الجمعة، 31 ديسمبر 2021

 مَسائِلُ عَقَدِيّةٌ (8):

الشَعْبُ العظيم!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحدهم يقول: «نسمع بعض أبناء الحركات الإسلامية، عندما يريد أن يستميلَ عواطفَ العامّة؛ يخاطب أبناء شعبه فيقول:

الشعب السوريّ العظيم!

الشعب العراقيّ العظيم!

الشعب المصري العظيم!

وهكذا يكون التعبير عن بقيّة شعوب البلاد العربية!

فهل يجوز إطلاقُ وصف شعبٍ ما بالعظيم، وفي شعوبنا من البلايا ما هو معلوم؟!

أقول وبالله التوفيق:

وصف الله تعالى ذاته المقدسة بقوله: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة].

ووصف فضله على عباده بقوله: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) [البقرة].

ووصف فوزَ المؤمنين في الآخرة بقوله: (خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) [النساء].

ووصف عذابَ الآخرة بقوله: (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) [البقرة].

ووصف قذف المحصنات بقوله: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) [النور].

ووصف عرش ملكة سبأ، حكايةً عن الهدهد، بقوله: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) [النمل].

ووصف الكبشَ الذي افتدِيَ به إسماعيل عليه السلام، بقوله:

(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) [الصافّات].

وحكى لنا القرآن العظيم قول كفّار قريشٍ: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) [الزخرف].

فلفظ «عظيم»: يأتي بمعنى الكثير، وبمعنى الشديد، وبمعنى المُعظَّم والممجَّد.

والذين يطلقون هذه اللفظة، فإنما يعنون بها الشعبَ المجيدَ المتميّز السامي.

والله تبارك وتعالى يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ (13) [الحجرات].

ويقول: (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) [يوسف].

ويقول: (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) [الأنعام].

ويقول: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) [الصفّ].

ويقول: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ (37) [الحجّ].

وفي كلّ مجتمع من المجتمعات المسلمة أكثريّةٌ تترك الصلاة، وبعضهم يترك الصوم، وكثيرون لا يزكّون أموالهم، وبعضهم يشرب الخمرةَ، وبعضهم يزني، وبعضهم يرابي، وبعضهم يسرق، وبعضهم يبطشون بالناس، وكثيرون يَكذبون ويغتابون!؟

فهل هؤلاء عظماء؟

ختاماً: إذا قصد قائل «الشعب العظيم» الثناءَ على الشعب وتمجيده وترفيعَه؛ فنقول: لا يجوز وصف شعب بأكمله بأنه شعبٌ عظيم؛ مثلما نقول: لا يجوز تكفير شعبٍ بأكمله، أو طائفة بأكملها، إنّما يوصف كلّ فردٍ فيها بما يستحقّه.

ولا يخفى أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم؛ الصلاةُ، فمن تركها؛ فقد كفر) أخرجه أحمد وابن ماجه والنسائيّ والترمذيّ في الإيمان (2621) وقال: حسن صحيح غريب، وقد ورد بمعناه غيرُ حديث.

ولا يخفى على أحدٍ أنّ جمهور العلماء حملوا الحديثَ على أنّه كفر عمليٌّ، يعني: إنّ تارك الصلاة فاسق!

وذهب جمهور العلماء، منهم المالكية والشافعية والحنابلة إلى أنّ تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً؛ يُقتل حدّاً!

فأين تارك الصلاة الذي حكمه القتل، من العدالةِ أصلاً، فضلاً عن أن يكون من العظماء؟

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 30 ديسمبر 2021

 التَصَوُّفُ العَليمُ (11):

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

العاقِبَةُ للتَقْوى ؟!

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في أيّام مرضي الأخير الذي جاوز ستين يوماً؛ أرشدني أحدُهم إلى التخفيف عن نفسي، فأشاهد مسلسلَ «بُهلول - أعقل المجانين» الذي انتهيتُ من مشاهدة آخر حلقة منه قبل قليل!

قال ابن الجوزيّ في المنتظم (9: 154) في حوادث سنة ثمان وثمانين ومائة: «وفي هذه السنة حجّ هارونُ الرشيدُ، وهي آخر حجة حجها الرشيد، ولقيه بهلول في الطريق، فوعَظَه!

أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد أبو الغنائم بن ميمون الزينبي قَالَ: حَدَّثَنَا محمد بن علي بن عبد الرَّحْمَن قَالَ: حدثنا زيد بن الحاجب قَالَ: أخبرنا محمد بن هارون قَالَ: حدثنا علي بن الحَسَن قَالَ: حدثنا علي بن إبراهيم الكرخي قَالَ: حدّثنا محمد بن الحسن الحراني قَالَ: حدثنا أحمد بن عبداللهِ القزوينيُّ عن الفضل بن الربيع قَالَ: حججت مَعَ هارون الرشيد، بالكوفة، فإذا بُهلول المجنون يهذي، فقلت: اسكت، فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت!

فلمّا حاذاه هودَجُ هارون؛ قَالَ: يا أمير المؤمنين:

حدّثنا أيمنُ بْنُ نابل قَالَ: حَدَّثَنَا قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِاللهِ الْعَامِرِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنًى عَلَى جَمَلٍ، وَتَحْتَهُ فمررنا رَحْلٌ رَثٌّ، وَلَمْ يَكُنْ ثُمَّ طَرْدٌ، وَلا ضَرْبٌ، وَلا إِلَيْكَ إِلَيْكَ).

قال الفضل: قُلْتُ: يا أميرَ المؤمنين، إنه بهلول المجنون، قَالَ: قد عرفتُه!

قل يا بهلول!

فَقَالَ هارون: يا أمير المؤمنين:

فهَبْ أنْ قَد مَلَكْتَ الأرضَ طُرّاً ... ودانَ لك العبادُ، فكان ماذا؟

أليس غداً مَصيرُك جَوفُ قَبْرٍ ... ويَحثو التُرْبَ هذا ثمّ هذا

قَالَ: أجدتَ يا بُهلول، أفغيره؟

قَالَ: نعم يا أمير المؤمنين، مَن رَزقه اللهُ جَمالاً ومالاً، فعَفَّ في جماله، وواسى في مالِه؛ كُتِبَ في ديوان الأبرارِ.

قَالَ الفضل: فظن هارونُ أنّ بهلولاً يُريد شيئاً، فقالَ: فإنّا قد أَمرنا بقضاءِ دَينك.

قَالَ: لا تَفعلْ يا أميرَ المؤمنين، لا تَقْضِ دَيناً بدَين، اُرْدُد الحقَّ إلى أهْلِه، واقْضِ دَينَ نَفسك من نفسك.

قَالَ الرشيدُ: إنّا قد أمَرنا أنْ يُجرَى عَليك «عطاء معلوم».

قَالَ: لا تَفْعَلْ يا أميرَ المؤمنين، لا يُعطيكَ «يعني الله» شيئاً وينساني، أَجري على الذي أَجْرَى عليك، لا حاجةَ لي في جِرايتكَ».

وحديث قدامةَ العامريّ؛ أخرجه أحمدُ والدارميّ وابن ماجه والنسائيّ، والترمذيُّ في الحجّ (903) وقال: حديث حسن صحيح !

رَحْلٌ رَثّ: سَرْجٌ قديم غير جيّد.

طَرْدٌ ولا ضربٌ: لم يكن الصحابة المقرّبون يطردون الناسَ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا يضربونهم ليبتعدوا من أمامِ وحولِ الرسول.

إليك إليك: اسمُ فعلِ زَجرٍ، بمعنى تنحَّ وتباعَدْ!

وبهلولٌ يقصد برواية هذا الحديثِ تحذيرَ هارون الرشيد من هذه الأفعال التي تركتبها حاشيات الملوك والسلاطين المتجبّرين!

وبهلولٌ هذا ترجمه الذهبيُّ في تاريخ الإسلام (4: 818) فقال: « البُهْلُولُ الْمَجْنُونُ. هُوَ البُهْلُولُ بْنُ عَمْرٍو، أَبُو وُهَيْبٍ الصَّيْرَفِيُّ الْكُوفِيُّ.

وُسْوِسَ فِي عَقْلِهِ، وَمَا أَظُنُّهُ اخْتَلَطَ، أَوْ قَدْ كَانَ يَصْحُو فِي وَقْتٍ، فَهُوَ مَعْدُودٌ فِي عُقَلاءِ الْمَجَانِينِ، لَهُ كَلامٌ حَسَنٌ وَحِكَايَاتٌ.

وَقَدْ حَدَّثَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَعَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ، وَأَيْمَنَ بْنِ نَابُلٍ.

وَمَا تَعَرَّضُ لَهُ مترجموه بِجَرْحٍ وَلا تَعْدِيلٍ، وَلا كَتَبَ عَنْهُ الطَّلَبَةُ.

كَانَ حَيًّا فِي دَوْلَةِ الرَّشِيدِ، طوّل ابْنُ النَّجَّارِ في ترجمته، وَذَكَرَ أَنَّهُ أَتَى بَغْدَادَ».

وساق الذهبيّ بعضَ أخباره الرائعة!

قلت: لم يطوّل ابن النجّار في ترجمته، كما في ذيل تاريخ بغداد، إنما هي صفحتان!

لكنّ الذي طوّل في ترجمته، وساق جملةً من أخباره؛ ابنُ حبيب النيسابوريّ كما سيأتي قريباً.

وقد لقي سفيانُ بن عيينة بُهلولاً، قال: قلت لبهلول المجنون: يا بُهلولُ عِظني!

فقال: «الملوك، هذه قصورهم، وهذه قبورهم» كما في عقلاء المجانين للضرّاب (6).

وساق ابن حبيب النيسابوريّ كثيراً من أخباره في كتابه عقلاء المجانين (ص: 67 - 74) ومنها هذه الأبيات الجميلة:

حَقيقٌ بالتَواضُع مَن يَموتُ ... وحَسب المرء مِن دنياه قوتُ

فما للمرء يُصبح ذا اهتمامٍ ... وشُغلٍ لا تقوم له النُعوتُ

صَنيع مَليكنا حسنٌ جميلٌ ... وما أرزاقنا ممّا يَفوتُ

فيا هذا سَترحلُ عَن قَريبٍ ... إلى قومٍ كلامُهُم السكوتُ.

قال الذهبيّ: «لم أقف لبهلول على تاريخ وفاة» لكنه ترجمه في طبقة هارون الرشيد، المتوفّى سنة (193 هـ) وذكر ابن الجوزيّ أنّ هارون الرشيد لقيه في الكوفة، في طريقه إلى الحجّ سنة (188 هـ).

فنقول: كان حيّاً سنة (188 هـ) والله تعالى أعلم متى تُوفّي بعد ذلك!

أقول: نصحت بعضَ أهلي بمشاهدة هذا المسلسل، فسألتني: هل الوقائع التي ذكروها في المسلسل صحيحةٌ كلّها؟

فأجبتُها: بهلولٌ حقيقةٌ تاريخيّة، وكونه من عقلاء المجانين؛ حقيقةٌ أخرى، واشتهاره بالزهد والوعظ المؤثّر؛ حقيقةٌ ثالثة، وما ورد في المسلسل منسوباً إلى بهلولٍ كلّه مفيدٌ ونافع، وباعثٌ على الخير، وحاثٌّ على التقوى والمسارعة في الخيرات.

مع التأكيد على أنّ كثيراً من الأحداث الواردة في المسلسل؛ لا تثبت تاريخيّاً.

فأنتِ تحتاجين إلى مَن يأخذ بيدك إلى الخير، وهذا المسلسل يقودك إلى ذلك، بل يسوقك إليه سوقاً.

رحم الله عبدَه الزاهدَ بهلولَ بن عَمرٍو رحمةً واسعةً، وألحقنا به في الصالحين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 18 ديسمبر 2021

 اجتماعيات (44):

التواصُلُ مع الأصدقاء والأحباب!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

قال لي: نحن نعلمُ أنّك مريض، وغيرُ قادرٍ على كتابةِ منشوراتٍ علميّة، بسبب ظرفك الصحيّ الطارئ!

بيد أنّ هذا لا يُعفيك من إلقاء التحيّة على إخوانك وأصدقائك، وتطمينهم بأنك ما زلتَ بين الأحياء!

أقول وبالله التوفيق:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً).

أمّا بعد:

العبد الفقير عدابٌ ما زال على قيدِ الحياة، وهو بكامل أهليّته الشرعيّة، عَقلُه واعٍ، وذاكرتُه حاضرةٌ، وذنوبُه ماثلةٌ نُصبَ عينيه، لم ينسَ منها واحداً!

بيد أنّ جسمَه كليلٌ، وأعصابَه ضعيفة، وهمّته واهِنة، وأحلامُه واهمة، وآمالُه بغير عفو الله تعالى ورحمته؛ سحابةُ صيف!

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً.

ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً.

يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) [الروم].

وأخوكم عداب؛ يوصيكم بما يوصي به نفسَه الأمّارةَ بالسوء!

أوصيكم بتقوى الله تعالى، ومراقبته، والمحافظة على الفرائض في أوقاتها، والمسارعة في الخيرات، وتفقّد الأرملة واليتيم والمسكين!

و«لا تؤخّروا عملَ اليومِ إلى غدٍ؛ فإنّ للغَدِ أعمالاً كثيرةً» وضعوا نُصب أعينكم الآية الكريمةَ سالفةَ الذكرِ، وما رُوري عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ).

هذا الحديثُ - مع ما في إسنادَيه من كلامٍ - جليلٌ جليل، وحكمةٌ بالغة، ليتني عملتُ به في أيّام شبابي، إذنْ لكنتُ جنيتُ خيراً كثيراً!

وأوصي إخواني طلبةَ العلم خاصّةً، بما أوصاني به شيخي الشريف محمد الحافظ التجّاني، رحمه الله تعالى، قال:

 «لا تفتتح بحثاً علميّاً جديداً، حتى تُنجزَ البحثَ الذي بين يديك، فإنّ طولَ الأمل يُمنّيك بأنك ستنجز جميع ما تُخطّطُ له، لكنّ عمرك دون أمنياتِك، وعوارضَ الحياة فوقَ توقّعاتك، وأوصيك بخدمة «المجتبى من السنن» فهو كتابٌ جليلٌ، لم يُخدَم».

قال عداب: وكلتا النصحيتان، لم أعملْ بهما، فبين يديَّ أكثرُ من عشرين كتاباً وبحثاً مَفتوحةً لم تُختَم، ولم أخرّج سنن النسائيّ، ولم أكتب عنه سوى بحثين وجيزين، وللأسف!

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الاثنين، 6 ديسمبر 2021

 التَصَوُّفُ العَليمُ (11):

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

ما ذا أعددتَ للقاءِ الله تعالى؟!

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ هاتفيٍّ مع إحدى بناتي «تلميذاتي» قالت لي: نحن النساءَ ضعيفاتٌ، ولا صبرَ لدينا على كثرة العبادة، من صلاة نافلة، وصوم نافلة، وصدقة نافلة، ولا كثرة تلاوة للقرآن الكريم، ولا كثرة الاستغفار والتسبيح والتهليل والتكبير، وذكر الله تعالى كثيراً!

فأجبتُها: أنا أؤمن إيماناً يقينيّاً بمضمون هذا الحديثِ الضعيف: (أَخْلِصْ دِينَكَ؛ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ) أخرجه الحاكم في المستدرك وقال: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجاهُ» وقال الذهبيّ: غير صحيح، وهو كما قال الذهبيّ!

قالت: هل يمكن أن تذكرَ لي ماذا تصنع، حتى أحاولَ اللحاقَ بك؟

قلت لها: أنا - واللهِ - قليلُ العبادةِ، ولست راضياً عن نفسي أبداً، لكنني سأوجز إليك «عَمَل اليوم والليلةِ عندي» بسطورٍ قليلةٍ، أرجو أنْ لا تطول!

أوّلاً: أنا مؤمن بالله تعالى، وبالرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبالقرآن العظيم، وبجميع كلماته وحروفه، وكلّ مضامينه، ما فهمته منه - وهو الأكثر - وما لم أفهمه منه، وهو بعضُ المتشابه.

ثانياً: أنا لا أرتكب شيئاً من الكبائر الظاهرة مُطلقاً، ولم أرتكب في حياتي جرائم القتل أو الزنا أو اللواط أو السرقة أو شهادة الزور أو أكل مال الغير، أيا كان هذا الغير، أو الوشاية والتجسس نهائيّاً.

ثالثاً: قد أرتكب بعضَ الكبائر الباطنة، من مثل العُجْبِ والفَخْر، لكنني أتوب إلى الله تعالى منها فوراً، وليس لها استقرارٌ في عقلي وقلبي أبداً، بل أقرّ وأعترف بأنني عبدٌ عاجز ضعيف، لولا لطف الله تعالى بي؛ لأهانني وفضحني بين الناس، كما فُضحتُ يومَ رُدّت رسالتي للدكتوراه في العراق، إذ صار الناس يقولون عني العجائبَ، التي يَعلمُ اللهُ تعالى أنّها بأجمعها باطلة!

رابعاً: أحافظ على الطهارة من الحدثين، أمّا الأكبر؛ فمطلقاً، وأمّا الأصغر، فبنسبة (95%) ما دمت مستيقظاً.

أمّا الطهارة من النَجَس؛ فإذا لم يحاسبني الله تعالى على المبالغة فيها؛ فأنا في عافية!

وأحافظ على صلوات الفريضة في أوّل وقتها، ما دمت مستيقظاً، بنسبة (99%) إذ من النادر أن أؤخّر الصلاة.

وأحافظ على تلاوة (50 - 100) آية من القرآن العظيم، خارج الصلاة يوميّاً.

وأصلّي على رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كلّما ذُكر، ومعلومٌ أنّ المحدّثين يمرّون باسمه الكريم، كلّما قرؤوا حديثاً.

وأستغفر الله تعالى، كلّما غضبتُ، أو خِفتُ، أو شاهدتُ منظراً يذكّر بالآخرة.

لكنْ ليس لديّ وردٌ ثابتٌ من الاستغفار والصلاة والسلام على الرسول، ولا من التسبيح!

بمعنى أدقّ قد أستغفر الله تعالى في اليوم كلّه عشرين مرّة، وقد أسبّح الله تعالى عشر مرّاتٍ فحسب، وهكذا، أعني خارج تلاوة القرآن العظيم!

بينما كنت قبل سنة أو سنتين أقوم بما ذكرتُه لكم في منشور سابقٍ، فاغتنم شبابَك وقوّتك، فأنا اليوم في غاية الضعف.

ولم أُخرج زكاةَ مالي منذ عام (1996) وحتى هذا اليوم؛ لأنني لم أمتلك نصابَ الزكاةِ، منذ ذلك التاريخ قطّ!

وحججتُ (9 - 12) مرّة في عمري، واعتمرتُ مئاتِ العُمرات، وطفت بالبيت الحرام ألوفَ الطوافات.

ولم أُفطِر في حياتي يوماً عامداً قطُّ، إلا يوماً واحداً، كنت في الخامسة أو السادسة من عمري، وقضيته مع والدتي بعد رمضان (6، 7) أيام، أمّا إفطار الخطأ، فقد أفطرت السنة الماضية يومين، بسبب انخفاض السُكّر، وأفطرت في رمضان الماضي ثلاثةَ أيّام للسبب نفسه، وكفّرتُ وقضيتُ طبعاً!

وبقيّةُ ليلي ونهاري يذهب بين طلبِ العلم، وأوجاع الأمراض الكثيرة، والنوم!

خامساً: إنّ مرتّبي العلميّ الثابت، منذ ستّة أشهر؛ هو ثلاثة آلاف دولار أمريكي.

ولم يكن لديّ أدنى دخلٍ ماليّ منذ بداية عام (2018) وحتى (30/ 7/ 2021).

مرتّبي هذا، يشاركني فيه اثنان من المغرب، واثنان من الأردن، وواحدٌ من العراق، وواحد في تركيّا، فصرنا بمجموعنا ستّةَ طلّاب علم!

والذي يصفو لي منه (500 - 700 ) دولار شهريّاً.

وهذا القدر يكفيني تقريباً في استانبول، بدون نفقات الطبّ والعلاج!

لكنْ عندي سبعُ بناتٍ، وزوجتان، وأختان، وستّ نسوةٍ غريباتٍ معهنّ، أساعدهنّ شهريّاً بوجه ثابتٍ، مساعدةً يسيرةً، أعلاها (300) دولار، وأدناها (100) دولارٍ في كلّ شهر، لكلٍّ منهنّ، هي قليلة طبعاً، لكنها مفيدة لهنّ كثيراً.

أمّا زوجتي الثالثة الفاضلة - أمّ سعيد - فينفق عليها ولدها الحسن، بجميع ما تحتاجه!

وقد أنفقتُ على خمسةِ طلّابٍ حتى تخرّجوا حاملين بكالوريوس الشريعة، وأنفقت على ثلاثةٍ حتى حصلوا على درجة الدكتوراه في الشريعة.

وزوّجتُ عدداً من إخواني وتلامذتي، وأربعةً من أولادي.

بعدما تقدّم من الإيمان، والقيام بالواجبات الشرعيّة؛ فهذا البند الخامس؛ أوثقُ أعمالي عندي، وعند الله تعالى، فيما أحسب؛ لأنّ دمعةَ حاجةٍ من عين امرأة طاهرةٍ، أُراها توجِبُ غضبَ الربّ تعالى على الأمّة.

وهذا الذي أنفقه على هؤلاء النسوة، وغيرهنّ؛ قليلٌ منه يساعدني به تلميذان، فاضلان نبيلان، وسائره ديونٌ مترتّبة عليّ، جاوزت (100) ألف دولارٍ بيقين!

لكنّ الله تعالى أكرمني بأضعافِ هذا الدَيْن، إذ خلّف لي السيّد الوالدُ ميراثاً حسناً، فمتى تيسّرت الأمورُ في بلدنا؛ سدّدنا ديوننا منه، مهما بلغت!

وإنْ متّ قبلَ ذلك؛ فجميع أولادي وبناتي، من أهل الدين والاستقامة والكرم، فهم لن يتركوا ديونَ والدهم في ذمّته، وبيقين!

إذا زعمتُ لكِ يا بنتي بأكثر من ذلك؛ أكون مفترياً، والله تعالى يعلم أنني غير مفتَرٍ!

لكنني أرجو أن تزيدي على ذلك ما استطعت، أعاننا الله تعالى جميعاً على كسب رضاه!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 4 ديسمبر 2021

 قَريباً من السياسة (20):

كَيفَ تُؤيّد الحوثيّينَ، وأنتَ مِن الإخوانِ المسلمينَ؟!

بسم اللهِ الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

هَتفَ إليّ أحدُ الأحبابِ يقول: كَيفَ تُؤيّد الحوثيّينَ، وأنتَ مِن جماعةِ الإخوانِ المسلمينَ، أليسَ هذا في منتهى الغرابة... إلخ؟!

أقول وبالله التوفيق:

جميعُ حركاتِ الإسلام السياسيّ، ومنها الإخوانُ المسلمون، وحزبُ التحرير، وحزبُ الله، وحزبُ أنصار الله الحوثيين؛ مثل أيّ عُملةٍ نقديّة معدنيّة، لها وجهان:

الوجه الأوّل: هو الإسلام العقديّ والفقهيّ.

والوجه الثاني: هو التنظيم السياسيّ.

وإسلام الإخوان المسلمين في سوريّا؛ هي العقيدة الأشعريّة والفقه الشافعيّ، أوالعقيدة الماتريدية والفقه الحنفيّ، وربما كنت أنا سابقاً من النوادر الماتريديّ العقيدة، الشافعيّ الفقه، ومَن يظنّ الخلاف بين الماتريدية والأشعريّة قليلاً أو سطحيّاً؛ فهو جاهل حتماً، بل إنّ الخلاف يصل إلى حدّ التكفير.

 

ولم يكن إخوانُ مدينة حماةَ يطرحون الفكرَ الحنبليَّ السلفيّ، وإن كان قليلٌ منهم يتبنّى جوانبَ من هذا الفكر.

أمّا في الجانب التنظيميّ السياسيّ، فلم يكن لديهم في زمني أيّ مشاركة سياسيّة ذات قيمة، سوى مشارتكم مع الإقطاع في برلمان الانفصال.

ومَن يظنُّ بأنّ الانتفاضاتِ المسلّحةَ التي جرَت في سوريّا عامّةً، وفي مدينة «حماة» خاصّة في عام (1964) وعام (1973) والأعوام (1976 - 1982) قامَ بها الإخوان المسلمون؛ فقد ظنّ باطلاً، وإن هم ادّعو ذلك؛ فهم مُفترون كاذبون، يورّطون أنفسهم بأمورٍ، كانوا هم في غنى عنها!

شيخنا الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى؛ كان من الإخوان المسلمين بالمعنى الدينيّ الأوّل، ولم يكن إخوانيّاً بالمعنى التنظيميّ، إذ كان لا يؤمن بسريّة التنظيم، ولا يؤمن بسلميّة الصراع مع الباطل، ولا يمانع من المشاركة في الانتخاباتِ، لكنها ليست من أوليّاته.

وكنتُ من أقرب المقرّبين منه، وكان يُفصح لي عن معاناته مع قيادة مركز «حماة» ويقول لي: إنهم جبناء، لا يجرؤ أحدهم على لمس مسدّس!

فتنظيم الإخوان المسلمين إذن؛ تنظيم سياسيّ، يؤمن بالانتخابات في كلّ شيءٍ، حتى في ممارساته الحياتية مع أفراده، فالمراقب العام ينتخب بالأكثريّة، وأعضاء المكتب العام، وأعضاء مجلس الشورى، وتتّخذ القرارات كذلك.

وقد كنتُ في تنظيم الإخوان المسلمين منذ عام (1963) وحتى نهاية عام (1969) وقد كنتُ أرى خللاً في تصرّفات الأفراد، وبعض النقباء، وكنت جريئاً جدّاً، فكنت أنكِرُ على هؤلاء وأولئك، لكنني وصلتُ إلى قناعةٍ حاسمةٍ في ذلك الوقت؛ بأنّ الإصلاحَ من الداخل غير ممكن؛ لأنّ جميع القادة في مدينة «حماة» غير مؤهّلين لتلك المرحلةِ الصعبة!

في آب من عام (1969) زارنا الشهيد مروان في معسكر التدريب في الأردن، وأبلغنا وهو يضحك بأنّ الإخوانَ فصلونا من التنظيم أجمعين، وهو معنا، بل نحن معه!

عندما سمعت هذا الكلام منه؛ قلت في نفسي: إنّ حزباً يفصل من تنظيمه مثل الشهيد مروان حديد، ومثل هؤلاء الشباب الصالحين الأتقياء، الذين يُعدّون أنفسهم لقتال «الياهواد» والطغاة؛ لهو حِزبُ سوء!

واتّخذتُ قراراً حازماً حاسماً يومها؛ أنْ لا أنتمي إلى أيّ حزبٍ سياسيّ في مستقبل الحياة!

فعندما أقول: كنت من حزب الإخوان المسلمين؛ فقد انتهى هذا مع نهاية عام (1969).

وعندما كنتُ أقول انتصاراً لشباب الإخوان المسلمين: الإخوان المسلمون ليسوا سيّئين، وأنا من الإخوان المسلمين؛ فإنما كنت أعني الجانب الدينيّ الالتزاميّ «الفكريّ والعقديّ والفقهيّ» وهذا الجانب يشترك فيه جميعُ الملتزمين بالدين في سوريّا، ويكون كلامي من قبيلِ «التوريةِ» المحمودة، انتصاراً لشباب مسلمين ملتزمين، تجتمع الحكومات الظالمة المجرمة على حربهم!

هذا ما أعنيه، وهذا فحسب!

وإلّا فالإخوان المسلمون - قيادةً وقاعدةً - لا يُكلمونني، ولا يزورونني، ولا يسألونني، ولا يسلمون عليّ، حتى في الأعياد والمناسبات، منذ العام (1996م) وحتى اليوم، بدعوى كاذبةٍ، من حقيرٍ كاذب فيهم، بأنني سرّبت معلوماتٍ أمنيّة عن الجماعةِ إلى استخباراتِ دولةٍ آوتني وآوتهم!    

وللإنسان أن يتساءل: إذا كنت لا ألتقي بكم، ولا أزوركم، ولا أجتمع معكم نهائيّاً، فما المعلومات السريّة التي تضرّ أمن الجماعةِ، التي يمكن أن أوصلها إلى الاستخبارات أو الأمن؟

وعندما وصل الأمر إلى إدارة «شؤون المواطنين العرب - الأمن» استدعوني، فسألت رئيسهم بحزنٍ عميقٍ، وحِدّةٍ معروفة عنيّ: سألتك بالله العظيم، بل عليك الطلاق الباتّ من زوجتك، هل قرأتَ أو سمعتَ عن لساني كلمة واحدةً سرّبتها إليكم مباشرةً، أو عن طريقٍ وسيط، تخصّ أمن الجماعة؟

فضحك وقال: «مقامك لدينا أعلى بكثير من هذا، نحن إذا أردنا شيئاً من الجماعة؛ نستدعي خصمَك هذا، فنطلب منه أمراً أو أمرين، فيعطينا من جيبه عشرة»!

فعندما يقول لي هذا الأخ الفاضل العزيز عليّ: كَيفَ تُؤيّد الحوثيّينَ، وأنتَ مِن الإخوانِ المسلمينَ؟!

يكون جوابي: لا أبداً أنا لست من الإخوان المسلمين، الذين يقاتلون إخوانهم اليمنيين!

وأمّا أنني أؤيّد الحوثيّين، فما معنى تأييد الحوثيين؟

أنا لا أعرف من أنصار الله الحوثيين فرداً واحداً، لا من القادةِ، ولا من العساكر، ولا من الإعلاميين، سوى الناطق الرسمي باسم الحوثيين «محمد البخيتيّ» الذي يعرفه جميع متتبّعي أخبار اليمن!

الحوثيّون مسلمون ملتزمون دينيّاً في الجملة، وحزب الإصلاح مسلمون ملتزمون دينيّاً في الجملة، كما أسمعُ عن الطرفين، وليس بيني وبين الطرفين أدنى صلة أو تواصل!

وهناك طرف ثالث علمانيّ، يتعامل مع المجتمع الدوليّ، ويتعامل مع حكّام الخليج المغتصبين العلمانيين العملاء.

وآثر حزب الإصلاح الإخواني المسلم الملتزم؛ أن يقف مع العلمانيين ضدّ المسلمين الملتزمين، وهذا من الوجهة الدينيّة؛ موقف باطلٌ وحرامٌ، بل من الكبائر.

وكون الحوثيين زيديّة، يقاتلون علمانيين وشيوعيين وعملاء؛ فالواجب الدينيّ أن تقفوا معهم ضدّ أولئك!

فإن كان الجانب السياسيّ يمنعكم من ذلك؛ فكونوا على الحياد، فلأن يحكمني مسلم زيديّ أو مسلم إماميٌّ أو مسلمٌ إباضيّ؛ خيرٌ من أن يحكمني علماني عميل يسعى في إفساد العباد والبلاد، ويُبقي بلادي تحت رحمة أعداء الإسلام.

إنّ موقفي هذا؛ موقف شرعيّ نظريّ، أمّا من الوجهةِ التطبيقيّة العمليّة!

وأنا ضدّ أي اقتتالٍ بين سنيّ مع سنيّ من مذهب واحدٍ، أم من مذهبين!

وأنا ضدّ أي اقتتالٍ بين شيعيّ مع شيعيّ من مذهب واحدٍ، أم من مذهبين!

وأنا ضدّ أي اقتتالٍ بين سنٍّيّ مع شيعيّ من أيّ مذاهب الشيعةِ كان!

هذه عقيدتي، وهذا فقهي أمس واليوم وغداً، لا أجوّز الاقتتال بين المسلمين جميعهم، ولا أجوّز الاغتيال السياسيّ، ولا أؤمن بالديمقراطيّة، وإن كانت لديّ أفضلَ من الاستبداد!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى اللهُ على سيّدنا محمّد بن عبداللهِ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كل حال.

الجمعة، 3 ديسمبر 2021

 اجتماعيات (41):

تباين الثقافات الاجتماعيّة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

يَعلمُ إخواني جميعاً أنّني من أقلّ الرجالِ قَبولاً  لدعواتِ الإخوة إلى وليمةٍ، أو حتى إلى وجبةِ طعامٍ عاديّة!

وربما كنت من أكثر الرجال «الحَضريّين» ولائمَ وتقديماً للطعامِ حتى من دون دعوة!

وربما كان سببُ ذلك - إضافةً إلى النشأة - أنّ الله تعالى رزقنيّ بزوجتي أمّ محمود، التي أنجبت لي أربعةَ عشر ولداً، ولم تتناول في غضون عشرين سنةً عشتُها معها، سوى حبّةٍ دواءٍ واحدة، ابتلعتها بقسوةٍ، ثمّ تقيّأتها «عفواً».

وإنني لم أرَ في حياتي الطويلة (75 سنة) امرأة تحبّ الضيوفَ وتكرمهم مثلَها، لا والدتي ولا عماتي ولا خالاتي، ولا بقيّة زوجاتي!

كانت تحفظ عن والدها حديثاً (الضيف يأتي برزقه معه، ويذهب بذنوب أهل البيت) وهو ليس بحديثٍ شريف طبعاً!

عندما أَقَمتُ طرابلس الشام؛ دعاني أحدُ الإخوةِ إلى طعام الغداء، فكنت أعتذر، وأعتذر، وأعتذر، خوفاً من إحراج زوجته اللبنانيّة!

وعدتُه في يومٍ من الأيّام أن أتغدّى عنده، واشترطتُ عليه أن يدعوَني وحدي!

لكنّه - غفر الله له - دعا خمسةً أو سبعةً من الإخوة، نسيت!

وعدَتْه زوجتُه أن يكون الغداء جاهزاً في الساعة الثانية والنصف، بعد الظهر، فقلت له: زوجتك لم تنتهي من غدائها، فلننتظر نصف ساعةٍ أخرى!

في الساعة الثالثة والربع؛ فتح باب منزله ودخلنا!

أحضر لنا كؤوس الماء، ثمّ غاب ربع ساعةً، ورجع مُكفهّر الوجه، وناداني!

استأذنت الإخوةَ الحاضرين، وخرجت من غرفة الضيوف، فحدّثني بأنّ زوجته كانت نائمةً، ولم تصنع شيئاً من الطعام!

قال: حدّثتني أنها ظنّت بأنني سأحضر ضيفاً واحداً، فتقوم وتقلي لأجله صحن بيض حارٍّ، وبجانبه حبتان من البندورة وكأس عصير!

قال: قالت لي: أسمع أصواتَ كثيرين، فمِن عندِنا هذا الصوت؟

قال لها: بلى!

قالت: أنتَ خالفت الشرطَ الذي بيننا، والله لا أصنع لهم شيئاً، ثم لبست ثيابها وخرجت إلى بيت أهلها.

قلت له: أين الرزّ والسمن والقدر عندك؟

فأطلعني على بعض مواضع المؤنة والأواني في المطبخ.

ثمّ أخرجت من جيبي نقوداً، ليشتري لنا عدداً من الدجاجات المشويّة واللبن والعصير، فاعتذر وقال: عندي والله نقودٌ كثيرة!

طبخت الرزّ، وريثما نضجَ؛ فرمت ما وجدته في الثلاثة سلطةَ خضار، وحين رجع؛ سكبت الطعامَ، وقدمته إلى الشبابِ، وبعد الغداء؛ نظّفت الأواني، وفتحت شبابيك المطبخ، ومسحت أرضيّته، وقضي الأمر!

هذه ثقافة اجتماعيّة، ألحظُ شواهدها كثيراً على القنوات الفضائيّة اللبنانيّة وللأسف!  

أنا لا أدري عن ثقافة الحلبيّات والدمشقيّات كثيراً، لكنني أقطعُ جازماً أن المرأة الحمويّةَ لو كانت عمياء، أو مشلولةَ إحدى ساقيها، من المحال أن تضع زوجها في مثلِ هذا الموقف الحَرج الخسيس!

وأنا عداب الحمش، لو واجهتني إحدى نسائي بموقفٍ كهذا، فربما لا أضربها، ربما!

لكنها والله لا تبقى على عصمتي ساعةً من ليلٍ أو نهار!

عتب عليّ بعض تلامذتي وأصدقائي في السعودية وفي العراق وفي الأردنّ أنني لم أزوّج بنتاً واحدةً لغير حمويٍّ، وأن يكون مقيماً في مدينة حماةَ أيضاً، لا تعصّباً لحماة ولا للحمويين، فأكثر الحمويين لا يعجبونني أصلاً من قريبٍ ولا بعيد!

إنّما خشيت على بناتي الضيعَةَ في الغربة، وأن تتقطّع الأواصر بين الأخوات من جهة، ومن أجل اختلاف الثقافات الاجتماعيّة، من جهة أخرى.

فأنا أنصح العربيّ بأن لا يتزوّج إلّا عربيّةً، فوالله لقد عانى والدي مع والدتي، وعانت والدتي مع والديّ أمرَّ من الصبر، وأحرَّ من الجمر، فقد كان والدي هاشميّاً صلباً للغاية، وكانت والدتي كرديّةً أيّوبيةً رقيقةً للغاية، فعشنا أقسى حياةٍ بينهما.

وأنصح الفارسيَّ بأن يتزوج فارسيةً وحسب!

وهكذا جميع الأعراق والأجناس والبلدان!

وليس هذا من قبيلِ التكبّرِ أو التمايز الطبقيّ، أو العرقيّ، أو اختلاف الألوان - كما فهمه بعضهم مرّة - كلّا، وإنما من أجلِ اختلاف الثقافات الاجتماعيّة والأخلاق الفرديّة والجماعيّة، بين مجتمع وآخر!

خطبتُ ذات مرّةٍ امرأةً شابّةً أرملةً، واتّفقنا على الزواج، ووافق أهلها.

ذات يوم كنتُ في السوق، فاستوقفتني، فاستغربت وجودَها في السوق، وسألتها ببراءة تامّة: كيف جئت إلى ههنا؟

قالت: حضرتُ مع السائق!

قلت لها: وحدك؟

قالت: ليش هي خلوة؟

قلت لها: لا ليست خلوةً تامّةً !

وأعرضت عنها إعراضاً تاماً، وأرسلت إلى والدها بأنني عدلت عن إتمام الخطوبة!

زارني والدها، وكان لي صديقاً، وسألني بحزنٍ وألم، فقلت له: لا تظنّ شرّاً، استوقفتني بنتك في السوق، وأخبرتني بأنها نزلت إلى السوق وحدها مع السائق، وهذا لا يناسبني أبداً!

قال: طيّب عندما تصبح زوجتك؛ امنعها من ذلك!؟

قلت له: هيهات يا عمّ، هيّأ الله تعالى لها مَن هو خير مني!

أقول أنا الفقير عداب: أنا في سنّ الخامسة والسبعين، وقد تنقّلت بين بلدان كثيرةٍ، لكنّ عقلي لا يمكن أن يستوعب أن يكون في البيت سائقٌ أو خادم رجلٌ، ثم لا تشتهييه بعضُ نساء البيت، أو لا يكون بينه وبينهنّ مزاحٌ ونكاتٌ، إن لم يكن بينه وبينهنّ ما هو أكبر من ذلك!

أقول: عقلي لا يستوعب، ولا أقول: هذا حاصل فعلاً، أو هذا عامٌّ وشامل!

والله تعالى أعلم.

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.   

اجتماعيات (40):

المجالس العلمية والأدبية السوريّة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

في حوارٍ حزينٍ مع أحد الإخوة القدماءِ؛ نصحني بضرورة متابعةِ «السواد الأعظم» ومماشاةِ أهل الفضل والأدب في سوريا، وأنّ وجودي بين أهل العلم أنفع من بعدي عنهم وبعدهم عني!

وقال أيضاً: ألا ترى ياشيخ عداب، كيف هم يهمّشونك، فليس لك مساهمة أو حضورٌ في أيّ مجلس علميٍّ أو مجلس فتوى، أو حتى في نادٍ أدبيّ، وأنت أديب ناقدٌ وشاعر مجيد!

فضحكت قليلاً وقلت له:

«إنّ شروط علماء وأدباء سوريّا من التبعيّة والتقليد؛ لا تنطبق عليّ، فأنا رجل مجتهد!

وإنّ شروطي فيمن أدعوه عالماً؛ لا تنطبق على أحدٍ من علماء سوريّا على الإطلاق!

فمن الطبيعيّ أنلا يتّسع لي أيّ كرسيٍ في هذه المجالس القاصرة».

قال بشيءٍ من الحدّةِ والغرابة: يا أخي تواضع لإخوانك!؟

قلت: التواضع لله تعالى؛ رفعة، هذا صحيح!

أما تواضعي لك ولغيرك؛ فلا يصح فيه حديث البتة!

والذِلّة للمؤمنين لا تعني التواضع أبداً، إنما تعني عدم إظهار العزة والقوة عليهم.

قال الله تعالى: (ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة) فهل كان المسلمون متواضعين أمام الكفار؟ كلّا، إنما كانوا قليلين ضعفاء.

والتواضع معناه: الضعة، وهي المهانة والدناءة.

وكيف يكون المؤمن الشريف العالم مُهانا أو هَيّناً، أو دنيئاً؟

والله تعالى أعلم.

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.


الأربعاء، 1 ديسمبر 2021

مسائل فكريّة (19):

موقف الزيديّة مِن ظهور المهدي المنتظر!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدُ الإخوة الأكارم عن مصدر كلامي الذي ذكرته في مواضع من كتابي «المهدي المنتظر في روايات أهل السنة والشيعة الإمامية» الذي أنجزته في أواخر عام (2000م) وطبع الطبعة الأولى عام (2001م) يعني منذ عشرين سنةً تقريباً.

فقلت له: أظنّ الذي نقل ذلك؛ الإمامَ ابن الوزير في العواصم والقواصم، أوالمقبلي في العلم الشامخ.

وحين تحسّنت صحّتي قليلاً؛ راجعت كتابي أوّلاً لأرى ماذا قلت بهذا الصدد؟

فوجدت في الصفحة (20) قولي: « والذين يُنكرون ظهورَ مهديٍّ بعينِه في آخر الزمان؛ هم قلّة من علماء المسلمين، من شتى الفرق الإسلامية، فيهم علماءُ من أهل السنّة، ومن الإباضية والزيدية، بل ومن علماء الإمامية أيضاً».

وفي الصفحة (39) قولي: « قلت: في نقل دعوى الاتفاق نظر كبير، فالخوارج بجميع فرقهم لا يقولون بالمهدي، والزيدية لا يقولون به، وبعض أهل السنة في القديم والحديث لا يقولون به كذلك، وسيأتي بيانُ ذلك».

وفي الصفحة (663) في خاتمة الكتاب قولي: « حادي عشر: بعد الذي توصّلنا إليه في هذا البحث؛ لم يَعُدْ ثمّة حاجةٌ إلى التشنيع على الزيديّة والإباضية، ولا على من يُنكرُ من أهل السنّة أن تكون مسألةُ ظهور المهدي عقيدةً واجبةَ التصديق».

وكلامي هذا غير متّسق، ففي البداية قلت: «بعض الزيديّة» ثم عمّمت في الموضعين الثاني والثالث، وهذا كلام غير دقيق!

ومن الضروريّ قوله هنا؛ أنني رجعت في تأليف هذا الكتابِ إلى أكثر من (100) كتابٍ وبحث، ليس لديّ منها اليوم كتابٌ واحد!

ومن المؤكّد أنّ عبارةَ «بعض الزيديّة» علقت في ذهني من أحد هذه الكتب، وفاتني تَوثيقها أثناء تأليف هذا الكتاب.

وقد بحثت طويلاً في الموسوعة الشاملة، وعلى الانترنيت؛ فلم أجد مصدراً يمكن الوثوق به، نصّ على أنّ أحدَ الزيديّة يقول بعدم ظهور المهديّ!

ويمكن - والحالة هذه - أن أقول: هذا العزو إلى الزيدية أو بعضهم؛ خطأٌ من جملة أخطاء الفقير عداب، فليس هذا بأوّل سهوٍ أقع فيه، ولكن يكون الأخيرَ، وأستغفر الله العظيم!

بيد أنني أنقل ملخّصاً وجيزاً عن حوار مطوّل جرى بيني وبين زميلي الفاضل النبيل الشهيد الدكتور الشريف المرتضى بن زيد المحطوريّ، بعد اطّلاعه على كتابي المعنيّ بهذا المنشور، عندما زارنا في عمّان!

قال لي: أنت خطير يا عذاب يا ابن الحِمِش، خطير للغاية!

تبسّمت وقلت: لمَ يا مولانا الشريف؟

قال: أيّ إنسانٍ يقرأ كتابك هذا؛ سيتشكّك في مسألة المهدي المنتظر حتماً!

قلت له: أنا لا يعنيني تشكّك العامّة والمثقفين، أنت رجل عالم ومحدّث وأديب!

ويهمّني رأيُك والله!

قال: كم سنةً بقيت في كتابة هذا الكتاب؟

ضحكت وقلت له: أقلّ من سنة!

قال: أنا أحتاج إلى سنة حتى أقرأ كتابك هذا قراءة فاحصة، ثم أجيبك يا عذاب يا ابن محمود!

قلت له: أنت زيديّ متعصّب إلى مشاشك، صحيح؟!

قال: صحيح، وأنت والله زيديٌّ، من دون أن تعرف نفسَك!

قلت له: هل تأخذ عقيدتك من أخبار الآحاد؟

قال: قطعاً لا، لكنّ عدداً من العلماء ادّعى أن أحاديث المهديّ متواترة!

قلت له: أيهما أصحّ مذهب الأصوليين في المتواترِ، أم مذهب المحدّثين، مع اتّفاقنا على أنّ العلماء قالوا: الحديث المتواتر ليس من علوم الحديث!؟

قال: لا شكّ في أنّ منهج المحدّثين في قبول الخبر؛ أصحّ من جميع المناهج!

قلت له: جميل، بكم يثبت لديك التواتر على مذهب المحدّثين؟

قال: أنت أشدّ من البخاري وأبي حاتم الرازي، فبكم يثبت عندك التواتر الحديثيّ؟

قلت له: إذا صحّ متن حديث مرفوع أو حَسُن لذاته، عن سبعة من الصحابة؛ أعدّه متواتراً!

قال: والله لست بمتشدّدٍ في هذا إذن، لكن ما دليلك على السبعة؟

قلت: القرآن متواتر عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أم غير متواتر؟

قال: بلى! ولكنّ القرآن رواه عن الرسول المئات، وعن المئات الألوف، بل عشرات الألوف!

قلت له: يا سيدنا الشريف: هذا كلام إنشاء، ليس له قيمةٌ عند المحاققة!

اقرأ ماذا قال الذهبي في صدر كتابه طبقات القرّاء!

وأحضرتُ كتاب طبقات القرّاء من مكتبتي، وفتحنا إلى الصفحة (9 - 20) فوجدنا الذهبي ذكر الصحابةَ السبعة، أوّلهم عثمان، وآخرهم أبو الدرداء رضي الله عنهم.

، ثمّ قال (ص: 20): «فهؤلاء الذين بلغنا أنهم حفظوا القرآن في حياة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأُخِذ عنهم عَرضاً، وعليهم دارت أسانيدُ قِراءَة الأئمةِ العَشرة.

وقد جَمع القرآنَ غيرُهم من الصحابةِ، كمعاذ بن جبلٍ، وأبي زيدٍ الأنصاريّ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعبدالله بن عُمَر، وعتبةَ بن عامرٍ، ولكنْ لم تَتّصلْ بنا قِراءتُهم.

فلهذا اقتصرتُ على هؤلاء السبعة رضي الله عنهم واختصرت أخبارهم».   

فقلت للشريف: لو سلّمنا حقّاً أنّ معاذاً ومن بعده جمعوا القرآن العظيم وحفظوه؛ فيكون التواتر في الطبقة الأولى وحسب، إذ لم تصل أسانيدهم إلى طبقة التابعين، أصحيح هذا؟

قال: هذا ملحظ قويٌّ جدّاً، وهو دليل على أنك لست متشدّداً!

قلت: يا سيدنا الشريف: هذه الأحاديث التي بين يديك؛ هي أصحّ الأحاديث عند النقّاد، ولم يسلم منها حديث واحد، فأين التواتر المزعوم؟

ثمّ ما علاقة الأصوليين والفقهاء بعلم ثبوت الحديث؟

أعطني أصوليّاً واحداً أو فقيهاً بعد الشافعيّ وأحمد لا يقلّد في علوم الحديث!

ناهيك عن أنّ المحدثين أنفسهم - فضلاً عن الأصوليين والفقهاء - يدخلون الحسن في الصحيح، وأكثر صحيح البخاري ومسلم هو من قبيل الحسن!

قال رحمه الله تعالى ورضي عنه: ليس لديّ كلام، لكن أسألك: في قرارة نفسك، هل تنكر ظهور المهديّ في يوم من الأيّام؟

قلت له: ثمّة فرقٌ بين الإنكارِ، وبين عدم الثبوت، والتصحيح والتضعيف اجتهاد، وفي اجتهادي لا يصحّ أيّ حديث!

لكنني أتمنى أن نصنع نحن مهديين كثراً، فنحن نحتاج إلى ألف مهديّ، بل إلى ألوفٍ كثيرة، وإذا كنّا نعتقد أنّ ضعفنا وهواننا وفسادنا وظلمنا وجورنا، لا نهاية له إلّا على يد قائدٍ يأتينا من الغيب؛ فهذا يقودُ إلى أنّ تعاليم ديننا وحدها؛ لا تصلح لإقامة حكم إسلامي رشيد!

قال رحمه الله تعالى: سأنقل كلامك هذا إلى مشايخ اليمن، فزوّدني بعددٍ من نسخ كتابك هذا ليطّلعوا عليه، وأوافيك بأقوالهم!

ضحكت كثيراً، وقلت له: وهل في الزيدية أعلم منك بالحديث؟!

وضحكنا، وانتهى الحوار.

والله المستعان وعليه التكلان.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.