الاثنين، 19 يوليو 2021

 مَسائل حديثية (19):

الحديثُ المسلسل بيوم عرفة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي العامّ إلى الإمامِ أبي داود الطيالسيّ في مسند أبي سعيد الخدريّ، من مسنده المشهور (2288) قال أبو داود: حَدّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ البصريّ الخزّاز قَالَ: حَدّثَنا بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ الأزديّ البصريُّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ سعدِ بن مالكٍ الأنصاريّ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ (دَعَا بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ بِيَدَيْهِ هَكَذَا، جَعَلَ ظُهورَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، وَبُطُونَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ».

وبإسنادي إلى الإمام أحمد في مسنده الكبير، في باقي مسند المكثرين، مسند أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنه (11093) قال: حَدّثَنا رَوْحٌ «هو ابن عُبادةَ القيسيُّ البصريّ»: حَدّثَنا حَمَّادٌ «هو ابنُ سلمةَ» عَنْ بِشْرِ بْنِ حَرْبٍ «الأزديّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:

( كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، يَدْعُو هَكَذَا.

وَرَفَعَ يَدَيْهِ حِيَالَ ثَنْدُوَتَيْهِ، وَجَعَلَ بُطُونَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ).

الثَندُوَة: موضع الثدي من الرجل: والمقصود رفع يديه إلى مستوى صدره الشريف.

وبإسنادي إلى الإمام أحمد في مسند أبي سعيدّ ذاته (11103) قال: حَدّثَنا حَسَنٌ «هو ابن موسى البغداديُّ الأشيبُ»: حَدّثَنا حَمَّادٌ به، ولفظ حديث حَسنٍ هنا، قال: (رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ، يَدْعُو هَكَذَا، وَجَعَلَ بَاطِنَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ).

وبه إليه فيه (11803) قال أحمد: حَدّثَنا يُونُسُ «هو ابن محمّد البغداديُّ المؤدّب»: حَدّثَنا حَمَّادٌ به، ولفظ حديث يونسَ هنا قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَدْعُو بِعَرَفَةَ هَكَذَا، يَعْنِي بِظَاهِرِ كَفِّهِ).

وبه إليه فيه (11378) قال أحمد: حَدّثَنا يُونُسُ «هوالمؤدّب»: حَدّثَنا حَمَّادٌ به، ولفظ حديث يونسَ هنا قَالَ: (وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بِعَرَفَةَ، فَجَعَلَ يَدْعُو هَكَذا، وَجَعَلَ ظَهْرَ كَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ، وَرَفَعَهُما فَوْقَ ثَنْدُوَتَيْهِ، وَأَسْفَلَ مِنْ مَنْكِبَيْهِ).

انتبه إلى لفظ هذا الحديث، وإلى اللفظ قبلَه، فكلاهما من رواية يونس، ولفظ هذا الحديثِ؛ أتمّ بكثيرٍ من لفظ الحديثِ الأوّل.

وبه إليه فيه (11911) قال أحمد: حَدّثَنا عَفَّانُ «هو ابنُ مسلمٍ البصريّ الصفّار» وَحَسَنٌ (هو الأشيبُ) قَالَا: ثَنَا حَمَّادٌ به، ولفظ حديث عفّان هنا قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِه وَسَلَّمَ يَدْعُو بِعَرَفَةَ.

وبه إليه فيه قال أحمد: قَالَ حَسَنٌ: «يعني يَدْعُو بِعَرَفَةَ» وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ هَكَذَا، يَجْعَلُ ظَاهِرَهُمَا فَوْقَ وَبَاطِنَهُمَا أَسْفَلَ)

وبه إليه فيه قال أحمد: قال حسن: وَوَصَفَ حَمَّادٌ «يعني كيفيّة ذلك» وَرَفَعَ حَمَّادٌ يَدَيْهِ وَكَفَّيْهِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ).

قال الفقير عداب: ههنا لحنٌ نحويٌّ، والصوابُ (وكفّاه مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ).

وأخرجه عليُّ بن الجعدِ الجوهريّ في مسنده (3327) من حديث حمّاد به، ولفظه عنده (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو بِعَرَفَةَ هَكَذَا).

وَرَفَعَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، بَاطِنُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ، وَظَاهِرُ كَفَّيْهِ إِلَى السَّمَاءِ».

وأخرجه أبو بكرِ ابنُ أبي شيبة في مصنّفه (29407) من حديث حسن بن موسى عن حمّاد به.

ولفظه عنده (أنّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَدْعُو بِعَرَفَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ هَكَذَا، يَجْعَلُ ظَاهِرَهُمَا مِمَّا يَلِي وَجْهَهُ، وَبَاطِنَهُمَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ» وأخرجه غيرهم.

مدار حديث عرفة هذا، على حمّاد بن سلمةَ به، رواه عنه جمع من الثقاتِ، كما رأيت!

أمّا الحديث المسلسل بيوم عرفة؛ فلم أسمعه من أحدٍ من شيوخي، ولا حتى من شيخنا الفادانيّ؛ لأنني لم أحجّ في العام (1410 هـ) لأسبابٍ خارجة عن إرادتي.

إنما أرويه عن شيوخي بالإجازة العامّة.

ومن حسنِ الحظّ أنّ شيوخي الكبارَ الأربعة:

الشريف محمد بن عبداللطيف بن سالم المصريّ الحسينيّ، المشهور بالحافظ التجّانيّ.

والشريف عبدالله بن محمد بن الصدّيق الغُماريّ الحسنيّ.

والشيخ إبراهيم بن داود بن عبدالقادر الفطانيّ.

والشيخ محمد ياسين بن محمد عيسى الفادانيّ الأندونيسيّ.

جميعهم يشتركون في الرواية عن الشيخ عمر بن حمدان التونسيّ المحرسيّ، ثمّ المكيّ.

وقد كتب شيخُنا الفادانيّ في غير واحدٍ من كتبه عمّن يروي هذا المسلسل من شيوخه.

وقد بدا لي من لقاءاته المتكرّرة معه أيّامَ قرأ عليّ هو المسلسلات العشرة نظريّاً، وطبّق بعضَها عمليّاً؛ أنّه يحبّ أسانيد شيخه عمر بن حمدان المحرسيّ، ثمّ المكيّ رحمهم الله تعالى، ولهذا فإنني سأسوق إسناده من طريق شيخه المحرسيّ، دون طرق بقية شيوخه الذين يروي عنهم هذا الحديث، ومنهم:

الشيخ علي بن سعيد بابصيل المكيّ.

والشيخ عبد الله بن محمد غازي المكيّ.

والشيخ أحمد بن عبد الله المخللاتي الشامي.

جميعهم عن المسند السيد حسين بن محمد الحَبْشيِّ العلويِّ، عن والده المفتي السيد محمد بن حسين الحبشي بسنده.

قال شيخُنا محمد ياسين الفادانيّ (1410 هـ): أروي الحديثَ المسلسل بيوم عرفة عن شيخنا عُمَرَ بنِ حَمْدَانَ المَحْرَسِيِّ (1368 هـ) بيوم عرفة، وهُو عَنْ أبي النَّصْرِ مُحمَّدِ بنِ عَبْدِ القَادِر الخَطِيْبِ (1324 هـ) عَنْ الوَجِيْهِ عَبْدِ الرَّحمَنِ بنِ مُحمَّدٍ الكُزْبَرِي (1262 هـ) عَنْ مُصْطَفَى بنِ مُحمَّدٍ الشَّامِيّ الرَّحْمتِيّ (1205 هـ) عَنْ عَبْدِالغَنِيِّ بنِ إسْماعِيْلَ النَّابُلُسيِّ (1143 هـ) عَنِ النَّجْمِ مُحمَّدِ بنِ مُحمَّدٍ الغَزِّي (1061 هـ) عَنْ أبِيْه بَدْرِ الدِّينِ الغَزِّي (904 ـ 984 هـ) عَنْ زَكَرِيَّا بنِ مُحمَّدِ الأنْصَارِي (926 هـ) عَنِ الحَافِظِ أحمَدَ بنِ عَلي ابنِ حَجَرٍ العَسْقَلاني (852 هـ) عَنْ أَبِي حفصٍ عُمَرَ بنِ حَسَنِ بِنِ مَزِيدَ المراغيِّ الْمزِيِّ الدِّمَشْقِيَّ (680-778 هـ) عَن فَخْرِ الدِّينِ أَبي الحَسَن عَلي بنِ أَحْمَدَ (ابنِ البُخَارِيِّ) (596-690 هـ) عَن أَبي الْمَكَارِمِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّدِ ابْنِ اللبّانِ الْقَاضِي(597 هـ) قِيلَ لَهُ: أَخْبَرَكُمْ أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ المُقرِئِ, قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنْتَ تَسْمَعُ فِي المُحَرَّم، سَنَةَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَخَمْسِ مِائَةٍ؟ فَأَقَرَّ بِهِ!

قَالَ: أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو نُعَيْمٍ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ أَحْمَدَ الأصبهانيُّ الْحَافِظُ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ وَأَنَا أَسْمَعُ، فِي الْمُحَرَّمِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ قال: أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُاللهِ ابنُ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ فَارِسٍ، قِرَاءَةً عَلَيْهِ، فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِ مِائَةٍ، قَالَ: حَدّثَنا أَبُو بِشْرٍ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ العِجليُّ (267 هـ)  قَالَ: حَدّثَنا أَبُو دَاودَ سليمانُ بنُ داودَ الطَّيَالِيسِيُّ (204 هـ) وهو في مسنده  (2288) قَالَ: حَدّثَنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (167 هـ) قَالَ: حَدّثَنا بِشْرُ بْنُ حَرْبٍ الأزديّ (ت بعد: 120 هـ) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدريِّ (ت بعد: 64 هـ) رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم أجمعين (أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺَ دَعَا بِعَرَفَاتٍ، فَقَالَ بِيَدَيْهِ هَكَذَا، جَعَلَ ظُهُورَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، وَبُطُونَهُمَا إِلَى الْأَرْضِ).

قال الفقير عداب:

في إسنادِ هذا الحديثِ؛ بِشْرُ بن حربٍ الأزديّ أبو عَمْرٍو النَدَبيّ، لم يُخرِّجْ له أحدٌ من أصحاب الصحاح البخاريُّ ومسلمٌ وابنُ الجارود وابن خزيمة وابن حبّان والحاكم النيسابوريّ!

ولم يخرّج له أحدٌ من أصحاب السنن الأربع، سوى حديثٍ واحدٍ، في ترك ابن عمرَ التنفّلِ في السفرِ، أخرجه ابن ماجه (1067).

قال فيه محمد بن سعد في طبقاته (7: 175): كان ضعيفاً.

وللإمام أحمد فيه أقوال عديدة، كما في موسوعة الإمام أحمد (1: 154) خلاصتها أنّه لا يحتجّ بما ينفرد به، وأنه ليس بقويٍّ في الحديث.

وترجمه البخاريّ في الضعفاء (40) وقال: رأيت علي بن المديني يضعفه. يتكلمون فيه، قال علي: كان يحيى بن سعيد «القطّان» لا يروي عنه، وهو بصري.

وترجمه أبو زرعه في ضعفائه (38) وقال: ضعيف الحديث.

وترجمه النسائيّ في ضعفائه (76) وقال: ضعيف.

وترجمه العقيليّ في ضعفائه (1: 138) ونقل كلام البخاريّ بتمامه.

وترجمه ابن حبّان في ضعفائه (129) وقال: تركه يحيى القطان، وكان ابن مهدي لا يرضاه لانفراده عن الثقات، بما ليس من أحاديثهم.

وسئل يحيى بن معين عن بشر بن حرب؟ فقال: ضعيف.

وفي تهذيب الكمال (4: 110) نقل المزيّ كلامَ البخاريّ السابق، ونقل عن يحيى بن معين وأبي حاتم وأبي زُرعة الرازيّين والنسائيِّ؛ أنّه ضعيف!

وترجمه ابن عديٍّ في كامله (2: 159) ونقل أكثر ما تقدّم من كلام، وختم ترجمته بقوله: وَبِشْرُ بْنُ حَرْبٍ لَهُ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُ مِنَ الرِّوَايَاتِ، ولاَ أَعْرِفُ فِي رِوَايَاتِهِ حَدِيثًا مُنْكَراً، وَهو عِنْدِي لا بَأْسَ بِهِ.

ونقل الذهبيّ في الميزان (1: 314) عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: سألت ابن المديني عنه، فقال: كان ثقة عندنا.

وقال ابن حجر في التقريب: صدوق فيه لين!

وخلاصة هذه الأقوالِ؛ أنّ الرجل ليس ممن يُقبلُ منه ما تفرّد به، ويُقبلُ منه ما توبع عليه في الحدود الدنيا.

وفي إعراض أصحاب الصحاح عنه، وهو من الرواة عن ابن عمر، رضي الله عنهما؛ أكبر شاهدٍ على ما أقول، والله تعالى أعلم.

ختاماً: لا أظنّ هدفَ أهلِ الرواية الذين يجتمعون في يوم عرفة من كلّ عامٍ، يفعلون ذلك من أجل روايةِ حديثٍ ضعيف، ليس ذا أثر كبيرٍ في الدين!

لو كانوا يجتمعون لأجل هذا؛ لكان في ذلك تضييعُ الأهمِّ من أعمال يوم عرفة!

إنّما أقدّر أنّهم يجتمعون من أجل بركة مجلس العلم، ومن أجل لقاء كبار المشايخ المسندين، ومن أجل الدعاء الجماعيّ في هذا اليوم المبارك.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق