الخميس، 29 ديسمبر 2022

  مسائل فكرية (٤8):

التَغيّراتُ الكونيّة؛ تفاعلاتٌ طبيعيّة، أم عقوباتٌ ربّانية؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

كثيرون من المسلمين - بوعيٍ ومن دون وعيٍ - يرفضون فكرةَ أنّ ما يجري في أمريكا والعالمِ من أعاصير وكوارثَ؛ هو عقوباتٌ ربّانية موجهة إلى البشر، لحكمةٍ إلهيّة أوضحها القرآن الكريم في عدد من آياته المقدسة الكريمة، منها (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) [الروم] لعلهم يرجعون عن ظلمهم ومعاصيهم، إلى طاعة الله تعالى.

ووفقَ عقيدتِنا - نحنُ المسلمين، كلَّ المسلمين - أنّه لا يحدث في هذا الكون حدثٌ صغير ولا كبير، بل لا تسقط ورقةٌ عن غصنها، إلّا بعلم الله تعالى، الذي يعلم سرائر النفوس أيضاً!

(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) [الأنعام].

(لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) [طه].

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ، وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) [آل عمران].

(إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) [لقمان].

الله سبحان وتعالى هو القاهر فوق عباده، وهو ربّ هذا الوجود وخالقُه، وبيده مقاليده، وهو القيوم عليه، ولولا أنّه تعالى يمسك به؛ لانتهى الوجود، وزالت المجرّات عن مساراتها!

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ؛ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ؛ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) [الأنعام].

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) [الأنعام].

(اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) [البقرة].  

(يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) [طه].

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) [فاطر].

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) [الحجّ].

(أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) [النحل].

ونأتي الآن إلى جواب السؤال الآتي: إذا كان ما يجري في الكون عقوباتٍ ربّانية للبشر، فهل الله تعالى يبغض عباده، ويتشفّى بعذابهم؟

الجواب: إنّ الله تبارك وتعالى خالق الوجود كلّه، ومن ضمنه بني الإنسان، وقد أوضح لنا القرآن الكريم وظائف الإنسان في هذا الوجود.

فإذا سار الإنسان وَفق المنهاج الذي أراده الله بعباده؛ نال السعادة الدنيويّة والأخروية.

وإن عصى الإنسان ربّه تعالى، وبارزه بالعداوة والعصيان؛ وعظه ثمّ أدّبه، ثم دمّره، وفي الآخرة عذاب عظيم!

قال الله تبارك وتعالى:

(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) [النساء]

(وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ، مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) [هود] ووظيفة قوم هودٍ؛ هي ذاتها وظيفة جميعِ البشر!

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) [الذاريات].

(يَاأَيُّهَا النَّاسُ: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) [البقرة].

هذا منهاج الله تعالى، وتلك إرادته، وما على العبيدِ إلّا طاعة السيّد المنعم المتفضّل!

(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20) أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا، فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) [الأنبياء].

إذا كان الله تعالى يأمرُ الناسَ - كلّ الناس - بعبادته وطاعته؛ فيجب عليهم عبادته وطاعته!

وإذا نهاهم عن مخالفته ومعصيته؛ فعليهم أن يمتثلوا، وإلّا عاقبهم الله تعالى في الدنيا (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) وعذّبهم في الآخرة (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)!

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ، وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20).

سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ، ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَ اللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

 مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ، وَ اللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) [الحديد].

(اللهُ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3) [إبراهيم].

(وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) [المؤمنون].

(أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) [التوبة].

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ، إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ؛ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ، وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73).

أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ، وَ اللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعاً؟ وَ اللهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) [المائدة].

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) [الأنعام].

(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ، وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) [المائدة].

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ، فَأَخَذَهُمُ اللهِ بِذُنُوبِهِمْ، وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22) [غافر].

الدول الاستعماريّة تزعم القوّةَ والسيطرةَ على الكون، ويزعم رئيس أمريكا بأنّ أمريكا لا يعجزها شيءٌ، وغفل هذا الظالمُ عن ضعفه وخضوعه وحيرة امبراطوريّته أمام فيروس صغير، لا يرى بالعين المجرّدة (كورونا) الذي حصد ملايين البشر!

قال الله تعالى:

(فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟

أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً؟ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16).

وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) [فصّلت].

وهؤلاء الذين يتجبّرون في هذه الأيام؛ سيصيبهم مثل ما أصاب الأمم السابقة التي طغت وبغت، وبارزت الله تعالى بعصيانه!

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) [يونس].

وكلام الله تعالى الذي أوردناه، والذي لم نورده، مما يدخل في هذا الاتّجاه؛ لا يعني أنّ المسلمين بمعزلٍ عن عقاب الله تعالى، وعذابه!

كلّا، إذ ليس بين أحدٍ وبين خلقه نسبٌ ولا محاباة!

(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا؛ يُجْزَ بِهِ، وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) [النساء].

(وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) [النساء].

(قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللهِ وَرِسَالَاتِهِ، وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) [الجنّ].

ختاماً: البشر جميعاً تحت القانونِ العادل لله تبارك وتعالى، الثواب للطائع، والعقاب للعاصي!

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ، وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) [المؤمنون].

والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلّا به.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2022

  من شِعْرِ الحِكْمَةِ (9):

نِداءٌ إلى عُبّاد المسيح عليه السلام!؟

محمّد بن أبي بكرِ بنِ أيّوب الزَرعيّ الدمشقيّ، المعروف بابن قيّم الجوزيّة الحنبليُّ (ت: 751 هـ) من كبار العلماء والأدباء والوعّاظ، وبدعةُ التشبيه والتجسيم تكاد تكون ملازمةً لكلّ حنبليّ، وللأسف!

لكنّ مذهبيّ معروف لديكم، وهو العذر بالجهل، والعذر بنتائج الاجتهاد!

يعجبني كتابه «إغاثة اللَهفان من مصائدِ الشيطان»  وقد أفدت من هذا الكتابِ، ومن سائر كتبه كثيراً، وكثيراً جدّاً، رحمه الله تعالى، وغفر له تجسيماته العديدة!

قال في هذا الكتاب (2: 290):

«الحمد لله، ثم الحمد لله تعالى، الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتديَ لولا أن هدانا الله.

يا ذا الجلال والإكرام، كما هديتنا للإسلام؛ نسألك أن لا تنزعه عنا، حتى

تتوفّانا على الإسلام.

أَعُبَّادَ المَسِيحِ لَنَا سُؤَالٌ ... نُرِيدُ جَوَابَهُ مَّمِنْ وَعَاهُ

إذا ماتَ الإِلهُ بِصُنْع قومٍ ... أمَاتُوهُ، فَما هذَا الإِلهُ؟

وَهَلْ أرْضاه ما نَالُوهُ مِنْهُ؟ ... فبُشْرَاهمْ إذا نالُوا رِضَاهُ !!

وَإِنْ سَخِطَ الّذِى فَعَلُوهُ فيه ... فَقُوَّتُهُمْ إِذنْ أوْهَتْ قُوَاهُ

وَهَلْ بَقِى الوُجُودُ بِلاَ إِلهٍ ... سَمِيعٍ يَسْتَجِيبُ لَمِنْ دَعَاهُ؟!

وَهَلْ خَلَتِ الطِّبَاقُ السَّبْعُ لَمّا ... ثَوَى تَحتَ التُّرَابِ، وَقَدْ عَلاهُ

وَهَلْ خَلَتِ الْعَوَالُمِ مِن إِلهٍ ... يُدَبِّرهَا، وَقَدْ سُمِرَتْ يَدَاهُ؟

وَكَيْفَ تَخَلْتِ الأَمْلاَكُ عَنْهُ ... بِنَصْرِهِمُ، وَقَدْ سَمِعُوا بُكاهُ؟

وكيف أطاقَت الخشباتُ حَمْلاً ... إلَهَ الحَقّ مَشدوداً قَفاه؟

وَكيْفَ دَنَا الحَدِيدُ إِلَيْهِ حَتَّى ... يُخَالِطَهُ، وَيَلْحَقَهُ أذَاهُ؟

وَكيْفَ تَمكْنَتْ أَيْدِي عِداهُ ... وَطَالتْ، حَيْثُ قَدْ صَفَعُوا قَفَاهُ؟

وَهَلْ عَادَ المَسِيحُ إِلَى حَيَاةٍ ... أَمَ المُحْيي لَهُ رَبٌّ سِواهُ؟

وَيَا عَجَباً لِقَبْرٍ ضَمَّ رَبا ... وَأَعْجَبُ مِنْهُ بَطْنٌ قَدْ حَواهُ

أَقَامَ هُنَاكَ تِسْعاً مِنْ شُهُورٍ ... لَدَى الظُّلُمَاتِ، مِنْ حَيْضٍ غِذاهُ

وَشَقَّ الْفَرْجَ مَوْلُوداً صَغِيراً ... ضَعِيفاً، فَاتِحاً لِلثَّدْيِ فاهُ

وَيَأْكُلُ، ثمَّ يَشْرَبُ، ثمَّ يَأْتِى ... بِلاَزِمِ ذَاكَ، هَلْ هذَا إِلَهُ؟

تَعَالَى اللهُ عَنْ إِفْكِ النَّصَا... رَى ... سَيُسأَلُ كُلَّهُمْ عَمَّا افْترَاهُ

أَعُبَّادَ الصَّلِيبِ، لأَى مَعْنِّى ... يُعَظَّمُ أوْ يُقَبَّحُ مَنْ رَمَاهُ؟

وَهَلْ تَقْضِي العُقولُ بِغَيْرِ كَسْرٍ ... وَإحْرَاقٍ لَهُ، وَلَمِنْ بَغَاهُ؟

إِذَا رَكِبَ الإِلهُ عَلَيْهِ كُرْهاً ... وَقَدْ شُدَّتْ بِتَسْمِيرٍ يَدَاهُ

فَذَاكَ المَرْكَبُ المَلْعُونُ حَقّاً ... فَدُسْهُ، لا تَبُسْهُ إِذا تَراهُ

يُهَانُ عَلَيْهِ رَبُّ الْخَلقِ طُرّاً ... وتَعْبُدُهُ؟ فَإِنّكَ مِنْ عِدَاهُ

فإِنْ عَظِّمْتَهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ قَدْ ... حَوَى رَبَّ العِبَادِ، وَقَدْ عَلاَهُ

وَقَدْ فُقِدَ الصَّلِيبُ، فإِنْ رَأَيْنَا ... لَهُ شَكْلاً؛ تَذَكَّرْنَا سَنَاهُ

فَهَلاّ للقبورِ سَجَدْتَ طُرّاً ... لَضِّمِ القَبرِ رَبّكَ في حَشاهُ؟

فَيَا عَبْدَ المِسيحِ أَفِقْ، فَهَذَا ... بِدَايَتُهُ، وَهذَا مُنْتَهاهُ !!

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 24 ديسمبر 2022

  مَسائِلُ عَقَدِيّةٌ (18):

جَميعُ الناسِ مُؤمِنونَ، وجَميعُهم كافِرونَ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

استمعتُ إلى حوارٍ قديمٍ على إحدى القنواتِ المصريّة، قال فيه أحدُ الشيوخ الأزهريين: كلّ إنسان غير مسلمٍ؛ فهو كافر!

فقدّم محاوره بلاغاً إلى النائبِ العامِّ على الهواء مباشرةً، يتّهمه بازدراء الأديان، وإشاعة الفكر الإرهابيّ!

أقول وبالله التوفيق:

علينا أن نشرح بإيجاز كلمةَ «مؤمن» وكلمة «كافر» لنصل من وراء ذلك إلى مصاديق قول الله تعالى (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2) [التغابن].

قال الراغب في المفردات (ص: 90): «أمن: أصل الأَمْن: طُمأنينةُ النفسِ، وزوالُ الخوف.

والأَمْنُ، والأَمَانَةُ، والأَمَانُ في الأصل: مَصادر، ويُجعَلُ الأمانُ تارةً اسماً للحالةِ التي يكون عليها الإنسانُ في الأمنِ، وتارةً اسماً لما يُؤمن عليه الإنسان.

وآمَنَ: إنما يُقال على وجهين:

- أحدهما: مُتعدٍّ بنفسه، يقال: آمنته، أي: جعلت له الأمن، ومنه قيل للهِ تعالى: المؤمن.

- والثاني: غَيرُ مُتعدٍّ، ومعناه: صار ذا أمْنٍ.

والإِيمانُ: يُستعمل تارةً اسماً للشريعةِ التي جاء بها محمّد عليه الصلاة والسلام، ويوصَف به كلُّ مَن دَخل في شريعته، مقرّاً بالله تعالى، وبنبوته صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وتارةً يُستعملُ على سبيل المَدْحِ، ويُراد به إذعانُ النَفسِ للحَقِّ على سبيل التصديق، وذلك باجتماع ثلاثةِ أشياء:

تَحقّقٌ بالقَلب، وإقرارٌ باللسانِ، وعَملٌ بحسب ذلك بالجوارح، وعلى هذا قوله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ؛ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ (19) [الحديد].

ويقال لكلّ واحد مِن الاعتقادِ والقولِ الصادقِ والعمل الصالح: إيمانٌ.

قال تعالى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (143) [البقرة].

أي: ما كان الله ليحبط صلاتكم.

وجعل الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم (الحياءَ وإماطة الأذى؛ من الإيمان) انتهى باختصار.

أقول: الإيمان في المصطلح الشرعيّ إذنْ: هو الاعتقاد بدين الإسلام عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً.

فمَن لا يؤمن بدين الإسلام على هذا النحو؛ فهو مؤمنٌ بدينٍ آخرَ، كافرٌ بدين الإسلام، ليس مؤمناً به.

وقال الراغب في مفرداته (ص: 714):

الكُفْرُ في اللّغة: سَترُ الشيءِ، ووُصِف الليلُ بِالْكَافِرِ لستره الأشخاصَ، وسمّي الزَرّاع بالكافر لسَتره البذرَ في الأرض.

وكُفْرُ النّعمة وكُفْرَانُهَا: سَترُها بتركِ أداءِ شُكرها، قال تعالى: فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء: 94].

وأَعظمُ الكُفْرِ: جُحودَ الوَحدانيّةِ، أو النّبوّة، أو الشريعة.

والكُفْرَانُ في جحود النّعمةِ؛ أكثرُ استعمالاً، والكُفْرُ في الدّين؛ أكثر، والكُفُورُ فيهما جميعاً، قال الله تعالى: (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) [الإسراء: 99] وقال: (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) [الفرقان: 50] ويقال لكلٍّ منهما: كَفَرَ؛ فهو كَافِرٌ.

قال تعالى في الكفران: (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ، وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40]  وقال: (وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) [البقرة: 152].

ولمّا كان الكفران يقتضي جحود النّعمةِ؛ صار يستعمل في الجحود العقديّ، قال تعالى: (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) [البقرة:41] أي: جاحدٌ له وساتر.

والكَافِرُ عندَ الإطلاقِ: مُتعارَفٌ فيمن يَجحَدُ الوَحدانيّةَ، أو النّبوّةَ، أو الشريعةَ، أو ثلاثتَها، وقد يقال: كَفَرَ، لمن أخلّ بالشّريعةِ، وتَرَكَ ما لَزمَه مِن شُكر الله عَليه.

قال الله تعالى: (مَنْ كَفَرَ؛ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) [الروم: 44].

توضّح ممّا سبق أنّ كلمة (مؤمن) وكلمة (كافر) مصطلحان شرعيّان إسلاميّان، يستعملان في إطار دائرة الإسلام.

وكلّ مؤمن؛ هو كافر في الوقت ذاته، قال الله تعالى: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ، فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ، وَيُؤْمِنْ بِاللهِ؛ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) [البقرة].

وقال تعالى: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) [المائدة].

وتفصيله في قول الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) [النساء].

فنحن عندما نقول: كلّ إنسانٍ غير مسلمٍ؛ هو كافر، بمعنى أنّه لا يؤمن بالله الذي يؤمن به المسلمون، أو لا يؤمن بالرسول محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو لا يؤمن بالقرآن الكريم، أو لا يؤمن بالشريعة الإسلاميّة، أو لا يؤمن بهذه الأمور مجتمعةً.

هل اليهوديّ يؤمن بنبوّة الرسول محمدّ وبالقرآن وبالسنّة النبويّة؟

هل النصرانيّ يؤمن بنبوّة الرسول محمدّ وبالقرآن وبالسنّة النبويّة؟

هل البوذيّ يؤمن بنبوّة الرسول محمدّ وبالقرآن وبالسنّة النبويّة؟

إذا كان مصطلح الإيمان إسلاميّاً، يعني هذه الأمورَ، وهم لا يعتقدون بها؛ فلماذا يغضبون من وصفهم بالكفر؟

هل المسلم يؤمن بألوهيّة المسيح، وصلب المسيح، وجلوس المسيح عن يمين الربّ؟

هل المسلم يؤمن بأنّ عزيراً ابن الله، أو يؤمن بهذه التوراةَ التي تنسب إلى الله تعالى التجسيم، وتنسب إلى الأنبياء شرّ القبائح؟

كلّا بل المسلم كافر بذلك قطعاً!

فإذا قال اليهوديّ أو النصرانيّ أو البوذيّ للمسلم: أنت كافرٌ بما نعتقد نحن؛ فهذا صحيح، والمسلم لا يغضب من ذلك!

ولا أريد أن أسوق الآياتِ التي تكفّر غير المسلم، حتى لا يحظرني «الفيس بوك» وجميعكم يعرفها.

بقي أن أشير إلى أمرٍ مهمٍّ، يخشاه المواطنون غيرُ المسلمين في بلادنا العربية، هو ارتباط القتل بالكفر في أذهانهم، وهو ارتباط خاطئ قطعاً، إذ لو كان المسلمون يعتقدون بأنّ عليهم قتلَ كلّ غير المسلمين؛ لما كان في البلاد العربية ملايين النصارى واليهود اليوم!

قال الله تبارك وتعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) [البقرة].

وقال عزّ شأنه: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) [البقرة].

وقال جلّ جلاله: (لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) [الممتحنة].

والله المستعان.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2022

      التَصَوُّفُ العَليمُ (25):

شدُّ الرِحالِ إلى زيارة الرسول!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من المعلومِ أن الشيخ ابن تيميّة الحنبليّ الحرّاني؛ لا يحرّم زيارةَ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، إنما يحرّم أن تكون زيارةُ الرسول هي المقصدَ الأوّل للزائر!

أمّا من نوى زيارةَ المسجد النبويّ، ثمّ زار الرسولَ تبعاً لذلك؛ فلا مانع من ذلك عنده!

وعندما كنت أعلّم في كليّةِ التربيةِ بالطائفِ، فرع جامعة أمّ القرى؛ كنت أنادي على بعضِ طلابيّ بأعلى صوتي: يا فلان! أنا مسافرٌ إلى زيارة الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم أوّلاً، ثمّ إلى زيارة المسجد النبويّ!

قال الإمام الذهبيّ رحمه الله تعالى في سير أعلام النبلاء (4: 484) ما نصّه:

(مَنْ وَقَفَ عِنْدَ الحُجْرَةِ المُقَدَّسَةِ ذَلِيْلاً، مُسَلِّماً، مُصَلِيّاً عَلَى نَبِيِّهِ، فَيَا طُوْبَى لَهُ، فَقَدْ أَحْسَنَ الزِّيَارَةَ، وَأَجْمَلَ فِي التَّذَلُّلِ وَالحُبِّ، وَقَدْ أَتَى بِعِبَادَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ فِي أَرْضِهِ، أَوْ فِي صَلاَتِهِ، إِذِ الزَّائِرُ لَهُ أَجْرُ الزِّيَارَةِ، وَأَجْرُ الصَّلاَةِ عَلَيْهِ، وَالمُصَلِّي عَلَيْهِ فِي سَائِرِ البِلاَدِ؛ لَهُ أَجْرُ الصَّلاَةِ فَقَطْ!

فَمَنْ صَلَّى عَلَيْهِ وَاحِدَةً؛ صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْراً، وَلَكِنْ مَنْ زَارَهُ - صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ - وَأَسَاءَ أَدَبَ الزِّيَارَةِ، أَوْ سَجَدَ لِلْقَبْرِ، أَوْ فَعَلَ مَا لاَ يُشْرَعُ؛ فَهَذَا فَعَلَ حَسَناً وَسَيِّئاً، فَيُعَلَّمُ بِرفْقٍ، وَاللهُ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ.

فَوَاللهِ مَا يَحْصَلُ الانْزِعَاجُ لِمُسْلِمٍ، وَالصِّيَاحُ، وَتَقْبِيْلُ الجُدْرَانِ، وَكَثْرَةُ البُكَاءِ، إِلاَّ وَهُوَ مُحِبٌّ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ، فَحُبُّهُ - صلّى الله عليه وآله وسلّم -  المِعْيَارُ وَالفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، فَزِيَارَةُ قَبْرِهِ - صلّى الله عليه وآله وسلّم - مِنْ أَفَضْلِ القُرَبِ!

وَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى قُبُوْرِ الأَنْبِيَاءِ وَالأَوْلِيَاءِ، لَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُوْنٍ فِيْهِ، لِعُمُوْمِ قَوْلِهِ - صَلَوَاتُ اللهُ عَلَيْهِ -: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ، إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ) فَشَدُّ الرِّحَالِ إِلَى نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْتَلْزِمٌ لِشَدِّ الرَّحْلِ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَذَلِكَ مَشْرُوْعٌ بِلاَ نِزَاعٍ، إِذْ لاَ وُصُوْلَ إِلَى حُجْرَتِهِ، إِلاَّ بَعْدَ الدُّخُوْلِ إِلَى مَسْجِدِهِ، فَلْيَبْدَأْ بِتَحِيَّةِ المَسْجِدِ، ثُمَّ بِتَحِيَّةِ صَاحِبِ المَسْجِدِ - رَزَقَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ ذَلِكَ آمِين) انتهى.

انتبهوا - أيها القرّاء الكرام - إلى قول الإمام الذهبيّ، الذي يحكي حال الصوفيّة المحبّين للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ولأهل بيته وللصالحين: (فَوَاللهِ مَا يَحْصَلُ الانْزِعَاجُ لِمُسْلِمٍ، وَالصِّيَاحُ، وَتَقْبِيْلُ الجُدْرَانِ، وَكَثْرَةُ البُكَاءِ، إِلاَّ وَهُوَ مُحِبٌّ للهِ وَلِرَسُوْلِهِ.

فَحُبُّهُ، صلّى الله عليه وآله وسلّم؛  المِعْيَارُ وَالفَارِقُ بَيْنَ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَأَهْلِ النَّارِ) انتهى.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 15 ديسمبر 2022

       التَصَوُّفُ العَليمُ (24):

أَكْثروا مِنْ ذِكْرِ المَوْتِ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ عددٌ من الإخوةِ، يسألون عن سبب انقطاعي عن الإنترنيت؟

أقول وبالله التوفيق:

كان جدّي السيّد إبراهيم الحمش رحمه الله تعالى يقول: متى رأيتَ الرجلَ يتحدّث عن الموت كثيراً؛ فاعلم أنّ أجله قد اقترب!

قلت له: ما دام مَوعد الموتِ مُغيّباً عنّا، فما الذي يجعله يفكّر بالموت كثيراً؟

قال: لا أدري، ربما رحمة من الله تعالى؛ ليتوب عمّا اقترفه من ذنوب!

بإسنادي إلى الإمام أحمد ابن حنبلٍ في مسنده (7584) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا يَزِيدُ «بن هارون السلميُّ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ «العبسيّ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو «بنِ علقمةَ الليثيّ» عَنْ أَبِي سَلَمَةَ «بن عبدالرحمن بن عوف» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَذّاتِ) هاذم: هادم.

وأخرجه ابن ماجه (4258) والنسائيّ في المجتبى (1824) والترمذيّ في كتاب الزهد من الجامع (2307) وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح غريب، وفي الباب عن أبي سعيدٍ الخدريّ!

وأخرج الترمذيُّ حديثَ أبي سعيدٍ الخدريّ في كتاب صفة القيامة (2460) قال:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَدُّوَيْهِ: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ الْحَكَمِ الْعُرَنِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْوَصَّافِيُّ عَنْ عَطِيَّةَ «بن سعدٍ العوفيّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلَّاهُ، فَرَأَى نَاساً كَأَنَّهُمْ يَكْتَشِرُونَ [يضحكون]!

قَالَ: (أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ أَكْثَرْتُمْ ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ؛ لَشَغَلَكُمْ عَمَّا أَرَى، فَأَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ الْمَوْتِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ عَلَى الْقَبْرِ يَوْمٌ، إِلَّا تَكَلَّمَ فِيهِ، فَيَقُولُ: أَنَا بَيْتُ الْغُرْبَةِ وَأَنَا بَيْتُ الْوَحْدَةِ وَأَنَا بَيْتُ التُّرَابِ وَأَنَا بَيْتُ الدُّودِ!

فَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ؛ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: مَرْحَباً وَأَهْلاً، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ، وَصِرْتَ إِلَيَّ؛ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ!

قَالَ: فَيَتَّسِعُ لَهُ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيُفْتَحُ لَهُ بَابٌ إِلَى الْجَنَّةِ!

وَإِذَا دُفِنَ الْعَبْدُ الْفَاجِرُ، أَوْ «قال»: الْكَافِرُ؛ قَالَ لَهُ الْقَبْرُ: لَا مَرْحَباً وَلَا أَهْلاً، أَمَا إِنْ كُنْتَ لَأَبْغَضَ مَنْ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِي إِلَيَّ، فَإِذْ وُلِّيتُكَ الْيَوْمَ، وَصِرْتَ إِلَيَّ؛ فَسَتَرَى صَنِيعِيَ بِكَ!

قَالَ: فَيَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، حَتَّى يَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، وَتَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ!

قَالَ «أبو سعيدٍ» قَالَ «أشارَ» رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِهِ، فَأَدْخَلَ بَعْضَهَا فِي جَوْفِ بَعْضٍ!

قَالَ: وَيُقَيِّضُ اللهُ لَهُ سَبْعِينَ تِنِّيناً، لَوْ أَنْ وَاحِداً مِنْهَا نَفَخَ فِي الْأَرْضِ مَا أَنْبَتَتْ شَيْئاً مَا بَقِيَتْ الدُّنْيا، فَيَنْهَشْنَهُ وَيَخْدِشْنَهُ، حَتَّى يُفْضَى بِهِ إِلَى الْحِسَابِ!

 قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّمَا الْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ).

قَالَ أَبُو عِيسَى الترمذيُّ: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ».

أقول: ليس المقامُ مقامَ تخريجٍ لحديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ، وحكم عليه بالضعفِ، إنما المقام مقام تذكير وموعظة، فاتّقوا الله ما استطعتم، وإيّاكم والمناكفات!؟

أيها الإخوةُ الأحبابُ: قد جاوزتُ الخامسةَ والسبعين من عمري، وقد قدّمت إليكم وإلى الأمّة ما أقدرني الله تعالى عليه!

فإن كان ما قدّمته إليكم خيراً؛ فما سوى الخير أردتُ!

وإن كان ما قدّمته إليكم شرّاً؛ فذلك مبلغ علمي، وأستغفر الله تعالى، وأتوب إليه مما علمتُ ومما لم أعلم ولا أعلم!

وأسألكم المسامحةَ عمّا يمكن أن أكونَ أسأتُ به؛ فما أنا بكاملٍ ولا معصوم!

والله المستعان وعليه التُكلان، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 10 ديسمبر 2022

 مَسائلُ حديثيّةٌ  (72):

سَعَةُ عِلْمِ عائشة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارٍ مع أحدِهم قال: «الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (خذوا دينكم عن الحميراء - يعني عائشة - وهؤلاء الكفرة يتّهمونها بالفاحشة، وأنت تقول: لا بدّ من التعايش معهم»؟

أقول وبالله التوفيق:

مَن يتّهم أمَّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها بالفاحشة؛ كافرٌ إن كان من أهل السنّة، وفاسق قاذفٌ كلبٌ، إن كان من غيرهم.

أمّا موضوع التعايش مع الرافضة - فضلاً عن الشيعة - فأمر لا بدّ منه، إذا كنتم حريصين على وحدةِ العراق، ووحدة سوريّا، ووحدة اليمن، ووحدة لبنان!

إذ هم يشكّلون في كلّ بلدٍ من هذه البلدان؛ نسبةً لا يمكن تجاهلها، وإن كنتم تصرّون على إقصائهم - فلم تعودوا قادرين على ذلك - لكنّ هذا يقود إلى تقسيم البلاد.

ومعنى «التعايش» الذي أقصده؛ هو التعايش القائم على إشاعةِ أسباب الوِفاقٍ، وإماتة أسباب الشقاق، وفي طليعة ذلك؛ سنّ قانونٍ يجرّم سبَّ الصحابة ورموز أهل السنة، ويجرّم القول بتحريف القرآن الكريم، ويحصر مسألةَ المتعة في يد الدولة وَفقَ قانون دقيقٍ خاصٍّ، وأئمّة الشيعة جميعهم محترمون لدى أهل السنّة، بل يعدّونهم نظريّاً من أئمتهم أيضاً!

أمّا عن الحديثِ المشار إليه (خذوا دينكم عن الحميراء) يعني عائشة؛ فهو من جملة الرواياتِ الباطلة التي ربما كانوا يُلهّون بها العوامَّ، أو يحرّضونهم بها على قتل مخالفيهم!

وقد ورد هذا النصّ بلفظ (خذوا شطر دينكم عن الحميراء) و(خذوا نصفَ دينكم عن الحميراء) و(خذوا ثلث دينكم من بيت عائشة) أورده الديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب (2828) من دون إسنادٍ.

وأورده ابن الأثير في نهاية الغريب (1: 438) من دون إسناد أيضاً، وقال: المقصود عائشة.

قال الحافظ ابن كثير في تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب (54):

«هو حديثٌ غريبٌ جدّاً، بل هو منكر.

سألتُ عنه شيخنا الحافظَ أبا الحجّاج المزيّ، فلم يعرفه، وقال:

لم أقف له على سند إلى الآن.

وقال شيخنا أبو عبد الله الذهبيّ: هو من الأحاديث الواهية التي لا يعرف لها إسناد».

وقال السخاوي في المقاصد الحسنة (432): حَدِيث: (خُذُوا شَطْرَ دِينِكُمْ عَنِ الْحُمَيْرَاءِ) قال شيخنا الحافظ ابن حجر في تخريج ابن الحاجب من إملائه: لا أعرف له إسناداً، ولا رأيته في شيء من كتب الحديث، إلا في النهاية لابن الأثير ذكره في مادة (ح م ر) ولم يذكر من خَرّجه، ورأيتُه أيضاً في كتاب الفردوس، لكن بغير لفظه، وذكره من حديث أنس بغير إسناد أيضا ولفظه: خذوا ثلث دينكم من بيت الحميراء، وبيض له صاحب مسند الفردوس، فلم يخرّج له إسناداً.

قال عداب: وأورده الفتّني في تذكرة الموضوعات له (ص: 100) وملّا علي القاري في موضوعاته (185) وقال في أواخر الكتاب (ص: 434): «كُلُّ حَدِيثٍ فِيهِ يَا حُمَيْرَاءُ، أَوْ ذِكْرِ الْحُمَيْرَاءَ؛ فَهُوَ كَذِبٌ مُخْتَلَقٌ».

وقال في كتابه الآخر المصنوع (ص: 98): لا أصل له.

وأورده القاوقجي في اللؤلؤ المرصوع في الحديث الموضوع (ص: 226).

فالحديث كذبٌ موضوع، لا يعرف له نقّادُ الحديث إسناداً.

ولا ريبَ في أنّ أمّنا عائشة؛ هي أكثر صحابيّة نقلت لنا أحاديثَ عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، إذ بلغت أحاديثها عند البخاريّ (849) حديثاً بالمكرّراتِ.

بينما بلغت أحاديثها عند مسلم (630) حديثاً بالمكررات.

قال الذهبي في النبلاء (3: 139): مُسْنَدُ عَائِشَةَ؛ يَبْلُغُ أَلْفَيْنِ وَمائَتَيْنِ وَعَشْرَةِ أَحَادِيْثَ، اتَّفَقَ لَهَا البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَلَى: مائَةٍ وَأَرْبَعَةٍ وَسَبْعِيْنَ حَدِيْثاً، وَانْفَرَدَ البُخَارِيُّ بِأَرْبَعَةٍ وَخَمْسِيْنَ، وَانْفَرَدَ مُسْلِمٌ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّيْنَ حديثاً» فيكون مجموع أحاديثها في الصحيحين (297) حديثاً.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 8 ديسمبر 2022

  مَسائلُ حديثيّةٌ  (71):

ترجمةُ الإمامِ عليٍّ العلميّةُ النقديّةُ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

طلبَ أحدُ الإخوةِ الكرامِ تعليقي على أحدِ المنشوراتِ، التي كتبها رجلٌ سنيٌّ، في تقويم شخصيّة الإمامِ عليٍّ عليه السلام!

عندما قرأت المنشورَ؛ وجدته ينسجم مع مقرّراتِ أهل السنة المذهبيّة، ليس فيه جديد!

فرأيتُ من الأنسب؛ أن أكتب على صفحتي منشوراً، يجنّبني المهاتراتِ، وتعليقاتِ العوامّ!

أقول وبالله التوفيق:

في كتابي (محاضرات في تخريج الحديث ونقده) والمطبوع عام (1999م) ذكرتُ في الفصل الثاني منه (ص: 63) فما بعدها؛ أنّ تراجمَ الأعلامِ والمشاهير، يمكن إخضاعُها إلى ثلاثةِ أنواعٍ من الترجمة:

(1) الترجمة المعرفيّة: وهي الترجمةُ التي تُعنى بالوقوفِ على شخصيّةِ المترجَمِ وهويته، وتؤكّد على ما يميّزه عن غيره، ممن يشترك معه في الاسم، أو في الاسم واسم الأب، أو في الاسم والنسب.

(2) الترجمة المَنقبيّةُ: وهي الترجمة التي يتوخّى من ورائها رسمُ صورةٍ أكملَ للمترجَم.

فيضاف فيها على ما سبقَ في الترجمة المعرفيّةِ جميعُ ما نقل عن هذا الشخص المترجَم من مزايا ومناقب وصفاتٍ فريدةٍ، ويُستبعد فيها تسجيلُ أيّ جانبٍ من جوانب الخطأ أو القصور الطارئ على شخصيّة المترجم!

مثال ذلك:

عندما يترجم واحدٌ من المعاصرين لشيخٍ من شيوخه، ممن نعرفهم، وممّن قد لا نعرفهم؛ تجده يجعل شيخَه الإمام العلم الأصوليّ الفقيه المفسر المحدث اللغوي الأديب...إلخ.

فيظنّ من لا يَعرف المترجَمَ هذا؛ أنّه قادمٌ  من عالم الملائكة الذين (لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون)!

والحقيقةُ أنّ هذه الترجمة كاذبةٌ قطعاً، إذ حتى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، عاتبه ربّه تبارك وتعالى على قيامِه بأعمالٍ، غيرُها أليق بمقامه منها، في مرادِ الله تعالى!

بينما هؤلاء المترجِمون المغفّلون يجعلون محبوبيهم فوق الملائكة وفوق الأنبياء!

واحدٌ من هؤلاء المشايخِ الذين كيلت لهم أمثال تلك الألقاب جزافاً، هو شيخي أيضاً.

كان مديراً أو مشرفاً على مدرسةٍ دينيّة، تمنح درجةَ الشهادةِ الثانويّةِ الشرعيّة، التي تمكّن حاملها من الانتسابِ إلى الأزهر الشريف.

طُرِقَ بابي ذاتَ يومٍ، فإذا بأحد الإخوة الزملاء، ومعه صبيّان يافعان ليس في وجهيهما شعرةٌ واحدة! 

استقبلتهما بحفاوةٍ أكبر، عندما علمتُ أنهما ولدا شيخنا المشترك (فلان).

في الأيّام التالية؛ عرفتُ منهما أنّ والدهما شيخنا، أرسلهما إلينا لنساعدهما بالانتساب إلى جامعة الأزهر الشريف!

سألت الكبير منهما عن سنّه؟ فأخبرني أنه ابن خمس عشرة سنة!

وسألت الصغير منهما، فقال: إنّ عمره ثلاث عشرةَ سنةً ونصف السنة!

سألتهما: في أيّ مستوىً ستسجّلان في الأزهر؟

قالا: في المستوى الجامعيّ!

قلت لهما: هل من الممكن الاطّلاع على شهادةِ الثانويّة لكليكما؟

فأطلعاني على الشهادة الثانوية، الصادرةِ عن المدرسة الدينية التي يشرف عليها شيخنا، وفي كشف الدرجات ما يدلّ على النجاح المتميّز والدرجات العالية!

سألتهما: هل أنتما درستما المنهاجَ المسجّلَ في كشف الدرجات هذا؟

قالا: لا لم ندرسه!

قلت لهما: كيف استجاز شيخُنا أن يمنحكما شهادةَ الثانويّة وأنتما لم تدرساها؟

قالا: قريباً يأتي الوالدُ، بإمكانك أن تسأله.

كانت مؤهّلات الشابّين كلاهما؛ جودةُ تلاوتهما للقرآن الكريم، ولم يكونا متقنين للتلاوة أبداً، ولا شيء وراء ذلك!

 لأنني كنتُ أعرف شيخ الأزهر يومها، شيخنا عبدالحليم محمود، ولأنه عاتبني بشأن مجموعة أخرى من مدرسة ثانيةٍ يشرف عليها شيخٌ آخر لي؛ اعتذرت عن أيّ مساعدةٍ لهما للتسجيل في الأزهر، مع الترحيب بهما في بيتي في كلّ وقتٍ وحين!

فالترجمة التي يترجمها أولئك الذين يريدون أن يضخّموا أنفسهم بتعظيم شيوخهم؛ لا يمكن أن يذكروا مثل هذه الخطيئةِ في ترجمة أحدِ شيوخهم!

(3) الترجمة العلميّة النقديّة: والنقدُ ليس معناه النقضَ والتخريب والتشويه، إنما معنى النقد: التقويم العلميّ الصحيح لهذا الشخصيّة، في جوانب الترجمة المعرفيّة، والترجمة المنقبيّة، ويضاف إليهما الجوانب البشريّة القاصرة!

إذ لا يوجد شخصيّة لا تشتمل على أخطاء وقصور بشريّ، إلّا أنّ من الناس مَن لا تُذكرُ عيوبه، كما يقول سعيد بن المسيّب، رحمه الله تعالى.

وهذه الترجمة العلميّة، قد يقوم بها نقّاد الحديث القدامى والمعاصرون، في ترجمة رواة الحديثِ النبويّ، لكنّهم يُلجَمون متى كانت الترجمة لواحدٍ من الصحابة رضوان الله عليهم!

هاهنا لا مكان لغير الترجمة المنقبيّة، التي تذكر المناقبَ ولو كانت بأسانيد ضعيفةٍ، وتسكت عن الأخطاء البشريّة، وتضعّف رواتها أيضاً!

وفي تصوير صعوبةِ الحصولِ على معلوماتٍ تاريخيّة دقيقةٍ تجاهَ أيّ شخصيةٍ أو حدثٍ من أحداث التاريخ الإسلاميّ؛ يقول السيّد الشهيد محمد محمد صادق الصدر، رحمه الله تعالى في كتابه تاريخ الغيبة الصغرى (1: 25): « طبيعةُ التاريخ الإسلاميّ؛ أنّه كان غامضاً، مليئاً بالفجوات والعثرات، وذلك في نظره يعود إلى أسباب، أبرز جوانبها:

 - الجانب الأول: ما يرجع إلى واقع التاريخ المعاش، حيث كان هذا التاريخ مقتضباً، غامضاً، مقيداً (ص: 19).

 - الجانب الثاني: ما يرجع إلى معرفتنا بذلك التاريخ، ومقدار اطلاعنا عليه، وهو يمثل الصورة التي أعطاها المؤرخون في كتبهم عن تلك الفترات، وهل هي مطابقة للواقع أوْ لاً؟

وبأي مقدار كانت سعة الصورة، وقدرتها، وعمقها؟ وإلى أي مدى كان فهم المصور المؤرخ، واستيعابه للأحداث، ولما وراءها من فلسفة، وعلل، ونتائج؟ (ص: 25).

وقد أشار السيد في تمهيد هذا الكتاب إلى أوجه الطعن الثلاثة في الرواية التاريخية:

 - الوجه الأول: أن بين رؤية الحادثة، وتدوينها بعداً زمنياً، يجعل الرواية للحادثة جسداً بلا روح!

 - الوجه الثاني: أن المؤرخ مزيج من عواطف وغرائز ومسبقات ذهنية، وعادات، لا يمثل العقل والفكر منه إلا بعض هذا المزيج، وهو لا يكتب تاريخه بعقله وفكره، وإنما يكتبه بمجموع عواطفه وسائر مرتكزاته.

 - الوجه الثالث: طبيعة تدوين الوقائع في ضوء الملاحظة.

 - فهناك الملاحظة المنظمة التي يعتمد الباحث فيها النظر، ويتقصى الحقائق حول حادثة معينة حين وقوعها.

 - وهناك ملاحظة عفوية مشوشة... مثالها رؤية التاجر، أو السائح لبلد زاره بغرض التجارة أو السياحة، فإنه ما يخص قصد زيارته يكون أقرب إلى الانتباه والدقة، مما رآه عفو الخاطر، ومن غير قصد (ص: 26).

والتاريخ - حسب رؤية السيد الصدر - مدون عادة بالنحو الثاني من الملاحظة؛ لأن الأشخاص الذين كانوا يعيشون تلك الأزمنة، إنما عاشوها بصفتها حياة عادية، لا يعيدون النظر فيها، ولا يتعمقون في أسبابها ونتائجها.

ثم يأتي الراوي منهم ليعطي المؤرخ ما علق في ذهنه عن هذا الخضم الزاخر، مما قد مر أمامه مروراً عابراً.

ثم قال: «لا أريد أن أدخل في البحث عن هذه المشكلات، فإننا ينبغي أن نكون فارغين من أجوبتها، قبل الدخول في البحث التاريخي، وإلا فالأولى لمن يؤمن بحرفية هذه المشكلات وصدقها؛ ألا يحاول قراءة حرف من التاريخ!» (ص: 27)» وصدق السيّد والله!

وتناول مشكلات تاريخ الإمامية الخاص (33 - 41) وأبرز نقاط الضعف في تاريخ الإمامية - كما يراه السيد الصدر - يكمن في نقاط خمس:

 - الأولى: اهتمام المؤرخين الإماميين في إثبات الإمامة، وإغفال موقف الإمام من أحداثِ عصره.

 - الثانية: التأكيد على الجانب العقائدي في الروايات، واحتواء جزء صغير من أحداث التاريخ!

 - الثالثة: إهمال ذكر المكان والزمان، اللذين وقعت حوادث ما يؤرخون فيهما.

 - الرابعة: التطويل فيما ينبغي الاختصار فيه، والاقتضاب فيما ينبغي فيه البسط والتطويل.

فقد تجد كلاماً مُطوّلاً عن ترجمة راوٍ من الرواة عن الإمام، لكنك تجد اقتضاباً مُخلّاً حيال مواقف الأئمة عليهم السلام، أو أصحابهم، أو سفرائهم من الحوادث السياسية السائدة في عصرهم، من قِبَل ثَورة «الزِنج» أو «القرامطة» أو رأيهم في تأسيس دولة الأندلس... إلخ.

 - الخامسة: نقطة إسناد الروايات، حيث إن المصنفين الإماميّة جمعوا في كتبهم كلَّ ما وصلهم من الروايات عن الأئمة عليهم السلام، أو عن أصحابهم، بغض النظر عن صحتها أو ضعفها...

وعلماءُ الشيعة الإمامية الذين ألفوا في الرجال اقتصروا في كل كتبهم على الترجمة لرواة الأحاديث الفقهية التشريعية، وأوْلَوْها العناية الخاصة، بصفتها محلَّ الحاجةِ العملية في حياة الناس.

 لكنّ هذه الكتُب أهملَتْ إهمالاً تاماً ذكرَ الرجال الذين وجدت لهم روايات في حقول أخرى من المعارف الإسلامية كالعقائد والتاريخ والملاحم، مما قد يربو عددهم على رواة الكتبِ الفقهية.

فإذا وافق مِن حُسن الحَظِّ أن رُوي للراوي في التاريخ والفقه معاً؛ وجدنا له ذكراً في كتبهم، أما إذا لم يَروِ شيئاً في الفقه؛ فإنه يكون مجهولاً، وإن كان مِن خَير خلق الله علماً وعملاً، كما تدل عليه الرواياتُ بالنسبة لعدد منهم (ص: 42 - 45) انتهى.

أقول: هذا كلام مفيد حرصت على تسجيله باختصارٍ؛ لأنه يمثل نقداً ذاتياً لتاريخ الإمامية، بغاية الموضوعية والصدق والتجرد.

ختاماً: إنّ الفارق كبيرٌ جدّاً بين قيمةِ كتب الإماميّةِ، وكتب أهل السنة الروائيّة.

لأسبابٍ كثيرةٍ، قد يتبيّن لنا بعضها في أثناء بقيّة الحلقاتِ التي سنكتبها في ترجمة الإمام عليّ عليه السلام، إن بقي في العمر متسع، وقدّر الله تعالى لي القيامَ بذلك.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.