الاثنين، 30 يناير 2023

 مَسائلُ حديثيّةٌ  (10):

هل أخطأ السخاويُّ على الإمام الشافعيّ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

نقل أحد أهلِ العِلمِ من السادةِ الحنفيّة أمسِ، عن الإمام السخاويّ، في كتابه فتح المغيث (1: 350) قولَه: «وَكَذَا إِذَا تَلَقَّتِ الْأُمَّةُ الضَّعِيفَ بِالْقَبُولِ؛ يُعْمَلُ بِهِ عَلَى الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّهُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْمُتَوَاتِرِ فِي أَنَّهُ يَنْسَخُ الْمَقْطُوعَ بِهِ.

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللهُ، فِي حَدِيثِ: (لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ): إِنَّهُ لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْحَدِيثِ، وَلَكِنَّ الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ، وَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخًا لِآيَةِ الْوَصِيَّةِ».

ولمعرفتي الأكيدةِ بأصول الإمام الشافعيّ وعلومه؛ علّقت ثمّةَ مباشرةً بأنّ هذا الكلام لا يقوله الشافعيّ، ربما كان من كلام السخاويّ!

ثمّ أحببت أن أقف على جليّة الأمر، فتوصّلتُ إلى الآتي:

أوّلاً: لم يستعمل الشافعيّ جملةَ (تلقّته العامّة بالقبول) أو (تلقّته الأمّة بالقبول) ولا مرّةً واحدةً في سائرِ كتبه، ولم ينقله عنه الإمام البيهقيّ الذي عُني بعلوم الشافعيّ أيما عنايةٍ، في أيّ واحدٍ من كتبه أيضاً.

ثانياً: ليس في كتب أصول الشافعية المطبوعة، ولا في كتب الفقه الشافعيّ كلّها؛ جملة (تلقّته العامّة بالقبول) والمقصود بالعامّة جماهير علماء الأمّة.

أمّا جملة (تلقّته الأمّة بالقبول) فقد أورد الإمام الماورديّ الشافعيّ (ت: 450) في كتابه الحاوي الكبير (9: 204) حديث أبي هريرة (لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا) من طريقين، ثمّ قال: «هَذَانِ الْحَدِيثَانِ نَصٌّ وَالثَّانِي أَكْمَلُ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْ وَاحِدٍ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ وَعَمِلَ بِهِ الْجُمْهُورُ، فَصَارَ بِأَخْبَارِ التَّوَاتُرِ أَشْبَهَ، فلزم الخوارجَ العملُ به، وإن لم يلتزموا أَخْبَار الْآحَادِ» انتهى.

وهذا كلام فقيه، وقد قدّمت بأنّ فقهاء الإسلام عامّةً - من جميع المذاهب - ضعفاءُ في نقدِ الحديثِ، وللأسف، والماورديُّ منهم!

ثم وجدتُ الإمامَ العمرانيّ اليمانيّ الشافعيّ (ت: 558 هـ) في كتابه البيان (5: 204) قال: «رويَ أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أرخص في بيع العرايا) فهذا الخبر تلقته الأمة بالقبول، واختلفوا في تأويله».

ثم وجدت الفقيهَ أبا عمرو ابنَ الصلاح (ت: 643 هـ) قال في الفتاوى (1: 231): «لَا يجوز الْقِرَاءَة من ذَلِك، إِلَّا بِمَا تَوَاتر نَقله واستفاض، وَتَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ، كهذه «القراءاتِ» السَّبع؛ فَإِن الشَّرْط فِي ذَلِك الْيَقِينُ وَالقَطْعُ على مَا تقرر فِي الْأُصُول».

هذا يعني أنّ جملة (تلقّته الأمّة بالقبول) ليست من ثقافة المذهب الشافعيّ، ولا من معتمداته!

ثالثاً: أوّل من نسب جملةَ (تلقّته العامّة بالقبول) للإمام الشافعيّ؛ هو الإمام الزركشيّ الأصوليّ الفقيه (ت: 794 هـ) في كتابه النُكت على علوم الحديث لابن الصلاح (1: 390) إذ قال:

«الثَّالِث: أَن الحَدِيث الضَّعِيفَ، إِذا تَلَقَّتْهُ الْأمةُ بِالْقبُولِ؛ عُمِلَ بِهِ على الصَّحِيحِ، حَتَّى إِنَّه يُنَزّل منزلَةَ الْمُتَوَاترِ، فِي أَنه يَنْسَخ الْمَقْطُوعَ بثبوته [لاحظ أخي القارئ، هذا كلام الزركشيّ نفسه].

وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي فِي حَدِيثِ (لَا وَصِيَّة لوَارث) إِنَّه لَا يُثبتهُ أهلُ الحَدِيث، وَلَكِن الْعَامَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقبُولِ، وَعمِلُوا بِهِ، حَتَّى جَعَلُوهُ نَاسِخاً لآيَة الْوَصِيَّة للْوَارِثِ» انتهى.

فيكون الإمام السخاويّ (ت: 902 هـ) نقل كلام الزركشيّ، من دون أن ينسبه إليه، كعادةِ أكثر العلماء!؟

رابعاً: نسبةُ الزركشيِّ هذا الكلامَ كلَّه إلى الشافعيّ؛ خطأٌ محضٌ منه، أو ممّن نقلَ عنه، ولم يميّز كلامَه عن كلامِ الشافعيّ، والصواب ما يأتي:

1- إنّ الشافعيّ لا يجوّز أن تَنسخَ السنّةُ القرآنَ، فضلاً عن أن ينسخ الحديث الضعيف القرآن!

قال الشافعي في اختلاف الحديث (ص: 29 - 30) نسخة الدكتور رفعت فوزي:

«وَالنَّاسِخُ مِنَ الْقُرْآنِ: الْأَمْرُ يُنْزِلُهُ اللهُ، مِنْ بَعْدِ الْأَمْرِ يُخَالِفُهُ.

 كَمَا حَوَّلَ الْقِبْلَةَ، قَالَ الله تعالى: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) [البقرة: 144].

وَقَالَ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة: 142] وَأَشْبَاهٌ كَثِيرٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.

قَالَ الشافعيّ: «وَلَا يَنْسَخُ كِتَابَ اللهِ، إِلَّا كِتَابُهُ؛ لِقَوْلِ اللهِ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) [البقرة: 106] وَقَوْلِهِ (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ؛ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) [النحل: 101].

فَأَبَانَ «اللهُ تعالى» أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ لَا يَكُونُ إِلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَأَبَانَ اللهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَى رَسُولِهِ اتِّبَاعَ أَمْرِهِ، فَقَالَ: (اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكِ) [الأنعام: 106] وَشَهِدَ لَهُ بِاتَّبَاعِهِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللهِ) [الشورى: 53] فَأَعْلَمَ اللهُ خَلْقَهُ أَنَّ «الرسولَ» يَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطِهِ.

قَالَ الشافعيّ: فَتُقَامُ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ مَعَ كِتَابِ اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ؛ مَقَامَ الْبَيَانِ عَنِ اللهِ عَدَدَ فَرْضِهِ، كَبَيَانِ مَا أَرَادَ بِمَا أَنْزَلَ عَامًّا: الْعَامَّ أَرَادَ بِهِ، أَوِ الْخَاصَّ، وَمَا أَنْزَلَ فَرْضًا وَأَدَبًا وَإِبَاحَةً وَإِرْشَادًا.

لَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ فِي حَالٍ؛ لِأَنَّ اللهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّ رَسُولَهُ يَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللهِ.

وَلَا أَنَّ شَيْئًا مِنْ سُنَنِ رَسُولِ اللهِ؛ نَاسِخٌ لِكِتَابِ اللهِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ، وَالسُّنَّةُ تَبَعٌ لِلْقُرْآنِ».

فما استنبطه الزركشيّ من كلام الشافعيّ في أنّ حديث (لا وصيّة لوارثٍ) نسخ آيةَ الوصايا؛ باطل جزماً.

2- الشافعيّ لم يقلْ أبداً: إنّ حديثَ (لا وصيّةَ لوارث) لا يثبتُه أهل الحديث، فهذا وهمٌ من الزركشيّ أيضاً، تابعه عليه السخاويُّ!

قال الشافعيّ في رسالته الأصوليّة (ص: 137) نسخة أحمد شاكر:

«قال الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا؛ وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ؛ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) [البقرة] .

فأنزل الله ميراثَ الوالِدَيْن، ومَن وَرث بعدَهما ومَعَهما من الأقْرَبِين، وميراثَ الزوج من زوجته، والزوجةِ من زوجها، فكانت الآيتان محتملتين:

- لأن تُثْبِتا الوصيةَ للوالدَيْن والأقربين، والوصيَّةَ للزوج، والميراثَ مع الوصايا، فيأخذون بالميراث والوصايا «معاً».

- وكانت محتملةً بأن تكون «آيةُ» المواريث ناسخةً للوَصَايَا.

فلَمَّا احتملتْ الآيتان ما وصفنا؛ كان على أهلِ العلم طَلَبُ الدِّلالة من كتاب الله، فما لم يجدوه نصاً في كتاب الله؛ طَلَبُوه في سنة رسول الله، فإن وَجَدوه:

فما قَبِلُوا عن رسول الله؛ فَعَنْ اللهِ قَبِلُوهُ، بما افْتَرَضَ «الله عليهم» مِن طاعته.

ووَجدْنا أهلَ الفُتْيَا، ومَنْ حَفِظْنَا عنه مِنْ أهل العلم بالمَغَازِي، مِنْ قُريش وغيرهمْ، لا يختلفون في أنَّ النبي قال عامَ الفَتْحِ: (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ، وَلاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ). ويَأْثرونه عَمَّنْ حَفظوا عنه، مِمَّنْ لَقُوا من أهل العلم بالمغازي.

فكان هذا نَقْلَ عامَّةٍ عنْ عامَّةٍ، وكان أقوى في بعض الأمْرِ مِن نقْلِ واحدٍ عن واحدٍ، وكذلك وجدنا أهل العلم عليه مُجتمعين [انتبه أخي القارئ].

قال الشافعيُّ: ورَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه أنَّ بعضَ رِجاله مجهولٌ، فَرَوَيْناه عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُنقطِعاً [يعني مرسلاً في الاصطلاح].

أخْبَرنا سفيان بن عيينةَ «المكيّ» عن سليمانَ «بن أبي مسلمٍ» الأحْوَلِ «المكيّ» عن مجاهدِ «بن جبرٍ المكيّ» أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ).

وإنما قَبِلْنَاه «مع انقطاعه» بما وَصَفْتُ مِن نقْلِ أهلِ المغازي وإجماعِ العامّة عليه.

وإن كُنَّا قد ذكرنا الحديث فيه، واعتمدنا على حديثِ أهل المغازي عامًّا، وإجماع الناس.

فاستدللنا بما وصفتُ، من نقْلِ عامَّة أهل المغازي عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنْ (لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) على أنَّ «آيةَ» المواريث ناسخة للوصية للوالدين والزوجةِ، مع الخبر المُنْقَطع عن النبي، وإجماعِ العامَّة على القول به» [فآية المواريث هي الناسخة، والحديث مبيّن].

والذي جعلَ الزركشيَّ يخطئ في فهم كلام الشافعيّ؛ توهُّمه أنّ قول الشافعيّ:

«رَوَى بعضُ الشَّامِيِّين حديثاً ليس مما يُثْبِتُه أهل الحديث، فيه «أي: في الباب» أنَّ بعضَ رِجاله مجهولٌ».

ظنّ الزركشيّ أنّ هذا الكلام حكمٌ على حديث مجاهدٍ، وهذا خطأً محض، إنما هو حكمٌ على حديثِ أبي أمامة الشاميّ!
قال أبو داود في سننه (2120): حدّثنا عليُّ بن حُجرٍ «السعديُّ» وهنّادُ «بن السريّ التميميُّ» قالا: حدّثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ, عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ: (إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ) الحديثَ بطوله.

إسماعيل بن عيّاش: حمصيّ، وشُرحبيل بن مسلم دمشقيّ، وأبو أمامة شاميّ أيضاً.

فهذا الحديثُ الذي عناه الشافعيّ بقوله: «لا يثبته أهل الحديث» فجعله الزركشيّ حكماً على حديث مجاهد المكيّ؛ توهّماً من دون شكٍّ، وتابعه السخاويّ على وهمه!

وكأنّ الشافعيَّ يشير إلى أنّ شُرَحبيلَ بن مسلمٍ الخولانيَّ مجهولٌ!

قال المزيّ في تهذيبه (12: 430): «رَوَى عَنه إسماعيل بْن عياش (د ت ق) وثور بْن يزيد، وحريز بْن عُثْمَانَ، وأَبُو وهب عُمَر بْن عبد الرحمن القيسيّ الشاميّون.

ويبدو لي أنّ رواياته التي وصلت إلى الإمام الشافعيّ؛ كانت من طريق إسماعيل بن عيّاش الحمصيّ، إذ جميع رواياته في مسند أحمد، وعند أصحاب السنن، من طريق إسماعيلَ عنه، وهو ضعيف عند أهل الحديث، فحكم الشافعيّ بجهالته، والله تعالى أعلم.

أمّا مسألة تلقّي الأمةِ، أو تلقّي علماءِ الأمةِ، أو تلقّي عامّة العلماء الحديثَ بالقبول؛ فلم أجد أحداً قالها من محدّثي الحنفيّة والمالكية والشافعية والحنابلة، حتى انقضاءِ أربعةِ قرونٍ من تاريخ الإسلام!

وأوّل مَن أطلقها ممّن يحسب على المحدّثين؛ هو أبو عمر بن عبدالبَرِّ (ت: 463 هــ) في كتابيه الاستذكار (2: 471) و(7: 163، 185، 289) وفي جامع بيان العلم (1: 600) ولم يستعمل شيئاً من هذه المصطلحات في شرح الموطّأ «التمهيد»!

ووجدت نصّاً للإمام السمعانيّ الشافعيّ (ت: 489 هـ) في كتابه الانتصار لأصحاب الحديث (ص: 34) نسبه إلى سائر أهل الحديث، فقال: « إِذا صَحَّ الخَبَرُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرَواهُ الثِّقَاتُ وَالْأَئِمَّةُ، وأسنده خَلفهم عَن سلفهم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ؛ فَإِنَّهُ يُوجب الْعلم فِيمَا سَبيلُه الْعلم.

هَذَا قَول عَامَّة أهلِ الحَدِيثِ والمتقنينَ مِن القائمين على السّنة».   

وكلامُ السمعانيِّ؛ ليس في ساحة الدعوى «تلقي الأمة الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به».

وجملة (تلقته الأمّة بالقبول) حنفيّة المنشأ، وأوّل من وقفت عليه ممن استعملوها؛ الإمام الشاشيّ (ت: 344 هــ ) في كتابه الأصول (ص: 272) قال: «الْمَشْهُور مَا كَانَ أَوّله كالآحادِ، ثمَّ اشْتهر فِي الْعَصْر الثَّانِي وَالثَّالِث (وَتَلَقَّتْهُ الْأمة بِالْقبُولِ) فَصَارَ كالمتواتر حَتَّى اتَّصل بك.

وَذَلِكَ مثل حَدِيث الْمسْح على الْخُفِّ، وَالرَّجمِ فِي بَاب الزِّنَا !

ثمَّ الْمُتَوَاترُ يُوجب العلمَ الْقطعِيَّ، وَيكون رَدُّه كُفراً.

وَالْمَشْهُور يُوجب علم الطُّمَأْنِينَةَ، وَيكون رَدُّه بِدعَةً، وَلَا خلاف بَين الْعلمَاء فِي لُزُوم الْعَمَل بهما، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْآحَادِ!

فَنَقُولُ: خَبرُ الْوَاحِدِ: هُوَ مَا نَقله وَاحِدٌ عَن وَاحِدٍ، أَو وَاحِدٌ عَن جمَاعَةٍ، أَو جمَاعَةٌ عَن وَاحِدٍ، وَلَا عِبْرَة للعَددِ إِذا لم يَبلغْ حَدَّ الْمَشْهُورِ.

وَخَبرُ الواحِدِ: يُوجب الْعَمَلَ بِهِ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، بِشَرْطِ إِسْلَام الرَّاوِي وعدالته وَضَبطه وعقله، واتصل بك ذَلِك مِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا الشَّرْط»!

قال الفقير عداب: وكلام الإمام الشاشيّ رائقٌ لا غبار عليه أيضاً، فهذه شروطُ المحدّثين لصحّة الحديثِ ذاتها، وليس هو في باب المسألة المطروحة «تلقي الأمة الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به»!؟

خِتاماً: أنا الفقيرُ إلى الله تعالى أؤمن بالتخصّص:

- فإذا كانت المسألةُ في ثبوتِ الحديثِ؛ فالعبرةُ بكلام المحدّثين، دون غيرهم، أيّاً كان هذا الغير!

- وإذا كانت المسألةُ في القراءات؛ فلا عبرة بقولِ المحدّثين؛ لأنّ ما يتواتر عند القرّاء؛ قد لا يعرفه المحدّثون غيرُ القرّاء!

ومسألة «تلقي الأمة الحديثَ الضعيف بالقبول؛ يوجب، أو يجيز العملَ به» مسألةِ إثباتٍ للحديثِ، فمردّها إلى أهل الحديثِ، ولا شأنَ للفقهاء بها، وكلامهم وعدمه في القيمةِ سواء.

- وكلام الحنفيّةِ حِيالَ هذه المسألةِ؛ يحتاجُ إلى بحثٍ خاصّ، من محدّثٍ محايدٍ؛ لأنّ علماء الحنفيّة ضعفاء في نقد الحديث، قديماً وحديثاً، بَدْءاً من الإمام أبي حنيفةَ وأبي يوسفَ ومحمد بن الحسن، رحمهم الله تعالى، وإلى يومِنا هذا.  

ولذلك راحَ بعضُ المتأخّرين من علمائهم يخترعون لنا قواعدَ في علوم الحديثِ، وفي الجرح والتعديل، وفي قَبولِ العَملِ بالحديثِ الضعيفِ؛ ليسوّغوا اجتهاداتِ فقهائهم المتقدّمين، الذين لا خبرةَ لديهم بنقد الحديث!

ولا يَغترنَّ أحدٌ بانتشارِ المذهب الحنفيّ، أكثرَ من أيِّ مذهبٍ آخر في العالم الإسلاميّ، فقد ظلّت السلطنةُ العثمانيّة تحكم العالم الإسلاميَّ أكثر من أربعة قرون، كان المذهبُ الحنفيُّ فيها المذهبَ الرسميَّ للدولةِ، والناس على دين ملوكهم!

واللهُ تَعالى أعْلمُ

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 29 يناير 2023

 مَسائلُ حديثيّةٌ  (9):

لا يجوز العمل بالحديث الضعيف في العقائد والأحكام !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قرأت لأحد إخواني القدماء الكرام كلاماً عن العمل بالحديثِ الضعيف، ونقل عن السخاويّ كلاماً نسبه خطأً إلى الإمام الشافعي!

وكنت كتبت بحثاً حيال هذه المسألة، عام (1995م) فرأيت من المناسب أن أنقل لكم منه كلام أهل الحديثِ في منشور، وكلام أهل الفقه في منشور تالٍ.

فأقول وبالله التوفيق:

المطلب الخامس: مذاهب المحدثين في العمل بالأحاديث الضعيفة

إنَّ الاقتصار على رواية الأحاديث الصحيحة؛ هو الواجب على أهل العلم، لأنَّ العوامّ تَبَع لهم، أو هكذا يفترض.

والعامّي إذا سمع العالم، أو الواعظ، أو الخطيب، يقول: قال رسول الله ، فإنّه يفهم مباشرة أن الحديث الذي قاله صحيح.

فإذا كان في الحديث أحكام شرعيّة، أو أمور اعتقاديّة، وكان الحديث ضعيفاً؛ فإن العامي سيفهم أموراً، ويعتقد أموراً قد تكون مما لم يَشرع الله، ولم يأذن به، فيكون العالم برواية الحديث الضعيف ساكتاً عن ضعفه؛ قد أوقع الناس بالتقول على الله، وعلى رسوله فيضل، ويضلّون معه!

وقد نقل العلامة الشيخ القاسمي في قواعد التحديث، عن الأئمة يحيى بن معين، والبخاري، ومسلم، وابن حزم، أنَّ الحديث الضعيف الذي لا يرقى إلى أدنى مراتب الاحتجاج؛ لا يجوز العمل به مطلقاً، لا في العقائد والأحكام، ولا في الزهد والرقائق، ولا في الثواب والعقاب([1]).

1. قال ابن المبارك، رحمه الله تعالى (ت 181هـ): «في صحيح الحديث شُغُل عن سقيمه»([2]).

2. قال الامام مسلم، رحمه الله تعالى (ت 261هـ): «لولا الذي رأينا من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدِّثا، فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة، والروايات المنكرة، وتركهم الاقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة، مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة...، لما سهل علينا الانتصاب لما سألت من التمييز والتحصيل.

ولكن من أجل ما أعلمناك من نشر القوم الأخبار المنكرة بالأسانيد الضعاف المجهولة، وقذفهم بها إلى العوامّ الذين لا يعرفون عيوبها؛ خفّ على قلوبنا إجابتك لما سألت.

واعلم – وفّقك الله تعالى!- أنَّ الواجب على كلّ أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات، وسقيمها، وثقات الناقلين لها، من المتّهمين، ألا يروي إلا ما عرف صحّة مخارجه، والستارة في ناقليه، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم، والمعاندين من أهل البدع»([3]).

3. وقال الامام ابن حبّان، رحمه الله تعالى (ت 354هـ): «لسنا نَسْتجيز أن نحتجَّ بخبرٍ لا يصح من جهة النقل في شيء من كتبنا، ولأن فيما يصح من الأخبار – بحمد الله ومنّه- ما يغني عن الاحتجاج في الدين بما لا يصحُّ منها»([4]).

«وإني خائف على من روى ما سمع من الصحيح والسقيم، أن يدخل في جملة الكذبة على رسول الله ، إذا كان عالماً بما يروي...

وفي أمر النبيّ  أمّته بالتبليغ عنه مَنْ بَعدهم، مع ذكره إيجابَ النّار للكاذب عليه؛ دليل على أنّه إنّما أمر بالتبليغ عنه ما قاله  أو كان من سنته فعلاً أو سكوتـاً عند المشاهدة، لا أنّه يدخل في قوله : (نضّر الله امرءاً) المحدّثون بأسرهم.

بل لا يدخل في ظاهر هذا الخطاب، إلاّ من أدّى صحيح حديث رسول الله  دون سقيمه»([5]).

4. وقال الحافظ الدارقطني، رحمه الله تعالى (ت 385هـ): «لولا أن أئمتنا –رحمهم الله- كثُرت عنايتهم بأمر الدين، فحفظوا السنَن على المسلمين، وتمييزهم بين الصحيح والسقيم، لظهر في الأمة من التبديل والتحريف، ما ظهر في الأمم الماضية من قبلها، لأنّا لا نعلم أمةً من الأمم قبل أمتنا، حفظت عن نبيّها، وحفظت على أمته من بعده من أمر دينها، ونفت عن شريعته التبديل والتحريف ما حفظت هذه الأمة.

ثم وفق الله تعالى هؤلاء الأئمة، لضبط ذلك والعناية به، حتى لا يتمكّن زائغ، ولا مبتدع أن يزيد في سنّة رسول الله  ألِفا، ولا واواً، إلا أنكروه ونبّهوا عليه، وميّزوا خطأ ذلك من صوابه، وحقّه من باطله، وصحيحه من سقيمه، فلولا قيامُهم بذلك، وذبُّهم عنه، لقال من شاء من الزائغين؛ ما شاء»([6]).

5. وقال الخطيب البغدادي، رحمه الله تعالى (ت 456هـ): «لو عمل بخبرِ مَن ليس هو عنده عدلاً؛ لم يكن هو عدلاً، يجوز الأخذ بقوله، والرجوع إلى تعديله؛ لأنّه إذا احتملت أمانته أن يعمل بخبر من ليس بعدل عنده، احتملت أمانته أن يُزكّي ويُعدّل من ليس بعدل»([7]).

6.وقال الامام النووي، رحمه الله تعالى (ت676 هـ): «إنَّ الأئمة لا يروون عن الضعفاء شيئاً يحتجّون به على انفراده في الأحكام، هذا لا يفعله إمام من أئمة المحدثين، ولا محقق من غيرهم من العلماء.

وأما فعل كثير من الفقهاء، أو أكثرهم ذلك - أي الاحتجاج بالضعيف في الأحكام- واعتمادهم عليه فليس بصواب، بل هو قبيح جدا، وذلك لأنّه:

- إذا كان يعرف ضعفَه؛ لم يحل له أن يحتجّ به، فإنّهم متّفقون على أنّه لا يحتجُّ بالضعيف في الأحكام.

- وإن كان لا يعرف ضعفه؛ لم يحلّ له أن يهجم على الاحتجاج به من غير بحث عليه بالتفتيش عنه إن كان عارفاً، أو بسؤال أهل العلم به، إن لم يكن عارفاً، والله أعلم”([8]).

7. وقال الشيخ  ابن القيم، رحمه الله تعالى (ت 751هـ): «ليس المراد بالضعيف عند أحمد، الباطل، ولا المنكر، ولا ما في روايته متّهم، مما لا يسوغ الذهاب إليه، والعمل به، بل الحديث الضعيف عنده قسيم الصحيح، من أقسامه الحسن.

ولم يكن الحديث يقسم إلى صحيح وحسن وضعيف، بل إلى صحيح وضعيف، وللضعيف مراتب» ([9]).

قلت: مذهب الامام أحمد في مفهوم الضعيف يأتي تقريره، لكنَّ كلام ابن القيّم يدلّ على أنّه لا يُعمل بالضعيف.

8. وقال الشيخ ابن تيمية، رحمه الله تعالى (ت 728هـ): إنَّ الاستحباب حكم شرعي، فلا يثبت إلاّ بدليل شرعيّ، ومن أخبر عن الله تعالى أنّه يحب عملاً من الأعمال، من غير دليل شرعي فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله، كما لو أثبت الايجاب، أو التحريم.

ولهذا يختلف العلماء في الاستحباب، كما يختلفون في غيره. بل هو أصل الدين المشروع...، فما عليه العلماء من العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ليس معناه إثبات الاستحباب بالحديث الذي لا يُحتجّ به، وإنّما مرادهم بذلك، أن يكون العمل مما قد ثبت أنّه مما يحبّه الله، أو يكرهه الله، بنصٍّ أو إجماع: كتلاوة القرآن والتسبيح، والدعاء، والصدقة، والعتق، والاحسان إلى الناس وكراهية الكذب، والخيانة، ونحو ذلك.

فإذا رُويَ حديثٌ في بعض الأعمال الصالحة، مثل التلاوة والذكر، أو الاجتناب لما كره من الأعمال السيئة؛ جازت روايته والعمل به بمعنى:

أنَّ النفس ترجو ذلك الثواب، أو تخاف ذلك العقاب...

ومثال ذلك: الترغيب والترهيب بالاسرائيليات، والمنامات وكلام السلف، والعلماء، ووقائع العلماء، ونحو ذلك، مما لا يجوز بمجرّده إثباتُ حكم شرعي، لا استحبابٍ ولا غيره، ولكن يجوز أن يذكر في الترغيب والترهيب، والترجية، والتخويف.

فما عُلم حسنه، أو قبحه، بأدلّة الشرع؛ فإنَّ ذلك ينفع ولا يضر...، فإذا تضمّنت أحاديث الفضائل الضعيفة تَقديراً، وتحديداً مثل صلاة في وقت معيّن، بقراءة معيّنة، أو على صفة معيَّنة؛ لم يَجزْ ذلك، لأنَّ استحباب هذا الوصف المعـيّن، لم يَثْبت بدليل شرعيّ، بخلاف ما لو رُوي فيه: (من دخل السوق، فقال: لا إله إلا الله كان له من الأجر كذا وكذا)، فإنّ ذكر الله تعالى في السوق مستحب، لما فيه من ذكر الله بين الغافلين كالشجرة الخضراء بين الشجر اليابس» ([10]) فتقدير الثواب المروي فيه، لا يضرّ ثبوته، ولا عدم ثبوته.

وفي مثله جاء الحديث الذي رواه الترمذي: (من بلغه عن الله شيء فيه فضل، فعمل به رجاء ذلك الفضل، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك، كذلك)([11]).

فالحاصل: أن هذا الباب يُروى، ويعمل به في الترغيب والترهيب، لا في الاستحباب ثم اعتقاد موجبه، وهو مقادير الثواب والعقاب؛ فمثل هذا يتوقف على الدليل الشرعي»     ([12]).

9. وقال الحافظ ابن حجر، رحمه الله تعالى (ت 852هـ): «إنَّ القائلين بجواز العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال قيّدوه بشروط، منها:

أ. أن يعتقد العامل به كونَ الحديث الوارد في ذلك الأمر ضعيفاً.

ب. أن لا يُشهِرَ ذلك، لئلاّ يعمل المرء بحديث ضعيف، فيشرع ما ليس بشرع، أو يراه بعض الجهّال، فيظنّ أنّه سنّة صحيحة...

وقد صرّح بنحو ذلك الأستاذ العزّ ابن عبد السلام([13])، وغيره.

وليحذر المرء من دخوله تحت قوله : (من حدث عني بحديث يرى أنّه كذب، فهو أحد الكاذبين)([14]).

فكيف بمن عمل به، ولا فرق في العمل بالحديث في الأحكام أو في الفضائل، إذ الكلّ شرعٌ»  ([15]).

وقد كتب عدد من العلماء حيال قضية العمل بالحديث الضعيف، لم أجد في كتاباتهم إضافة على ما سبق، لكن الأمانة تقضي بذكرهم لبيان جهودهم، والاعتراف بفضل سبقهم، والافادة من كتابتهم ومصادرهم([16]).

وسئل الحافظ الفقيه أحمد بن حجر الهيتمي المكي رحمه الله تعالى (ت 974هـ) عن خطيب يرقى المنبر في كلّ جمعة، ويروي أحاديث كثيرة، ولا يبيّن مخرّجيها، ولا رواتها… إلخ.

فأجاب: «ما ذَكره من الأحاديث في خطبه، من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها – يعني خرّجها- فجائزة، بشرط أن يكون من أهل المعرفة في الحديث، أو ينقلها من كتابٍ مؤلفه كذلك، يعني من أهل المعرفة في الحديث.

وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتابٍ، ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خُطب، ليس مؤلفها كذلك؛ فلا يحلّ ذلك، ومن فعله عُزّر عليه التعزير الشديد، وهذا حال أكثر الخطباء، فإنّهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث؛ حفظوها وخطبوا بها، من غير أن يعرفوا، أنَّ لتلك الأحاديث أصلاً أم لا!!

فيجب على حكّام كلّ بلد، أن يزجروا خطباءها عن ذلك، ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك إن ارتكبه» انتهى بحروفه.

ثمّ أجاب على طرفٍ من السؤال يتعلق بذمِّ التجار، وختم جوابه بقوله:

«وإذا تقرَّر أن التجّار على قسمين، فلا يسوغ لهذا الخطيب أن يأتي بما يقتضي الذَّم لجميع التجّار، بل عليه أن يبيّن للناس الاجمال الواقع فيما يرويه، أو يخطب به، هذا إن كان من أهل ذلك، وإلا فليراجع العلماء، ويسألهم عن الأحاديث وأحكامها، ثم يخطب بها.

وأمّا مع عدم ذلك؛ فلا ينبغي ولا يسوغ، فإنَّ كثيراً من العوامّ، إذا سمعوا لفظاً مجملاً كالرّواية التي ذكرها هذا الخطيب يقولون: إنَّ جميع التجار فجّار، إلاّ من فرّق ماله...

وبعد أن عُلم ما قررته، فالذي ينبغي لهذا الخطيب أن يراعي ما ذكرناه، وأن يعمل بمقتضاه، وإلاّ ترتب عليه مقتضى أفعاله”([17]).

ختاماً: مَن نقل دعوى إجماع العلماء على الاحتجاج بالحديثِ الضعيفِ، أو العمل به في شيءٍ من الأحكام والعقائد؛ فكلامه مردودٌ عليه، ولا قيمةَ له ولا اعتبار!

وفي المنشور التالي؛ سأوضّح كلام الفقهاء في هذه المسألة، إنْ شاء الله تعالى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


([1]) قواعد التحديث للقاسمي، ص113.

([2]) سير أعلام النبلاء، للذهبي 8/403.

([3]) صحيح مسلم، المقدمة 1/8.

([4]) كتاب المجروحين، لابن حبان 1/24.

([5]) ما سبق 1/6، ومقدمة المجروحين كلّها أدلة على وجوب الاقتصار على الحديث الصحيح، والحافظ ابن حبان من كبار فقهاء أهل الحديث الذين مكنهم الله من علوم العربية، والأصول، والفقه، والحديث؛ فانظر كلاماً طيباً له في مقدمة المجروحين 1/19، 25، 27، 33-34، 89 ولزاماً ص13.

([6]) مقدمة كتاب الضّعفاء والمتروكين، للدارقطني ص15.

([7]) الكفاية ص155.

([8]) قواعد التحديث، للقاسمي ص 194-195 نقلاً عن المجموع شرح المهذب.

([9]) أعلام الموقعين عن رب العالمين 1/31. وقد أخَّرت كلام ابن تيمية لغرض يبدو لك قريبـاً.

([10]) هذا الحديث منسوب إلى مالك، فيبدو أنه في غرائب مالك. انظر جامع الأصول 4/479؛ فقد خرّجه محقق الجامع الصغير، والترغيب للمنذري= =وحلية الأولياء، وغيرها من الكتب. وخلاصة تخريجه أن الحديث ضعيف جداً، وانظر الفردوس بمأثور الخطاب 2/242.

ويشهد له من الأحاديث الصحيحة الثابتة حديث في الصحيحين، عن أبي هريرة مرفوعاً عن رب العزة تعالى، قال: (... وإن ذكرني في ملأ، ذكرته في ملأ خير منه) وغيره. انظر جامع الأصول 4/476.

([11]) قال الحافظ السخاوي في المقاصد الحسنة ص (191) لا يعرف، وأورده السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 2/214. وقال الشيخ الألباني: موضوع. وانظر تخريجه المطوَّل للحديث في سلسلته الضعيفة 1/456 رقم الحديث (451).

([12]) فتاوى الشيخ ابن تيمية 18/65.

([13]) هو الفقيه الكبير المجتهد، عبد العزيز بن عبد السلام السلمي (577-660هـ)، الدمشقي، المشهور بالعزِّ، وعزِّ الدين، والملقب سلطان العلماء. انظر الأعلام للزركلي 4/144.

([14]) أخرجه مسلم في مقدّمة صحيحه 1/9، وانظر كلاماً نفيساً في فهم هذا الحديث، لابن حبان في صدر كتاب المجروحين 1/7-8.

([15]) سلسلة الأحاديث الضّعيفة رقم (451) نقلاً عن تبيين العجب في فضل رجب لابن حجر ص3-4.

([16]) من هؤلاء الأفاضل العلامة القاسمي في قواعد التحديث، والشيخ أحمد محمّد شاكر في تعليقاته المتقنة على اختصار علوم الحديث ص100، والشيخ محمّد ناصر الدين الألباني في عدد من كتبه، وخاصة في مقدمتي السلسلتين، بل إنه أشدّ من قرأت له من العلماء في هذا الموضوع، وقد كرّس حياته كلّها للدفاع عن رأيه فيه، والشيخ صبحي صالح في كتابه علوم الحديث ومصطلحه والشيخ نور الدين عتر في كتابه منهج النقد في علوم الحديث، والشيخ محمّد أديب صالح في كتاب لمحات في أصول الحديث، والشيخ سالم علي الثقفي في مفاتيح الفقه الحنبلي والشيخ محمّد لطفي الصبّاغ في كتابه الحديث النبوي ومقال له في مجلة حضارة الاسلام، العدد 2، شهر ربيع الآخر سنة 1396هـ. والشيخ علي مُشْرِف العمري مقال له في مجلة الجامعة السلفية في الهند، العدد 5، 26 جمادى الثانية 1408هـ، والشيخ نهاد عبد الحليم عبيد في رسالته الجيّدة الوضع في الحديث وآثاره السيئة على الأمة، رسالة ماجستير من جامعة أم القرى بمكة المكرمة، وأستاذي العلامة الشيخ الصالح أحمد محمّد نور سيف في ابن معين وكتابه التاريخ، وغيرهم، جزى الله الجميع خيراً.

([17]) الفتاوى الحديثية ص 37-38. 

السبت، 28 يناير 2023

  مَسائلُ حديثيّةٌ  (8):

حديثُ رضاعِ الكبير !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني عديدون عن حديث «رضاع الكبير» ولم أقم بنشر تخريجي هذا الحديث نقديّاً، حتى لا يفهم أحدٌ أني أسيء إلى أمّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها.

بيد أنني وقفت على أكثرَ من خمسةِ مقاطع صوتيّة، يتحدّث فيها مَن يفهم ومَن لا يفهم، وجميع من استمعتُ إليه؛ لم يتكلّم بالحقيقةِ كاملةً في تخريج هذا الحديثِ، وللأسف!

بإسنادي إلى الإمامِ مسلم في كتاب الرضاعِ، باب رضاع الكبير (1453) قال رحمه الله تعالى:

1- حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالا: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عبْدِالرَّحْمَنِ بنِ القَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ  اللَّهِ! إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ، وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ e: (أَرْضِعِيهِ) قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ  اللهِ e وَقَالَ: (قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ).

زَادَ عَمْرٌو فِي حَدِيثِهِ: وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً.

وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ: «فَضَحِكَ رَسُولُ  اللهِ e».

2- وَحَدَّثَنا إِسْحَقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيُّ وَمُحَمَّدُ بنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعاً عَنِ الثَّقَفِيِّ. قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا عبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ القَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ سَالِماً مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ كَانَ مَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَأَهْلِهِ فِي بَيْتِهِمْ فَأَتَتْ، تَعْنِي ابْنَةَ سُهَيْلٍ النَّبِيَّ e فَقَالَتْ: «إِنَّ سَالِماً قَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ وَعَقَلَ مَا عَقَلُوا، وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْنَا، وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئاً» فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ e: (أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ، وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ). فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: «إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ».

3- وَحَدَّثَنا إِسْحَقُ بنُ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدُ بنُ رَافِعٍ، وَاللَّفْظُ لابنِ رَافِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ القَاسِمَ بنَ مُحَمَّدِ بنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بنِ عَمْرٍو جَاءَتِ النَّبِيَّ e فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ  اللَّهِ، إِنَّ سَالِماً - لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ - مَعَنَا فِي بَيْتِنا، وَقَدْ بَلَغَ مَا يَبْلُغُ الرِّجَالُ، وَعَلِمَ مَا يَعْلَمُ الرِّجَالُ؟ قَالَ: (أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ)!

قَالَ «عبدالله ابن أبي مليكةَ»: فَمَكَثْتُ سَنَةً أَوْ قَرِيباً مِنْهَا لا أُحَدِّثُ بِهِ، وَهِبْتُهُ.

ثُمَّ لَقِيتُ القَاسِمَ، فَقُلْتُ لَهُ: «لَقَدْ حَدَّثْتَنِي حَدِيثاً مَا حَدَّثْتُهُ بَعْدُ»؟

قَالَ: «فَمَا هُوَ؟» فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: «فَحَدِّثْهُ عَنِّي أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْنِيهِ».

4- وَحَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ حُمَيْدِ بنِ نَافِعٍ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ لِعَائِشَةَ: إِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكِ الغُلامُ الأَيْفَعُ الَّذِي مَا أُحِبُّ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيَّ. قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَمَا لَكِ فِي رَسُولِ  اللهِ e أُسْوَةٌ؟ قَالَتْ: إِنَّ امْرَأَةَ أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ  اللَّهِ! إِنَّ سَالِماً يَدْخُلُ عَلَيَّ وَهُوَ رَجُلٌ، وَفِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْهُ شَيْءٌ. فَقَالَ رَسُولُ  اللهِ e: (أَرْضِعِيهِ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكِ).

5- وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ وَهَارُونُ بنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيُّ، وَاللَّفْظُ لِهَارُونَ قَالا: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بنُ بُكَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بنَ نَافِعٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ e تَقُولُ لِعَائِشَةَ: وَ اللهِ مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ يَرَانِي الغُلامُ قَدْ اسْتَغْنَى عَنِ الرَّضَاعَةِ. فَقَالَتْ: لِمَ؟ قَدْ جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى رَسُولِ  اللهِ e فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ  اللَّهِ! و الله إِنِّي لأَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ.

قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ  اللهِ e: (أَرْضِعِيهِ) فَقَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ.

فَقَالَ: (أَرْضِعِيهِ يَذْهَبْ مَا فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ) فَقَالَتْ: «وَاللهِ مَا عَرَفْتُهُ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ».

هذا الحديثُ أخرجه كثيرون، والذي يُهمّنا ههنا؛ تَخريجُ أصحاب الصحاح.

فقد أخرجه غير مسلمٍ؛ ابنُ الجارود في المنتقى (690) وأبو عَوانة في مستخرجه من طرقٍ كثيرةٍ (4861 -  4870) وابن حبّان في صحيحه (4213، 4214) والحاكم في المستدرك (2692، 6902، 6903) وأبو نعيم في مستخرجه على صحيح مسلم، من طرق (3402- 3406).

مدار حديث البابِ على عائشة رضي الله عنها، رواه عنها:

ابن أخيها القاسم بن عبدالرحمن، عند مسلم وأبي عوانة وابن حبان وغيرهم.

وعروة بن الزبير، عند ابن الجارود، وأبي عوانة والحاكم وغيرهم.

وزينب بنت أمّ سلمة، عند مسلم وأبي عوانة وابن حبان وغيرهم.

والأسانيد إلى هؤلاء صحيحةٌ ولا غُبار عليها.

وللحديث شاهدان:

أحدهما حديث أمّ سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ أخرجه مسلم (1454) قال: حَدَّثَنِي عبدُ المَلِكِ بنُ شُعَيْبِ بنِ اللَّيْثِ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي: حَدَّثَنِي عُقَيْلُ بنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بنُ عبدِاللهِ بنِ زَمْعَةَ أَنَّ أُمَّهُ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّهَا أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ e كَانَتْ تَقُولُ: «أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ e أَنْ يُدْخِلْنَ عَلَيْهِنَّ أَحَداً بِتِلْكَ الرَّضَاعَةِ، وَقُلْنَ لِعَائِشَةَ: وَاللهِ مَا نَرَى هَذَا إِلا رُخْصَةً أَرْخَصَهَا رَسُولُ  اللهِ e لِسَالِمٍ خَاصَّةً، فَمَا هُوَ بِدَاخِلٍ عَلَيْنَا أَحَدٌ بِهَذِهِ الرَّضَاعَةِ وَلا رَائِينَا».

وأخرجه أَحْمَدُ في باقي مسند الأنصار (26660) وأبو عوانة في المستخرج (3: 122) (4434) وأبو نعيم في المستخرج (4: 127) والنسائي في كتاب النكاح، باب رضاع الكبير (3325) والنسائي في السنن الكبرى (3: 304) والبيهقي في السنن الكبير (7: 460).

وشاهدٌ آخر من حديث سهلة بنت سهيل ذاتها، أخرجه الحاكم في المستدرك (6902) من حديث عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ: ثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأنصاريِّ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَهْلَةَ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ سالماً، فَأَرْضَعَتْهُ وَهُوَ رَجُلٌ بَعْدَمَا شَهِدَ بَدْرًا.

وأخرجه أحمد ابن حنبل في مسنده (27005) من طريق عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلَةَ، وأخرجه غيره أيضاً. 

فصحّةُ حديثِ رضاع الكبير؛ لا غُبار عليها أبداً، إنّما الإشكالُ في متن الحديث!

والإشكالات التي تُثار على متن الحديث:

الأوّل: أنّ سهلة بنت سهيل؛ لم يكن لديها طفلٌ ترضعه، فكيف يأمرها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بإرضاعِه، وليس لديها لبن يُرتضع منه؟

والثاني: كيف يأمر الرسول امرأة كبيرةً بأن ترضع رجلاً كبيراً شاركَ في معركة من معارك الإسلام، وقد كان مبيتُه ممكناً مع عشراتٍ من أهلِ الصفّة؟

والثالث: إذا أثبتّم الخصوصية، كما تقول أمّ سلمة وسائر أمهات المؤمنين رضي الله عنهنّ، فكيف تخالف عائشةُ جميع نساء الرسول، وتفتي بهذا الحكم إلى آخر عمرها؟

أمّا الجواب على الإشكال الأوّل فنقول: إذا ثبت أنّ الرضاعَ خاصٌّ بسالمٍ مولى أبي حذيفة؛ فيكون دَرّ ثديِ سهلةَ بنت سهيلٍ؛ هو خصوصيّةً وكرامةً للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

وقد جرى معي أنا مثل هذا، فقد ذكرت سابقاً أنني ظللت أصرخ عدة سنوات، على إثر ضربةٍ وقعت خطأً على  رأسي.

فحدّثني زوجة عمّي أم ضرار، رحمها الله تعالى؛ أنّني كدت أموت من الصراخ، وليس ثمة امرأة ترضعني، فوضعتني على ثديها وأنا دون السنتين، فدرّ صدرها، ورضعت منها حتى سكنتُ قليلاً ونمت!

وعندما اعترض والدي على هذه الدعوى؛ أقسمت بالله العظيم أنّها أرضعتني عدداً من المراتِ، وفي كلّ مرّة كنت أرضع منها حتى أرتوي!

فإذا كان هذا حصل من دون أمرِ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا توجيهه؛ فما المانع من أن يَدرّ ثدي سهلةَ حتى ترضع سالماً؟

 وأمّا الإشكال الثاني، إمكانُ مبيت سالمٍ مع أهل الصفّة المسجد؛ فجوابه من وجهين:

الأوّل: أنّ الله تعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) [الأحزاب].

فإذا صحّ الخبر؛ فما علينا سوى الامتثال، سواءٌ أدركنا الحكمةَ أم لم ندركها.

والوجه الثاني: أنّ سالماً كان أبو حذيفةَ قد تبنّاه صغيراً، فنشأ في بيت نعمةٍ وسعة، فربما كان في انضمامه إلى أهل الصفّة حرجٌ عليه؛ لأنهم كانوا يعيشون الضيق، وربما علم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ سالماً لا يحتمل ذلك!

وأما الإشكال الثالث، وهو استمرار عائشةَ تفتي برضاع الكبير حتى آخر عمرها؛ فجوابه أنّ سائر أزواج الرسول والصحابة فهموا من هذه الحادثة أنها واقعةُ حالٍ لا عموم لها، بينما فهمت عائشة أنها عامّة، إذ لم يظهر لها ما يستدعي الخصوصيّة.

وعائشةُ عالمةٌ لا يكابر في ذلك إلّا مَن ران على قلبه من شدّة الحقدِ والكراهية!

قال القاضي عياض في إكمال المعلم (4: 642): «قال الباجى: قد انعقد الإجماع على خلافِ التَحريمِ برضاعةِ الكبير يعني لأنّ الخلافَ إنما كان فيه أولاً، ثم انقطع».

وبمعزلٍ عن دعوى الباجي وعياضٍ الإجماع؛ فنحن نؤمن بصحة هذه الفتوى عن رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ونؤمن بأنها واقعة حالٍ لا عموم لها، ولا نجوّز رضاع المرأة للكبير، ولا نحرّم بهذا الرضاع ما أحلّ الله تعالى.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.