الأربعاء، 27 ديسمبر 2023

      مسائل حديثيّة (62):

 مَناتِنُ المَرْأَةِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدهم عن حديث: (من نظر إلى امرأةٍ، فأعجبته؛ فليذكر مناتنها)

أصحيح هو؟

وإذا كان صحيحاً؛ فما تفسيره؟

قلت له: قرأتُ هذا الكلامَ في أساس البلاغةِ للزمخشريّ، ربما قبل ستّين عاماً، وبحثتُ طويلاً، وسألتُ عنه عدداً من الشيوخ، في تلك الأيّام؛ فلم أستطع الوقوفَ على مصدرٍ له، سوى أساس البلاغة للزمخشريّ.

وعندما سكنتُ مكّة المكرّمةَ - زادها الله شرفاً وتعظيماً وأمناً - قرأتُ نحوَ هذا الكلام في أحد كتب الفقه الحنبلي - لا أتذكّر اسمه - وعزاه لابن مسعود!

ولم يسألني عنه أحدٌ طيلةَ هذه السنين، وسأبحثُ عنه بعدما تيسّرتْ لنا سبل البحثِ في الموسوعات!

أقول وبالله التوفيق:

أخرج أبو يوسف في كتاب الآثار (894) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بن أبي سليمان، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعيّ؛ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ، فَأَعْجَبَتْكَ؛ فَاذْكُرْ مَنَاتِنَها».

وأخرج أبو بكرِ ابنُ أبي شيبة في المصنّف (17205) قال: حَدَّثَنَا زيدُ بنُ حُبَابٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَخعيّ: فِي الرَّجُلِ يَرَى الْمَرْأَةَ قَالَ: «يَذْكُرُ مَنَاتنَها».

وقال الزمخشريّ في أساس البلاغة (2: 248): وفي الحديث: «إذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته؛ فليذكر مناتنها».

وفي تهذيب اللغة للأزهريّ (14: 30) «روى اللِحياني عن الأصمعيِّ قال: «اذْكُر مَناتِنَها وأَناتِنَها».

وفي إرواء الغليل للشيخ الألبانيّ (6: (1789): «لم أَقفْ على سنده إلى ابن مسعود، وقد أخرج ابن أبي شيبة بإسنادٍ رجالُه ثِقاتٌ نحوَه عن إبراهيمَ النخعيّ».

قال عداب: فيما قاله الشيخ الألبانيُّ تساهلٌ ظاهر، فالإسناد فردٌ غريب مطلقٌ من لدن ابن أبي شيبة إلى إبراهيم، وعطاء بن السائبّ قد تغيّر واختلط، فلا بدّ من بيان ذلك!

غيرَ أنّ عطاءً توبع من حمّاد بن أبي سليمان متابعةً تامّةً، وحالُ حمّادٍ قريبةٌ من حالِ عطاء، بيد أنّ الرجلين من العلماءِ المشهورَين بالرواية عن إبراهيم النخعيّ، فنطمئنّ إلى صدور هذا الكلام عن إبراهيم.

أمّا مَقْصِدُ هذا الأثر وغايتُه؛ فخلاصَته؛ أنّ المرأةَ أعظم وأكبرُ شهواتِ الرجل الدنيويّة، وهو إذا رآها؛ ثارتْ شهوتُه ورَغب بها، وربما قادته تلك الشهوةُ إلى افتراسِها، وهي ليست حلالاً له، فماذا يصنع؟

مَن كانت له زوجة، يَسْهلُ وصولُه إليها؛ يمكنُه أن يقضي وطرَه منها، فيذهب ما في نفسه من شهوةِ تلك المرأةِ أو يخفّ، بحيث يستطيع السيطرة عليه بعدئذٍ!

أمّا مْن ليست لديه زوجةٌ، أو كان يعسر عليه الوصولُ إليها، فماذا يصنع؟

يُرشِده هذا الخبرُ عن إبراهيم النخعيّ الفقيه إلى أن يتذَكّر «مناتن المرأة» فإنّ ذلك يُضعِف شهوتَه إياها.

ولا ريبَ في أنّ مثلَ هذه الوصفةِ النفسيّةِ والذهنيّةِ تنفع أصحابَ الذوقِ العالي، والحسَّ المُرهَفَ، فهم إذا تذكّروا الحيضَ والنفاسَ وغيرهما ممّا كتبه الله تعالى على بناتِ آدم؛ تغيّرت مشاعرُ أحدهم الشهويّة تجاهَ تلك المرأةِ التي شاهدها عرضاً في قارعة الطريق.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

     والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 23 ديسمبر 2023

  قَريباً مِن السياسةِ (70):

مكانة الشيخ عبدالكريم المدرّس لدى الدولة العراقية البعثيّة ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

أرسل إليّ أحد الإخوة الأفاضل مقطعَ (فيديو) قصيراً للشيخ محمد مَهدي الصميدعيّ الحسينيّ، يقول فيه: «كثيرٌ من المفتين في العالم الإسلاميّ، وحتى في العراق، قبل ما تصير دار الإفتاء، مفتي العراق الشيخ عبدالكريم بيارَة (الله يرحمه) كان ناطقاً رسميا باسم الحكومة، ماذا تقول الحكومةُ لا يستطيع أن يقول: لا» !

إلى أن يقول: «دار الإفتاء اليوم أخذت شخصيّة قويّة، ويعود الفضل لله تعالى، ثمّ للحكومة العراقية الحالية، التي استقت هذا الشراب وهذه الآداب والأخلاق، مما تعلمته من المرجعية الشيعية» انتهى.

قال الأخ الذي أرسل إليّ هذا المقطع: «بصفتك قريباً من الشيخ عبدالكريم بيارة، وهو شيخُك - كما ذكرتَ غير مرّةٍ على صفحتك:

هل فعلاً كان الشيخ عبدالكريم بيارة ناطقاً رسميّاً باسم الحكومة العراقية السابقة؟

وهل كان يفتي للحكومة العراقية بما تريد، لا يستطيع أن يقول: لا ؟».

أقول وبالله التوفيق:

قبل إقامتي في العراق من (7/ 3/ 1992) حتى (13/ 8/ 2002م) كنت أسمعُ من زملائنا العراقيين في مكّة المكرّمة، عن الشيخ عبدالكريم بيارة «رحمه الله تعالى ورضي عنه»  كلَّ ثناءٍ على علمه وحالِه، حتى كانوا يلقبونه «الشافعيَّ الصغير» أو «الشافعيَّ الثاني».

وكانوا يبالغون في الإطراء - كعادة العراقيين في كلّ شيءٍ - حتى كان بعضهم يقول: إنه يحفظ مهذّب الشيرازيّ، ومنهاج النوويّ.

فكنتُ أقول في نفسي: زملاؤنا هؤلاء؛ مثل تلامذة شيخنا محمّد الحامد  «رحمه الله تعالى ورضي عنه» لمثابرته على على خمسةِ دروسٍ علميّة في الأسبوع الواحد، ولفُشُوّ الجهل بيننا؛ كان بعضهم يزعم له الاجتهادَ المطلق، لكنّه لتواضعِه لا يخرج عن مذهب الحنفيّة!

بمعنى آخر: لم يكن إطراؤهم ذاك يستهويني، ولا يأخذ مني أيَّ مأخذ!

حتى إذا قرّرت الإقامةَ في العراق؛ نزلتُ ضيفاً على تكيةِ حضرة الشيخ حاتم كاظم الدليميّ نسباً، الرفاعيّ طريقةً، وكان يعرف في ذاك الزمان بــ(الشيخ حاتم الراوي) حفظه المولى.

كان الشيخ حاتم دائمَ الزيارةِ للشيخ عبدالقادر الجيلانيّ «رضي الله عنه» فأخبرني أنّه سيذهب إلى زيارةِ الشيخ عبدالقادر، أأصحبه في زيارتي، أم أبقى في التكية؟

قلت له: بل أنا أرغب بزيارته، فهو حبيبي وجدّي من جهة الأمّهات.

بعد ما زرنا مشهدَ الشيخ عبدالقادر؛ استأذن الشيخ حاتم وقال: «أنا أستأذنكم ربعَ ساعة، لازم أزور شيخي عبدالكريم المدرس، ما يصير أزور الحضرة، وما أزور شيخ الحضرة»؟

قلت: هل يمكنني زيارتُه معكم، أو ثمّة خاصٌّ بينكما في هذه الزيارة؟

قال: أبداً لا يوجد أيّ أمرٍ خاصٍّ، هو شيخي وشيخ العراق كلّه، وأحبّ أن أتبرك بزيارته وأقبّل يده!

حين دخلنا إلى غرفة الشيخ عبدالكريم؛ كان يتحدث، فلمّا أنهى حديثَه؛ قام الشيخ حاتم، فصافحه وقبّل يده ورأسه.

وجئت أنا فقبلت رأس الشيخ عبدالكريم ويدَه، وعرّفه الشيخ حاتم عليّ!

قال له الشيخ عبدالكريم ضاحكاً: قل له: يحذر العراقيين، ويمسك لسانَه!

ضحكنا جميعاً، وجلسنا مصغين لما يقول الشيخ.

في هذا اللقاء الأوّل قال الشيخ عبدالكريم للحاضرين، وفهمتُ أنّ الخطاب لي حتماً:

«طلّاب العلم في البدايات يكونون جهّالاً، ما يعرفون شيّ، والجاهل يستعظم أيّ شيء يصدر عن العالم، ويراه كبيراً، من هنا تنزرع ثقته بهذا العالم، ويثابر على طلب العلم على يديه، ولولا هذا الانبهار؛ ما أحبّ الشيخَ، ولا صبرَ على صعوبة طلبِ العلم، وطولِ ساعاته يوميّاً.

مثل أخونا هذا - شسمه قلتَ لي يا حاتم؟ - قال له الشيخ حاتم: أبو محمود.

قال الشيخ عبدالكريم: مثل أخونا أبو محمود السوري، كان لديهم في بلدهم شيخٌ عالم فاضل من الصالحين، وكان تلاميذه يحبونه ويعظمونه كثيراً، لويش؟ لأنهم جهال!

مو لازم إذا أنت أصبحت من أهل العلم ومن أهل القرآن - ما شاء الله - تحاول تصغير شيخهم بعيونهم، لأنّ هذا يؤذيهم، ولا يضرّ ذلك العالم شيئاً.

إي نعم!

كلّ الشيوخ هم في حقيقة الأمر أقلّ مما هم عليه في أنظار تلاميذهم «الكلام من الذاكرة».

فهمت أنا أنّ الشيخ عبدالكريم من أهل القلوب، والتزمتُ زيارته وحدي، لا لأستفيد منه علميّاً أبداً، إنما ليوجهني التوجيه الروحي الأسبوعيّ.

وكنت أسأله بعض الأسئلةِ التي أخالفه فيها، في كلّ مرةٍ، من دون إثقالٍ عليه، فيكون جوابُه واحداً دائماً: أنا رجلٌ شافعيّ، لست بمجتهدٍ، أقول بما أعلمه من مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى.

استمرّت علاقتي بالشيخ على هذا النحو طيلةَ وجودي في بغداد، وكان يسدّدني في كلّ مرة أزوره فيها.

كانت منزلتي لدى الدولة العراقيّة في تلك البرهة من الزمان جيّدةً، وكنت محترماً في جميع دوائر الدولة، لكنني كنت أحشِم نفسي عن مخالطة رجالِ الدولة تماماً، ولم أعرف منهم طيلةَ عشر سنواتٍ، سوى الرئيس صدّام حسين، والنائب عزّة الدوريّ، والوزير عبدالله فاضل.

ورأيتُ عدي صدّام مرتين في تلفزيون الشباب، سلّم عليّ في إحداهما ومشى، وتصايحتُ معه في المرّة الثانية، وحسب!

كان الرئيس صدّام حسين يستفتيني أحياناً قليلة، يرسل إليّ وفداً مكوّناً من ثلاثةِ أشخاص، معهم مذكّرة الرئيس الشخصيّة، مكتوبٌ فيها سؤالاً أو أكثر بخطّ الرئيس، ويحدّدون لي الجواب بمقدار الصفحتين المتقابلتين، لا يزيد.

كنتُ أُجلسهم في غرفة الضيوف، وأجلس في مكتبتي أكتب الجواب على ورقٍ خارجيّ، ثم أختصره بالقدر المطلوب، ثم أكتبه بيدي في مفكّرة الرئيس صدّام، ثم أعطيهم الجواب، وينصرفون.

لا والله، ثم لا والله، ثمّ لا والله العظيم؛ لم يطالبوني ولو مرّةً واحدةً بشيءٍ، ولم يعاتبوني على شيءٍ، ولم يقولوا لي: عدّلْ شيئاً، بل إنني لا أتذكّر أنهم قرؤوا الفتوى في بيتي قطّ!

وسمعت من الرئيس صدّام حسين نفسه ثناءً على الشيخ عبدالكريم المدرس، وقال بالحرف الواحد: «الشيخ عالم وقور، كبير في السنّ، ونحن لا نطلب منه شيئاً، ولا نكلّفه بشيء»!

وكان الأستاذ عزّة إبراهيم يزوره في غرفته، وأثنى عليه أمامي مرّاتٍ عديدة!

كان رئيس المحكمة العسكريّة يزورني في بيتي، ويشاورني في بعض الأمور العاجلة «الرجل من تكريت وكان مهذّباً فاضلاً، اغتيل في تلك الأيام، نسيت اسمَه والله».

سألتُه مرّةً: لماذا تستفتوني أنا، ولا تستفتون مشايخَ العراق، وفيهم من هو من شيوخي؟

قال: لا يخفى عليك أنّ للدولة رهبةً في نفوس الناس، وحتى المشايخ، ونحن قد عرفناك تماماً، لذلك نستفتيك، ولا نستفتي مشايخَ العراق، حتى لا نُحرج المشايخَ من جهة، وحتى لا يُقال: أُخذت منهم الفتوى بالقوّة!

قلت له: وأنتم معشر البعثيين العفلقيين تُهمّكم الفتوى الشرعيّة، في قليلٍ أو كثير؟

قال: لا يا شيخ عداب لا، نحن والله مسلمون، ومؤمنون بالله تعالى، وتوجّه السيّد الرئيس والحزب نحو الدين حقيقيّ، لكن بالتدريج يا شيخ عداب، والحملة الإيمانية أنت على أوّلها - كما يقولون - وعارف كلّ شيء!

كانت العلاقةُ بيني وبين شيخي عبدالكريم بيارة قويةً وقريبة، فلم يذكر لي مرّةً واحدةً أنّ الدولة العراقية البعثية طلبت منه فتوى قطّ!

لكنّه كان مستاءً من تعيين أحدِ تلامذتي شيخاً للحضرة القادريّة!

لم أكنْ أعلم بهذا، ولا استشارني الأستاذ عزّة إبراهيم في تعيينه أبداً.

دخلت إلى جامع الحضرة القادرية، وقد أقيمت صلاة العصر، وتقدّم تلميذي هذا، فصلّى بنا العصر، وفي أثناء تلاوة الأذكار بعد الصلاة رآني.

جاء الرجل فصافحني وقبّل يدي، وكان هذا شأنه من قبل، وأخبرني بأنه أصبح شيخاً للحضرة القادرية، ودعاني إلى زيارته في مكتبه، فقلت له: أزور الشيخ عبدالكريم الكبير أوّلاً، ثم أزورك.

فصحبني حتى دخلتُ إلى غرفة الشيخ عبدالكريم، وسلّم هو على الشيخ وانصرف!

سلّمت على الشيخ كالمعتاد، وأجلسني عن شماله، وقال لي متبسّماً: لماذا يعيّنون التلميذ شيخاً للحضرة القادريّة، ولا يعيّنون شيخَه العالم؟ وتبسّم طويلاً!

قلت له: يا مولانا هذه دولة بعثيّة، وتلميذي هذا بعثيّ، وأنا من الإخوان المسلمين، كيف يعينونني إماماً للحضرة القادريّة، وضحكنا معاً.

وشكا لي شيخنا عبدالكريم بعضَ تصرفات تلميذي هذا، فكنت أنبّهه عليها، وحدثني شيخي عبدالكريم أنّ تلميذي كان يسمع كلامي في كثيرٍ من الأحيان.

فلا أدري كيف ومتى كان شيخنا عبدالكريم بيارة المدرّس ناطقاً رسميّاً باسم الدولة العراقيّة كما لم أسمع من أحدٍ أنّ الدولةَ استفتت شيخنا عبدالكريم بشيء طيلةَ وجودي في العراق!

لا لأنهم كانوا يستفتونني أنا، في كلّ ما يطلبون، لا أبداً.

إنّما لأنهم كانوا يقدّرون سنَّ الشيخ ووضعه الخاصّ، ولأنهم يريدون فتاوى معاصرة، تتناسب مع واقع الحصار الذي كانوا يعيشونه، والشيخ مذهبيٌّ حدّي، هذا ما أظنّه وأقدّره، ولم يحدّثني به أحد.

ثمّ إنّ الشيخ مهدي الصميدعي يثني على هذه السلطةِ المجرمة العميلةِ التي تحكم العراق منذ عام (2003) بقوله: «ويعود الفضل لله تعالى، ثمّ للحكومة العراقية الحالية، التي استقت هذا الشراب وهذه الآداب والأخلاق، مما تعلمته من المرجعية الشيعية».

مع أنّ الشيخ الصميدعيّ هذا غير مطالَبٍ - فيما أُقدّر - بأن يثني على السلطة الحاكمة الغاشمة هذا الثناء، لكنه وقع في النفاق الاجتماعيّ، الذي يشتهر به أهل العراق، وللأسف!

لا أظنّ عالماً أو طالبَ علمٍ في العراق، يفضّل السلطةَ الحاكمةَ في العراق اليوم، على سلطة الرئيس صدّام حسين السابقة، خاصّة السنواتِ العشرةَ الأخيرةَ من حكمه.

فمن أين جاءنا الشيخ الصميدعي بهذه الوصفة الروحانية الساميةِ لحكومة العراق الحاليّة؟

ختاماً: لم يكن شيخنا عبدالكريم المدرّس ناطقاً رسميّاً باسم حكومة العراق قطعاً، ولم يكن يكتب للدولة ما تريد، بل لم تكن الدولة العراقية في عصر الرئيس صدّام حسين تطالب العلماء بشيءٍ يقولونه أصلاً!

وهذا الدكتور عبدالرزاق السعديّ، وهذا الدكتور عبداللطيف هميّم، هما موجودان في العراق ويمكنهما أن يقولا ما يريدان على السلطة السابقة، وأرجو منهما أن يوضحا لي وللقارئ الكريم ما إذا كانت السلطة العراقية السابقة أجبرتهما على فتوى تريدها.

أمّا أنا فأشهد الله العظيم أنني كنت أكتب للرئيس صدّام منتقداً أيَّ ممارسةٍ غير شرعية بلغتني عن أحد من رجال السلطة، إلى درجة أن اللواء «عبد حمود» قال لي مرّة بجفاء: «خفّ شوية عن السيّد الرئيس، ما حدا من المشايخ تعّبنا بقدّك».

رحمَ الله تعالى جميعَ من ذكرتهم في هذا المنشور، ورحمنا معهم بفضله ولطفه.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 2 ديسمبر 2023

      مَسائِلُ حَديثِيّةٌ (60):

مَتى يُترَكُ حديثُ الراوي؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشور السابق  (59) قلت: «مَن غلبَ خطؤه الحديثيُّ على صوابِه؛ تُرِكَ حديثُه كلُّه، وأهل الحديثِ هم أصحاب هذا الشأن»!

فعلّق أحدُ السادةِ من الشيعةِ بقوله: «ما هو المستند في قولكم: «مَن غلبَ خطؤه الحديثيُّ على صوابِه؛ تُرِكَ حديثُه كلُّه».

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: ممّا لا يحتاجُ إلى توثيقٍ أنّ علماءَ الحديثِ متّفقون على أنّ الراوي إذا كان الغالب على حديثه الضعفُ والمنكر؛ غدا متروكاً، لا يحتجّ بحديثِه عند الانفرادِ أو الموافقة، فضلاً عن المخالفة.

أمّا عند موافقتِه الثقاتِ في بعضِ ما روى؛ فالعِبرةُ بحديث الثقاتِ دونه!

ثانياً: يُستدلُّ لهذا المنهج السليمِ بقولِ الله تعالى:

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9).

ولا ريبَ في أنّ فسّاقَ المسلمين قد عملوا بعضَ الصالحات، التي قد تصلُ إلى (49%) ومع هذا يدخلون النار، وَفقَ هذه الآية الكريمة، وتَحبطُ أعمالهم الصالحة!

وقال الله تعالى:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؟

قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219) [البقرة].

موطن الشاهِدِ في هذه الآية الكريمة؛ عدمُ اعتبارِ منافعِ الخمر الدنيويّة لاستمرار إباحتِها، بل إنّ الشارعَ أهدرَ هذه المنافعَ لغلبةِ مضارّها الدينيّة والدنيويّة.

وكذلك المحدّثُ الذي صنّف كتاباً في الحديث النبويّ، فشحنه بالروايات الضعيفةِ والمنكرةِ والمجهولةِ، حتى غلبت أخطاؤه الحديثيةُ على صوابِه، فيُهدَر صوابُه الأقلُّ في أخطائه الكثيرة (1).

ختاماً: قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

«مَنْ كَثُرَ غَلَطُه مِن المحدّثين - ولم يكن له أصْلُ كِتَابٍ صحيح - لم نقبل حديثَه، كما يكون مَنْ أكْثَرَ الغَلَطَ في الشهادةِ؛ لم نَقبلْ شهادَتَه» (2)

واللهُ تَعالى أَعْلَمُ.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر المحدث الفاصل (ص: 406) وشرح مذاهب أهل الأخبار لابن منده (ص: 82) والمدخل إلى علم السنن للبيهقيّ (1: 240) والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2: 90) وشرح علل الترمذي لابن رجب (1: 394) فما بعد، وما شئت من كتب علوم الحديث.

 (2) الرسالة للشافعي (ص: 380).