الأحد، 11 فبراير 2024

  مَسائِلُ فِكْرِيّةٌ (13):

مَسألةُ خَلْقِ القرآن !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللهِ، قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا، كَذَلِكُمْ قَالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ).

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللهِ، ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ).

(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحدهم يسأل عن مسألةِ (خلق القرآن) ولمّا أجبتُه؛ تبيّن لي أنّ السائل يريد أن يُحاورَ ويتعلّم ويأخذَ دروساً على الخاصِّ، وأنا الفقير ليس لديّ مثلُ هذه الطاقة أبداً!

فوعدتُه أن أنشرَ مقالاً بخصوص هذه المسألة القديمة الجديدة، وأظنني تكلمت عليها في منشورٍ سابقٍ قديم!

أقول وبالله التوفيق:

يُعجبني كثيراً قولُ الإمام جعفرٍ الصادق عليه السلام: «ما بالكم شغلتم أنفسَكم بما لا تُسألون يوم القيامةِ عنه، وتركتم ما أنتم عليه محاسبون»؟

إنّ الله تعالى أضافَ إلى ذاتِه الكلامَ، مثلما أضاف إليها الخلق والرزق والإماتةَ والإحياء، ووصف نفسه المقدسةَ بأنه مع عباده وأنّه يسمع ويرى!

فلو أنّك قلتَ: «القرآن كلامُ الله المحدَثُ» ما استطاعَ مسلمٌ أن يردّ عليك بشيءٍ!

لأنّه سيردُّ عليك بتأويلٍ يقابلُه تأويل!

ومتى تخلّصتَ من عُقدةِ السلفِ، وعقدةِ الصراعِ الطائفيّ؛ سهُلَ عليك أن تحتمل عقولَ الذين يقولون:

- كلامُ الله تعالى قديم غيرُ مخلوق!  

- كلام الله تعالى غيرُ مخلوق!

- كلام الله تعالى محدَثٌ إنْزالُه غيرُ مخلوق!

- كلام الله تعالى محدَثٌ مخلوق!

- كلام الله تعالى مخلوق!

- القرآن كلام الله تعالى ليس بخالقٍ ولا مخلوق!

- القرآن كلام الله تعالى!

إلى كلِّ قولٍ من الأقوال ذهبَ بعضُ علماءِ المسلمين، وللأسفِ الشديد!

وجميعُ ما ذهبوا إليه تكلّفٌ وتعسُّفٌ، ورغبةٌ في الاستعلاء والانتصار!

ما دام المسلم يقول: «القرآن كلام الله تعالى» ويعتقدُ بأنّ ما فيه من الأوامر مطلوبٌ من المسلمين التزامُه على وجه الوجوبِ أو الندبِ، ويعتقد بأنّ ما فيه من النواهي مطلوبٌ اجتنابه على وجهِ التحريم أو الكراهة!

وما دام يعتقد أنّ كلَّ كلمةٍ فيه حقٌّ وصدقٌ، ولها وظيفةٌ في دينِ الله تعالى؛ فهو مسلم مؤمن محسن، وليس مطالباً بعد ذلك بأن يعرف هل لله تعالى كلامٌ قائمٌ بنفسه، أو إنّ معنى إضافةِ الكلامِ إليه؛ لا تعني شيئاً غيرَ أنّه قادرٌ على إفهام عبادَه ما يريده منهم؟

فلِمَ هذا الهوسُ بالاختلافِ والاتّهامِ وسوءِ الظنّ؟

هكذا حقّاً كان كثيرٌ من سلفِكم الصالح!

مثلما كان الأكثرون من سلفكم الصالحِ عبيداً للطاغيةِ المستبدّ، يوجبون طاعتَه حتى لو كان مجرماً قاتلاً ظالماً، ويحرمون الخروج عليه!

انتبه إلى كلامي ولا تتشنّج، فأنت مثلُ سلفك الصالح أيضاً!

أنا أقول: كان كثيرٌ من سلفِكم الصالح هكذا حقّاً، ولا أقول: جميعهم كذلك!

عقيدتي التي أدين الله تعالى بها أنّ (القرآن الكريم كلامُ الله تعالى) وحسب!

لا أكفرّ ولا أضلّل ولا أفسّق ولا أبدّع الذين يقولون (القرآن مخلوق)!

ولا أكفرّ ولا أضلّل ولا أفسّق ولا أبدّع الذين يقولون (القرآن غير مخلوق)!

وإنْ كان الذين يقولون: (القرآن مخلوق) يمكنهم الاستدلالُ بألف آيةٍ في القرآن الكريم على صحّةِ مذهبهم.

أمّا الذين يقولون: (القرآن قديمٌ غير مخلوق) أو (القرآن غير مخلوق) فلن يجدوا في القرآن الكريم آيةً واحدةً صريحةً تؤيّد مذهبهم، إنّما هم يذهبون إلى التأويلِ، والتأويلُ عمل المجتهدِ والباحثِ، ليس ملزماً لأحدٍ غيره.

ولا يخفى على طالبِ علمٍ أنّ الماتريديّةَ يقولون: الخلاف بيننا وبين المعتزلة لفظيّ!

وأنّ الأشاعرةَ يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق!

وأن أبا بكرِ ابن القيّم قال في مختصر الصواعق (ص: 512): «البُخَارِيُّ أَعْلَمُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِيهَا مِنْ جَمِيعِ مَنْ خَالَفَهُ!

وَكَلَامُهُ أَوْضَحُ وَأَمْتَنُ مِنْ كَلَامِ أَبِي عَبْدِاللهِ «ابنِ حنبلٍ» فَإِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ سَدَّ الذَّرِيعَةَ حَيْثُ مَنَعَ إِطْلَاقَ (لَفْظِ الْمَخْلُوقِ) نَفْياً وَإِثْبَاتاً عَلَى اللَّفْظِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَرَادَ سَدَّ بَابِ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ»

أقول: المسألةُ إذنْ قال أحمدُ، ولم يقل أحمد، وكأنّ أحمدَ هو الوصيُّ على فهم كتابِ الله تعالى ودين الإسلام!

ختاماً: أرجو من جميع الإخوةِ أن يلتزموا بدقّةِ السؤالِ ليكون جوابي لهم دقيقاً أيضاً، وأن لا يسترسلَ أحدٌ منهم بالحوارِ، فليست لديّ طاقةٌ للحوار أبداً!

أنت تسأل وأنا أجيب، فحسب!

إذا كنت تريدُ الجدال والحوارَ؛ فهناك في أهلِ العلم شباب كثيرون، لديهم طاقةٌ جسمية ونفسيّةٌ ليحاوروكَ حتى الصباحِ، كما كنّا في أيّام الشباب!

لولا أنني بحاجةٍ إلى الحسناتِ والدعواتِ؛ كنت انقطعت عن الإنترنيت تماماً؛ لأنّ بعضكم مزعجون حقّاً، ويظنون أنّهم يصوّبون لي ويعلمونني!

لم يعد لديّ القدرةُ على احتمالِ أمثال هؤلاء أبداً، فأرجو أن تفهموني جيّداً.

أنا الفقير أقول ما عندي، وليس ما أقولُه وحيٌ من الله تعالى، ولا إلهامٌ، ولا كشفٌ، إنما هو اجتهادٌ خاضعٌ للتقويم، فما رضيتَ من كلامي؛ فانتفع به، وما لم يعجبك؛ فتذكّر قول الله تعالى دائماً (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ؛ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين) أعرضْ حبيبي أعرضْ، ولا تتفلسف عليّ!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 9 فبراير 2024

  مَسائِلُ عَقَديّةٌ (12):

كَراماتُ المؤمنين بين النَفْيِ والإثباتِ (2) !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشورِ السابقِ تحدّثتُ عن عددٍ يسيرٍ من الكراماتِ التي شهدتُها بنفسي، مما يتعلّق بسيّدي وجدّي الإمامِ موسى الكاظم بن جعفر الصادق الحسينيّ عليهما السلام (ت: 181 هـ).

وأتحدّث اليومَ عن عددٍ يسير مماثلٍ، من الكراماتِ التي شهدتها بنفسي، مما يتعلق بسيّدي وجدّي الإمام عبدالقادر بن أبي صالح الجيلانيّ الحسنيّ (ت: 561 هـ) رضي الله عنه.

ترجمه الإمام الذهبيُّ في النبلاء (20: 439) فقال: «الشَّيْخُ الإِمَامُ العَالِمُ، الزَّاهِدُ العَارِفُ القُدْوَةُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، عَلَمُ الأَوْلِيَاءِ، مُحْيِي الدِّينِ، أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُالقَادِرِ بنُ أَبِي صَالِحٍ - واسمُه عَبْدِ اللهِ - بنِ جَنكِي دوستْ الجِيْلِيُّ الحَنْبَلِيُّ، شَيْخُ بَغْدَادَ».

ونقل عن الإمام موفّق الدين بنِ قدامةَ المقدسيّ في موضع آخر من الكتاب (20: 442) قوله: «لَمْ أَسْمَعْ عَنْ أَحَدٍ يُحْكَى عَنْهُ مِنَ الكَرَامَاتِ؛ أَكْثَرَ مِمَّا يُحَكَى عَنْهُ، وَلاَ رَأَيْتُ أَحَداً يُعَظِّمُهُ النَّاسُ لِلدِّينِ أَكْثَرَ مِنْهُ».

وقال الذهبيّ أيضاً (20: 443): «قَالَ شَيْخُنَا الحَافِظُ أَبُو الحُسَيْنِ عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدٍ «اليونينيّ الحنبليُّ»: سَمِعْتُ الشَّيْخَ عَبْدَالعَزِيْزِ بنَ عَبْدِالسَّلاَمِ الفَقِيْهَ الشَّافِعِيَّ يَقُوْلُ:

«مَا نُقِلَتْ إِلَيْنَا كَرَامَاتُ أَحَدٍ بِالتَّوَاتُرِ، إِلاَّ الشَّيْخُ عَبْدُالقَادِرِ».

فَقِيْلَ لَهُ: هَذَا مَعَ اعْتِقَادِهِ: فَكَيْفَ هَذَا؟

فَقَالَ: لاَزِمُ المَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ!

قالَ الذهبيُّ: يُشِيْرُ إِلَى إِثبَاتِهِ صِفَةَ العُلُوِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ الحَنَابِلَةِ فِي ذَلِكَ مَعْلُوْمٌ، يَمشُوْنَ خَلْفَ مَا ثَبَتَ عَنْ إِمَامِهِم «أحمدَ ابنِ حنبلٍ» رَحِمَهُ اللهُ، إِلاَّ مَنْ شذَّ مِنْهُم، وَتَوَسَّعَ فِي العِبَارَةِ».

وقال الذهبيُّ أيضاً (20: 446): «قالَ الشيخُ عبدالقادر: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ هَمَذَانَ، يُقَالَ لَهُ: يُوْسُفُ بنُ أيّوبَ الهَمَذَانِيُّ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّهُ القُطْبُ، نَزَلَ فِي رِباطٍ، فَمشيتُ إِلَيْهِ، فَلَمْ أَرَهُ، وَقِيْلَ لِي: هُوَ فِي السِّرْدَابِ [السردابُ: غرفةٌ تحت الأرض، يتّخذها الصوفيّة للخلوةِ والعبادة].

فَنَزَلْتُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي؛ قَامَ وَأَجلسنِي، وَذَكَرَ لِي جَمِيْعَ أَحْوَالِي، وَحلَّ لِي المُشْكِلَ عَلَيَّ.

 ثُمَّ قَالَ لِي: تَكَلَّمْ عَلَى النَّاسِ!

فَقُلْتُ: يَا سيِّدِي، أَنَا رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ قُحٌّ أَخرسُ، أَتكلَّمُ عَلَى فُصَحَاءِ بَغْدَادَ؟!

فَقَالَ لِي: أَنْتَ حَفِظتَ الفِقْهَ وَأُصُوْلَهُ وَالخلاَفَ، وَالنَّحْوَ وَاللُّغَةَ، وَتَفسيرَ القُرْآنِ، لاَ يَصلُحُ لَكَ أَنْ تَتكلَّمَ؟

 اصعَدْ عَلَى الكُرْسِيِّ وَتَكلَّمْ، فَإِنِّي أَرَى فِيكَ عِذْقاً، سيصِيْرُ نَخْلَةً».

توفي رضي الله عنه عام (561 هـ) انتهى المقصودُ من كلام الذهبيِّ.

كان أهلي يقولون: جدّنا كنعان عندما هاجرَ من الموصلِ إلى حماةَ؛ تزوّج اثنتين من ذريّة الشيخ عبدالقادر الجيلانيّ، إحداهما من ذريّة الشيخ عبدالرزّاق، والأخرى من ذريّة الشيخ عبدالعزيز، رضي الله عنهم.

ثمّ قرأت منشوراً لأحد الأشراف المُسلّميّة المصريين قال فيه: إنّ جدّنا أبا سليم العراقي رضي الله عنه تزوّج أختَ الشيخ عبدالقادر، أو بنتَه - نسيَ عداب - وذكر صاحبُ المنشور أكثرَ من مصاهرةٍ قديمةٍ بيننا وبين السادة الجيلانيّة.

وفي زماننا هذا؛ أولادُ شقيقتي من آل الزعبيّ الجيلانيّة في مدينة حماة، وكنّتي زوجةُ ولدي الدكتور محمّد بن عداب جيلانيّة، وزوجة ابن أختي جيلانيّة أيضاً.

وهذا شرفٌ كبيرٌ، نعتزّ به قديماً وحديثاً، والحمدُ لله على فضله وإحسانِه!

كانت علاقتي في بغدادَ حميمةً للغايةِ مع ثلاثةٍ من أولياء بغداد، هم الإمام أبو حنيفةَ (ت: 150 هـ) والإمام موسى الكاظم (ت: 181 هـ) والإمام عبدالقادر الجيلانيّ (ت: 561 هـ) رضي الله عنهم.

وكنت أزورُهم ثلاثتَهم في يومٍ واحدٍ، وكان شيوخي الصوفيّةُ ينهونَني عن ذلك، ويقولون: يُكتفى بزيارة وليّ واحدٍ في اليوم الواحد، حتى لا تتداخَل أنوارُ وأحوالُ وأسرارُ الأولياء بعضها مع بعض، فتَتعَب!

وكانت فلسفتي أنّني أستحيي أن أقدّم واحداً منهم، فأزورَه دون الآخرَين!

وإذْ إنّ صاحب محاضرة الأمسِ، نفى جميعَ الكراماتِ عن سيّدنا موسى الكاظم وسيّدنا عبدالقادر الجيلاني، وقال: هي روايات، مَن يقول: إنها صحيحة، مَن رآها، مَن شاهدها؟

فسأختار أيسَر ثلاثِ كراماتٍ، شهدتها بنفسي، والله شاهدي وناظري ومعيني!

- الكرامةُ الأولى: كنّا جمهرةً كبيرةً في تِكيةِ «زاويةِ» شيخنا «حاتم بن كاظم الدليميّ» الرفاعيّ، حفظه الله تعالى، في حارةِ الوشّاشِ ببغدادِ، وكان بيننا عددٌ يسيرٌ من المنكرين للتصوّف، والمتشكّكين ببعض مظاهره!

فأحسست بضيقٍ شديدٍ، كدتُ من بعده أنْ أوبّخ بعضَ هؤلاءِ الذين أحسست بوجودهم!

فتعجّل شيخُنا حاتم، وقال: أنا ذاهب إلى زيارةِ جدّنا «أبو صالح» عبدالقادر، مَن يصحبني؟

قامت جماعةٌ ممّن كان موجوداً في التِكيةِ، وانطلقنا إلى مشهدَ الشيخ عبدالقادر الجيلانيّ، ومعنا اثنانِ أو ثلاثةٌ من أولئك المنكرين، وكأنهم أرادوا أن يرصدوا مخالفاتٍ أكثرَ لما يعرفون!

دخلنا إلى حيث مرقد سيّدي عبدالقادر، وأدّينا مراسمَ الزيارةِ بأدبٍ جمّ!

في أواخر الزيارةِ فاحَتْ رائحةٌ زاكيةٌ، ليست هي رائحة الخشبِ الذي يطيّبه خُدّامُ المشهدِ كلَّ يومٍ بيقين!

قال شيخنا حاتم: هل شممتم شيئاً؟ لم أردّ أنا، وقد كانت دموعي تذرف من سعادتي!

فقال بعضُ الحاضرين: نعم ما شاء الله، روائح من الجنّة!

التفتَ الشيخ حاتم إلى المنكرين، وقال لكلّ واحدٍ منهم: هل شممت شيئاً؟

أجابوا جميعهم بنعم، وجميعهم أقرَّ بأنّ هذه الرائحة ليست رائحة الخشبِ التي شممناها أوّل دخولنا إلى غرفة المرقد!

استغربتُ أنا من كلامِ الشيخ حاتم، ولم أفهم مقصده!

انطلقنا راجعين إلى التكية، وكان الشيخ حاتم يقيم مجلسَ ذكر جماعيّ في مثل تلك الليلة!

في أثناء مجلس الذكر «حضرة الذكر» فاحت روائح عطريّةٌ، ونزلت سكينةٌ مؤنسةٌ غامرةٌ جدّاً.

فصرخ أحدُ الدراويش: حضر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وحضر الإمام الرفاعي وفلانٌ وفلانٌ من الأولياء!

عَقبَ انتهائنا من مجلس الذكرِ؛ جلسنا نتملّى بآثار الذكر الحميدةِ على أرواحنا وقلوبنا.

فسألني أحدُ هؤلاء المنكرين قال: يا شيخ عداب، أنت عالمٌ، كيف تَسكتُ على مثل هذه البدَع، كيف يحضر رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مجلسنا هذا، وقد توفي منذ ألفٍ وأربع مئة عام؟

قلتُ له: أنا لم أقلْ هذا، وليس لديّ جوابٌ، لم يبُلغْ مقامي أن أشاهدَ رسولَ الله عندما تحضرُ روحانيّته الشريفةُ، أو عندما تُغادِرْ، أترك الجواب إلى شيخنا حاتم!

أطرق الشيخ حاتمٌ منزعجاً جدّاً من هؤلاء؛ كأنّهم يريدون أن يفسدوا علينا فرحتنا وسعادتنا وأُنسنا بذكر الله تبارك وتعالى، ثمّ التفتَ إلى السائلِ، فقال له: أنت تقول: إنّ روحانيّةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم لا تحضر مجالس الذكر؟ قال: نعم بالتأكيد!

قال له الشيخ حاتم: لن أطيلَ معك الجدال، هل تتذكّر الرائحةَ التي شممناها عند سيدنا عبدالقادر؟ قال: نعم بالتأكيد!

قال له الشيخ: هل هي رائحةُ الخشبِ، أو غيرُها؟ قال: بل غيرها!

قال: كيف ظهرت هذه الرائحة من متوفى منذ ألف سنةٍ؟ قال: لا أدري!

أعاد الشيخ عليه الكلام: أنت متأكّد بأنّ الرائحة التي فاحت علينا ليست رائحة الخشب، ولو فاحت مرّةً ثانيةً تميّزها؟ قال: نعم!

قال شيخنا: اقرؤوا الفاتحة إلى روح شيخنا عبدالقادر أبو صالح، ثم لا تتكلّموا بشيءٍ بعد ذلك أبداً!

قرأنا الفاتحةَ، وتابعتُ أنا قراءةَ آيةِ الكرسي وسوَرَ الصمد والمعوّذتينِ، فبدأت الروائحُ الزاكيةُ تفوح، حتى غمرت المجلسَ بأشدَّ مما كانت عند مرقدِ الشيخ عبدالقادر.

سأل الشيخ حاتم المنكرينِ: هل تشمّون رائحةً زاكيةً؟ قالوا: نعم نشمّ بوضوح!

قال: أنتم متأكّدون غير متوهّمين؟ قالوا: بالتأكيد لسنا متوهّمين.

قال: هل حضرت روحانيّة الشيخ عبدالقادر أو لم تحضر؟ قالا: لا ندري!

قال لهما: عليكما تفسيرُ هذه الظاهرةِ إذنْ، كيف يمكن أن تفوح هذه الرائحةُ الزاكيةُ التي ما تزال حتى الآن، من دون أن يحضر صاحبُها.

هل سمعتموني قرأتُ سوى القرآن الكريم؟ لا!

هل تحركتُ من مكاني؟ لا!

هل نثرَ أحدٌ من الحاضرين عطوراً في التكية؟ لا!

هل نثر الجنُّ هذه الروائحَ مثلاً؟ لا ندري!

إذنْ ما تفسير الذي حدثَ هذا؟ قالا: لا ندري!

قال الشيخ: دَرَيتُم أم لم تدْروا، نحن نقول: روحانيةُ سيدنا وشيخنا أبو صالح حضرت معنا، ومثل ذلك تحضرُ روحانيّةُ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وغيرِه من الأنبياء والأولياء والصالحين، وتفسيرُ ذلك عندنا أنّ أرواحَ الصالحين سيّاحةٌ ليست مقيمةً في حدود المرقد، أو كلاماً كهذا.

أعاد أحدهم السؤال إليّ: كيف يحصل هذا، أنا لا أفهم؟!

قلت له: ما دمتَ شاهدتُ بعينيك وسمعت بأذنيك وشممت بأنفك؛ فأنت بين خيارَين:

بين أن تُسلّم بأنّ هذه كرامةٌ لجدّنا عبدالقادر، أو لمجلس ذكر الله تعالى هذا.

وبين أن تأتينا بتفسيرٍ مقنعٍ لنا، فليس لديَّ تفسيرٌ آخر.

وأنصحُك بقراءةِ كتاب «الروح» للشيخ أبي بكرِ ابن قيّم الجوزيّة، مرّتين أو ثلاثَ مرّات!

- الكرامةُ الثانيةُ: زُرتُ سيّدي عبدالقادر وحدي، ثمّ صعدت فزرت سيدي وشيخي عبدالكريم بيارة، ثم زرت سيدي وشيخي محمود النعيميّ، رضي الله عنهم.

عندما أُذّن لصلاة العصر؛ نزلتُ من لدن غرفة سيدي الشيخ عبدالكريم، وأنا أقول في نفسي: مَشايخُنا يقولون: إذا كان الوليُّ راضياً عنك، فيرفع شأنَك في دائرةِ سلطانه، وأنا منذ سنواتٍ أزور جدّي عبدالقادر، وما زرتُه مرّةً إلّا أكرمني الله تعالى بشيءٍ خاصٍّ!

لكنْ لم يحدُثْ أبداً أنْ قدّموني لأصلّي بهم إحدى الصلواتِ، على كثرةِ ما أصلّي في هذا المسجد المُبارك؟

قرأتُ الفاتحةَ إلى روح سيّدي عبدالقادر، وردّدت في سرّي مؤنّباً نفسي على هذا الخاطر:

ما لذّةُ العيشِ إلّا صحبةُ الفقرا

هم السلاطين والسادات والأمرا

فاصْحَبْهمُ وتأدّبْ في مجالسهم

وخلِّ نفسَكَ مهما قدّموك ورا.

دَخلتُ المسجدَ من بابِه الرئيسيّ الكبير، وما أنْ وضعتُ رجلي اليمنى في حرمِ المسجد، حتى صاحَ أحدُ الحاضرين - ولا أدري مَن هو - صلوات على محمّدٍ وآل محمّد!

وضجّ حرم المسجدِ بالصلاة على الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

التفتَ إمامُ المسجد فرآني، وقد رآني مرّاتٍ لا تحصى قبلَ ذلك، فهرع هو وعددٌ من المشايخ الموجودين إليّ، وقبّل إمام الحضرةِ يدي، وصحِبني إلى الصفّ الأوّل وراءَ المحراب، ووقف بجانبي، فصلّيت سنّة صلاةِ العصرِ القبليّةَ، ثمّ همس في أذني: سيّدي صلّوا بنا ونريد كلمةً بعد الصلاة!

صلّيت بهم فريضةَ العصر، وتلونا التسبيحات، ثمّ ألقيت كلمةً وجيزةً، ظهر عليّ تأثرّي الشديد، وحمدتُ لسيّدي عبدالقادر صاحبِ المكان، وأثنيت على إمام الحضرة القادريّة فقال: بل نحن الذين نعتذر يا سيّدي، كيف غفلنا عن جنابكم  طيلةَ هذه المدّة، لكنها أوامرُ سيّدنا عبدالقادر.

ذهبنا بعد ذلك إلى سيّدي عبدالقادر، وسلّمتُ عليه، واعتذرتُ منه، واستغفرتُ اللهَ تعالى من هذه الخاطرةِ، وتبتُ إلى الله تعالى، ثم رفضتُ أن أتقدّم للصلاةِ في مسجد سيدي عبدالقادرِ، إلى أن غادرتُ العراق!

- الكرامةُ الثالثةُ: كانت مناقشةُ أطروحتي للدكتوراه بتاريخ (3/ 12/ 1995م) وكان جرى حولي وحولها لغطٌ كثير.

قبل المناقشةِ بيومٍ؛ زرتُ سيّدي عبدالقادر، فكانت الأحوالُ عنده مؤصدةً، وزرت سيّدي عبدالكريم بيارة، فلم يتبسّم بوجهي أبداً.

جلست صامتاً خمس دقائق تقريباً، فضحك الشيخُ وتكلّم كلاماً لم أفهمه أبداً لانخفاض صوته ولسرعته أيضاً، لكنني فهمت جملةً واحدةً هي: «يُكرمونهم ويدلّلونهم ويحذّرونهم، فلا يتّعظون».

استأذنتُ وزرت سيّدي محمود النعيميّ، فقال لي: ماذا قال لك جدّك «أبو حمرا»؟

سكتُّ ولم أُجِبْ!

طردني سيّدي محمود بلطفٍ قائلاً: لا تتأخرْ، لديك عملٌ شاقّ غداً، خلّ ثقتك بالله تعالى قويّة، وخلّ ثقتك بنفسك قويّة، الأمور بالمقادير!

في اليوم الثاني في حدود التاسعة صباحاً؛ كانت القيامةُ قائمةً في جامعة بغداد!

قيل: إنّ عدد الذين حضروا مناقشتي أكثرَ من ستّة آلاف إنسان، وحضرها (500) من رجال الأمن!

واستمرّت المناقشة من الساعة العاشرة صباحاً حتى أذان العشاء، ورفضت اللجنة الناصبيّة الجاهلةُ الأطروحةَ!

كانت تلك الليلةُ عصيبةً جدّاً، لكنني كنت هادئاً جدّاً، وكأنّ زوجتي الصالحة «أمّ سعيد» أحسّتْ قلبيّا بما حدثَ، فلم تصنع أيَّ ضيافةٍ: لا طعام ولا شراب ولا قهوة ولا شاي!

دَخل معي بيتي أحدُ الزملاءِ من عشيرة الجُبوريّ، حفظه المولى، لست أدري لم صحبني ودخل معي البيت، فكنتُ منه حذراً، ولم أتكلّم بشيءٍ!

قالت لي: أمّ سعيد: تحقّق ما أرسله أخي محمّد في رسالته، الجماعةُ اتّفقوا على رفض الرسالة منذ أربعة أشهر من أجل مصلحة الإسلام والدعوة، أسأل الله تعالى أنْ لا يوفقهم، وأن ينتقم منهم.

صليتُ الفجرَ في جامع الحيّ كالمعتاد، ورأيتُ أستاذي الدكتور «محسن عبدالحميد» معرضاً، فأعرضتُ عنه أيضاً.

عند السجدةِ الأولى؛ نزلت على عيني غشاوةٌ كثيفةٌ، وظلّت عيناي تدمعان، حتى خرجتُ من المسجدِ!

كنتُ أمشي إلى بيتي، ولا أكاد أبصرُ طريقي، حتى ظننت أنّني فقدتُ بصري!

وقفتُ جانباً، ودعوتُ الله تعالى أن لا أفقد بصري، وتابعتُ سيري!

ومِن يومها اضطررت إلى صُنعِ نظّارةٍ وإلى هذا اليوم.

في اليومِ التالي، أو الذي يليه - نسيتُ - اخترتُ وقتاً غيرَ وقتِ زيارةِ الشيخ عبدالقادر، وطلبت من الخادم أن يفتحَ لي الحجرةَ، ففتح لي وأغلقها عليّ.

عندما كنتُ أدخلُ إلى مرقد سيّدي عبدالقادر، أو غيره من أولياء الله تعالى؛ كنت أجعله خلفَ ظهري وأصلي تحيةَ المسجد.

عندما شرعتُ في الصلاة؛ أحسست بعتابٍ من جناب الشيخ عبدالقادر، وتبادر إلى ذهني أنّه يقول لي: الذي يعبدُ بوذا مثلاً، يعبده وهو في أمريكا، أو في أوربّا، فمسألة العبادةِ مسألة عقيدةٍ ونيّة، وليست في حدود أمام القبر أو خلفه!

فغيّرتُ مكاني إلى جهة رأسه الشريف، وغدوتُ محاذياً له، وغدوت أصلي هكذا على طول الخطّ بعد ذلك!

عقب انتهاء الصلاةِ؛ وقفتُ عند رأسه الشريف، فسلّمت عليه، ثم جلست في مواجهته، وتلوتُ من القرآن الكريم ما قدّره الله لي، ثمّ أغمضت عينيَّ، وعقدتُ رابطةً روحيّةً مع سيّدي عبدالقادر.

لست أدري - والذي لا إله إلّا هو - غفوتُ أم أنا يقظانُ؟

ظهر سيّدي عبدالقادر الجيلانيّ أمامَ عيني قلبي واضحاً وضوح الشمس، وما رأيتُه أوضحَ من هذه المرّة قبلَها ولا بَعدَها.

كان جالساً على طاولةٍ خشبيّة ذاتِ أربعِ أرجلٍ، مفرّغة من أسفل، وهي أنيقةٌ جدّاً ونظيفة جدّاً.

كان الشيخ يلبس ثوباً جميلاً - لا أتذكّر لونه - ويضع على رأسِه غطاءَ رأسٍ أبيضَ ليس على هيئة عِمامةٍ، إنما هو على هيئة غطاء الرأس في الحجاز الشريف.

كان جميلاً رقيقَ الملامح، يشبه أخوالنا الجيلانية من ذريّة سيّدي عبدالسلام، أكثرَ من أخوالنا الزعبيّة.

كانت لحيتُه بيضاءَ جميلةً، وليست بالطويلة.

وكان دلّى رجليه إلى أسفل الطاولةِ، وكانتا قريبتين كثيراً من وجهي، لكنْ لم يخطر لي في أثناء هذه المشاهدةِ أنْ أقبّلهما.

عاتبتُه بأدبٍ وحياءٍ وقلت له:

لمَ صنعتُم بي هذا يا سيّدي؟

هل أنا سيّءٌ إلى هذا الحدِّ، حتى سلّطتم عليَّ هؤلاء السفهاء الجهّال؟

هل أنا مذنبٍ بقدر هذه الفضيحةِ المدوّية، التي ملأت العراق؟

لستُ والله كذلك يا سيّدي!

صحيحٌ أنّ سيّدي وجدّي عزّ الدين أبو حمرا، أمرني أنْ لا أتحدّث بما أشاهدُ وأرى، لكنّ عقوبتكم هذه قاتلة مدمّرة، ورحتُ أبكي!

ألقى عليّ محاضرةً طويلةً جدّاً، وكان بين الجملةِ والأخرى يردّد: يا ولدي كذا وكذا، يا ابني كذا وكذا، ولم أحفظ ممّا قاله سوى الجملتين الأخيرتين:

يا ولدي: (وما تشاؤون إلّا أن يشاءَ الله) (لكلّ أجلٍ كتاب) وكأنّه قال لي: (لا تحزنْ ستحصلُ على الدكتوراه بتقدير امتياز، أو قال: ممتاز).

بعد هذا الكلام قال لي: انتهت الزيارة يا ولدي، أو قال: الله معك يا ولدي!

فتحت عينيَّ، وقمتُ، فوجدتُ خادم الحجرة يَفتح الباب من دون أن أناديه!

تبسّم في وجهي، وأراد أن يقبّل يدي، فمنعته، فقال: هنيئاً لك عنايةَ سيّدي عبدالقادر.

ريثما وصلتُ إلى موضع حذائي؛ قلتُ في نفسي: سأزور سيّدي محمود النعيميّ، وأخبره بما حصلَ معي الآن، إذ هو مرشدي الأعلى في العراق، كما أُمرتُ في رؤيا سابقة!

كانت غرفته مقابلةً للباب الشرقيّ الأوّل من جامع سيدي عبدالقادر، فما أنْ انتعلتُ حذائيّ والتفتّ إلى أعلى حيث غرفتُه، حتى وجدتُه يُشيرُ إليّ بيده اليمنى ويضحك كثيراً.

صعدتُ إليه، وكان من عادته أن يعانقني، فأشار إليّ بيده وقال: وقّف وقّف، قبل السلام أقول لك: ماذا قال لك جدّك عبدالقادر؟

(وما تشاؤون إلّا أن يشاء الله) (لكلّ أجلٍ كتاب) ستأخذ درجة الدكتوراه بامتياز!

فلا تحزن، وكلاماً آخر.

جلسنا بعد ذلك، وأفهمني أنّ للدلالِ حدوداً، وعليَّ أنْ لا أحدّثْ بأيّ شيءٍ مما يفتح الله به عليّ، أو يطلعني عليه من ملكوته مستقبلاً!

لكنْ هيهاتَ هيهات، سبق السيف العذَل!

فقد كان جدي عز الدين أبو حمرا لا يفارقني في ليلٍ ولا نهارٍ، ولا والله ما رأيتُه منذ ذلك التاريخ (12/ 1995) حتى هذا اليوم!

نعم أحسُّ أحياناً أنّه قريبٌ مني، لكنني حُرمتُ رؤيته الدائمةَ وتسديدَه المباشر!

هذه ثلاثُ كراماتٍ لسيّدي الشيخ عبدالقادر الجيلاني، واللهُ هو الشاهدُ الرقيب الحسيب!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

  مَسائِلُ عَقَديّةٌ (11):

كَراماتُ المؤمنين بين النَفْيِ والإثبات!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

استمعتُ إلى أحدِ الإخوةِ المستنيرينَ من الشيعةِ الإماميّةِ، ينفي أن يكون للرسولِ محمّد صلّى الله عليه وآله وسلمّ شيءٌ من خوارقِ العاداتِ، التي يدعوها المثبتون «المعجزات» وقصرَ معجزاتِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم على «القرآن الكريم».

مثلما أنكرَ أن تكونَ الكراماتُ تجري على أيدي عبادِ الله الصالحين، فضلاً عن جريانِها على أيدي عوامِّ المؤمنين.

وليس هو أوَّلَ من نفى المعجزةَ عن الرسول، والكرامةَ عن الأولياء والصالحين وعامّةِ المسلمين.

فقد أنكر أكثرُ المعتزلةِ والقدَريّةِ جريانَ الكرامةِ على أيدي المؤمنين، ظنّاً منهم أنّ إثباتَ الكرامةِ للوليّ؛ قدحٌ في معجزة النبيّ، لمشاركتها إيّاها في خرق العادة.

وأنا في هذه المحاضرةِ لن أتحدّثَ عن معجزاتِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم الماديّةِ الواقعيّةِ؛ لأنّ ذلك يتطلّبُ إثباتَ تواترِ تلك المعجزاتِ، إذْ إنّ هذا الأخَ وأمثالَه لا يثبت؛ لأنّ عقولهم لا تتقبّله، وأمزجتهم تدفعه، من مثل حديث:

(من كنت مولاه؛ فعليٌّ مولاه).

وحديث (أنت مني بمنزلة هارون من موسى).

وحديث (يحبّ الله ورسوله).

وإثباتُ تواترِ معجزات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وتواتر أمثال هذه الأحاديثِ في فضل الإمام عليٍّ عليه السلام؛ لا يتمُّ بجرّةِ قلمٍ، أو جملةٍ قالها إنسان!

بل إنّ إثبات تواتر حديثٍ واحدٍ، قد  يحتاج إلى عشر صفحاتٍ من الكتابةِ العلميّة، في أدنى التقديرات!

إنّما سأذكرُ أنواعَ الكراماتِ  التي يمكن جَريانُها على أيدي بعض المسلمين، ثمّ أروي لك أخي الفاضل الكريم بعضَ ما شاهدتُه بعينيّ وسمعتُه بأذنيَّ، ممّا لا يسوغ لمسلمٍ إنكارَه، إلّا إذا كنتُ أنا ومن حضر معي نكذبُ على الله تعالى وعلى المسلمين.

مفهوم الكرامة: هي تعني جريانُ أمرٍ خارقٍ للعادةِ على يد بعض عبادِ الله تعالى المؤمنين بقدرته تبارك وتعالى.

أنواع الكرامات:

النوع الأوّل: جوازُ خرق العادةِ في حقّ الوليّ، باختياره واستدعائه، كأن يقول العبد المؤمن: يا جبلُ اُدنُ مني، أو يا سحابُ ابتعِدْ عني.

النوع الثاني: أن تجري الكرامةُ على يدِ الوليِّ من دون استدعائِه واختياره، إنّما بإكرامِ الله تعالى له.

النوع الثالث: الكَشفُ الروحيّ والفراسة الصادقة (رؤيةُ اليقظة)!

النوع الرابع: إلهامُ الله تعالى بعضَ عبادِه شيئاً من الأمورِ الخارجةِ عن المعتاد.

النوع الخامس: الرؤى الصادقة في النوم.

النوع السادس: أن يدعوَ العبدُ الصالحُ، فيستجيب الله تعالى له.

وجميع هذه الأنواع من الكراماتِ؛ تجري على أيدي بعضِ عبادِ الله المؤمنين بإرادةِ الله تعالى وتوفيقه وعونِه، وليس بقدرةٍ ذاتيّةٍ للوليِّ أو للمسلم!

ولا يرتابُ مسلمٌ في أنّ جميعَ هذه الأنواع من الكرامات؛ جرت على أيدي بعض رسلِ الله تعالى وأنبيائه، وورد ذِكرُ كثيرٍ منها في القرآن الكريم.

وقبلَ سردِ عددٍ من الكراماتِ التي أجراها الله تعالى على أيدي بعض عبادِه الصالحين؛ أنبّه إلى أمرٍ مهمٍّ جدّاً، وهو أنّ منكري الكراماتِ محرومون مِن جريانِ أيّ كرامةٍ على أيديهم؛ إذْ لو أجرى الله تعالى على أيديهم بعضَ الكراماتِ؛ لما أنكروا الكرامات قطعاً، إنّما هم ينكرون ما يجهلون، أو ما هم منه محرومون!

وإذْ هو لا يجري على أيديهم؛ فلا يمكن أن يجري على أيدي غيرهم، وكأنّهم صفوةُ عبادِ الله المكرمين.

قال الله تعالى فيمن يشبه هؤلاء: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا: لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ؛ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) والمُشابهةُ من وجهٍ؛ لا تعني التكفيرَ.

يستوي في ذلك المتقدّمون والمتوسطون والمتأخّرون والمعاصرون، ومنهم أخونا صاحب محاضرةِ الأمسِ على «اليوتيوب».

أوّلاً: موسى الكاظم عليه السلام؛ باب الحوائج:

أنكر المحاضرُ المقصودُ بكلامي دعوى الشيعةِ وغيرهم من أنّ الإمام موسى بنَ جعفرٍ باب الحوائج، وطوّل في ردّ ذلك.

وسأذكر ثلاثَ قصص شاهدتها بعينيّ وسمعتها بأذني، وشهدها و سمعها معي كثيرون:

- القصّة الأولى: في بعضِ الأحيانِ يُصابُ أحدنا بمغصٍ أو إسهالٍ، فيتأخّر بإكمالِ وضوئه، ممّا يسبب فواتَ صلاة الجماعةِ في المسجد عليه.

شرعتُ في صلاةِ العصرِ بمنزلي في حيّ الداووديّ ببغداد الحبيبة المحروسة، وراح أحدهم يقرع باب المنزلِ وجرسَه بتكرارٍ مزعج، وعدابٌ بطبيعته حادُّ المزاج، ربما قطع عليه صلاتَه مصلٍّ تنحنح أو سعل بجانبه!

أيقنتُ أنني لن أستطيعُ إكمال صلاتي، ولا صلاةَ ركعتين لأخرج من الصلاةِ بأدب!

قطعتُ صلاتي، وهرعت لأفتح الباب، وأنا في غاية الانزعاج!

وجدتُ طارقَ البابِ بهذه الطريقةِ المؤذيةِ، أخي وصديقي «أبا حمزةَ الحسنَ بن محمّد ديب عصير الشمّريّ الحمويّ الصوفيّ الشاذليّ» رحمه الله تعالى!

استقبلته مندهشاً، ولم أستطع إخفاء انزعاجي، فقلت له: يا رجل، مثلك يقرع الباب بهذه الطريقة، وأنت مستمع للمشايخ وصوفيّ مؤدّب!

قال: شيخي الله يخلّيك، اتركك من العتابِ الآن (الذي يأكل العصي؛ ليس كمن يعدّها) أنا مَلهوفٌ، والملهوفُ معذور!

البس ثيابك على السريع رجاءً، وأنا أنتظرك هنا!

قدّرتُ موقفَه، وقلت له: فاتتني صلاة العصر في المسجد، وكنت أصليّ، فقطعت عليّ صلاتي، ادخل حتى أصلي وألبس، ثمّ أنا حاضر لكلّ ما تريد!

حاول أن يلزمني بتأجيل الصلاةِ إلى حيث نحن ذاهبان، فرفضت منزعجاً أيضاً.   

كنتُ قد حضّرتُ الشايَ؛ لأتناوله بعد الصلاة، فقدّمته إليه وشرعت في صلاتي!

شرب ما شاء من الشاي، ريثما قضيت صلاتي، وما أنْ سلّمتُ حتى وقف وقال: هيّا شيخي البس رجاءً!

قلت له: لن ألبس، ولن أخرج معك حتى أشرب الشايَ، وحتى تخبرني بسبب لهفتك الطارئة التي تركتك لا تجيد التصرّفَ أبداً!

أنسيتَ أنّك خاطبتني بــ «شيخي» خمس مراتٍ حتى الآن، هكذا يكون تعامل المريدُ الصوفيُّ مع الشيخ؟

الشيخُ يأمر، ولا يكون مأموراً أبداً.

سأشرب الشاي، ريثما تقصّ عليّ قصّتك، ثم ألبس ثوبي بعشر ثوانٍ وأخرج معك!

قال: أنت تعرف «شيخي» أنني أشتغل مع «الإخوان المسلمين» السوريين، وقد وضعوا تحت تصرّفي سيارة تويوتّا بنتُ هذه السنة (1992) أو التي قبلها - عدابٌ نسي - وقيمتُها هائلة، وقد أسمعوني كلاماً قاسياً، ولم أعُدْ أحتمل.

قلت له: أنا أدفع لك قيمةَ السيارةِ، لا تهتمَّ ولا تحزن، إذا كان إخوانُك غيرَ مقدّرينَ أنّ هذا مصابٌ من قدر الله تعالى الحتميّ، الذي لا يدَ لك به!

هل هذا ما تريدُه مني؟

قال: لا لا، السيارة ثمنها غالٍ جدّاً، لا أظنك تمتلك ثمنها أصلاً!

أريدُك أن تلبس ثيابك رجاءً، وتذهب معي إلى جدّك «موسى الكاظم»!

ضحكتُ من قلبي حقّا، وقلت له: هو جدي «موسى الكاظم» صاحب خبرةٍ بمعرفة أماكن السياراتِ المسروقة؟

لماذا لا تذهب إليه أنتَ، وتدعو الله تعالى عنده، فأنا والله أشهدُ أنك صوفيٌّ أكثر مني، وأنّ لسانك أعفّ من لساني!

قال بحرقةٍ: شيخي أرجوك، هذا جدّك وأنت نسيبٌ، والحسيبُ غير النسيب!

لبستُ ثيابي، وخرجت معه من بيتي، وأعطيته مفتاح سيارتي ليقودها بنا، وقلت له:

خُذنا إلى جدّي «موسى» عليه السلام، لكنْ حاولْ أن لا أسمعَ تنفّسَكَ حتى نخرجَ من عنده، لديّ وردٌ أحبُّ إكمالَه كلّه قبل الدخول على جدي «موسى» فإذا أشغلتني بالكلام؛ لا يكتمِلْ، فيكون ذنبك على جنبك!

التزم الرجل فعلاً، وقرأت وردي كاملاً، وأنجزته عندما شاهدتُ مرقدَ الإمام موسى عليه السلام.

صلّينا ركعتين تحيّة المسجد، فنحن شافعيّة نجوّز ذلك، ثمّ أجلسته عند الجدار، وأعطيتُه مصحفاً، ليقرأ سور (يس والدخان والواقعة) سرّاً، ثمّ يهب ثوابها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى صالحي آل البيت، وإلى موسى الكاظم.

جلست أنا مقابل رأس جدي الإمام موسى، وقمتُ بمتطلّبات «الرابطةِ النقشبنديّة» ثم رحت أستغفر الله تعالى، وأسبّحه، وأصلّي على الرسول، حتى أحسست بشيءٍ ما في قلبي!

فخاطبت جدي موسى قائلاً: سيّدي وحبيبي نحن نعتقد أنّك عند الله تعالى شهيدُ حيٌّ ترزق، وحين نخاطبك لا ندعو ميتاً ولا بعيداً، وإنّ الناسَ يظنّون بنا خيراً يا جدّي، فأرجوك أن تشفع لنا عند الله تبارك وتعالى، عساه يغيث هذا العبدَ الصالحَ الفقيرَ الملهوفَ!

وكلاماً آخر من هذا الجنس.

ثمّ انتظرتُ الجوابَ، فجاءني الجوابُ في قلبي أنّ السيارةَ سيجدونها يومَ الثلاثاء، ولا أتذكّر إن قال: إن شاء الله تعالى، فقلت أنا: إن شاء الله تعالى.

وقال: انتهت الزيارة.   

قمتُ من مكاني، وقبّلتُ جهةَ رأسِه، وخرجت!

تبعني الأخ أبو حمزة ، وشهادتي أنّه أصفى مني وأتقى، وقال: بشّرني شيخي ما ذا قال لك جدّك؟

لأنني لم أكنْ يومَها واثقاً من صفاءِ قلبي، ولا من نقاءِ صدري، ولا من طهارة لساني عن أذى بعض الناس؛ فلم أتجرّأ أن أقول له: قال لي كذا (والله الشاهد)!

قلت له: يا أبا حمزة، ماذا قال لي؟

دَعَوْنا أنا وإيّاك اللهَ تعالى، ورجوناه بتقوى وإيمان عبده موسى أن يفرّج كربَك، وييسر أمرك!

قال: شيخي لا تخفِ عني، قلبي مثل النار!

لم أتجرّأ حقّاً أن أقول له، لا أنّي تورّعت أن أقولَ، بمنتهى الأمانة!

يومَ الثلاثاء، عقب صلاة المغرب؛ زارني أبو حمزة ضاحكاً مستبشراً ، وقبلَ أن يُسلّم عليَّ أشار إليّ بمفاتيح السيارة!

سعدتُ بهذا، وباركت له، فقال لي: اسمع هذه الكرامةَ النادرةَ الوقوع!

«شرطةُ بغداد وجدت السيارةَ في قريةِ «كاظم» وكان اسمُ مختار القرية «كاظم» والشرطيّ الذي سلّمني مفاتيحها «كاظم» والحرامي اسمه «كاظم»!

تعكّرتُ قليلاً وقلت له: ليتك لم تقل: اسم الحرامي «كاظم»!

كان عندي مجلسٌ لتعليم القرآن الكريم، يمتدّ من بعد صلاة المغربِ، إلى ما بعد منتصف الليل!

فقلتُ له: «قصَّ هذه القصّةَ على هذا الجمعِ، فكثيرٌ منهم سلفيّون، لعلّهم يؤمنون بكراماتِ أهل البيت، ويحبّون الإمام موسى بن جعفر» عليهما السلام!

قصَّ عليهما القصّةَ، ولكنّ بعضهم كصاحب محاضرة اليوم؛ لم يصدّق أبا حمزة فيما قاله!

فموسى الكاظم إذنْ بابٌ من أبوابِ الله تعالى لقضاء حوائجهم!

- القصة الثانية: اشتدَّتْ وطأةُ الحصار على أهل العراق شدّةً هائلةً، حتى إنّ بعضَ أساتذةِ الجامعاتِ باعوا مكتباتهم، وبعضهم باعوا أبواب بيوتهم، كما حدّثوني!

وانتشرت السرقة والنهب في بعض مناطق بغداد.

كنتُ إماماً وخطيباً ومدرّساً في «جامع المثنّى» بحيِّ القاهرة، وكنتُ أبقى مع الناس بعدَ صلاةِ الجمعةِ في المسجد حتى صلاةِ العصرِ، أفتيهم، وأجيب على أسئلتهم، ثمّ أودّعهم وأنصرف!

خرجنا معاً من المسجدِ قرابةَ مئةِ مصلٍّ، وإذا بأخٍ سوريٍّ سلَفيٍّ من حلب، يستوقفني أمام الناس ويصرخ: شيخي أنتم الصوفية تقولون: «المكان من المكين» وقد سُرقت سيارتي من أمامِ مسجدك في أثناءِ صلاة الجمعة؟

قلت له: أين وضعتها؟ فأشار إلى المكان الذي وضعها فيه!

قلت له: سترجع إليك سيّارتك إن شاء الله تعالى!

قال باستخفاف: لا يا سيدي ما حترجع، العام الماضي سرقت لي سيارة أيضاً ولم ترجع!

قلت له: سرقت من هنا؟ قال: لا!

تألمتُ من كلامه، وغلا الدم في رأسي، فقلت لمن حولي: أين قبرُ جدّي موسى الكاظم؟

فأشار عديدون متّفقينَ إلى جهته!

رفعت عمامتي عن رأسي، وقلت بالحرف: «جدي موسى، ترى ما أنت جدّي، إذا لم ترجعْ سيارةُ هذا الحلبيّ السلفيّ» وانصرفنا!

عقبَ انصرافنا؛ استحييت على نفسي كثيراً، ولُمتها على هذا التصرّف القبيح، ورحت أقول لنفسي: من أنت حتى تقول هذا لإمامٍ من أئمة المسلمين، ووليٍّ من أولياء الله تعالى؟!

ظللتُ أستغفر اللهَ تعالى وأتوبُ إليه، حتى وصلتُ إلى بيتي!

ومضى الأسبوع كلّه، وأنا أقيمُ الليل، وأتلو القرآن، وأتوب عن هذه الحماقة، إلى يوم الجمعة!

صلّينا الجمعةَ، وبقينا في المسجدِ كالمعتادِ حتى صلينا العصرَ، وخرجنا من باب المسجد، فإذا الرجل الحلبيُّ السلفيّ يضحكُ أمامي!

قلت له: أراكَ ضاحكاً، بَشّرْ؟

قال: رجعتَ السيارة والحمدُ لله ربّ العالمين.

حمدتُ الله تعالى على ذلك، وقلت له: يجب أن تصبح صوفيّاً، وأن تحبَّ موسى الكاظم وتزورَه!

قال: شيخي تفضّلوا إلى غرفتكم أنت والإخوة، فقد أحضرت لكم (تحلاية).

دخلتُ إلى غرفتي وإذا هي ممتلئة بالناس، تلامذتي وغيرهم، فأزال الورق على «صينية كبيرة جدّاً» مملوءة بالبقلاوة السوريّة، ومعها دلّةٌ من القهوة السورية السمراء!

كان الحاضرون بيقين أكثر من خمسين!

والمحاضر الكريم عراقيّ، يمكنه أن يسألَ سكّان حيِّ القاهرة ببغداد، وسيجد عشراتٍ يروون له هذه القصّة، منهم عشرةٌ من طلّابي على الأقل!

- القصّة الثالثة: كان لي تلميذٌ أنباريّ اسمه «ثامر حسين حميد الفلوجي» حفظه المولى!

وكان يظنُّ بي خيراً، وربما كان يعتقدُ أنني لو سمّيتُ الله تعالى على كأس ماءٍ، فشربَه؛ فسينزل جميع حصى كليتِه وحالبِه، وأنا لست كذلك قطعاً!

ألحّ عليّ في مسألة «حصى» كليته وحالبِه، وأنّه يتأذى منه كثيراً، وأنّ جميعَ الأدويةِ لم تنفع معه!

قلت له: إذا أرشدتُك إلى علاجٍ تطبّقه وتقوم به؟ قال: لو أعطيتني سمّاً وقلت لي: هذا علاجٌ، فسأشربُه!

قلت له: المسألةُ أيسر من ذلك بكثير! ألست تؤمن بولاية جدي موسى الكاظم؟ قال: بلى!

قلت: ألستم أنتم معشرَ العراقيين تدعونه باب الحوائج؟ قال: بلى.

أرشدتُه إلى أشياءَ يقومُ بها، وسورٍ وآياتٍ يتلوها عند جدي موسى، وقلت له: سلّم لي عليه بالاسم!

جاء في اليوم التالي أو بعدَه، وطرق الباب، قُلتُ من؟ قال: ثامر!

قلت له: أنت لم تذهب إلى جدي موسى، لا ترني وجهك قبل أن تذهب إليه، ثمّ ترجع إليّ وأنا بانتظارك!

ذهب إلى مشهد الإمام موسى، وقام بما قام به، ثم رجع إليّ متعباً جدّاً، واستأذن لينام!

لم تطُلْ نومتَه، حتى استيقظ واستأذن بالذهاب إلى الحمّام.

رجع من الحمّام يحمل بيده أو بورقةٍ - نسيت - كميّةً من الحصى، إحداها تقرب من سنتمتر مربّع!

وأخبر بذلك طلّاب الدرس الخاصّ، وكانوا أكثرَ من خمسةٍ وعشرين طالباً

هذه ثلاثُ قصصٍ، من عشراتِ القصص الموسويّة الشريفة!

ولا واللهِ لن أكذبَ على الله تعالى، وأنا على أبوابِ الآخرة، وأظنّ أنّ طلابي العراقيين جميعهم يعرفون هذه القصص وغيرها.

ما هذه الحوادثُ أيها المحاضر الكريم؟ أرجو أن تتفضّل بتوصيفها، والله تعالى يشهد والملكان الموكّلان بي، وتلامذتي يشهدون أنّها وقائع حقٍّ وصدق؟

إذا كنتُ أنا ثقةً عندك؛ فمقتضى ذلك أنّ ما أحدّث به حقٌّ وصدق، ولست أنا من المخرّفين، ولا من الذين يتوهّمون، ولا من الذين يكذبون على الله تعالى، وعلى عباده.

والله المستعان.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 7 فبراير 2024

       مَسائلُ حديثيّةٌ  (70):

يقول الإمام الشافعيّ: «لم أر قوماً أشهَد بالزور من الرافضة»!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ممّا لا يحتاجُ إلى تأكيدٍ مستمرٍّ أنّ الفقير عداباً يفرّق بين الشيعة والرافضة، ويفرق بين أهل السنّة والنواصب.

استمعت قبل قليل إلى محاضرةٍ على الانترنيت، لشيخٍ رافضيّ اسمه «أحمد الجعفري» في وسطِها سأله المذيع: «سماحةَ الشيخ سيقول الوهابية: كيف نتجرّأ على أمّ المؤمنين عائشة»؟

فأجاب سماحتُه: «نحن لا نتحدّث من عندنا عزيزي، من يأتِ بسبٍّ أو طعنٍ أو لعنٍ من عند نفسه؛ أنا أقول: لعنة الله عليه؛ لأنه لا يجوز لك أن تتكلّم من دون دليل، نحن لا نتحدّث وفق المزاج، لا عزيزي، نحن أولوا أخلاقٍ وأولو علم، عندما نتكلّم؛ نتكلّم بدليل!

هذا الشيخُ الذي قدّمه المذيع على أنّه أستاذُ الدراساتِ العليا؛ هو بالتأكيدِ ممّن عناهم الإمام الشافعيُّ بقوله: «لم أر قوماً أشهَد بالزور من الرافضة»!؟

تناول هذا الرافضيّ أمّ المؤمنين عائشة بالتحليل النفسيّ، الذي بناه على دليلين باطلين:

الدليل الأوّل: أنّ عائشةَ كانت سوداءَ أدماءَ قبيحةَ المنظر!

والدليل الثاني: أنّ الحيض «والاستحاضة» كان يتلبّسها على طول حياتها، فلا تطهر، وهاتان البليّتان سبّبتا لها مرضاً نفسيّاً، إذ الثانية على الأقلّ تمنع الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم من مقاربتها!

وقبل الولوج في هذا الموضوع؛ لا بدّ من تذكير جميع القرّاء الكرام بأنّ الله تبارك وتعالى قال: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ).

وعائشةُ بيقينٍ كانت إحدى زوجاتِ الرسول، وهي أمّنا.

أنا وأنتَ - أخي القارئ الكريم - لا يعنينا إذا كانت والدتُنا جميلةً أم قبيحةً، سوداءَ أدماءَ، أم بيضاء شقراء!

نظيفةً ذاتَ دورةٍ شهريّةٍ مستقرّةٍ، أم كانت مستحاضةً لا تكاد تطهر!

كان هذا يؤثّر على نفسيّتها أم لا يؤثّر!

هي أمّنا  كيفما كانت، ما دمنا مؤمنين بالله تعالى وبالقرآن الكريم!

نأتي بعد ذلك إلى مناقشة الدليل الأوّل، الذي اعتمد عليه سماحة الرافضيّ الجعفريّ!

ذهبَ إلى تاريخ ابن معين - رواية الدوري (3: 509) فقرأ علينا النصَّ الآتي: « يحيى يَقُول: قَالَ عبّاد: قُلْنَا لسهيلِ بن ذكْوَانَ: رَأَيْت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ؟ قَالَ: نعم!

قُلْنا: صِفْها؟ قالَ: كَانَت سَوْداء».

وزعم الجعفريُّ أنّ علماءَ الحديثِ كذّبوا سهيل بن ذكوانَ هذا؛ لأنّه قال: إنّ عائشةَ سوداء!

ثمّ ذهب إلى تهذيب الكمال (12: 223) وقرأ علينا ترجمةَ سُهيلِ بن أبي صالح، واسم أبي صالح: ذكوان، ونقل أقوال العلماء فيه، وأنّه ثقة أخرجه له الجماعة، ما عدا البخاريَّ، فقد أخرج له مقروناً.

فثبّتَ في ذهن السامعِ أنّ المحدّثين ظلمةٌ منحازون، وأنهم إنما ضعّفوا هذا الرجلَ الثقةَ، انتصاراً للروايات الكاذبةِ التي تقول: إنّ عائشةَ كانت بيضاءَ شقراء!

وهذا جهلٌ فاضحٌ من هذا الرجلِ، أو كذبٌ تعمّده ليضلّ به الناس، ويزيد من غضب الله تعالى وسخط رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عليه وعلى من يصدّقون كلامه.

لأنّ سهيلَ بن أبي صالح العالم المحدّث؛ ليس هو سهيلَ بن ذكوان شبه المجهول!

وإليك أدلّة لك.

أوّلاً: إذا رجعنا إلى تاريخ يحيى بن معينٍ برواية الدوري نفسها (3: 182) نجده قال: «أَبُو صَالح السمان: كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ: سُهَيْل بن أَبى صَالح، وَعبّاد بن أَبى صَالح، وَصَالح بن أَبى صَالح، كلهم ثِقَة»!

فابن معينٍ فرّق إذن بين سهيل بن أبي صالح الثقةِ، وبين سهيل بن ذكوان، الزاعم بأنّ عائشةَ سوداء!

ولو رجعنا إلى الإمام النسائيّ؛ لوجدناه قال في كتابه «الضعفاء» رقم (285): «سُهَيْلُ بنُ ذكْوَان - وَلَيْسَ السمّان - مَتْرُوك الحَدِيث».

وترجمه العقيليّ في الضعفاء (2: 154) وقال: «حَدَّثَنِي آدَمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: سَمِعْتُ الْبُخَارِيَّ قَالَ: سُهَيْلُ بْنُ ذَكْوَانَ الْمَكِّيُّ، سَكَنَ وَاسِطَ، أَبُو السِّنْدِيِّ: سَمِعَ عَائِشَةَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ.

سَمِعَ مِنْهُ هُشَيْمٌ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ.

قَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ: «كُنَّا نَتَّهِمُهُ بِالْكَذِبِ».

وترجمه ابن حبان في المجروحين (459) واتّهمه بالكذب!

وترجمه ابن عديٍّ في ضعفائه (865) وقال: «وسهيل بْن ذكوان هذا، مع ما يُنسَب إلى الكذبِ؛ ليس له كثيرُ حديث، وإنما لم يعتبر الناس بكذبه؛ لأنّه قليلُ الروايةِ، وإنما تَبيّنوا كَذِبَه بمثل ما بينّا:

- أنّ عائشة كانت سوداء، وعائشة كانت بيضاء!

- وأنّ إِبْرَاهِيم النخعي كان كبيرَ العينين، وإِبْرَاهِيم النخعي أعور، وَهو في مقدار ما يرويه ضعيف.

ثانياً: إنّ العقيليّ وابنَ عديٍّ وغيرهما ترجما سهيل بن أبي صالح في ضعفائهما أيضاً، لورود جرح فيه.

ولو كان سهيل بن أبي صالح هو سهيل بن ذكوان، كما دلّس الشيخ الجعفريّ الرافضيّ؛ لكان تناقضاً منهما، بل كان بعداً لهما عن السبر والتمييز

ترجم العقيليُّ في ضعفائه (659) سهيل بن أبي صالح، ونقل أقوال العلماء فيه.

وترجمه ابن عديٍّ في ضعفائه (866) عقبَ سهيل بن ذكوان مباشرة، ونقل اختلاف العلماء في توثيقه وتليينه، وختم ترجمته بقوله: «لسهيل أحاديثُ كثيرةٌ غيرَ ما ذكرتُ، وله نُسَخٌ، وروى عنه الأئمةُ، مثل الثَّوْريّ وشُعبة ومالكٍ، وغيرهم... وسهيل عندي مقبول الأخبار، ثبت لا بأسَ به».

ثالثاً: ليس لسهيل بن ذكوان الراوي عن عائشةَ أنها سوداء، في الكتب التسعة أيُّ حديثٍ، بينما لسهيل بن أبي صالح في الكتب التسعة (528) منها خمسةُ أحاديث عند البخاري، ومئةٌ وثلاثة عشر حديثاً عند مسلم، أوائلها (35، 55، 76، 101، 122) وأواخرها (2903، 2904، 2912، 2922، 2995).

ثالثاً: قالوا في ترجمة سهيل بن ذكوان الضعيف: إنّه يروي عن عائشةَ، واعتمده الجعفريُّ الرافضيّ، وبنى على مشاهدته أنّ عائشة سوداء أدماءُ قبيحة!

بينما لا يروي سهيل بن أبي صالحٍ عن عائشةَ أيَّ حديث!

وهذا وحدَه ينسف تدليسَ الجعفريِّ وكذبه من أساسه!

أقول: ظهر بما تقدّمَ أنّ صاحبَ السماحةِ الرافضيّ، إمّا جاهلٌ بعلم الرجالِ!

وإمّا كذّابٌ تعمّد تضليلَ مستمعيه، وإهانةَ أمّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها.

الدليل الثاني: أنّ الحيض «والاستحاضة» كان يتلبّس عائشةَ طيلةَ حياتها!

وهذا سبّب لها مرضاً نفسيّاً، انعكسَ على تصرفاتها حدّةً وسوءَ أخلاق!

وجوابُ هذا الافتراء من وجوه:

الوجه الأوّل: أنّ المرأةَ التي ليس لحيضِها، أو لنقل: لنزيف دمها أيّامٌ معلومةٌ يقال لها في الاصطلاح الفقهيّ «مستحاضة» ولها أحكام مختلفةٌ عن أحكام المرأة الحائض!

المرأة الحائض: لا تصوم ولا تصليّ ولا يجامعها زوجها في مدّةِ أيّام حيضها.

أمّا المستحاضةُ: فتصوم وتصلي ويجامعها زوجها متى شاء.

وهذا يتعلّمه الطلّاب في الصفّ الخامس، من مدارس «إمام وخطيب» عندنا في تركيّا هنا، ومن المحالِ أنّ الجعفريَّ يجهل هذا!

الوجْه الثاني: لم يَرِدْ مطلقاً في أيّ كتابٍ من كتب أهل السنّةِ، بنصٍّ صريحٍ؛ أنّ أمّ المؤمنين عائشةَ كانت مستحاضةً، ولو لمرّةٍ واحدةٍ في تاريخ حياتها، فهذا كذبُ عمْدٍ!

إنّما أخرج البخاريّ في كتاب الحيض (294) ومسلم في كتابِ الحجّ (1211) من حديث القاسم بن محمد بن أبي بكرٍ قال: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ «قرية بين مكة والمدينة» حِضْتُ!

فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: مَا لَكِ، أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ نَعَمْ!

قَالَ: إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حتى تطهري!

وفي طرفٍ لهذا الحديث عند البخاريّ (316): أَنَّهَا حَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ.

قالَتْ: فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ «بنَ أبي بكرٍ» لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ، فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ».

في هذا الحديثِ أنّ عائشةَ كانت طاهراً، عندما خرج ركبُ الحجّ من المدينة، ثم حاضت في أثناء السفر، ثمّ طهرت ليلةَ «عَرَفةَ» وهذا نصٌّ في أنها ذات حيضٍ لأيّام معلومةٍ، وليست مستحاضةً.

الشيخ الجعفريّ يقول: إنّه يحتجّ علينا من كتبنا، وهذا الذي تقوله كتبنا، وهي لا تقول أبداً: إنّ عائشةَ كانت مستحاضةً طيلَة عمرها!

الوجه الثالث: قال الرافضيّ هذا: إنّ دليلَه على أنّ عائشةَ كانت غارقةً في مأساةِ الحيضِ؛ أنّ (99%) من أحاديثِ الحيض ترويها عائشة!

وجواب ذلك أنّ عائشةَ هي أفقه الصحابيّات على الإطلاقِ، وحتى لا يغضبَ الرافضةُ نقول: هي أكثر الصحابياتِ روايةً عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ومن الطبيعيّ أن تكون روايتُها النسائيّة أكثر من غيرها من الصحابة والصحابيّات.

وكتابُ الحيض في صحيح البخاريّ مثلاً، فيه (39) حديثاً مكرّرة، منها عن أمّ المؤمنين أمّ سلمة (298، 322)

ومنها عن أمّ المؤمنين ميمونة (303، 333)

ومنها عن أمّ عطيّة قبل (305، 326).

ومنها عن أسماء بنت أبي بكر (307).

ومنها عن حفصة أم المؤمنين (313، 324).

ومنها عن أنس بن مالك (318).

ومنها عن عبدالله بن عباس (329).

ومنها عن أبي سعيدٍ الخدريّ (304).

ومما يجب بيانُه أمامَ هذا الافتراء على أمّ المؤمنين عائشة أنّ قصّة حيضها بمنطقة سَرِف - في طريق المسافر بين مكة والمدينة - (294) كرّره البخاريّ في كتاب الحيض نفسه (305، 316، 317، 319).

وأنّ حديث عائشةَ في قصّة استحاضة فاطمة بنت حُبيش (306) كرّره البخاري في كتاب الحيض نفسه (320، 325، 331).

وأنّ حديثَ عائشة في قصة الأنصاريّة التي سألت الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم عن كيفية الاغتسال من الحيض (314) كرره البخاريّ في كتاب الحيض نفسه (315) فمن أين جاء بأنّ (99%) من أحاديثِ الحيضِ عن عائشة؟

ويلاحظُ القارئ الكريم أنّ عائشةَ تنقلُ ما أفتى بها رسولِ اللهِ أمامَها.

فبدلاً من شكرها على ذلك؛ نجعل ذلك سبّةً عليها، وتعييراً لها بأنّ غارقة طيلةَ عمرها بالحيض؟!

ختاماً: خصماءُ شيوخِ وعلماءِ الرافضة يومَ القيامةِ كثيرون، وإنني أخشى أنْ لا يدخل أحدٌ منهم الجنّة!

والله تعالى أعلم

والحمدُ لله على كلّ حال.