الله ونعم الوكيل!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الثلاثاء، 23 يناير 2024

  مَسائل من التفسير وعلوم القرآن (7):

قَولِ الشيعةِ بتحريف القرآن الكريم!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إلي يقول: قولك: إنّ كلّ إنسان يشهد (أن لا إله إلّا الله محمدٌ رسولُ اللهِ) هو مسلمٌ، لا يخرجه عن هذا الإسلامِ، إلّا ثبوتُ قولٍ أو فعلٍ ناقضٍ عنه، ألا يجعل هذا القولُ الحكمَ على جميع الفرق المنحرفة بأنهم مسلمون؟

الشيعة الزيدية والإمامية والإسماعيليّة والعلويّة «النصيرية» والإباضيّة، جميعهم يشهد (أن لا إله إلّا الله محمدٌ رسولُ اللهِ) فمن الكافرُ إذنْ؟

وقول الرافضة قاطبةً بتحريف القرآن الكريم؛ ألا يخرجهم من الإسلام جملةً وتفصيلاً؟

أقول وبالله التوفيق:

لست في وضعٍ صحيٍّ يسمحُ بكتابةِ كلامٍ علميٍّ صحيح، فإذا وجدتم خطأً في هذا المنشور بالذات؛ فهذا هو سببه، وقد أجّلْت كتابةَ هذا المنشور أيّاماً، ريثما أستعيد قوايَ الجسمية والعقليّة، ولكنّ الأخَ صاحبَ السؤال لم يكتف بإجابتي المختصرة له على الهاتف، وأراد منشوراً موثّقاً بإلحاحٍ، فأقول:

أوّلاً: أنا الفقير عداب لا يسرّني أبداً تكفير واحدٍ يشهد (أن لا إله إلّا الله محمدٌ رسولُ اللهِ) حتى لو كان نصيريّاً، أو درزيّاً أو إسماعيليّاً!

وقولي بضرورة وجود (الناقض) قيد احترازيٌّ، لا بدّ منه، حتى لا يقع الخلق بتكفير بعضهم بعضاً على الشبهةِ والمزاج!

كلّ الذي تنكره على الجعفريّ.

وكل الذي تنكره على الإسماعيليّ.

وكلّ الذي تنكره على النصيريّ؛ اعْرِضْه على القرآن الكريم وحسب، فإنْ وجدتَ معارضاً حقيقيّاً للقرآن الكريم؛ فأمسك به، ثم جادل القائل به حتى تقيم عليه الحجة!

لكنْ لا تحتجّ عليه بمعارضةِ قوله لما في البخاري وما في مسلم، فهو يرى رواياته أصحَّ من رواياتِ البخاريّ ومسلمٍ، وهو وأنت مقلّدان جاهلان!

ثانياً: أنا الفقير عداب بن محمود الحمش؛ لست رافضيّا قطعاً، فأنا أترضى عن أصحابِ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأتولاهم، سوى الطلقاءِ فلا أحبهم ولا أتولاهم أبداً، وعدداً آخر لا يتجاوز عددهم أربعةَ عشر منافقاً، همّوا بقتلِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم في عقبةِ تبوكَ، كما في صحيح مسلم (2779).

ولست سنيّاً أترضّى عن جميع جيلِ الصحابة: من الطلقاءِ البغاةِ، والأعرابِ، ومنافقي أهل المدينةِ ومن حولها والمجهولين، فأنا لا  أرى هذا من الدين أصلاً، فضلاً عن أن يكون هو السنّة!

بمعنى آخر: أنا لا يعنيني أن ينتصر أهلُ السنة سياسيا وعسكرياً على الشيعة، ولا العكس، فالساسة المعاصرون من الطرفين، بعضهم شرّ من بعضٍ، والبعض الآخر أخسّ من بعضٍ، لا بارك الله بهم أجمعين.

وبالتالي، فلا يهمني أن يكون المنتصرُ في معركة «تحريف القرآن» السنّةَ أو الشيعةَ!

فأنا في هذه المعركةِ لست من هؤلاء ولا أولئك تماماً، ومن دون أيِّ مجاملة!

لأنني باختصارٍ أتّهم السنةَ والشيعة بالقول بتحريف القرآن الكريم!

ثالثاً: أهل السنّة يتّهمون الشيعةَ بنصوصِ التحريف الموجودة في بعض كتبهم!

والشيعة يتّهمون أهل السنة بنصوص التحريفِ الموجودة في بعض كتبهم!

مع أنّ معتمدَ أهلِ السنّة؛ هو أنّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم؛ هو القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسولِه محمّدٍ، في صورته الأخيرةِ التي عرضها الرسول محمّد على جبريل عليهما الصلاة والسلام.

وأنّ معتمدَ الشيعةِ؛ هو أنّ القرآن الكريم الذي بين أيدينا اليوم؛ القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى على رسولِه محمّدٍ، ليس فيه زيادةُ آياتٍ نقصان آياتٍ أبداً، إنما هو مرتب على غير ترتيب النزول!

فنصوص التحريفِ  الكثيرةِ، عند أهل السنة يفسّرونها تفسيراً يرونه مُرضياً لهم، بينما لا يقبلون من الشيعةِ أيَّ تفسيرٍ، وهذا هو الهوى، من دون أدنى شكٍّ!

رابعاً: إنّ أهل السنّة يقولون بنسخ القرآن الكريم، وبعض علمائهم يوصلِ دعاوى النسخِ إلى أكثرَ من (300) آية منسوخة، وإذ لا تصحّ دعوى نسخٍ واحدةٍ؛ فهم يقولون بالتحريف في (300) موضع من القرآن، وهم لا يشعرون!

والشيعة لا يقولون بالنسخ، والذين قالوا بالنسخ؛ تردّدوا في نسخ آيةٍ واحدةٍ منه!

فالشيعة الإماميّة لا يقولون بتحريف القرآن الكريم في (299) آية قال أهل السنة بتحريف القرآن فيها!

خامساً: الشيعة أفضل من أهل السنّة أيضاًَ برفضهم القولَ بنسخ التلاوة!

وأهل السنة يقولون بنسخ التلاوة، ويستدلّون على قولهم هذا برواياتٍ صحّحوها، وبنوا عليها القول بنسخ التلاوة، من مثل:

- قول عمر وأُبيّ وزيدِ بن ثابتٍ (الشيخ والشيخة إذا زنيا؛ فارجموهما البتّة نكالاً من الله) أخرجه مالك (1560) وأحمد (20613) والدارمي (2323) وغيرهم كثيرون.

- قول أبي موسى الأشعريّ (لو كان لابن آدم واديان من ذهبٍ؛ لابتغى إليهما ثالثاً، ولا يملأ جوفَ ابن آدم إلّا الترابُ، ويتوب الله على من تاب) أخرجه البخاري (6436) ومسلم (1049).

وقال أبيّ بن كعب: (كنّا نرى هذا من القرآن حتى نزلت (ألهاكم التكاثر) أخرجه البخاري (6439).

- (لا ترغبوا عن آبائكم، فإنه كفرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم) أخرجه البخاري (6830) .

- وقال عبدالله بن أحمد في زوائده على مسند أبيه (20260): حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ:

«كَمْ تَقْرَءُونَ سُورَةَ الْأَحْزَابِ؟ قَالَ زِرٌّ: بِضْعًا وَسَبْعِينَ آيَةً.

قَالَ أُبَيٌّ: لَقَدْ قَرَأْتُهَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ الْبَقَرَةِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهَا، وَإِنَّ فِيهَا آيَةَ الرَّجْمِ».

- عائشة تقول: «كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ مَعْلُومَاتٍ فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ». أخرجه مسلم (1452).

- وتقول عائشة أيضاً: (إِنَّ اللَّهَ وملائكته يصلون على النبي يأيها الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا وَعَلَى الَّذِينَ يَصِلونَ الصُّفُوفَ الْأُوَلَ) قَالَتْ: هذا قَبْلَ أَنْ يُغَيِّرَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ».

- عثمان يقول: «أَرَى فِيهِ شَيْئًا مِنْ لَحْنٍ سَتُقِيمُهُ الْعَرَبُ بِأَلْسِنَتِهَا» أخرجه الفاكهي في أخبار مكة، وابن أبي داود في كتاب المصاحف (ص: 120).

- عبدالله بن عمر يقول: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: قَدْ أَخَذْتُ الْقُرْآنَ كُلَّهُ، وَمَا يُدْرِيهِ مَا كُلُّهُ؟

قَدْ ذَهَبَ مِنْهُ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: قَدْ أَخَذْتُ مِنْهُ مَا ظَهَرَ».

الإتقان في علوم القرآن (3: 82).

- أنس يقول: «بعدما غَدروا بالقرّاء الذين أرسلهم معهم وَقَتَلُوهُمْ؛ قَنَتَ الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم شَهْراً يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ.

قَالَ قَتَادَةُ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ أَنَّهُمْ قَرَءُوا بِهِمْ قُرْآنًا: (أَلَا بَلِّغُوا عَنَّا قَوْمَنَا بِأَنَّا قَدْ لَقِيَنَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا) ثُمَّ رُفِعَ ذَلِكَ بَعْدُ» أخرجه البخاري (3064)

هذه النصوصُ، وفي كتب أهل السنّة أضعافُها، لو ثبتت حقّاً عن الصحابةِ رضي الله عنهم؛ فتلك كارثةٌ، وليست مصيبةً فحسب!

ولو أنّ طالبَ علمٍ ذهبَ، فتصفّح مبحث «نسخ التلاوةِ» في كتاب الإتقان للسيوطي؛ لرأت عيناه العجَبَ، ولقامَ ورقصَ، ليس من الطربِ، إنما من بابة «الطير يرقص مذبوحاً من الألم».

ما أريد أنْ أصلَ إليه؛ أنّ متقدّمي الشيعةِ خيرٌ من متأخّريهم، وأنّ متأخريهم نسبوا إلى متقدميهم كثيراً من الكذبِ والباطل، الذي لا علم لهم به!

وإنّ متأخري أهل السنة أعلم من متقدميهم، بيد أنهم أرادوا أن يعظموهم، فنسبوا إليهم أشياءَ تحطّ من أقدارهم، وتجعلهم جهالاً على الحقيقةِ، ومبحث نسخ التلاوةِ شاهدٌ جليّ على ذلك.

ختاماً: لدى الشيعة الإمامية رواياتٌ في التحريف، وقال به جمهور الأخباريين، وبعض علمائهم من المحدثين والأصوليين.

قال الشيخ محمد جميل حمّود في شرحه على عقائد الإماميّة للشيخ محمد رضا المظفّر (1: 717): «وممن قالوا بالتحريفِ جُمهورَ تأخباريين، وبعضُ المحدّثين من أمثال الكليني والقمّي والنوري الطبرسيّ، وقليلٌ من الأصوليين، منهم المحقّق القمّي، واآخوند الخراساني صاحب الكفاية، وتلميذه المشكيني».

وقال في الصفحة التي قبلها أيضاً: «من معتقداتِ الإماميّةِ عدمُ القول بتحريف القرآن الكريم، وأنّ الموجود بأيدينا هو ما نزل على النبيِّ الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومن قال بالنقيصةِ؛ فله رأيُه ودليلُه - بل شبهاتٌ وليست أدلّة - ولكنّه لا يُعبّر عن الإجماع الإماميّ القائل بعدم النقيصة».

ومذاهبُ أهل السنّة قاطبة؛ يقولون بعدم وقوع التحريف، فلا خلاف إذنْ بين مذاهب أهل السنّة ومذهب الإماميّة في مسألةِ التحريفِ (القرآن الذي بين أيدينا اليوم؛ هو القرآن الذي أنزله الله على رسولنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليس فيه نقصان وليس فيه زيادة).

والأقوالُ الشاردة ههنا وههنا؛ ليست أقوالاً معتمدةً لدى الشيعة الإمامية.

فلا معنى لاتّهام الشيعةِ بأنهم يقولون بتحريف القرآن، وأنتم تقولون بما شرٌّ من قولهم وأقبح!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الاثنين، 15 يناير 2024

  التَصَوُّفُ العَليمُ (16):

أدلّةُ التشريعِ وأئمّةُ الفتوى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم                                        

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

إنّ مما يحزنني حقّاً أن يقومَ العوامُّ وصغارُ طلبةِ العلمِ بالردّ على ما أكتب، يعاملونني وكأنني واحدٌ من زملائهم!

هذا مزعجٌ حقّاً، لكنْ ماذا نصنع لأمّة تحترم السفهاءَ أكثرَ من العلماءِ، إذا حدّثهم السفهاءُ بما يشتهون، وحدّثهم العلماءُ بغير ما يَرغبون!

ولولا أنّ كثيرين، سيكذّبون ما أكتبُ، فأكون سببَ تكذيبهم واكتسابهم الإثمَ؛ لرويتُ لكم عشراتٍ وعشراتٍ وعشراتٍ مما أكرمني الله تعالى به، ولم يُجري بعضَه على أيدي مَن تقدّسون من شيوخِكم!

أقول هذا خاصّةً للإخوة المتصوّفة؛ ليعرفوا أنّني لا أتكلّم من خارج الدائرة، فأنا ابن التصوّف، مذ عرفتُ العبادةَ والعلم.

لكنّني أقول لكم جميعاً ما تعرفون:

أدلّة التشريع الإسلاميّ؛ هما كتابُ الله تعالى، وسنّةُ رسولِه صلى الله عليه وآله وسلم، فحسب!

والإجماعُ كاشفٌ عن الدليلِ، وليس دليلاً بحدّ ذاتِه، والإجماع إجماع علماءِ الصحابةِ وحسب!

والقياس والاستحسان والاستصلاح والمقاصد والعرف؛ كلّها عَملُ المجتهد!

وهي بمجموعها ظنونُ المجتهدين بأنّ هذا حُكمُ الله تعالى، أو حُكمُ رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وليست هي حكمَ اللهِ، ولا حكمَ رسولِه!

ولذلك فمن حقّ أيّ عالم أن لا ينظُر إليها كلّها بطرفِ عينه!

- وأئمّة الفتوى في الصحابةِ عند أهل السنّةِ: عمر وعليّ وابن مسعودٍ وزيد بن ثابتٍ وعبدالله بن عمر، رضي الله عنهم وأرضاهم.

- وأئمّة الفتوى في التابعين: عليّ بن الحسين، ومحمّد بن عليّ، المعروف بابن الحنفيّة، سعيد بن المسيّب، الحسن البصري، القاسم بن محمد بن أبي بكرٍ، علقمةُ بن يزيد النخعيّ، إبراهيم بن يزيد النخعيّ، وطبقتهم.

- وأئمة أتباع التابعين: محمّد الباقر، جعفر الصادق، أبو حنيفة النعمان وأصحابه، مالك بن أنس، سفيان الثوريّ، الليث بن سعد، الأوزاعيّ، مسلم بن خالد الجنديّ، وطبقتهم.

- وأئمة تَبعِ أتباع التابعين: موسى الكاظم، علي الرضا،  وكيع بن الجراح، عبدالرحمن بن مهدي، الشافعيّ، وطبقتهم.

- والطبقة التي تليها: أحمدُ ابن حنبلٍ، أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبيّ، أبو عُبيد القاسم بن سلام، وطبقتهم.

والطبقة التي تليها: البخاري، مسلم، أبو داود، النسائيّ، ابن خزيمة، الحسن بن سفيان، وطبقتهم، رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين.

أليس هؤلاء أئمّةَ المسلمين، يا مسلمون؟

اُذكروا لي واحداً من هؤلاء الأكارم قال: هناك أناسٌ في عالم الغيبِ يُدعَونَ الأغواثَ والأقطابَ وأهلَ التصريفِ، وأنّ لأولياء اللهِ تعالى حكومةً عالميّةً خفيّة، ولهم ديوانٌ ينظّمون فيه أمورَ العالم، من وراءِ حجاب!!

اُذكروا واحداً من هؤلاء الأئمة والعلماء قال بوحدةِ الوجودِ، أو وحدةِ الشهودِ، أو الفناءِ، أو العروجِ الروحيّ!

اُذكروا لي واحداً من هؤلاء الأئمة قال بالحقيقةِ المحمّدية في أيسر معانيها التي هي:

أنّه صلى الله عليه وآله وسلم أسمى تجلّياتِ الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.

أو في أقبحِ معانيها التي هي: أنّ للرسولِ طبيعةً نورانيّة قديمة هي من نور الله تعالى!

وله طبيعة بشريّة حادثة، يظهر فيها للخلائق!

هل يستطيع أحدٌ من العلماءِ ومن الصالحين ومن الأولياء ومن المؤرخين؛ أن يثبتَ بأنّ واحداً من هؤلاء الأئمة نطقَ بحرفٍ واحدٍ من هذا الكلام، الذي به يَعتقدُ كثيرٌ من العرفانيين، وصوفية هذا الزمان؟

فإنْ لم تفعلوا ولن تفعلوا قطعاً وجزماً؛ فهل يمكن في عقولكم أن تولَد عقائدُ إسلاميةٌ جديدةٌ، بعد ثلاثةِ قرونٍ من عمر الإسلام؟

وهذه العقائدُ المولَّدة، هلْ وَقَفَ مخترعوها على أدلّةٍ من كتابِ الله تعالى، أو من سنّة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، لم يَعرفها علماءُ وأولياء القرون الثلاثة هذه؟

مَن يقول بهذا؛ فهو كذّابٌ مفترٍ على الله تعالى، وعلى رسولِه، وعلى الصالحين.

والذين قالوا ويقولون بهذا من مشايخنا من أهل التصوّف؛ ليس فيهم واحدٌ مجتهدٌ يمكنُ أن يُنظَر في كلامه أصلاً، إنّما هم مقلّدةٌ لشيوخِهم فيما نقلوه عن شيوخهم!

فالمسألةُ هي التقليدُ الأعمى لبعض المفتونين السابقين، ليس غير!

أنا لا أقول: التصوّف باطل!

أنا لا أقول: مشايخ التصوّف كذّابون، أو مدّعون!

أنا لا أقول: ليس ثمّة أولياء وصالحون ومتّقون وزهّاد، بل هم موجودون، وكثيرون في كلّ قطرٍ من أقطار الإسلام.

وهناك أناسٌ فتح الله على بصائرهم، قد يلهمهم بأشياءَ من الغيب، وقد يطلعُهم على أسرارِ بعضِ الخلقِ لحكمةٍ يعلمها تعالى، وقد يستجيب دعاءَهم في أمورٍ كبيرةٍ، وقد لا يستجيب دعاءَهم فيما هو أدنى منها بكثيرٍ!

اتّفقتُ مع عددٍ من طلّابي هنا في تركيّا على أن نَخرج في نزهةٍ - وقلّما نفعل ذلك - وحضّرنا اللحمَ والفراريجَ لنشويَها خرجَ المدينةِ!

عندما وصلنا موضعَ النزهةِ؛ بدأتِ السماءُ تمطر، والظاهر من غيومِ السماء آنئذٍ أنْ سيكون مطرٌ غزير، وستخربُ علينا الرحلةُ!

كان معنا في هذه النزهةِ أحدُ الصوفية الفقراء، صَعُب عليه مثلُ هذا الأمرِ، فتوجّه إلى الله بدعاءٍ لم يسمعه الحاضرون، ثم التفتَ إلى السحاب المطير، وقال له: اِمَشِ من هنا يا سحاب، ولا ترجع إلّا بعدَ صلاة المغرب!

في أقلّ من دقيقةٍ واحدةٍ؛ انقشعَ السحابُ وطلعتِ الشمسُ، ولم تمطر ثانيةً إلّا ونحن في الركعة الثالثةِ من صلاة المغرب!

حضرَ هذه النزهة الدكتور الشريفُ ناصر ناجي السَلَفيُّ الطرابلسيُّ!

والشريفُ عيسى بن يحيى النينويّ الصوفيّ الحلبيّ.

والأخ محمّد سطلة الدومانيّ الحنبليُّ.

وولدايَ الدكتور السيد محمد والسيد سعيد، الأشعريّان، وربما آخرون، نسيت!

والفقير عداب اللاش!

هذا موجودٌ، وقد يحصل للعالم والعابد والعاملِ والفلاح، وحارسِ الدرب!

لكنْ ليس هذا تصرّفاً في الكونِ، ولا قدرةً على التدبير، ولا هو ولايةٌ تكوينيّة، على حدّ ما يزعم الرافضةُ، كذباً على الله تعالى، وعلى الأئمة الكرام.

إنما هو استجابةُ اللهِ تعالى دعاءَ عبدٍ من عبيده، والله قد يستجيب لعباده الصالحين، وقد يستجيبُ لغير الصالحين أيضاً!

الله يتصرّف هو بحكمته كيف يشاء، ولسنا نحن الذين نعيّن له ما يشاء وما يفعل!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 7 يناير 2024

  قُطوفٌ من الآلام (12):

رَضيعتي آمنةُ في ذمّة الله تعالى!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

(رحمةُ اللهِ وبركاتُه عليكم أهلَ البيت؛ إنّه حَميدٌ مَجيد).

تُوُفّيتْ قبل قليلٍ ابنةُ عمّي، وأختي من الرضاع، السيّدةُ آمنةُ بنتُ «محمّد حمشو» بنِ حمدو الهبطة بن الشريف محمدّ الحمش، عن عُمرٍ قاربَ ثمانين عاماً (1946 - 2024م) وهي زوجة ابن عمّي الشقيقِ السيّد عدنان بن خالد بن إبراهيم بن محمّد الحمش.

أتقدّم بأحرِّ تَعازيَّ وأصدق كلماتي إلى ابن عمّي السيّد عدنان، وأولاده، وإلى أبناء أخوَي الفقيدة، وبني أعمامها وأعمامنا وأصهارها وأنسبائها.

وعظّم الله أجورَكم، ورزقكم الصبرَ الجميلَ والاحتسابَ.

واللهَ الرحمنَ الرحيمَ أسألُ أن يتغمّدها بواسعِ رحمتِه، وأن يتقبّلها بقَبولٍ حسنٍ، ويوسع لها في مرقدها؛ إنّه هو الرحمن الرحيم.

إنّا للهِ وإنّا إليه راجعون

ولا حول ولا قوّةَ إلّا بالله العليِّ العظيم

والحمدُ لله على كلّ حال.

الخميس، 4 يناير 2024

      مَسائل حديثيّة (63):

الإمام مالكٌ: حديثٌ صحيح ورأي ضعيف!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدُ أصدقاء صفحتي قال: قرأتُ لأحد الكاتبين المعاصرين يقول: «سئل الإمام أحمدُ ابنُ حنبلٍ عن عِلْمِ الإمام مالك، رحمهما الله تعالى؟

فقال: حديث صحيحٌ، ورأي ضعيف»!

فهل يصحّ مثل هذا الكلام عن الإمام أحمد، في حقّ إمامٍ عظيمٍ مثل مالك، الذي يدين بمذهبه مئاتُ الملايين من الناس؟

وإذا كانت نسبةُ هذا الكلام صحيحةً، فما تفسير ذلك عندكم، وشكراً لكم...».

أقول وبالله التوفيق:

هذا القولُ عن أحمد؛ أخرجه الإمام البيهقيّ في المدخل إلى السنن الكبير (1: 27 - 29) قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن السقاء:

الإسفرايني: حدثنا أبو بكرٍ الشافعيُّ، يعني: البَغداديَّ قال: سمعت إبراهيم الحربي يقول: سئل أحمدُ ابنُ حنبلٍ عن مالك بن أنس؟ فقال: حديثٌ صحيح، ورأي ضعيف!

وسئل عن الأوزاعي؟ فقال: حديث ضعيف ورأي ضعيف!

وسُئل عن الشافعيِّ؟ فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح!

وسئل عن آخر؟ فقال: لا رأيٌ ولا حديثٌ([1]).

قال الفقير عداب في توضيح ما تقدّم:

أوّلاً: إسنادُ قولِ أحمد هذا؛ مسلسلٌ بالحفّاظ:

(1) شيخُ البيهقيّ في هذا الحديث؛ ترجمه الذهبيّ في النبلاء (17: 305) وقال: « الإمام الحافظ الناقد القاضي،  مِنْ أَوْلاَدِ أَئِمَّةِ الحَدِيْثِ».

(2) أبو بكرٍ الشافعيُّ: هو مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ عَبْدُوَيْه الإِمَامُ المُحَدِّثُ المُتْقِنُ الحُجَّةُ الفَقِيْهُ، مُسْنِدُ العِرَاقِ» قاله الذهبيّ في النبلاء (16: 40).

(3) إبراهيم الحربيّ: ترجمه الذهبيّ في النبلاء (13: 356) وقال: «هُوَ الشَّيْخُ الإِمَامُ الحَافِظُ العَلاَّمَةُ شَيْخُ الإِسْلاَمِ، أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ بنِ بَشِيْرٍ البَغْدَادِيُّ، الحَرْبِيُّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ».

ثانياً: قال الإمام أحمدُ البيهقيُّ يشرحُ قولَ الإمام أحمد: قوله في الأوزاعي حديثٌ ضعيف؛ يريد به بعض ما يَحتج به، لا أنه ضعيف في الرواية، والأوزاعي إمام ثقة في نفسه، لكنه قد يَحتج في بعض مسائله بأحاديثِ مَن عَسَاه لم يقف على حاله، ثم يحتج بالمراسيل والمقاطيع، وذلك بيّنٌ في كتبه.

والشافعيُّ لا يحتج بالمراسيلِ، ولا بأحاديث المجهولين، وهو وإن كان يروي مقاطيع، ويروي عن بعض الضعفاء؛ فليس يَعتمد على روايتهم، وإنما يَعتمد على ما تَقوم به الحجة من الكتاب والسنة الصحيحة أو الإجماعِ، أو القياس على بعض ذلك. ثم يروي ما يحفظ في الباب من الأسانيد، على رسم أكثر أهل الحديث، وإن كانت الحجة لا تقوم ببعضها.

ويُشير إلى ضَعف ما هو ضعيف منها، بانقطاعٍ أو غيره؛ لئلا يُتوهَّمَ أنّ اعتماده على الحديثِ الضعيف، وقد يَسكت عن بيانه في بعض المواضع؛ اكتفاء بما بيّن في بعضها.

والرأي إنما هو تشبيه، فإذا وقع التشبيه بحديث ضعيف، أو بما لا يشبهه، أو بما في الأصول ما هو أقربُ إليه منه؛ وقع الرأي ضعيفًا، وإنما ضعّف رأيَ مالكٍ - رحمنا اللهُ وإياه - لأنّه قد يتركُ الحديث الصحيحَ لِعمَلِ أهلِ المدينة.

ثم يدَّعي إجماعَهم في الأمرِ الذي يجدهم مختلفين فيه.

ثم يُشَبِّهُ به، فيقعُ التَشبيهُ بأصلٍ ضعيفٍ، فيكون ضَعيفاً، وبالله التوفيق».

ثالثاً: قولُ الإمامِ أحمدَ هذا؛ أخرجه البيهقيُّ في مناقب الشافعيّ (1: 166) بالإسنادِ السابق نفسِه أيضاً، وزاد كلامَه إيضاحاً، فكان ممّا زاد:

وسُئل عن «أبي فلان»([2]) فقال: لا رأيٌ ولا حديثٌ!

لأنّه كان يَقول بالحديث الضعيفِ دون القياس مَرّةً، ويَترك الصحيحَ المعروفَ بالقياس أخرى!

ويَقول بالقياس مرةً، ويتركُه بالاستحسان أخرى!

وهذا لأنّه كان يَرى الحُجّةَ تَقوم بخبر المجهول، وبالحديث المنقطع!

فما وقع إليه من ذلك، من حديث بلده؛ قال به، وترك القياسَ لأجله.

وما لم يَقع إليه من صحيحِ حديثِ بلده، أو وَقع إليه، فلم يَثقْ بِهِ؛ قال فيه بالقياس، أو الاستحسان.

وقولُه بالحديثِ المنقطع، وروايةِ المجهول ما لم يَعْلَمْ جَرْحَه، وتَقليدُه الصحابيَّ الواحدَ بخلافِ القياسِ - فيما بلغه مِن حديث بلده - يَدُلُّ على صحة أصلِ اعتقادِه في متابعة الأخبار والآثار.

غير أنَّ هذا القول عند غيره خطأ؛ لِعَوارِ المنقطع، وضَعْفِ رواية المجهول.

وإِنّما أُمِرْنا بالعَدلِ والتثبُّتِ، فيما طريقه طريقُ الأخبار، ولم نُؤمر بأخذها عَمّن لا يُعْرَفْ، ولم يُرَخَّص لنا في تركها عمّن يعرف، إلا بمثلها؛ بأن يكون ناسخاً لها أو مخصِّصاً.

ولم يَجْرِ على هذا الأصلِ الصَحيحِ إلا المُطَّلبي «الشافعيُّ» رحمه الله.

فلذلك قال أحمدُ ابنُ حنبلٍ ما قال.

والذي يُوضح ما أشرنا إليه ويُؤيّده؛ حكايةُ عبدِالرحمن بن أبي حاتم الرازي عن أبيه، قال: حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال الشافعي: وكُلاًّ قد رأيتُه استعمَلَ الحديثَ المنفرد([3]):

استعمل «أهل المدينة» حديثَ التَفليس، في قول النبي، صلى الله عليه وسلم:

(إذا أدرك الرجلُ مالَه بعينه؛ فهو أحقّ به من غيره) ([4]).

واستعمل «أهل العراق» حديثَ العُمْرَى ([5]).

فكلٌّ قد استعمل الحديثَ المنفرد: هؤلاء أخذوا بهذا وتركوا الآخر، وهؤلاء أخذوا بهذا وتركوا الآخر.

قال البيهقيّ: «قلت: والشافعي المطّلِبي، رحمنا الله وإياه، أخذ بهما جميعاً ([6]).

ولهذا نظائر كثيرةٌ، نكتفي بما ذكرنا، وبالله التوفيق».

ختاماً: لم يكن العلماءُ المتقدّمون قد أصابتهم لوثةُ التقديسِ، التي اقتبسناها نحن من العجم، فقد كان الصحابةُ الكرام يخاطب بعضهم بعضاً باسمه، أو بكنيته، ولم يرد أنّ واحداً منهم وصفَ صحابيّاً آخر بالإمامِ العلامة البحر الفهّامة!

وكان البربر والأمازيغُ في مصرَ وإفريقيّةَ يعظّمون الإمامَ ملكاً كثيراً، إلى درجة أنهم كانوا يقولون: قولُ مالك لا يَحتاجُ إلى دليلٍ، هو الدليل!

بل كان بعضُ كبار علمائهم يدعو على الشافعيّ في سجود الصلاةِ!

ففي ترجمةِ الإمام الإِمَامُ، العَلاَّمَةُ، مُفْتِي مِصْرَ، أَبُو عَمْرٍو أَشْهَبُ بنُ عَبْدِ العَزِيْزِ بنِ دَاوُدَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ القَيْسِيُّ، من النبلاء (9: 500) قال الذهبيّ: «عَنِ ابْنِ عَبْدِ الحَكَمِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَشْهَبَ يَدعُو فِي سُجُوْدِه عَلَى الشَّافِعِيِّ بِالمَوْتِ!

فَمَاتَ - وَاللهِ- الشَّافِعِيُّ فِي رَجَبٍ، سَنَةَ أَرْبَعٍ ومائتين، وَمَاتَ أَشْهَبُ بَعْدَهُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْماً!

وَاشْتَرَى مِنْ تَرِكَةِ الشَّافِعِيِّ عَبداً، اشْتَرَيْتُهُ أَنَا مِنْ تَرِكَةِ أَشْهَبَ»!!

فوجد الإمام الشافعيُّ نفسَه مضطرّاً - في تقديري - لأنْ يبدي رأيَه واجتهادَه في كبار علماء عصره، من مثل أبي حنيفةَ وصاحبيه أبي يوسفَ ومحمد بن الحسن، والأوزاعي، والليث بن سعد، ومالك بن أنس، وغيرهم، حتى لا تطغى فكرة تقديسِ الأشخاص، فتصبح مخالفتُهم جريمةً كبيرةً، كما هي الحال لدى مقلّدةِ عصرنا، من شتّى المذاهب!

وحيالَ موقف الشافعيِّ من اجتهاداتِ شيخِه مالكٍ والمالكيّة؛ كتب الدكتور إسماعيل بن رفعت فوزي عبدالمطّلب المصريّ أطروحته للدكتوراه بعنوان «مناقشاتُ الشافعيِّ للمالكية في موقفهم من السنّة» وهي مطبوعة متداولة، صادرة عن دار ابن حزم بلبنان، عام (2014م) في مجلّد ضخم زادت صفحاته على (700) صفحة طباعية.

يجملُ بكلّ طالبِ علمٍ أن يطالعَ هذا الكتابَ؛ ليقف على منهج الشافعيّ في معالجته مسائلَ الخلاف، ولو قرأ الباحث اختلاف الحديث للإمام الشافعيّ ذاته بعد ذلك؛ لأفاد علماً محرّراً غزيراً!  

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.



([1]) الآخر المقصود هنا: هو الإمامُ أبو حنيفةَ، كما جاء مصرّحاً به في تاريخ بغداد (15: 573).

([2]) المقصودُ بأبي فلان هنا: هو الإمامُ أبو حنيفةَ، كما جاء مصرّحاً به في تاريخ بغداد (15: 573).

([3]) ورد مضمون كلامِ الشافعيّ في كتابه «اختلافُ الحديث» (ص: 26) تحقيق الدكتور رفعت فوزي عبدالمطّلب.

([4]) في اختلاف الحديث للشافعيّ (مَنْ وجدَ عينَ مالِه عندَ مُعدِمٍ؛ فهو أحقّ به) وأسنده الشافعيّ في الأمّ (3: 203) وفي المسند (1483) من طريق شيخِه مالكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأنصاريِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ، فَأَدْرَكَ الرَّجُلُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) وهو مطابقٌ للفظ مالكٍ في موطّئه برواية الشافعيّ (690) ولرواية يحيى الليثيّ (577) وفي رواية عَبْدُ الْوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عن يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ، به مرفوعاً، ولفظه (مَنْ أَدْرَكَ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ؛ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) في الموضع نفسه من الأم، وأخرجه البخاريّ في الاستقراضِ من صحيحه (2402) من طريق زهير بن معاوية الجُعْفيّ، ومسلمٌ في المساقاةِ من صحيحه (1559) من طرقٍ عديدة عن يحيى بن سعيدٍ، بهذا الإسنادِ مثلَه، .    

([5]) حديث العمرى؛ أخرجه الشافعيّ في المسند (1064) قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «بن عوفٍ» عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَيُّمَا رَجُلٍ أُعْمِرَ عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ؛ فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاها، لَا تَرْجِعُ إلَى الَّذِي أَعْطَاهَا، لأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمَوَارِيثُ) وهو مطابق لموطّأ مالك برواية الشافعيّ (741)  ومطابق لرواية الحديث في صحيح مسلم (1625) ولفظ رواية البخاريّ (2625) عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (قَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعُمْرَى أَنَّهَا لِمَنْ وُهِبَتْ لَهُ) قال القاضي عياض في مشارق الأنوار (2: 497): «العُمْرى: إسكانَ الرجلِ الآخرَ دارَه طيلةَ عمره، أو تمليكَه منافعَ أرضه عمرَ المُعطِي، أو عُمرَ المعطَى» فيكون معنى أُعْمِرَ عُمرة: وُهب، أو مُكّن.

قال الشافعيّ في الأمّ (4: 66) و(7: 228): « وَبِهذا نَأْخُذُ، وَيَأْخُذُ عَامَّةُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ، وَأَكَابِرُ أَهْلِ المدينة» ولم يأخذ مالك بهذا الحديث، ففي موطّأ مالك روايةِ الليثيّ (44): وَحَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَمِعَ مَكْحُولًا الدِّمَشْقِيَّ يَسْأَلُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنِ الْعُمْرَى، وَمَا يَقُولُ النَّاسُ فِيهَا؟

فَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا وَهُمْ عَلَى شُرُوطِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَفِيمَا أَعْطُوا»

قَالَ يَحْيَى الليثيُّ: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: «وَعَلَى ذَلِكَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا؛ أَنَّ الْعُمْرَى تَرْجِعُ إِلَى الَّذِي أَعْمَرَها، إِذَا لَمْ يَقُلْ هِيَ لَكَ وَلِعَقِبِكَ» وتعقّب الشافعيُّ شيخَه مالكاً في اختلاف الحديث (ص: 25) بقوله: «فَإِنِ احْتَجَّ بِأَنَّ الْقَاسِمَ بنَ مُحَمَّدٍ، قَالَ فِي الْعُمْرَى: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إِلَّا عَلَى شُرُوطِهِمْ» قَالَ الشافعيّ: هَذَا مَذْهَبٌ ضَعِيفٌ، وَلَا حُجَّةَ فِي قولِ أَحَدٍ خَالَفَ مَا نُثْبِتُهُ عَنْ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم بِحَالٍ».

([6]) قال الشافعيّ لمُحاوره في اختلاف الحديث (ص: 26): «حديثُ التفليس، وحديثُ اليمين مع الشاهدِ؛ أضعفُ من حديث العُمْرَى، أوَما هما ممّا نثبتُ نحنُ وأنت مثلَه؟ قال محاوره: بلى!

قلت: فالحجّة بهما لازمةٌ، ولو كان غيرهما أقوى منهما» انتهى.