الجمعة، 19 أبريل 2024

       مَسائل حديثية (97):

حديثُ التداوي بأبوال الإبل؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ذكرتُ مرّاتٍ عديدةً؛ أنّ أكثرَ من أتابعُه من كتّاب الشيعةِ الإماميّة؛ أخي الدكتور أحمد الكاتب الكربلائيّ، وأقرَرْت مرّاتٍ عديدةً أنني أستفيد منه، منذ العام (1997) وحتى هذا اليوم!

بيد أنني أعتبُ عليه؛ أنّه يردّ الأحاديثَ الصحيحةَ بعقلِه ومزاجِه أحياناً، بدعوى مخالفتها للقرآن الكريم!

وفي الحلقةِ التي استمعتُ إليها اليوم، حول (التداوي) بأبوال الإبل عند أهل السنّة، زعم أنّ هذا الحديثَ لا يرويه إلّا أنسُ بن مالكٍ، ولا يرويه عنه سوى راوٍ واحدٍ، وهذا الراوي - التابعيّ الواحد - لا يرويه عنه إلّا واحدٌ، وهكذا إلى عصر البخاري ومسلم!

وسبق له أن قالَ مثلَ هذا القولَ في حديثٍ آخر، أثبتّ له في منشورٍ أنّ الذين رووا الحديث عن ابن عبّاسٍ ثلاثةٌ، والذين رووا عن هؤلاء الثلاثة ستة، وأنّ الذين رووا عن هؤلاء الستّة كثيرون!

وسأجيب على كلام أخي الدكتور أحمد تباعاً.

أوّلاً: لم يتفرّد أنس بن مالك بروايةِ مضمون هذا الحديثِ عن الرسول صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم، بل رواه أبو ذرّ الغفاريّ، وعبدالله بن عباس.

- أمّا حديثُ أبي ذرٍّ رضي الله عنه؛ فأخرجه أبو داود الطيالسيّ في مسنده (486) وأبو داود في سننه (333) والبيهقيّ في السنن الكبير (2: 167) وغيرهم، وموضع الشاهد منه، قال أبو ذَرّ: (إني اجتوَيَتُ المدينةَ، فأمَرَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم بذَوْدٍ وبغَنَمٍ، فقال لي: (اِشْرَبَ مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِها).

قال حمّاد بن زيدٍ: «ثُمَّ سَكَتَ أَيُّوبُ عِنْدَ أَبْوَالِها، وأَنا أَشُكُّ فِي «كلمةِ» أَبْوَالِهَا».

وأمّا حديث ابن عبّاس؛ فأخرجه أحمد في مسنده (2677) والحارث بن أبي أسامةَ، كما في زوائد مسنده للهيثميّ (557) ومن طريقه أخرجه أبو نعيم في الطب النبويّ (375) والطحاوي في معاني الآثار (654) والطبراني في المعجم الكبير (12: (12686) والبيهقيّ في معرفة السنن والآثار (4963) ولفظه:

(إِنَّ فِي أَلْبَانِ الْإِبِلِ وَأَبْوَالِهَا؛ شِفَاءً لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُمْ) سيأتي تفسير «الذَّرِبة».

وحديثُ أبي ذرّ حسن الإسناد، وحديث عبدالله بن عبّاس ضعيف في إسناده عبدالله بن لهيعة.

وهو حسن لغيره على مذهب الذين يصححون بالشاهد.

ثانياً: بإسنادي إلى الإمام البخاري في صحيحه (233) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ) الحديث.

مدار حديثِ الباب على أنسِ بن مالكٍ، رواه عنه:

(1) بهزُ بن حكيم، عند أحمد في مسنده (13572).

(2) وثابت بن أسلم البناني، عند الترمذي في جامعه (72، 2042).   

(3) وحميد بن أبي حميد الخزاعي «الطويل» عند مسلم في صحيحه (1671) والترمذي (72).

(4) وعبدالعزيز بن صهيب، عند مسلم (1671).

(5) وعبدالله بن زيدٍ أبو قلابةَ الجَرميّ، عند البخاري (233، 3018، 6802) ومواضع.

(6) وقتادة بن دعامة السدوسيّ، عند البخاري (1501، 4192، 5686).

(7) ويحيى بن سعيد الأنصاريّ الخزرجيّ، عند النسائي في المجتبى (306).

فهؤلاء سبعةُ رواةٍ ثقاتٍ، رووا هذا الحديثَ عن الصحابيّ أنسِ بن مالكٍ، وهذا حدّ التواتر عند الفقير عداب.

والرواة الذين رووا عن هؤلاء السبعةِ أكثر بكثيرٍ من سبعة!

فكيف يُجوّز أخي أحمد لنفسه أن يزعم بأنّ هذا الحديث واحد، رواه واحد عن واحد؟

نحن نقول مطمئنّين: رواه عن أنسٍ أكثرُ من عشرةِ رواةٍ، بيد أنني لم أستقصِ التخريج!

ورواه عن هؤلاء العشرةِ أكثرُ من خمسةَ عشر راوياً، ورواه عن هؤلاء أكثرُ من عشرين راوياً.

ولا يخفى على صغار طلبة العلم؛ أنّ الحديثَ كلما نزلت طبقة رواته؛ زاد عددهم!

ثالثاً: زعم أخي الدكتور أحمد؛ أنّ الحديثَ مخالفٌ للقرآن الكريم، واستدل على ذلك بقوله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) والبولُ نجسٌ خبيثٌ؛ فهو محرّم، وكيف يكون التداوي بالمحرّم.

ولا أظنّ أخي أحمد يجهل اختلاف فقهاء الأمة في نجاسة بول وروثِ مأكول اللحم، في حياته وبعد ذكاته، وظاهرٌ أنّه يميل إلى نجاستِه، ولا بأس في ذلك، فهو ما أميلُ إليه أيضاً، وهو المعتمَد في مذهب الشافعيّة.

بيد أنّ المسألة لا تتّصل هنا بنجاسة البول، إنّما تتّصل بالتداوي بهذا النجس!

وقد وردت أحاديثُ عديدةٌ في النهيِ عن التداوي بالمحرّم والنجس، وفي أسانيد المرفوع منها مقال.

بيد أنّ ما هو أهمّ من ذلك؛ أنّ التطبّب كلّه يدخلُ في باب الضرورة، والحاجةِ الماسّةِ التي تُنَزّل منزلةَ الضرورة، والضرورة تقدّر بقدرها.

ومسألةُ الطبِّ مسألة اجتماعيّة، وقد تداوى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ببعض ما كان سائداً من الطبّ في عصره، ومن ذلك الحجامة والكَيّ!

وكان التداوي بألبان الإبل وأبوالها شائعاً في نقل عصره.

فقد نقل البيهقيّ في معرفة السنن والآثار (4964) عن الشافعيّ في تفسير حديثِ ابن عباس المتقدم قوله : «هَذا الحديثُ إِذَا كَانَ ثَابِتاً؛ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا أُبِيحَ لِلذَّرِبَةِ بُطُونُهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ بِهِمُ الْمَاءُ الْأَصْفَرُ، الَّذِي لَمْ تَزَلِ الْعَرَبُ تَقُولُ: «لَا شِفَاءَ لَهُمْ، إِلَّا أَلْبَانُ الْإِبِلِ، وَأَبْوَالُهَا، أَوْ شَقُّ الْبَطْنِ».

فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ شَقُّ الْبَطْنِ، وَقَطْعُ الْعُضْوِ، رَجَاءَ الْعَافِيَةِ؛ فَهَذَا مُحَرَّمٌ لِغَيْرِ مَعْنَى الضَّرُورَةِ، كَمَا أُجِيزَ للضَّرُورَةِ أَكْلُ الْمَيْتَةِ، وَمَا نُصِبَ مُحَرَّمًا مَعَهَا، وحُكْمُ الضَّرُورَاتِ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ».

فحَمْلُ الحديثِ الذي صحّ إسناده؛ ولم نتيقّن من أنّ معناه مخالفٌ حقيقةً لما أبيح لعلّته - العلاج - على الضرورةِ والحاجة الملحّة؛ أولى من إهدارِه وتسفيه القائلين به والذاهبين إليه!

خامساً: إذا كان مبنى التداوي كلِّه على التجربةِ، فقد كانت تجارب الأطباء العربِ، من لدن عصر الرسالةِ وإلى يومنا هذا تقول: إنّ أبوال الإبلِ الممزوجةَ بنسَبٍ محددّة مع ألبانها؛ مفيدةٌ في علاج أمراضٍ شتّى!

قال الطبيب داود الأنطاكي في تذكرته (ص: 118) مادّة (جَمل): «وبوله ينفع من السعالِ والزكام وأورام الكبدِ والطحالِ والاستسقاء واليرقان».

وفي عام (1973) أصابني مرضٌ عصبيٌّ على إثر حادثِ سير، نصحني أحدُ الأطبّاء بأنْ أستجمّ في البادية السورية، عند بعض أقاربنا من البدو، وكان لوالدي عندهم أغنام.

ولنا هناك خيمة صغيرة منصوبةٌ على الدوام؛ لكثرة ترداد عاملِ والدي وشركائه إلى هناك لتوريد منتجات الأغنام إلى سوق مدينة حماة ومدينة سلمية.

أقمت بينهم قرابة شهرٍ، فرأيت بعضَ بناتهم الصبايا يراقبون الناقةَ - وليس الجمل - متى تبوّلت؛ أسرعن ووضعن رؤوسهنّ بين رجلي الناقةِ، حتى تنتهي من بولها.

عندما شاهدتُ ذلك؛ تقزّزت وقرفت قرفاً شديداً، حتى إنّ مرضي ازداد حقّاً!

فسألت قريبنا الذي أنا نازل في خيمتي بقرب مضاربه عن ذلك؟

فقال لي: «حنّا يا البدو نعرف أنّ أبوال الأباعر والبقر والغنم والماعز والفرس الأصيل طاهرة، ليست بنجسة، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالتداوي بلبن الناقة وبولها خاصّة!

قلت له: وبول البعير؟

قال: لا البعير ما يحلب، اللي تحلب هي الناقة!

وحنّا شنو نسوّي؟ حنّا ناخذ حليب الناقة الوالدة، وبولَ الناقة الطامحة، ناخذ كاس من بول الطامحة، وعشرة كؤوس من حليب الناقة الوالدة ونشربه، وفيه الشفاء الكثير من أمراض لا تحصى» والناقة الطامحة: الراغبة بالفحل، ولم يحصل هذا بعد!

وأصرّوا إصراراً شديداً علي لأشربَ كما يشربون، فلم أوافقهم قطعا، بل غدوتُ لا آمنهم أبداً حتى على الحليب الذي يسقونني إياه، حتى أحلبه بنفسي من الناقة وأشربه.

وصرتُ أعجنُ وأخبز خبزي بنفسي، تحت ذريعةِ أنني أمهر من النساء البدويّات بالخبز!

والحقيقة أنني ما عدت أثق بنظافة شيءٍ عندهم!

فهذه أمم من العرب البدو، يتداوون بألبان الإبل وأبوالها، ولم يمرض منهم أحدٌ بتلك الميكروبات والجراثيم الخبيثة التي أكّد عليها الدكتور أحمد.

سادساً: على الإنترنيت أبحاثٌ كثيرةٌ جدّاً، تثبتُ أنّ لأبوال الإبلِ فوائدَ علاجيّة كثيرة جدّاً، ومن بينها السرطان ومرض الكبد الوبائيّ ومرض القولون.

وهناك مقاطع صوتية لأطباء كثيرين تؤكّد على هذه المعاني، وهناك أبحاث طبيّة بضدّ ذلك أيضاً.

فإذا ثبت لنا هذا - وهو ثابتٌ وكثير على الانترنيت - فيتعيّن علينا تَرجيحُ الأبحاثِ التي يؤيّدها هذا الحديث الصحيح؛ لأنّه - والحالة هذه - لا يبقى طبّاً بدويّاً متخلّفاً كان في حقبة من الزمان، بل يرتقي إلى (إعجاز طبيّ) ثبتت فوائده بعد أكثرَ من ألف وثلاث مائة سنةٍ على توجيهِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى العلاج به.

هذا من الناحية العلميّة.

أمّا من الناحيةِ الذوقيّة؛ فالحديثُ إرشادٌ لأناسٍ مرضى، وليس أمراً واجباً، ولا هو سنّةً قام بها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.

فأنا أفتي بجواز التداوي به، ولكنني لا أتداوى به حتى لو تعيّن دواءً لي، لا ردّاً لسنّة نبويّة - على افتراض أنه سنة - إنما لأنّ تعاطيه مباح، يستوي حكم فعله وتركه.

وإنني أنصح إخواني جميعاً؛ أنْ لا يحكّموا أمزجتهم بتوجيه الأحكام الشرعية، وتصحيح الأحاديث وتضعيفها، فذلك حرام لا يجوز!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الثلاثاء، 9 أبريل 2024

  اجتماعيات (99):

كلُّ عيدٍ وأنتم بخيرٍ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

العَادَةُ: اسمٌ لتكريرِ الفِعْل والانفِعالِ، حتى يَصيرَ ذلك سهلاً تَعاطيه، كالطّبع، ولذلك قيل: العَادَةُ طَبيعةٌ ثانية.

والعِيدُ: كلّ حالةٍ تُعَاوِدُ الإنسان، مرّةً بعد أُخرى، وخُصّ في الشّريعة بيوم الفطر ويوم النّحر.

ولمّا كان ذلك اليومُ مَجعولاً للسّرور في الشريعة؛ صارت «كلمة» العِيد تُسْتَعمَل في كلّ يوم فيه مَسَرّةٌ، وعلى ذلك قوله تعالى: (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً(.

والعَائِدَةُ: كلّ نفع يرجع إلى الإنسان من شيء ما!

والمَعادُ: يُقال للعَوْدِ وللزّمان الذي يَعُودُ فيه، وقد يَكون للمكانِ الذي يَعُودُ إليه، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ؛ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) والمعادُ الذي رُدّ إليه صلّى الله عليه وآله وسلم هو جَنة الخُلدِ... هذا كله قاله الراغب في مفرداته (ص:594).

واستئناساً بما تقدّمَ؛ فما من حرجٍ أن تقول: عيدُ المولد النبويّ، عيدُ الهجرةِ، عيدُ الغدير، عيدُ الأمّ، عيدُ الجلاء، عيدُ الزواج...إلخ

إذا لم تقصد بأنّ ذلك عبادةٌ وتديّنٌ.

العيدان الإسلاميان الشرعيان؛ هما عيد الفطر، وعيد الأضحى!

عيد الفطر: يُعلنُ فيه المسلمون سرورهم وسعادتهم بما أعانهم الله تعالى عليه من أداء شعيرة صيام شهر رمضان وقيامه وتلاوة القرآن فيه، وهذا توفيق عظيم من الرحمن الرحيم، يستحقّ أن يفرح المسلم لقيامه به.

وعيدُ الأضحى: يُعلنُ فيه المسلمون سرورهم وسعادتهم بما أعانهم الله تعالى عليه من أداء شعائر الحجِّ والعمرةِ والأضحية، وهذا توفيق عظيم من الرحمن الرحيم، يستحقّ أن يفرح المسلم لقيامه به.

هذا مفهوم العيدِ عند الإنسان المسلم، ولهذا تجدُ المسلمين يعلنون البِشْرَ والسرور عقبَ إتمام هذه الفرائضَ والواجبات، في السلمِ والحربِ، في الأمنِ والخوفِ، في الفقر والغنى؛ لأنهم يوقنون أنّهم قاموا بعباداتهم تلك؛ ابتغاءَ رضوان الله تعالى، وجنّةٍ عرضها السماواتُ والأرض، أعدّت للمتقين.

كلّ عام وأنتم بخيرٍ

كلّ عيدٍ وأنتم بخير.

كلّ يومٍ وأنتم إلى الله تعالى أقرب.

اللهم إنّا نسألك بحرمة شهر رمضان، وحرمة القرآن، وحرمة يوم العيد عندك؛ أن تهيّئ لأهلنا في غزة خاصّةً، وفي بلاد المسلمين عامةً، من ضيقهم وكربهم فرَجاً ومخرجاً، وأن تجعل النصرَ والتمكينَ حليفَ المؤمنين الصالحين، إنّك وليّ ذلك والقادر عليه، ولا حول ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم.

والحمد لله على كلّ حال.  

الجمعة، 5 أبريل 2024

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (16):

زكاةُ الفِطْرِ طعامٌ أم نُقود !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ممّا لا يختلف عليه المسلمون؛ أنّ مَنْ أخرج زكاةَ فِطْرِه، ممّا ورد في لفظ الحديث الشريف؛ فقد قامَ بما أوجبه عليه الشارعُ الحكيم.

أمّا مَن أخرجَ قيمةَ ذلك نقوداً، فهل يجزؤه ذلك؟

أخرج البخاريّ (1506) ومسلم (985) من حديث أبي سعيدٍ الخدريّ قال:

(كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) والمقصود بالطَعام عند كثيرين: القَمحُ، وعند كثيرين أيضاً غالبُ قوتِ أهل البلد، وأنّ كلمة (طعام) مجملة، وما بعدها تفسير.

ولم يصحّ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ذِكْرُ صاعٍ من بُرٍّ، أو نصفُ صاعٍ البتّة، كما قاله البيهقيّ في السنن الكبير (4: 170) ربما لأنّ البُرّ لم يكن معظمَ طعامهم أصلاً.

وقد قدّر بعضُ علماء الشافعية المعاصرينَ الصاعَ بالغرامات، فكان (2167) وقدّره بعض الحنفيّة بالغراماتِ، فكان (3250) غراماً.

بيد أنّ الحنفية يوجبون نصفَ صاعٍ من القمح، وصاعاً من بقيّة المذكورات، فتكون صدقةُ الفطر عندهم (1625) غراماً من القمح.

وإذْ لم يصحّ في التفريقِ بين القمح وغيره عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شيءٌ؛ فيكون الحنفيّة اعتمدوا فتوى معاويةَ بن أبي سفيانَ، فهو الذي جعل صاعَ القمحِ صاعين من غيره، وأنكره أبو سعيدٍ الخدريّ، رضي الله عنه.

فقد أخرج الطحاوي في معاني الآثار له (2: 42) من حديث عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِاللهِ العامريّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخدريّ, وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؟

قَالَ: لَا أُخْرِجُ إِلَّا مَا كُنْتُ أُخْرِجُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَاعًا مِنْ تَمْرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ, أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ.

فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَوْ مُدَّيْنِ مِنْ قَمْحٍ؟

فَقَالَ: لَا, تِلْكَ قِيمَةُ مُعَاوِيَةَ , لَا أَقْبَلُهَا , وَلَا أَعْمَلُ بِهَا) والأَقِط: والهِقِط: هو اللبن المجمّد بطريقة معلومةٍ، ويدعى في أيّامنا (الجَميد).

والذي يقول به الفقير عداب: أنّ مقصودَ الشارعِ غالبُ قوتِ المكلَّفِ نفسه، وقوتُ أهل البلدِ؛ ليس ببعيدٍ عنه، ولا يزالُ خُبزُ القمحِ والأرزّ هما أشهر قوتِ بلاد الشام.

فتكون زكاةُ فطر المسلم الواحدِ، الذي يجب عليه إخراجها عن نفسه، أو عمّن يعول (2250) غراماً من القمحِ أو دقيقهِ، أو من الرزّ.

والمطلوبُ في زكاة الفِطْر؛ طعامُ نفسه، وليس مطلقَ الطعام، في اجتهادي!

فأنا أطبخ في بيتي (أرزّ بسمتي) وفي السوق أرزّ جميل المنظر بنصف قيمتِه مثلاً!

فهل أخرج من مطلقِ الرزّ، أو من طعامي أنا؟

الراجح عندي أنّ الواجبَ عليَّ إخراجُ مثلِ طعامي أنا، وهذا تكليفي الشرعيّ فيما أفهم، ودائما أتّبع في مسائلِ الخلافِ مصلحة الفقير.

ولا يخفى عليكم إخواني الكرام أنّ من أخرجَ قيمةَ نصابِ زكاةِ الفطرِ؛ فلا يقال: إنّه لم يزكِّ أبداً، إنما يقال: أخرجَ زكاةَ فطره نقوداً أو قيمةً.

والمسألةُ خلافيّةٌ بين أهل العلم - كما هو معلومٌ - والأحاديثُ الصحيحةُ الواردةُ عن الصحابةِ رضي الله عنهم، تحكي الحالَ التي كانوا عليها في أيّام الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليس عن الرسولِ أيُّ حديثٍ صحيحٍ أو ضعيفٍ، ينهى عن إخراج القيمةِ، فتكونُ السنّة العمليّةُ إخراجَ المسلمِ زكاة فطره من مثل قوته هو، ويكون إخراج قيمةِ ذلك جائزاً، لا حرج فيه إنْ شاء الله تعالى.  

وإذْ إنّ زكاةَ الفِطر قدرٌ يسيرٌ من مال المسلم المقتدر في زماننا هذا؛ فالأولى أن يزّكي من مثلِ قوتِ أهل بيته، ويخرج مثلَ قيمتها، على سبيل التطوّع أيضاً.

وإنْ اقتصر على إحداهما؛ أجزأتْه إن شاء الله تعالى.

وأنا الفقير مذْ صار لي دخْلٌ، وغدوتُ أخرج زكاةَ فطري بنفسي، وذلك عام (1963م) فأنا أجمع بين عَينِ زكاةِ الفطرِ وبين قيمتها النقديّة، لا خروجاً من الخلافِ، فالمسألةُ أيسر من ذلك، وإنّما تعبيراً عن شكري لله تعالى، إذْ أعانني على صيامِ شهر رمضان، وعلى تمكيني من أداء زكاة فطره.

مع اعترافي بأنني كنتُ في بعض السنين؛ لا أمتلك قيمة زكاةِ الفطر عن نفسي وأهلِ بيتي، فكنتُ أقترضُ وأخرجها.

وتَجبُ زكاةُ الفطر على المسلمِ عند غروب شمسِ آخر يومٍ من رمضان، بعد إعلانِ المختصّين في البلدِ الذي تقيم فيه؛ أنّ غداً أوّلُ أيّأم شوّال.

هذا عن وَقتِ وجوبها، أمّا عن جوازِ وقتِ أدائها؟

فلا يجوز تقديمُ إخراجِ زكاةِ فطر رمضان عليه؛ لأنّه سببها، إنما يجوز تقديمها أو تأخيرها في رمضان، على حسب حاجة الفقير.

والاختيار عندي أنْ لا يخرجَها إلّا بعد (27) رمضان.

وقد رأيتُ بعضَ العلماءِ يتشدّد في مسألةِ تقديم إخراجِ زكاة الفطرِ عن ليلةِ يومِ الفطر، أو طلوع فجره، لحديثَ عبدالله بن عمر مرفوعاً (أغْنوهم عن السؤالِ في هذا اليوم) أو (أغنوهم عن طوافِ هذا اليوم) وهو حديثٌ ضعيفٌ لا يثبت!

وكلُّ زكاةٍ مفروضةٍ فهي عبادةٌ، فلا يجزئ إعطاؤها لغير المسلمين؛ لقول الرسولِ صلى الله عليه وآله وسلم: (تُؤخَذُ من أغنيائهم، وتُرَدّ على فقرائهم) أخرجه البخاريّ (1395) ومسلم (19) إنما يُعطَى غيرُ المسلمين من الصدقات.

ومسألةُ (المؤلّفة قلوبهم) ومسألة (كفاية الذميّين) من اختصاص الدولة المسلمة، أو من يقوم مقامَها، وليس من شأنِ الأفراد!

ومهما اختلفنا؛ فلن نختلف على أنّ إعطاءَ غير المسلم، مع وجود المسلمِ المحتاجِ؛ مخالفٌ لمقاصدِ الشريعة في تقديري (أفنجعل المسلمين كالمجرمين)؟

هذا ما خطر في بالي، مما نحتاج الحديثَ عنه في هذه المسألة، فإنْ كنتُ نسيتُ شيئاً مهمّاً؛ فذكّروني.

واللهُ تَعالى أَعلمُ

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

الأربعاء، 27 مارس 2024

  التَصَوُّفُ العَليمُ (17):

هل أنت عِرفانيٌّ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم                                        

أحدُ الإخوةِ مستغرباً قال لي: (السيد كمال الحيدريّ؛ مضطهَدٌ ومضيّق عليه، وقد فسّقه قومه، وما شاهدتُ لك منشوراً دافعتَ فيه عنه)؟

قلت له: السيد كمال الحيدريّ شيعيٌّ عِرفانيٌّ، عندما توصّل إلى أنّ النظرية المهدويّةَ تخريفٌ فاحش؛ لم يجرؤ على إنكار شخصيّة (المهديّ المنتظر) فزعم أنّه يثبت وجودَه عن طريق العرفان، وأنّ ظهور المهديّ يمكن أن يكون في الحياة البرزخيّة، قبيلَ يوم القيامة!

وهذا كلّه عندي وهم عريضٌ، وباطلٌ عربيد!

فأخشى إنْ دافعتُ عن السيّد الحيدريّ، برفضي الإرهابَ الفكريّ الرافضيّ الممارَس عليه؛ أنْ يُظنَّ بأنني من أنصاره، وأنني أقرّ بإمكان إثباتِ اعتقاداتٍ عن طريق العرفانِ الفلسفيّ الباطل عندي، جملةً وتفصيلاً!

قال صاحبي: (وهل العرفانُ شيءٌ آخر سوى التصوّف؟

حبّذا لو شرحتَ لنا بإيجازٍ مفهوم (العِرفان) ثمّ بيّنتُ لنا لماذا تنكره أنت، وشكراً لكم).

أقول وبالله التوفيق:

العرفان: مصدر عَرَف يَعرِفُ معرفةً وعِرفاناً: سكن واطمأنّ، قاله ابن فارس.

وقال الراغب: العرفان: إدراكُ الشيءِ بتفكّرٍ وتدبُّرٍ لأثره، وهو أخصّ من العلم.

تقول: فلان عرف الله تعالى، ولا تقول: عَلِمَ اللهَ تعالى؛ لأنّ معرفةَ البشر لله تعالى تكون بتدبّر آثاره، دون إدراك ذاته.

وتقول: الله تعالى يعلم كذا وكذا، ولا تقول: الله يعرف كذا وكذا؛ لأنّ المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصَّلِ إليه بتفكُّرٍ» وعلم الله تعالى صفة كاملة من صفات ذاته.

والعِرفان مصطلح خاصٌّ بالتصوّف الفلسفيّ عند أهل السنّة، والشيعةُ يعدّون (العرفان) عِلْماً أعلى من الفلسفة العقليّة؛ لأنّه يجمع بين الفلسفةِ وبين التألّه والاجتهاد بالعبادةِ على نحوٍ مبالَغٍ فيه.

ويُعَدُّ صدر الدين الشيرازيّ شيخ العرفانيين الإماميّة، والمنظِّرَ لهذا اللونِ من الفلسفة!

ومن العرفانيين المعاصرين: العلامة السيد الطباطبائي صاحب الميزان، والسيد روح الله الخمينيّ، والشيخ محمّد تقي بهجت، والسيد محمّد محمد صادق الصدر، والسيد كمال الحيدريّ، وغيرهم.

وفي تقديري الشخصيّ: إنّ جميعَ آثارِ مصطحات: الكشف والفتح والعروج والكرامة والعرفان؛ آثارٌ ظنيّة، يختلط فيها الكرامةُ بالوهمِ وحديثِ النفس وأمانيّها، ولذلك فليست هذه الأمور جميعُها من مصادر المعرفة والعلم في الدين الإسلاميّ!

بمعنى أكثر وضوحاً: كنت جالساً أذكر الله تعالى، فطرأ على قلبي أنّ فلاناً سيموتُ غداً، ثمّ مات هذا الإنسانُ غداً حقّاً.

هذا إلهامٌ مسدَّدٌ، من دون ارتيابٍ، لكنّ هذا لا يعني أنّ كلّ ما يخطر على بالي - وأنا أذكر الله تعالى - سيكون إلهاماً مسدّداً، يمكنني أن أبني عليه رؤيةً، أو أعتقد اعتقاداً!

والعرفان بابٌ يَستطيع أن يدخلَه كلُّ أحدٍ، ويستطيع أن يدّعي كلُّ إنسانٍ بعدَ ذلك ما يريد، ويَطلَعَ علينا بنظريات جديدةٍ، مستندها هذا (العرفان) مثلما زعم لنا السيّد كمال الحيدريّ وجود (المهدي المنتظر) عرفانيّاً، وزعم أنّ ظهورَه مقدمّة ليوم القيامةِ في عالم البرزخ!

وإليكم هذه الحكاية:

يومَ تُوفّي جدّي السيد إبراهيم الحمش، عام (1968) زارَ مجلسَ العزاء شيخٌ صوفيٌّ، كان سَكنَ في حيّنا قريباً، فألقى موعظةً في مجلس العزاء، ورغا على الحاضرين بكلامٍ فوق الأساطيح!

في اليوم التالي، حدّثت شيخنا محمّداً الحامد - رحمه الله تعالى - بما قال ذاك الرجلُ، وهو جارُه الأدنى!

قال لي شيخي: هو لا بدّ أن يأتي غداً، فبمجرّد أن يدخلَ إلى بيتِكم؛ أعطني خبراً!

حضر في اليوم التالي فعلاً، وبدأ بالكلامَ، فانسللت بسرعة، وأخبرت الشيخ الحامد بحضور ذلك الشيخِ،  فجاء مسرعاً.

وبعد أنْ سلّم على الحاضرين؛ قلت له: لو أتحفتنا بكلمةٍ سيّدي؟

شرعَ الشيخُ محمدٌ الحامد بكلمته، ثم قال: بلغني أنّ أحداً قال في مجلس العزاء هذا؛ إنّه التقى بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلم يقظةً، وشربَ معه الشايَ، وحدّثه بكذا وكذا؟

هذا كلامٌ كلّه باطلٌ وكذِبٌ، وهو خليطٌ من الوهم وحديثِ النفسِ وأمنياتِها!

وعلى قائل ذلك أن يتوب إلى الله تبارك وتعالى، وإلّا رددنا شهادتَه، وأسقطنا عدالته.

خِتاماً: أنا الفقير لا أضعُ موقفَ الآخرِ منّي عند تقويم شخصيّته موضع اهتمامٍ!

فلو كان إنسان يبغضني، أو حتّى يكفّرني؛ لا يكون تقويمي شخصَه متأثّراً بتكفيره إيّاي أبداً!

إنّما يكون تقويمي إيّاه وَفقَ المعطياتِ العلميّة التي بين يديّ، وإنْ كنت أغضبُ من إنسانٍ كفّرني، أو لعنني، أو افترى عليّ.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حال.

الاثنين، 25 مارس 2024

           مَسائلُ حديثيّةٌ  (71):

قِيامُ الليلِ مع الإمامِ حتى ينصرف؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد الإخوةِ الأفاضل، حديثَ أبي ذرّ مرفوعاً: (مَنْ قَامَ مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَة).

يسأل عن مدى صحّته؟

وعن كيفية التوفيق بينه وبين حديثِ عائشةَ مرفوعاً في قيام رمضان أنّ الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ، إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ؟

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى يحيى بن يحيى الليثيّ - راوية موطّأ مالك (255) - قال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ: أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُا؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى بِصَلاتِهِ نَاسٌ، ثُمَّ كَثُرُوا مِنَ الْقَابِلَةِ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا اللَّيْلَةَ الثَّالِثَةَ - أَوِ الرَّابِعَةَ - فَكَثُرُوا، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فَلَمَّا أَصْبَحَ؛ قَالَ: (قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي قَدْ صَنَعْتُمُ الْبَارِحَةَ، فَلَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَخْرُجَ إِلَيْكُمْ؛ إِلا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ.

مدار حديث عائشةَ في الباب على محمد بن مسلم ابن شهاب الزهريّ، رواه عنه:

عبدالملك ابن جُريجٍ، عند عبدالرزاق في مصنفه (7747).

وعُقيلُ بن خالدٍ الأيليُّ عند البخاريّ (924)

ومالك بن أنسٍ في الموطّأ (255) وعند البخاري (1129) ومسلم (761).

ومَعقل بن عبيدالله العبسيُّ، عند الطبرانيّ في المعجم الأوسط (1043).

ويُونس بن يَزيد الأيلي، عند مسلم (761) وإسحاق بن راهويه في مسنده (827) وغيرهم.

فإسنادُ الحديث عن عائشةَ فرد مطلقٌ صحيحٌ غريبٌ، لم يروه بلفظه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم سواها.

ولم يروه عن عائشةَ سوى عروةَ.

ولم يروه عن عروة سوى ابن شهاب الزهريّ، وهو من مشاهير حديثه عن عروة.

ويُعدّ هذا الإسنادُ الغريب؛ من أصحّ الأسانيد عند المحدّثين؛ لأنّ عائشة رضي الله عنها عالمة نساء الصحابة، ولأنّ عروةَ والزهريّ حافظان.

وقد روى البخاريُّ بهذا الإسنادِ (198) رواية مكرّرة، بينما روى مسلم به (118) حديثاً، المكرّر منها قليل.

وبإسنادي إلى الإمام أبي داود الطيالسيِّ، في مسنده (468) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا وُهَيْبُ بنُ خالدٍ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: «صُمْنَا رَمَضَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئاً مِنَ الشَّهْرِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَيْلَةُ أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ «السَّابِعَةُ مِمَّا يَبْقَى» صَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ لَمْ يُصَلِّ بِنا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ «الْخَامِسَةُ مِمَّا يَبْقَى» صَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَذْهَبَ شَطْرُ اللَّيْلِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ نَفَّلْتَنا بَقِيَّةَ لَيْلَتِنَا؟ فَقَالَ صلّى الله عليه وآله وسلّم: (لا، إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَتْ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ).

فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ؛ لَمْ يُصَلِّ بِنَا، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ؛ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ، وَاجْتَمَعَ لَهُ النَّاسُ، فَصَلَّى بِنَا حَتَّى كَادَ أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلَاحُ، ثُمَّ يَا ابْنَ أَخِي لَمْ يُصَلِّ بِنَا شَيْئًا مِنَ الشَّهْرِ».

مدار حديث أبي ذرّ رضي الله عنه على داودَ بن أبي هندٍ، رواه عنه:

بشر بن المفضَّل الرقاشيُّ، عند النسائي في المجتبى (1364).

وعليّ بن عاصم، عند أحمد في المسند (21419)

ومحمّد بن الفضيلِ الضبيُّ، عند الترمذي في جامعه (806) والنسائي في المجتبى (1605).

ومسلمةُ بن علقمةَ المازنيُّ، عند ابن ماجه في السنن (1327).

ووهيبُ بن خالدٍ، عند الطيالسيّ (468).

ويَزيدُ بن زُريعٍ، عند الدارمي في سننه (1818) وأبي داود في سننه (1375) وغيرهم.

فالحديث من مشاهير حديثِ داودَ بن أبي هندٍ العابد الزاهد.

بيد أنّ الحديث فردٌ مطلقٌ غريبٌ، لم يروه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بهذا اللفظ، سوى أبي ذرٍّ.

ولم يروه عن أبي ذرٍّ، سوى جُبيرِ بن نُفيرٍ.

ولم يروه عن جبير بن نُفيرٍ، سوى الوليد بن عبدالرحمن.

تفرّد به داود بن أبي هندٍ القُشيريُّ البصريّ.

ولم يخرّج البخاريُّ ومسلمٌ بهذا الإسنادِ أيَّ حديث!

إنما أخرج الإمام أحمد والدارميّ بهذا الإسنادِ هذا الحديثَ الواحد فحسب!

وداود بن أبي هند ترجمه المزيّ في تهذيب الكمال (8: 461 - 466) ونقل أقوال العلماء في توثيقه والثناء عليه.

وترجمه الذهبيّ في ميزان الاعتدال (2533) لا ليجرَحه، إنّما ليقول: «حجّةٌ، لا أدري لمَ لمْ يخرّجْ له البخاريُّ».

وترجمه ابن حجر في التقريب (1817) وقال: «ثقة متقن، كان يهِم بِأَخَرَةٍ».

أمّا الوليد بن عبدالرحمن الجُرَشيُّ، وإن قال فيه ابن حبّان في المشاهير (1462): «من ثقات أهل الشام» وابن حجر في التقريب (7436): «ثقة» إلّا أنّ مسلماً لم يخرّج له سوى حديثٍ واحد (805) في فضل سورة البقرةِ وآل عمران.

أمّا البخاريُّ؛ فلم يخرّج له في صحيحه شيئاً.

وجُبيرُ بن  نُفير، ترجمه ابن حجر في التقريب (904) وقال: «ثقة جليل مخضرم».

وأخرج له مسلم في صحيحه (16) حديثاً، بينما أعرض عنه البخاري إعراضاً تامّاً.

خلاصة الحكم على إسناد الحديث: هو إسناد فردٌ غريب مطلق حسنٌ، وحديثُ الباب في الترغيب بقيام الليل، وليس في متنه ما يُستنكر.

أمّا وجه الجمع بين الحديثين؛ فيترجّح لديّ أنهما حادثتان منفصلتان:

إحداهما: شهدتها أمّنا عائشة رضي الله عنها فحدّثت بما شاهدت.

والثانية: شهدنا سيّدنا أبو ذرٍّ رضي الله عنه، فحدّث بما شاهد.

وليس بين الحديثين تضادٌّ يوجِبُ ترجيحَ أحدهما على الآخر.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ؛ كُتِبَتْ لَهُ قِيَامَ لَيْلَةٍ) هذا أصلٌ في استحبابِ المكوثِ في المسجدِ حتى ينتهي الإمامُ من صلاته كلّها،  وهو أصل في استحباب قيامِ ليل رمضانَ جماعةً.

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (خَشيتُ أنْ يفرَضَ عليكم، فلا تطيقوه) حكمٌ معلّل بسببه، وقد زال السبب بوفاة الرسول، صلّى الله عليه وآله وسلّم، وبقي الحكمُ على أصالتِه باستحباب صلاة الليل جماعةً، وندبِ الناسِ إلى ما يطيقون من قيامِ شهر رمضان.

واللهُ تَعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 8 مارس 2024

  في سبيل العلم (14):

لماذا كان يبغضك البوطيّ؟

بسم الله الرحمن الرحيم

سأل هذا السؤال عددٌ من الإخوةِ قديماً وحديثاً، وإذْ إنّ الكلامَ عن الدكتور محمد سعيد بن رمضان البوطيّ محتدماً في هذه الأيّام؛ فلا بأسَ من ذكر ذلك، بصفته موقفاً من تاريخ حياتي.

ألستم تطالبونني بكتابةِ مذكراتي دائماً؟ هذا المنشور واحدٌ من عشراتٍ، تناولت في كلّ واحدٍ منها موقفاً من مواقفي في الحياة.

معرفتي بالدكتور محمد سعيد بن رمضان البوطي، رحمهما الله تعالى؛ ترجع إلى صيفِ عام (1968م).

في هذا الوقتِ حصلت مشادّةٌ كلاميّةٌ بيني وبين عددٍ من الشبابِ السفلةِ، الذين يطارودون الفتياتِ في شوارعِ مدينة حماة.

تحوّلت المشادّة الكلاميّةُ إلى خصامٍ وتلاحمٍ وضربٍ بالسكاكين، وحُمل جميع المتخاصمين إلى المشفى الوطني في حماة، ودماؤهم تسيل، وكنت أنا فاقدَ الوعي!

عرف أهلي بما حدثَ، فجاؤوا إلى المشفى الوطنيّ سرّاً، ونقلوني إلى مشفى الدكتور «فيصل الركبي» حتى لا تعرف الشرطةُ من أكون، في ظنهم !

ظللتُ في مشفى فيصل الركبي ثمانيةَ عشر يوماً، حتى غدوت قادراً على مشي السلحفاة!

كلما جاءت الشرطة لتحقق معي؛ أتظاهر بالإغماءِ، وكان الدكتور فيصل يؤكّد على ذلك فيصدقونه!

في اليوم الثامن عشر؛ هرّبوني من المشفى إلى دمشق مباشرةً، ونزلتُ ضيفاً على ابن خالتي الفاضل عبدالرحمن بن محمّد كريجٍ الحمويّ، وقد كان ضامناً «فندق الحرمين» قربَ ساحةِ المرجة.

صوّروني في دمشق، واستخرجوا لي من حماة هوية باسم عبدالرزاق بن محمد كريج، شقيق عبدالرحمن، رحمهم الله تعالى، صرت أتنقّل بها في دمشق!

كنتُ أحبّ الصلاةَ في المسجد الأمويّ كثيراً، وكنت أصلّي عدداً من الأوقات فيه، وأصلّي بقية الأوقات في مسجد «التوبة» غالباً.

كان أولاد عمّتي محمّد وفايز ومختار أبناء محمود البظّ الحمويّ، يعملون في دمشق، فأخبرني بعضهم بأنّهم يحضرون على الدكتور محمد سعيد رمضان خطبَ الجمعةِ في «جامع الرفاعي» في غالب ظني، فذهبت معهم، وحضرت له خطبةً أعجبتني، وإنْ لم يكن في نظري خطيباً مفوّهاً!

وغدوت أحضر خطبَ الجمعة له، ودروسَه في جامع «تنكز» وقبل جامع تنكز؛ كان يلقي دروسه في مسجد آخر، نسيتُ اسمه.

صافحتُ الشيخَ محمد سعيد، وشكرته على خطبته، فسألني عن اسمي ومن أيّ البلاد أنا؟

فأخبرته أنني من تلامذة الشيخ محمد الحامد، المواظبين على دروسه منذ أواخر العام (1962) ففرح بذلك، وأثنى على شيخنا الحامد كثيراً، رحمه الله تعالى.

ثمّ حضرت له خطبةً بصحبة شيخنا الشهيد مروان حديد، الذي كان يحثنا على الإفادة من الشيخ محمد سعيد رمضان.

نصح الشيخ محمد سعيد شيخنا مروان بالابتعادِ عن العنف، وعلّل ذلك بأنّ مشكلة المسلمين أخلاقيّة التزاميّة، وما لم تَسُدْ أخلاق الإسلام في المجتمع؛ لا يمكن تغيير السلطة السياسيّة الظالمة!

تقبّل الشيخ مروان نصيحةَ الشيخ محمد سعيد، وشكره على ذلك.

واستمرّت علاقتي بشيخي محمد سعيد طيّبةً طيلةَ وجودي في دمشق!

فلمّا حُلّت مسألةُ «ضرب السكاكين» التي تكلّمت عنها؛ رجعت إلى مدينة حماة، وحضرت جلسةَ محكمة واحدةٍ في حماة، كان محاميَّ فيها محام بارز من (آل علي حور) نسيت اسمه، رحمه الله تعالى.

بيد أنّ المحكمة حكمت عليّ بثلاثةِ أشهر سجن مع وقفِ التنفيذ؛ لأنني اعترفتُ بأنني ضُربتُ بالسكين، فضربتُ بالسكين!

في (16/ 1/ 1970م) كانَ أوّلَ يومٍ داومتُه في السنة الأولى من كليّة الشريعةِ، وكان الدوام إلزاميّاً.

وكانت المحاضرة الأولى في «السيرة» للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي.

في أثناء المحاضرةِ؛ خرقت طائرةٌ حربيّة سوريّةٌ «جدارَ الصوتِ» فأحدثت صوتاً مرعباً، وتكسّر زجاجُ قاعةِ المحاضرة، فهُرع الطلّاب والطالباتُ باتّجاه باب القاعة، فوقع بعضهم، وغدا بعضهم فوق بعض!

اعترتني الغيرةُ على البناتِ، فصرت أحمل الطلاب، وأرميهم بعيداً عن البناتِ، بقسوةٍ بالغة!

عقب انتهاء هذه العمليّة الحزينةِ؛ التفتّ إلى الوراء؛ فرأيت شخصاً معمّما يركض على مقاعد الدراسة، ظننته والله زميلي من «آل البيانوني الحلبي» وكان يجلس بجواري في القاعة!

صرخت عليه قائلاً: «العمَى حتى أنت تركضُ مثلَ القرد» ارجع من حيث جئت!

استدار الدكتور محمد سعيد، ورجع يمشي على المقاعد بذهولٍ، حتى جلس على كرسيّه خلف طاولةِ المعلّم!

عندما جلس؛ تيقّنت أنني أخطأتُ التقدير، فصعدتُ إلى حيث هو، وطلبت يده لأقبّلها، فرفض!

اعتذرتُ إليه وإلى طلاب القاعة، التي كانت تضمّ مئاتٍ كثيرةً من الطلّاب، وقلت لهم جميعاً: والله يا شيخنا ظننتك زميلي البيانونيّ هذا، فسامحني!

قال بغضبٍ شديد: «رُح اجلس مكانك» وظلّ طيلةَ المحاضرةِ صامتاً، لم يتفوّه بكلمة واحدة!

كلّمت الدكتور «محمد أديب الصالح» رحمه الله تعالى، بأن يشفع لي لدى الدكتور البوطيّ ليسامحني، لكن الدكتور البوطيّ رفض!

ثمّ كلّمه شيخي محمد لطفي الفيومي رحمه الله تعالى، فرفض!

ثمّ كلمه الشيخ مروان حديد، فرفض قبول اعتذاري، وقال له: هذا طالب جلفٌ عنيف، كان يلقي زملاءه الطلاب، كما يلقي أحدنا رغيفَ خبز!

هذا لا يصلح لأن يكون عالماً، وجّهوه ليتطوّع في الجيش، فهناك يفيد كثيراً بالتأكيد!

غضب الشهيد مروان منه، وقال له - كما حدّثني - شيخنا تعني أنه لا يصلح لطلب العلم إلّا الضعفاء الجبناء، ما هذا الكلام؟

هذه هي الإساءة الوحيدةُ، التي أسأتُ بها إلى أستاذي الدكتور محمّد سعيد، من دون قصدٍ مني، شهد الله العظيم!

بقيَت هذه الحادثةُ في نفسه، سنين متطاولةً، وأظنها ظلّت معه حتى استشهُد، رحمه الله تعالى!

ولا يظنّن أحدٌ من قرّائي الكرام؛ أنّ الشيخ البوطيَّ وحده هكذا، فوالدتي السيدة خديجة بنت محيّ الدين بن فارس الأيوبيّة، رحمهم الله تعالى، كانت كرديّةً أيضاً، وكانت تردّد دائماً «الأسى لا يُنسى»

وقالت مرّات: «الذي يؤذيني قد أسامحُه، لكنّني أتذكّر إساءَته كلّما رأيتُه، ولا يمكن أن يصفح عنه قلبي».

أحدُ صِغار مشايخي الحمويين - في السنّ - اختلفتُ معه في مسألةٍ، نقلها إليه عني واشٍ!

جاء إليّ في منزلي بالقاهرة، وقرع الباب بطريقةِ «المخابرات» ففتحت له الباب مسرعاً، فهجم عليّ يرغي ويزبد ويصرخ ويوبّخني على تلك المسألةِ المنقولةِ إليه!

فاعتذرتُ إليه بأنْ لا عِلمَ لي بالذي يقوله، وأقسمتُ بالله على ذلك، وكان عندي الأستاذ سيف الإسلام بن حسن البنا، رحمهما الله تعالى!

فتدخّل وقال له: الرجل يحلف لك بالله العظيم؛ أنْ لا علمَ له بشيءٍ مما توبّخه عليه، ومن حلف لكم بالله فصدّقوه!

ظلّ يصرخُ ويصرخ، حتى أمسكت بيديه، وقلت له: اسمع يا شيخ فلان، لولا أنّك شيخي؛ لمسحت بك الأرض الآن، وأنت تعرف هذا جيّداً، ليس من حقّك هذا التصرّف الفجّ حتى لو كنتُ قلتُ هذا الكلامَ عنك!

كان عليك أن تستفسر مني، فإن كنتُ أخطأتُ في حقّك؛ أعتذر منك، وليس لك عندي سوى الاعتذار، إذا لم تهدأ؛ سأرميك خارجَ بيتي، فخرج من البيت غاضباً.

بعد شهر من الزمان تبيّن له أنّ الواشيَ كان يمزح معه ويكذب عليه، فجاء إليّ معتذراً عمّا بدر منه، وقال لي بالحرف الواحد تقريباً: «سامحني ياشيخ عداب، كنت أنا متسرّعاً مخطئاً، وأنت والله خير مني، لكنْ أنت من طريقٍ وأنا من طريق، فأنا لا أستطيع أنْ أصفحَ عن إنسانٍ تعكّر قلبي عليه»!

تبسّمت في وجهه، وقلت له: لك ما تشاء يا شيخي، لكنْ نحن إخوةٌ في الإسلام، ونحن من الإخوان المسلمين، وكان من حقّك أن تأخذ هذا الموقف، لو أنني أخطأتُ، وأنت تقرّ بأنك أنت المخطئ، وقد هجمتَ عليّ في بيتي، ووبّختني بالباطل وتحمّلتك؟

قال: «لا داعي إلى التفاصيل، هذا قراري، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته» وانصرف!    

خِتاماً: لست أدري ما أقول حِيالَ مثل هذه المواقف، وهل الشخصيّة الكرديّة هي هكذا حقّاً، إذا غضبَ أحدهم لا يرضى حتى يموت؟

أرجو من الإخوة الأكراد جينيّاً - لا لساناً وثقافةً - أن يخبرونا بالحقيقة، فهم أدرى وأعلم.

والله المستعان.

والحمدُ لله على كلِّ حال.

الأربعاء، 6 مارس 2024

  قُطوفٌ من الآلام (13):

عبدالحميد الأحدب الحموي في ذمّة الله تعالى!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).

(رحمةُ اللهِ وبركاتُه عليكم أهلَ البيت؛ إنّه حَميدٌ مَجيد).

تلقّيتُ قبل قليلٍ نبأ وفاةِ أستاذي وشيخي السيد الشيخ عبدالحميد بن عبدالحسيب الأحدب الحسينيّ الحمويّ (1939 - 2024).

أتقدّم بهذه المناسبةِ الحزينةِ بخالص المواساةِ والعزاءِ إلى أسرته الطيّبة، وإلى آل الأحدب الكرام، وإلى إخوان وتلامذة الشيخ عبدالحميد في كلّ مكان.

راجياً لهم من الله تعالى الصبرَ الجميل والاحتساب، والثوابَ الجزيل من هذا المصاب.

واللهَ تبارك وتعالى أسألُ أن يتغمّد شيخنا ومعلّمنا المهذّب النبيلَ الجميلَ بواسع رحمته، وأن يكتب له ثوابَ المهاجرين في سبيله.

عظم الله تعالى أجوركم إخواني، ولا تنسوا شيخنا من صالح الدعاء والرجاء.

إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

والحمد لله على كلّ حال.

الاثنين، 4 مارس 2024

   في سبيل العلم (11):

كيف نفهم القرآن والسنّة؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سبق لي أن نشرتُ عدداً من المنشوراتِ، أوضحتُ فيها مراحل طلب العلم التدريجيّة من وجهة نظري، بيد أنّ جميعها غابَ مع إغلاق «الفيس بوك» لصفحتي الأولى الغنية جدّاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وفي هذا المنشورِ؛ لن أثقِل على إخواني طلبة العلم والمثقفين بتعداد عشرات الكتب التي تعلّمتُها على أيدي المتخصّصين، أو قرأتُها بنفسي، في كلّ فنٍّ من الفنون.

القرآن الكريم اليوم مجموعٌ بين دفّتي المصحف، ومَن يؤمنُ بثبوتِه عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثمّ عن جبريلَ عليه السلام، ويؤمن بصدوره عن الله تبارك وتعالى؛ لا يَحتاجُ في سبيلِ فهمِه العامّ إلى كتب علومِ القرآن، ولا إلى كتب أصول التفسير، ولا حتى إلى التفاسير.

إنّما يحتاجُ إلى عددٍ يسير من الكتب، التي تجعله يفهم مرادَ الله تعالى عند تلاوته القرآن العظيم، ويتذوّقَ بيانه وبلاغته.

أوّلاً: الكتب التي تخصّ القرآن العظيم:

- الكتاب  الأوّل: «كلمات القرآن الكريم» لشيخنا حسنين محمّد مخلوف، ومع وجودِ تفسيراتٍ لبعض كلماتِ القرآن الكريم فيه لا أقرّها، فلا أراها صواباً، أو أراها قاصرةً؛ إلّا أنني أنصح جميع المسلمين بحفظِه، لا بقراءته وفهمه فحسب!

- الكتاب الثاني: «الألفاظ الكتابيّة» للغويّ البارع عبدالرحمن بن عيسى الهمَذانيِّ.

هو كتابٌ في جزءٍ واحدٍ، صفحاته (285)صفحةً، ينوّر بصيرتك بفهم الألفاظ المتقاربة والمتباعدة والمشتركة، التي يكثر ورودها في القرآن الكريم.

وقد ألّف الراغب الأصبهانيّ كتاباً بعنوان «الألفاظ المترادفةُ على معنى واحدٍ، وما بينها من الفروق الغامضة» وهو مفقودٌ، وكتاب الألفاظ الكتابية يسدّ ثغراتٍ كثيرةً، مما يتناوله ذاك الكتاب المفقود.

والنسخة التي بين يديّ صادرةٌ عن دار الكتب العلمية ببيروت، عام (1991) بتحقيق الدكتور إميل يعقوب، وتحقيقه هذا غنيّ بالتوضيح والاستدراك وكثرة التوثيق، فأوصي باقتناء هذه النسخة المبذولةِ مجّاناً على الانترنيت!

- الكتاب الثالث: «معاني مفردات ألفاظ القرآن» وهو مطبوع طبعاتٍ عديدةً، وبعنواناتٍ متغايرة، فمرّة: المفردات في ألفاظ القرآن، ومرّة المفردات في غريب ألفاظ القرآن، وغير ذلك.

وهذا العنوان «معاني مفردات ألفاظ القرآن» هو الذي أورده المصنّف في الصفحة الثانية من كتابه، وهو المطابقُ لمضمونه.

وهذا الكتاب يحسن أن نُعطيَه عنوانا من عند أنفسنا «منهج القرآن الكريم في اختيار ألفاظه ودلالتها على المعاني المراد توصيلُها إلى المسلمين» إذ هو هكذا.

وأنا شخصيّاً لا أحبّذ كلمة «غريب القرآن» و«غريب الحديث» إذ ليس في القرآن والسنّة ألفاظٌ لا تعرف معانيها، إنّما نستغربها نحن، بسبب ضعفنا في متن اللغةِ، وفي البلاغة.

والكتاب مطبوع طبعاتٍ كثيرةٍ، والطبعة التي بين يديّ، بتحقيق الدكتور صفوان عدنان داودي، وفيها جهود طيبة مشكورة.

وقد اعتمدت الدار الناشرة «دار القلم» في دمشق الحبيبة، منهج الطباعةِ االمختصرة، فجعلت الصفحتين في صفحة واحدة، ومع هذا جاء الكتاب في (1008) صفحات!

الكتاب الرابع: «قواعد التدبّر الأمثل لكتاب الله عزّ وجل» لشيخنا وابنِ شيخنا عبدالرحمن بن حسن حبنكة الميدانيّ، رحمهما الله تعالى.

صدرت طبعته الموجزة الأولى، عام (1979) في كتاب صغير الحجم مقاس (17× 12) وصدرت طبعته الموسعة الثانية، عام (1987) في مجلد ضخم تبلغ صفحاته (839) صفحة، والطبعة الخامسةُ التي تحت يدي؛ هي الطبعة الثانية ذاتها.

هو كتاب ماتع نافع، يغني عن كتب كثيرةٍ، في تدبّر كتاب الله عزّ وجلَّ.

أداره شيخنا على أربعين قاعدةً بيانيّةً ولغويّةً وأصوليّة، وختمه بملحق عن القرّاءِ العشرة (755).

الكتاب الخامس: «تلوين الخطاب - دراسة في أسلوبِ القرآن الكريم» للدكتور أحمد تيجان أحمد صلاح.

وأصلُ الكتاب بحثٌ تقدّم به الدكتور أحمد، للحصول على درجة الماجستير في اللغة العربية وعلومها من جامعة الكويت.

وبين يديّ الطبعةُ الأولى من الكتاب، وهي صادرة عن مجلّة الوعي الإسلامي الكويتية، وهذا الكتاب هو الإصدار السادس والثمانين، من إصداراتها القيّمة المتميزة، وتقع هذه الطبعة في (339) صفحة طباعيّة معتادة (17 × 25).

والكتابُ غايةٌ في الأهميّة - من وجهة نظري القاصرة - متى أتقنه القارئ العربيّ، مع ما سبقه من الكتب الأربعةِ؛ غدا ذوّاقةً، متدبّراً كتابَ الله تعالى، على أحسن ما يكون.

ثانياً: الكتب التي تخصّ السنّة النبويّة:

قدّمت في بدايةِ هذا المنشور أنّه موجّه إلى طلبةِ العلم - أمثالي - وإلى مثقّفي الأمة، وقد يراه العلماءُ المتخصّصون موجّها إلى المبتدئين، ولا ضير في ذلك أبداً، فالمبتدؤون والمنتهون جميعهم جهّال، قياساً بعلم العليم الحكيم (وما أوتيتم من العلم إلّا قليلاً).

والكتب السابقة جميعُها تخدم السنّةَ النبويّة خِدماتٍ رائعةً ونافعة.

الكتابُ الأوّل: معالم السنّة النبويّة، للشيخ صالح بن أحمد الشاميّ الدوميّ، نسبةً إلى مدينة «دوما» التابعة لمدينة دمشق العاصمة.

وتحت يدي من هذا الكتابِ؛ الطبعةُ الثالثة الصادرة عن درا القلم في دمشف، عام (2018) ويقع الكتاب في ثلاثة مجلّدات، يَقربُ مجموع صفحاتها (1600) صفحةً.

ومجموع أحاديثه (3921) حديثاً، أكثرُها من قسم الصحيح، وباقيها من قسم الحسن، وليس في طبعةِ الكتاب الثالثة هذه أيّ حديث ضعيفٍ، في نظر المؤلف.

وقد اعتمد الشيخ صالحٌ في الحكم على أحاديث الكتاب، من خارج الصحيحين؛ على العلماء الذين سبقوه في الحكم عليها، وجميع ما في الصحيحين صحيح عنده، وهذا معروف!

قال في مقدمة كتابه هذا (1: 21): «ذكرتُ في آخر كلّ حديثٍ الحكمَ عليه صحّةً أو حسناً، ومرجع هذه الأحكام كالتالي»:

وذكر كتب الشيخ ناصرا الألبانيّ، والشيخين عبدَالقادر وشعيباً الأرناؤوطيين، والشيخ حسين أسد الدارانيّ، وغير ذلك، فارجع إليه.

وفي تقدير العبد الفقير عداب: ليس وراءَ متونِ هذا الكتابِ متنُ حديثٍ صحيحٌ!

وليس كلّ ما فيه صحيحاً.

بيد أنّه كتاب مهمٌّ جدّاً ونافع جدّاً، ولا حاجة بالمثقّف المسلم إلى أيّ كتابٍ آخر!

ومن هنا تعلم كم تعاني الأمّةُ من الترهّلِ الثقافيّ المكرّر والمعاد!

الكتاب الثاني: «النِهايةُ في غريبِ الحديثِ والأثر» للإمام أبي السعادات المبارك بن محمد الجزريّ.

وبين يديّ الطبعة الأولى من الكتاب، الصادرة عن المكتبة العلمية ببيروت، عام (1979) بتحقيق أستاذنا الدكتور محمود محمّد الطناحيّ، والدكتور طاهر أحمد الزاويّ، في خمسة مجلّدات.

هذه الكتبُ السبعةُ كافيةٌ لمنْ أتقنَ مضامينها أنْ ترفع عنه صفةَ الجهلِ والأميّةَ العلميّةَ تماماً.

أمّا من أراد فقه الكتابِ، وفقه السنّةِ؛ فلهما كتب أخرى غيرُ هذه الكتب.

والله تعالى أعلم.

رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ
هذا.. وصلّى اللهُ على سَيّدنا محمّدِ بن عبدِالله، وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ تَسْليماً.
والحَمْدُ للهِ عَلى كُلِّ حالٍ.