الأحد، 29 أغسطس 2021

 مسائل فكريّة (17):

هل يجوز التَقليدُ المذهبيّ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحد الإخوة الكرام: هل يجوز التديّن والتعبّد بمذهب الشيعة الإماميّة؟!

أقول وبالله التوفيق:

في مجتمعاتٍ جاهلةٍ، تنتسب إلى الإسلام انتساباً وراثيّاً قبليّاً؛ من المستحيلِ لديها قَبولُ قول كثيرٍ من أهل العلم: «لا يجوز التقليد في العقائد» إذ إنّ الواقع المُشاهَدَ أنّ الذين يزعمون الإمامةَ في العقائد؛ أكثرهم، إن لم نقل: جميعهم مقلّدة!

فالذي يتبع المذهب الأشعريّ، وينافح عنه؛ مقلّد!

والذي يتبع المذهب الإماميّ في العقائد السياسيّة مقلّد، ولا تكاد تجد واحداً من هؤلاء وأولئك مؤهّلاً للاقتداء به؛ لفواتِ كثيرٍ من أدواتِ الاجتهاد عليه!

وكي أختصر عليك الكلامَ أخي القارئ الكريم أقول:

إنّ لدينا مدرستين فكريّتين، تتداخلان في كثيرٍ من أصولهما وفروعهما، وتختلفان في كثيرٍ أيضاً، والمذاهبُ داخل هاتين المدرستين مختلفة أيضاً:

(1) مدرسة أهل البيت:

وينبثق عنها: الإمامية، والإسماعيليّة، والزيدية، والمعتزلة، والإباضيّة.

لكنّ المذاهب الثلاثةَ الأولى؛ ألصق بمدرسة أهل البيت من المعتزلة والإباضيّة!

ومذهب أهل البيت؛ هو اتّفاقُ مذاهب الشيعة الثلاثة على عقيدةٍ، أو حكم فقهيّ سواءٌ وافقهم المعتزلة والخوارج، أم خالفوهم.

ويجوز للشيعيّ من أيّ مذهب كان أن يتعبّد الله تعالى بما أجمعتْ عليه مذاهبُ الشيعة الثلاثةُ، سواء كان عاميّاً، أم كان مثقفاً، أم كان مميّزاً، دون درجة الاجتهاد.

أمّا في العقائدِ والأحكامِ التي اختلف فيها علماءُ مذاهب الشيعة الثلاثةِ؛ فإنّ الصواب منثورٌ بين هذه المذاهب، وليس منحصراً في مذهب الزيديّة، أو الإمامية، أو الإسماعيّلية.

وعندي لا يجوز للعاميِّ تقليدُ جميعِ ما في واحدٍ من هذه المذاهب؛ لأنّ في كلّ منها حقّاً كثيراً، وباطلاً متفاوتاً.

ففي مسائل الخلاف هذه؛ لا يجوز للعاميّ والمثقف أن يذهب إلى الكتبِ، ليستخلص منها الفتوى أو الحكم؛ لأنّه لا يدري صوابَ ذلك من خطئه!

إنّما عليه أن يقصِدَ عالماً مجتهداً يثق بدينِه، فيسأله عن العقيدةِ، أو الحكم الفروعيّ الذي يريد معرفةَ الصواب فيه.

فإذا كان العالمُ مؤهّلاً للاجتهاد، وأفتى؛ فهو معذورٌ، والمستفتي بريء الذمة!

أمّا إن كان يُدعى «آيةَ الله» أو «حجة الإسلام» وهو يعتقد بالنصّ والتعيين والعصمة وانحصار الإمامة في ذريّة الحسين، ويعتقد بالبَداءِ والرجعة والمهديّ، وانقطاع إمامة آل البيت منذ العام (260 هـ) فلا يجوز استفتاءُ مثل هذا «الآية» في أمور الاعتقاد؛ لأنّ هذه العقائد باطلةٌ كلّها، لا يستطيع هو ولا جميعُ آياتِ الشيعةِ أن يُقدّموا دليلاً آحاديّاً واحداً صحيحاً على أيّةِ عقيدةٍ منها.

أمّا في الفروع؛ فمتى كان هذا «الآية» يفتي اللّصوص بنهب بيت مال المسلمين «ميزانيّة الأمّة، ورصيدها الماليّ» فهو فاسق، ساقط العدالة عندي، فلا يجوز أن يُستفتى في أحكام الفقه الإسلاميّ أيضاً؛ لأنه غير مؤتمنٍ على الدين!

(2) مدرسة الخلفاء: وهي مدرسةُ أهل السنّة والجماعة.

وهي المدرسةُ التي ترى عدالةَ الصحابةِ أجمعين، بمن فيهم الطلقاءُ والمنافقون المجهولون، والمجهولون، ومجهولوا الصحبة، والوحدان، والمبهمون، والمهملون من النسب، والأعراب!

وعلماءُ هذه المدرسةِ يحبّذون أن يكون الحاكمُ مستقيماً، لكنهم يطيعونه حتى لو كان فاسقاً ظالماً قاتلاً في سبيلِ الملك!

وأسميتها مدرسة الخلفاءِ؛ لأنّ درجةَ عالم أهل البيت «الإمام عليّ عليه السلام» عندهم في المرتبة الرابعة في العلم والفضل وكلّ خير.

بمعنى آخر، لا يجعلون لعلماءِ آل البيت أيَّ امتيازٍ خاصٍّ، وليس من اهتماماتهم قديماً وحديثاً؛ تقديم آل البيت، أو إعطاؤهم حقوقَهم التي فرضها الشارع لهم.

والمذاهب العقدية لمدرسة السنّة هذه؛ أربعةٌ، هي:

(1) المذهب الإشعريّ: نسبةً إلى إمام الأشاعرة أبي الحسن عليّ بن إسماعيل بن أبي بشر واسمه إسحاق بن سالم الأشعريّ صليبةً، أو ولاءً على خلافٍ (ت: 324 هـ) مختفياً في بيت أحدِ الحنابلة ببغدادَ، من صلَفِ الحنابلة.

ويغلبُ المذهبُ الأشعريّ على علماءِ المالكية والشافعيّة، وبعضِ الحنابلةِ، في بلاد الإسلام.

(2) المذهب الماتريديّ: نسبةً إلى الإمام المتكلّم أبي منصورٍ محمّد بن محمّد بن محمود السمرقنديّ الماتريديّ (ت: 333 هـ) ويغلب مذهبُه على أتباع المذهب الحنفيّ، في تركيّا وباكستان والهند والأفغان، وغيرها من المسلمين غير العرب.

والأشاعرة والماتريديّة معاً؛ يكوّنون نسبةَ (90%) من أهل السنّة والجماعة.

فانْظُر إلى حَمَقِ وجَهْلِ مَن يَجعل (90%) من الأمّة أهلَ بدعٍ وضلالٍ!

(3) المذهب الحنبليّ: نسبةً إلى المحدّث الناقد الإمام أحمد بن محمد بن حنبل (ت: 241 هـ).

ولم يكن الحنابلةُ في الاعتقاد يُكوّنون أدنى نسبةٍ مئويّة في أهل السنّة، قبل قيام دولة آل سعود التي تبنّت المذهبَ الحنبليّ، وأقامت دولتَها على أشدّ ما في هذا المذهب من رواياتٍ.

والحنابلة «السلفيّة» اليوم، يكوّنون (10 15%) من عدد أهل السنة اليوم.

(4) المذهب الظاهريّ: نسبةً إلى الإمام أبي سليمان دَاوُدُ بنُ عَلِيِّ بنِ خَلَفٍ البَغْدَادِيُّ الظَّاهِرِيُّ الأصبهانيّ (ت: 270 هـ).

والذي قام بالمذهب الظاهريّ، وتكلّم على عقائده وفروعه الفقهيّة؛ الإمام أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بنُ أَحْمَدَ بنِ سَعِيْدٍ القُرْطُبِيُّ، المعروف بابن حزمٍ الظاهريّ (ت: 456 هـ).

وقد تكلّم على العقائدِ الإسلاميةِ أصولاً وفروعاً، في عدد من كتبه ورسائلته، وأكثر ذلك كان في مقدمة المحلّى، المسائل (1- 91 ) وفي تضاعيف الكتاب مسائل أخرى، وثمّةَ مواضعُ عديدة مِن كتابِ «الفِصَل».

وإذْ إنّ كثيراً مِنْ عُلماء أهل السنّة، يخرجون ابنَ حزمٍ من دائرة الاعتدادِ به في الإجماع؛ فأقول:

متى اتّفق الأشاعرة والماتريدية والحنابلة على حكمِ مسألةٍ؛ فهو مذهب أهل السنّة، الذي يجوز للمقلّد اتّباعه في الأصولِ والفروع، أمّا ما اختلفوا فيه؛ فإنّ الصوابَ منثورٌ فيما بينهم.

وفي مسائل الخلاف هذه؛ لا يجوز للعاميّ والمثقف أن يذهب إلى الكتبِ، ليستخلص منها الفتوى أو الحكم؛ لأنّه لا يَدري صوابَ ذلك من خطئه، ولا معتمَد المذاهب، من الأقوال والوجوه فيها!

إنّما عليه أن يقصد عالماً مجتهداً يثق بدينِه، فيسأله عن العقيدةِ، أو الحكم الفروعيّ الذي يريد معرفة الصواب فيه.

فإذا كان العالم مؤهّلاً للاجتهادِ، وأفتى؛ فهو معذورٌ، والمستفتي بريء الذمة!

أمّا إذا كان مُتشبّثاً بمذهبه، مقلّداً تقليداً أعمى؛ فهو جاهلٌ، غير مؤهّل علميّاً حتى وإن أذن له علماءُ مذهبه بالفتوى!

ختاماً: أنا الفقير أؤمن بالعمل المؤسسيّ، ولا أؤمن بالتقليد المذهبيّ، وأعتقدُ جازماً أنّ الحديثَ الذي أخرّجه أنا، وأعرضه على تلامذتي المختصّين؛ يكون أقربَ إلى طمأنينة قلبي، من حديثٍ أستقلّ بتخريجه وحدي، ومسائل الفقه مثل ذلك.

فعلى أهل السنّة بمذاهبهم أن يؤسسوا مؤسّساتٍ جامعةً لأبرز علماء العربية والبيان والأصول والفقه والحديث والتفسير؛ ليدلي كلّ واحدٍ منهم بدلوه في كلّ مسألة خلافيّة بين مذاهب أهل السنّة، عساهم أن ينهوا لنا هذا التناقض والتضارب بين معتمدِ المذاهب العقدية والفقهيّة، ولست أدري متى سيفعلون ذلك؟

إنني أجزم بأنهم جميعاً آثمون، حتى يقوموا بذلك، حسبةً لله تعالى، بعيداً عن التعصّب والمحسوبيّات والمصالح الدنيويّة.

وعلى علماءِ مذاهب مدرسة أهل البيتِ؛ أن يقوموا بالأمر المؤسسيّ ذاته.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

المشكلة الشيعيّة (2):

أصول العقائد عند الشيعة الإمامية!؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

أصول العقائد عند الشيعة الإماميّة: التوحيد والعدل والرسالة والبعث والنشور والإمامة.

ولا يعنينا في المشكلة الشيعيّة؛ الكلام على التوحيد والعدل والرسالة والبعث فكلامهم في هذه الاعتقاداتِ متوافقٌ في أكثره مع مدرسة التوحيد والعدل، مدرسة آل البيت، التي يعتقد بأصولها: الزيدية والإسماعيليّة والإماميّة والإباضيّة.

إنّما يعنينا هنا أصلُ الإمامة، الذي انفردوا به عن مدرسة آل البيت، وعن مدرسة الصحابة.

والإمامةُ عندهم تعني وجودَ قائدٍ واحدٍ في كلّ زمانٍ، متميّز عن بقيّة البشر بكلّ شيء!

هؤلاء الأئمة المتميّزون عن البشر؛ هم أولوا الأمر على الحقيقةِ تِباعاً، وليسوا الخلفاء الذين يختارهم الناس، ولا المتغلّبين الظلمة الذين ظلموا الناسَ، وظلموا أولي الأمر.

قال الشيخ تقيّ الدين المدرّسيّ في كتابه «الوجيز في أصول العقائد» الفصل الرابع (ص: 26) فما بعدها باختصارٍ يسير:

«وأولوا الأمرِ؛ هم الامتدادُ الطبيعي للرسولِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ، وهم أهل بيته من بعده؛ العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه، الأكفاء على القيام بأمره، الصابرون المتّقون، وبالتالي هم أكثرُ الناس طاعة لله، وأقربهم إلى نهج رسوله».

وإذا سألتَ: مَن يُعيّن الإمامَ؟

الجواب: «وكما أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يُعَيّنَ مِن قبل الناس أنفسهم، لأنه وسيلة متصلة بين الله والانسان، فإن الإمام لا يمكن أن يعين إلاّ من قبل الله أيضاً.

وبتعبير آخر: إن الإمام ينبغي أن يكون مؤيداً بالغيب، عارفاً بالله ودينه ومعارفه، بعيداً عن تأثيرات المادة، وبعيداً عن ظروفها الضيّقة.

ولا يؤيد اللهُ مَن يَختاره الناس، بل مَن يصطفيه هو سبحانه، وليس للناس الخيرةُ، إذا قضى الله أمراً، ذلك لأنهم عباد مربوبون يجب أن يسلموا بالحاكمية المطلقة للهِ في كلّ الشؤون.

وأوّل الأئمة إبراهيمُ عليه السلام، ثم الصالحون المختارون من قِبلِ الله تعالى من ذريّته.

قال الله تعالى: (وإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَاَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً) قال الخليل عليه السلام سروراً بها: (وَمِنْ ذُرِّيَتِي؟ قَالَ: لاَ يَنالُ عَهدِي الظَّالِمِينَ)

فأبطلتْ هذه الآيةُ إمامةَ كل ظالم الى يوم القيامة وصارت في الصفوة.

فلم تزل ترثها ذريته عليه السلام بعضٌ عن بَعضٍ، قرناً فقرناً، حتى ورثها النبيّ محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا). فكانت لهم خاصة.

فقلّدها النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم العلم والإيمان.

وذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) على رسم ما جرى وما فرضه الله في ولده الى يوم القيامة، إذ لا نّبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم فمن أين يختار الجهالُ هذه الإمامةَ بآرائهم؟

إنّ الإمامة منزلة الأنبياءِ، وإرثُ الأوصياء.

إن الإمامة خلافةُ الله، وخلافة رسوله صلى الله عليه وآله.

ومقام أمير المؤمنين عليه السلام.

وخلافة الحسن والحسين عليهما السلام.

إن الإمام زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين.

الإمام أسّ الإسلام النامي وفرعه السامي.

بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام ومنع الثغور والأطراف.

الإمام يحلل حلال الله ويحرم حرامه ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة والحجة البالغة.

الإمام كالشمس الطالعة المجللة بنورها للعالم وهو بالأفق حيث لا تناله الأبصار ولا الأيدي.

الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الطالع والنجم الهادي في غيابات الدجى والدليل على الهدى والمنجي من الردى.

الإمام النار على اليفاع التلّ المرتفع - الحارّ لمن اصطلى، والدليل في المهالك، من فارقه فهالك.

الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل والسماء الظليلة والأرض البسيطة والعين الغزيرة والغدير والروضة.

الإمام الأمين الرفيق، والوالد الشفيق والأخ الشقيق وكالأم البرة بالولد الصغير ومفزع العباد.

الإمام أمين الله في أرضه وخلقه، وحجته على عباده وخليفته في بلاده والداعي الى الله والذاب عن حريم الله.

الإمام مُطَهَّر مِن الذنوب، مُبرّأٌ من العيوب، مخصوص بالعلم، موسوم بالحلم، نظام الدين، وعزّ المسلمين، وغيظُ المنافقين، وبوار الكافرين.

الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادلُه، عالم ولا يوجد له بدل، ولا له مثل ولا نظير!

مخصوص بالفضل كلّه، من غير طلب منه ولا اكتساب، بل اختصاص من المتَفضّلِ الوهّاب، فمن ذا يبلغ معرفة الإمام أو كنه وَصْفِه؟

هيهات هيهات، ضلت العقول، وتاهت الحلوم، وحارت الألباب، وحصرت الخطباء، وكلت الشعراء، وعجزت الأدباء، وعييت البلغاء، وفحمت العلماء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله، فأقرت بالعجز والتقصير، فكيف يوصف بكليته، أو ينعت بكيفيته، أو يوجد من يقوم مقامه، أو يغني غناه؟

وأنى وهو بحيث النجم عن أيدي المتناولين ووصف الواصفين، أيظنون أنه يوجد ذلك في غير آل رسول الله صلى الله عليه وعليهم؟

كَذَبَتْهُم والله أنفسهم، ومنّتهُم الأباطيل، إذ ارتقوا مرتقى صعباً ومنزلاً دحضاً!

زلّت بهم إلى الحضيض أقدامُهم، إذ راموا إقامةَ إمام بآرائهم، وكيف لهم باختيار إمامٍ، والإمام عالم لا يجهل، وراع لا يمكر، معدن النبوة لا يغمز فيه بنسب، ولا يدانيه ذو حسب!

فالبيت من قريش، والذروة من هاشم، والعترة من الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

شرفُ الأشرافِ، والفرعُ من عبد مناف، نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالأمر، عالم بالسياسة، مستحق للرئاسة، مفترض الطاعة، قائم بأمر الله، ناصح لعباد الله».

وقد اقتبس الشيخُ المدرّسيُّ معظم كلامه السابق، من أصول الكافي (ص: 136- 137) ولم يُشر إلى ذلك.

 بهذا الكلام الإنشائيّ الخطابيّ العاطفيّ، الذي لا يثبتُ حقّاً، ولا يُبطلُ باطلاً؛ قدّم الشيخ تقيّ المدرّسيّ عقيدةَ الإمامة من القرآن الكريم والعقلِ.

وليس في الآيات التي ساقها دلالةٌ ظاهرةٌ على الإمامةِ السياسيّة من قريبٍ ولا بعيدٍ!

بل إنّ أوّل الأئمة «إبراهيم» عليه السلام؛ كان مستضعفاً طريداً عن وطنه وعشيرته.

وليس في الآيتين اللتين ساقها الشيخ المدرّسُ أيُّ إشارةٍ إلى إمامة سياسيّة منحصرة في آل البيت.

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا).

ولو افترضنا جدلاً أنّ في هذه الآية دلالةٌ على الإمامةِ؛ فالذين آمنوا شركاءُ فيها بنصّ (وَالَّذِينَ ءَامَنُوا).

وأين في قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ اُوتُوا الْعِلْمَ وَالإِيمَانَ: لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ، فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ).

هل يَفهم رجلٌ فيه ذرّةٌ من عَقلٍ، من هذه الآية الكريمة إمامةً أو ولايةً أو خلافةً أو وصايةً.

سبحان مانحِ الناس العقولَ والقلوب؛ ليفقهوا عن الله تعالى بها، وليس بغرائزهم وعواطفهم وما يشتهون!

أمّا عن أدلّة الإمامة من السنّة النبويّة وآثارِ آل البيت؛ فستكون في منشورٍ تالٍ، إنْ أعانني الله تعالى على ذلك.

واللهُ تَعالَى أعْلَمُ.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الجمعة، 27 أغسطس 2021

 مَسائل حديثية (21):

حديثُ الولايةِ موضوع!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد تلامذتي الأحبّة رابطاً، ورسالةً نصيّةً يقول فيها:

«حبيبنا الدكتور عمّار الحريريّ الرفاعيّ، حفظه الله تعالى؛ يعتقد بوضعِ حديث ولايةِ عليٍّ عليه السلام، تبعاً لتضعيف الزيلعيّ، كما في تعليقاته على منشوره.

فهل يصحّ قولُه وتبريره»؟ انتهى.

أقول وبالله التوفيق: أخذ الوصولُ مني إلى الموضع الذي صرّح فيه الدكتور عمّار بذلك وقتاً أنا في أمسّ الحاجة إليه؛ لأنّ صفحتَه مطروقةٌ، والتعليقات عليها كثيرة، من الموافق والمخالف!

وأنا الفقير لم تسنح لي الظروف بالتعرّف إلى الدكتور السيّد عمّار، على الرغم من أنّ سكني كان قربَ الجامعة الإسلامية في عمّان، التي كان الدكتور عمّار مدرّساً فيها.

لكنني تابعتُ الرجل برهةً، فوجدتُه عاقلاً عارفاً، يعرف ما يقولُ، ويسطر ما يراه صواباً، بشجاعة، وجرأة محمودةٍ أحياناً.

وهذا لا يعني أنني أوافقه، أو يوافقني، في كثيرٍ مما يكتب وأكتب!

بيدَ أنّ اتّهامَ مثلِ الدكتور عمّار بنيّته، أو التهوين من شأنه في العلوم الدينيّة، وخاصّةً في علوم الحديث؛ هو شأنُ كثيرين من المقلّدةِ، الذين  يشككون بعلم ودين كلِّ مَن يخالفهم.

والدكتور عمّار لم يُضعّف حديثَ الولايةِ تبعاً للإمام  عبدالله بن يوسف الزيلعيّ المحدّث (ت: 762 هـ) في كتابه نصب الراية (1: 360) إنّما كان كلامُه ردّاً على مَن قال من المعلّقين: إنّ طرقَ حديث الولاية كثيرة!

عندما نقل إليهم خلاصة قول الزيلعيّ في مسألة كثرة الطرق، وها أنا أنقلها بتمامها.

قال الزيلعي: «وَأَحَادِيثُ الْجَهْرِ «بالبسملة» وَإِنْ كَثُرَتْ رُوَاتُهَا، لَكِنَّهَا كُلَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَكَمْ مِنْ حَدِيثٍ كَثُرَتْ رُوَاتُهُ، وَتَعَدَّدَتْ طُرُقُهُ، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ!

كَحَدِيثِ الطّيرِ، وَحَدِيثِ الْحَاجِمِ وَالْمَحْجُومِ، وَحَدِيثِ (مَنْ كُنْت مَوْلَاهُ؛ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) بَلْ قَدْ لَا يُزِيدُ الْحَدِيثَ كَثْرَةُ الطُّرُقِ، إلَّا ضَعْفاً».

ولو كنتُ من المقلّدةِ؛ لأجبت الزيلعيّ بقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري (7: 74): «وَأَمَّا حَدِيثُ: (مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ؛ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ) فَقَدْ أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ كَثِيرُ الطُّرُقِ جِدًّا، وَقد استوعبها ابن عُقْدَةَ فِي كِتَابٍ مُفْرَدٍ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَسَانِيدِهَا صِحَاحٌ وَحِسَانٌ.

وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ قَالَ: مابلغنا عَن أحد من الصَّحَابَة مابلغنا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ» يعني من الفضائل!

قال الفقير عداب:

لم يَظهر لي مما قرأت للدكتور عمّار تسويغٌ علميّ لحكمه بالوضع على حديث الولاية، فربما ذكره في موضع آخر، حبّذا لو قربه إليّ أحد العارفين بصفحته.

وللحافظ الذهبي رسالةٌ مفردةٌ، جمع فيها طرق حديث الولاية، وهي مطبوعة متداولةٌ، حكَم فيها على كلّ حديث، من أحاديث الولاية!

وقال في (ص: 17) منها: متواتر عن عليّ!

وقال في حديث سعيد بن وهب، رقمه (22): «هذا الحديث على شرط مسلم، فإنَّ سعيداً ثقة».

وقال الذهبيّ في تاريخ الإسلام (5: 146): «قلت: ومعنى هذا التشيّع؛ حبُّ عليٍّ، وبغضُ النواصب!

وأن يَتّخذه مَولَّى، عملًا بما تواتر عَنْ نبيّنا صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَن كنتُ مولاهُ؛ فعليٌّ مولاه).

وقال في النبلاء (7: 333): (مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ؛ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ) هَذَا حَدِيْثٌ حَسَنٌ، عَالٍ جِدّاً، وَمَتنُهُ مُتَوَاتِرٌ».

وقام زميلي وتلميذيّ الدكتور نهاد عبدالحليم عُبيد الطرابلسيّ، رحمه الله تعالى فكتب أطروحته للدكتوراه، بعنوان «الأحاديث المرفوعةُ في فضل الإمام عليّ، ودراستها بين أهل السنة والشيعة» تحت إشرافي، كما يعلم زملاؤنا ثمّةَ.

وقد جاءت أطروحته التي لم تطبعْ وللأسف في (1289) صفحة

وكان ممّا خرّجه فيها؛ حديثُ الولاية، برقم (563) [ص: 943 - 971].

والدكتور نهاد سلفيٌّ، ليس من المغرمين بالإمام عليّ عليه السلام، فقد قال (ص: 972): «وأخيراً: فلو سلّمنا جدلاً أنّ معنى المولى؛ الأَولى بالتصرف والخلافة، ألا يحتمل الاتّصال والانفصال؟

وحمله على الانفصال؛ هو عين مذهب أهل السنة، القائلين بأنه الأولى بالتصرّف في شؤون المسلمين، في أيّام خلافته المعهودة، وأنّ الذين خرجوا عليه وحاربوه وقاتلوه؛ بغاة ظالمون، والله تعالى أعلم».

والدكتور نهاد قال في مقدمة تخريجه الحديث (ص: 943): «ثبوت تواتر حديث الموالاة»!

وقال في خاتمة الأطروحة (ص: 1154): «لقد تواتر عندي حديثُ (من كنت مولاه؛ فعليّ مولاه) وصحّ عندي أيضاً زيادةُ (اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، خلافاً لمن ذهب إلى ضعفها، أو وضعها.

وقد بيّنت في موضعه (ص: 944) أنّ ما قاله ابن حزم، من أنّ هذا الحديثَ لم يثبت من طريق الثقات أصلاً؛ فيه غلوّ لا يقلّ عن غلوّ الشيعة» جزاه الله خيراً!

وكانَ جمعَ طرقَ هذا الحديثِ؛ الحافظُ ابن عساكر في ترجمته للإمام عليّ في تاريخ دمشق، من بداية المجلّد (42: 3 - 589).

وقد أفردها زميلنا الدكتور عامر حسن صبري العراقيّ بالتحقيق، فجاءت في مجلّدين، خرّج أحاديثها، وحكم عليها جملةً، ثم حكم على كلّ حديثٍ حديث.

فقال في بداية تخريجاته (1: 416): «هذا حديث صحيح، وهو الحديث المسمّى بحديث غدير خُمّ، وهو منقبةٌ من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم لعليّ رضي الله عنه وحثٌّ على محبّته، وترغيب في ولايته، والنهي عن معاداته وخذلانه».

والدكتور عامر صبريّ؛ مثل زميلنا نهاد، رجل عراقيّ سنيّ، متعصّب لأهل السنة!

وإنّ أهمّ ما أوجّهه إلى تخريجه من نقد؛ أنّه كان يحكم على كلّ طريقٍ من طرق الحديث، بمفردها، وهذا خلاف منهج نقّاد المحدّثين، الذين يجمعون طرق الحديث الواحد، ثمّ يعيّنون المدار، ثم يحكمون على الحديثِ من المدار، فما علا!

ومهما يكن من أمر؛ فهو قد حكم بالصحة والحسن على طرق كثيرةٍ من طرق، أحاديث الولاية، جزاه الله خيراً.

وأنا لست مقلّداً لهؤلاء العلماء في أحكامهم، ولا أطلب من الدكتور عمّار تقليدهم!

إنما أحببتُ أن أذكّره بأنّ الحكم بوضعٍ حديثٍ، حكم بتواتره الذهبيُّ وابن الجزريّ والسيوطيّ والشيخ ناصر الألبانيّ، وحكم بصحته عدد غفير من العلماء قديماً وحديثاً، منهم الترمذيّ (3713) وابن حبان (6931) والحاكم (4576) والحافظ ابن حجر وأحمد شاكر، والشيخ شعيب، وغيرهم.

أحببت أن أذكّره بأنّ مخالفة جميعَ هؤلاء، وغيرَهم؛ تستلزم إظهارَ أدلّته القويّة، التي تسوّغ مثل هذه المخالفة الصارخة، فأنا لم أرَ في متن حديثِ الولايةِ أدنى نكارة، تجعل الناقدَ يتوقّف عندها، فضلاً عن الحكم على الحديث بالوَضع؟

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الخميس، 26 أغسطس 2021

 المشكلة الشيعيّة (1):

هل التشيّع مشكلة؟!

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

إنّ قيامَ الدولةِ الشيعيّة الكبرى المعاصرة في إيران، وممارساتِها التوسعيّة الواضحة في «الأهواز، والبحرين، والمنطقة الشرقية من جزيرة العرب، وفي العراق، وسوريا ولبنان واليمن».

وإنّ تشابه المنهج العسكريّ «المليشياويّ» والسياسيّ الطائفيّ، في كلّ بلدٍ من هذه البلدان؛ يحتّم على المراقبِ المحايِدِ أن يجيب نفسه على السؤال الملحّ منذ نصفِ قَرنٍ: هل التشيّع مشكلة؟!

إذا قُصِد بالتشيّعِ؛ حبُّ الإمام عليّ وأسرتِه وذريّتهِ، عليهم السلامُ، ونصرتهم والإحسان إليهم؛ فالتشيّع محمدةٌ ومكرمةٌ، وقيامٌ بواجبٍ دينيّ من وجهة نظري!

وبعضُ ذريّة الإمامِ عليّ؛ هي ذاتها ذريّة الرسول صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ، ليس للرسول الأكرم ذريّةٌ باقيةٌ سواها.

(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) [الأنعام].

 يُلاحَظ في هذه الآية الكريمةِ؛ أنّ الرسولَ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ ينفي أن يكون طالباً لأيّ أجر، وسورة الأنعام مكيّة، كما هو معلوم!

وحين أُذن بالقتالِ، وأباح اللهُ تعالى الغنائم للمسلمين؛ كان للرسولِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ خمسها:

(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ (41) [الأنفال].

وحين قَويت دولة النبوّة و استقرّت نسبيّاً؛ صار ثمة فيء وركاز وأموال عامّة، فشرع اللهُ تعالى لرسولِه التصرّف في الفيء:

(مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (7) [الحشر].

فسياسةُ توزيع الفيء؛ إلى الرسول صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ، بإذن ربّه تعالى وتوجيهه.

وتأكيداً لهذا المعنى؛ جاء قولُ اللهِ تبارك وتعالى:

  (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ، إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) [سبأ].

أجلْ كان رسول اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ  يوظّف الفيء في مصالح عامّة المسلمين وضعفائهم (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ).

فلمّا وَضحَ كلّ شيء أمام المسلمين؛ أراد اللهُ تعالى أن يوضحَ للأمةِ ما يتوجّب عليها تجاهَ رسولها صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ بعد وفاته!

فكان من جملة ذلك؛ مودّةُ قراباتِ الرسول صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ!

(قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (23) [الشورى].

ومهما حاولنا تأويل كلمة (الْقُرْبَى) وتوسيعَ دائرتها؛ فإنها لا تنطبقُ على شيءٍ أكثرَ من انطباقِها على أولادِ رسول اللهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ وبناتِه، ثمّ على أحفاده وأسباطِه.

فأحفادُه وأسباطُه أقربُ إليه من إخوانه، ومن أعمامه، وأخواله؛ لأنهم امتدادٌ لنسبه الخاصّ!

أمّا إن قُصِدَ بـ «التشيّعِ» أيَّ شيءٍ وراءَ ذلك؛ فهو مشكلةٌ حقيقيّةٌ مؤلمة!

خاصّةً منهاجَهم السياسيَّ الغريبَ العجيبَ، الذي يؤمن به أكثرُ من (200) مليون مسلمٍ شيعيٍّ إماميّ، وليس عليه دليلٌ واحدٌ من كتاب اللهِ تعالى، وسنّة رسوله صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِه وسَلّمَ!

ولو أننا فتّشنا كتبَ الشيعةِ من أوّلها إلى آخرها، صحيحها ومقبولها عندهم؛ فلن نجدَ دليلاً واحداً صالحاً للحجيّة، على أيّ مسألةٍ من مسائل الإمامةِ السياسيّة الاعتقاديّة «النصِّ، والتعيينِ، والعصمةِ، والإمامةِ الاثني عشريّة الوراثيّة، وانحصارها وتسلسلها في ذرية الحسين عليه السلام، والبداءِ، والرجعةِ، والمهديّ».

وإذ كانت هذه المسائلُ كلّها اعتقاديةً لديهم؛ فإنك ستقف في مقابلهم ومواجهتهم مباشرةً، ودون أدنى تفكير؛ لأنّ مسائل الاعتقاد ليست قابلةً للتفاوضِ، أو التنازلِ، أو المجاملة، أو التعايش!

وإذْ كان المرجعُ الدينيّ هو نائبَ الإمام المعصوم، والمعصوم، متحدّثاً باسم اللهِ تبارك وتعالى؛ فقد صار للمرجع الدينيّ قدسيّةُ المعصوم تماماً!

ولذلك تجد في خطابهم إياه: «الإمام المقدّس، الجناب المقدّس، والمرجعيّة المقدّسة»!

بل إنّ فتاواه تغدو مقدّسة، والناتجُ عن تلك الفتاوى؛ يأخذ عظمةَ القداسة ذاتها «الكتائب الشيعية المقدسة، الحشد الشعبيّ المقدس، قاسم سليماني الشهيد المقدس».

ويترتّب على بعضِ ما تقدّم أنّ «الحاكم الشرعيَّ» هو المرجع الدينيّ الحوزويّ، وهو الذي يَمنح الشرعيّة للحاكم السياسيّ، ولتصرفاته تجاهَ الأمة!

وإذا كان النظام ديمقراطيّا مثلاً؛ فلا يكتسب أدنى شرعيّة، وتغدو أموالُ الأمةِ التي تحوزها وتحوطها وتحميها الدولةُ  «مالاً مجهول المالك» يحقّ لكلّ سابقٍ قادرٍ أن يحوزه، ثمّ يذهب إلى المرجع «الحاكم الشرعيّ» ليأخذ منه الخُمسَ، أو يصالحَه، فيطهّره له بذلك!

وبهذه الفتوى الشائعة في كتب الإمامية؛ نَهبَ القادرون على الوصولِ إلى مالِ الأمة، من الساسة العراقيين مليارات الدولاراتِ، بوجهٍ مشروعٍ، ليس من حقّ أحدٍ أن يحاسبَهم عليه!

وبمثل هذه الفتاوى الإجراميّة الباطلة؛ لا يمكن أن تقومَ دولةٌ أصلاً، ولا يمكن أن تتقدّم أمّة، ولا يمكن أن يسودَ التوزيعُ العادلُ للثرواتِ بين سواد الأمّة، إلا تساويهم في الفقر والذلّ والحاجة!

ختاماً: نحن سنتناولُ على هذه المدوّنة «المشكلةَ الشيعيّة» بموضوعيّة وعُمقٍ، محاولين الوصولَ إلى فهم صحيح دقيقٍ لها، ساعين في تصوّرِ حلّ واقعيّ لأكبر مشكلةٍ في حياةِ الأمّة المعاصرةِ والمستقبلَة!

واللهُ تَعالَى أعْلَمُ.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 25 أغسطس 2021

مَسائل حديثية (21):

أضياف أمّ المؤمنين عائشة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

استمعتُ أمسِ إلى أحدِ المتنوّرين «الجهلة» هو يستنكر بالطول والعرضِ أحاديثَ في الصحيحين،  وصفها بالأحاديث الجنسية المنسوبة إلى أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها.

فقلت في نفسي: أنت لا تقدّس صحيحَ البخاريِّ، ولا صحيحَ مسلمٍ، فراجع تخريجك لهذا الحديث، وأضف إليه ما يتناسب مع النشر على الانترنيت!

فإن كان الحديث ضعيفاً؛ فقل: إنّه ضعيف، فهذا خيرٌ من أن يُنسَبَ إلى أمّ المؤمنين ما نستنكر صدورَه عن أمهاتنا، وعائشة صحابية عالمة، وهي زوج الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأين أمهاتنا منها؟

وإن كان الحديث صحيحاً؛ فحاولْ البحثَ عن تفسيرٍ مقنعٍ لما تضمّنه متنه الغريب البعيد!

جاء هذا الحديثُ عن عائشةَ من ثلاثِ طرق:

أوّلاً: حديث همّام بن الحارث النخعيّ عن عائشة.

بإسنادي إلى الإمامِ مسلمٍ في الطهارة، باب حكم المنيّ (288) قال رحمه الله تعالى:

وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ خَالِدٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ؛ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَةَ فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ!

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ - إِنْ رَأَيْتَهُ أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ فَإِنْ لَمْ تَرَ نَضَحْتَ حَوْلَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا فَيُصَلِّي فِيهِ.

و حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ وَهَمَّامٍ «بن الحارث النخعيّ» عَنْ عَائِشَةَ، فِي الْمَنِيِّ!

قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ (ح).

وحَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ جَمِيعًا عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ (ح).

وحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ (ح)

وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ وَاصِلٍ الْأَحْدَبِ (ح)

وحَدَّثَنِي ابْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ مَنْصُورٍ وَمُغِيرَةَ.

كُلُّ هَؤُلَاءِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ فِي حَتِّ الْمَنِيِّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَحْوَ حَدِيثِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ.

وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ «بن الحارث» عَنْ عَائِشَةَ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.

حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ ثَوْبَ الرَّجُلِ، أَيَغْسِلُهُ، أَمْ يَغْسِلُ الثَّوْبَ؟

فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ؟!

وحَدَّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ ح و حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَابْنُ أَبِي زَائِدَةَ كُلُّهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.

أَمَّا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ فَحَدِيثُهُ - كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيَّ.

وَأَمَّا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ، فَفِي حَدِيثِهِمَا: قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

قال عداب: يلاحَظ أنّ مسلماً ساق إسناد حديث همّام بن الحارث، ولم يسق متنَه بتمامه، إنما اقتصر على موضع الشاهد منه: قَالَتْ «عائشة»: «كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وكأنه استهجن تلك القصّةَ مثلنا.

وأخرجه مختصراً كذلك، النسائيُّ في المجتبى (297، 298، 299) وابن ماجه (537) والشافعيّ (24) وعلي بن الجعد (179) وأحمد (25034، 25035، 25612، 25614، 26266) وأبو نُعيم في مستخرجه على صحيح مسلم (661).

أما رواية متن الحديثِ مع قصّته؛ فقد أخرجه الطيالسيّ في مسنده (1504) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ هَمَّامَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمَ، فَأَبْصَرَتْهُ جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ يَغْسِلُ أَثَرَ الْجَنَابَةِ مِنْ ثَوْبِهِ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ عَائِشَةُ «فقالت له»: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي، وَمَا أَزِيدُ أَنْ أَفْرُكَهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» هكذا رواه الحكم بن عتيبة عن إبراهيم بن يزيد النخعيّ.

بينما رواه الْأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامِ «بن الحارث» قَالَ: نَزَلَ بِعَائِشَةَ ضَيْفٌ، فَأَمَرَتْ لَهُ بِمِلْحَفَةٍ لَهَا صَفْرَاءَ، فَنَامَ فِيها، فَاحْتَلَمَ، فَاسْتَحيى أَنْ يُرْسِلَ بِهَا، وَفِيهَا أَثَرُ الِاحْتِلَامِ.

قَالَ: فَغَمَسَهَا فِي الْمَاءِ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا!

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ أَفْسَدَ عَلَيْنَا ثَوْبَنَا، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَفْرُكَهُ بِأَصَابِعِهِ!

لَرُبَّمَا فَرَكْتُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصَابِعِي» أخرجه أحمد (24158، 24939، 24940) وابن ماجه في الطهارة (538).

ومن هذه الطريق أخرجه الترمذيُّ في الطهارة (116) وقال: حديث حسن صحيح.

قال الفقير عداب: إسناد هذا الحديثِ؛ صحيح صحيح؛ لا يسعنا توجيهُ أيّ نقدٍ إليه.

وسنأتي إلى نقد متنه في نهاية التخريج.

ثانياً: حديث علقمةَ بن قيس النخعيّ عن عائشة.

إسنادي إلى الإمام مسلم في كتاب الطهارة، باب حكم المنيّ (288) قال رحمه الله تعالى: وحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِالله «المزني» عَنْ خَالِدٍ «بن مهران الحذّاء» عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ «زيادِ بن كليبٍ الحنظليّ» عَنْ إِبْرَاهِيمَ «بن يزيد النخعيّ» عَنْ عَلْقَمَةَ «بن قيسٍ النخعيّ» وَالْأَسْوَدِ «بن يزيد النخعيّ» أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِعَائِشَةَ، فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ!

فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ - إِنْ رَأَيْتَهُ - أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ؛ نَضَحْتَ حَوْلَهُ وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْكًا، فَيُصَلِّي فِيهِ.

قال عداب: مدار رواية علقمةَ والأسود على أبي معشرٍ الحنظليّ، رواه عنه جماعةٌ.

وأبو معشر وصفه بالحفظ جماعةٌ من المحدثين، ووصفه بالثقة أكثر منهم!

وقال أبو حاتم الرازيّ: صالحٌ، ليس بالمتين في حفظه.

لكنّ قولَ أبي حاتمٍ لا يضيره هنا، فقد توبع على روايته ها هنا، فزالَ خوف قلّة حفظه على ما قال أبو حاتم.

فإسناد هذه الرواية؛ صحيح لغيره، لا غبار عليه.
ثالثاً: حديث عبدالله بن شهاب الخَولانيّ عن عائشة.

بإسنادي إلى الإمام مسلم في الطهارة، باب حكم المنيّ (290) قال رحمه الله تعالى:

وحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَوَّاسٍ الْحَنَفِيُّ أَبُو عَاصِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلَانِيِّ قَالَ: كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمْتُ فِي ثَوْبَيَّ، فَغَمَسْتُهُمَا فِي الْمَاءِ، فَرَأَتْنِي جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا فَبَعَثَتْ إِلَيَّ عَائِشَةُ، فَقَالَتْ:

مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ بِثَوْبَيْكَ؟ قَالَ: قُلْتُ رَأَيْتُ مَا يَرَى النَّائِمُ فِي مَنَامِهِ!

قَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَ فِيهِما شَيْئاً؟ قُلْتُ: لَا !

قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئاً؛ غَسَلْتَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنِّي لَأَحُكُّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَابِسًا بِظُفُرِي».

وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه (288) وقال: «مِنْهُمْ مَنِ اخْتَصَرَ الْحَدِيثَ، وَمِنْهُمْ مَنْ ذَكَرَ نُزُولَ الضَّيْفِ بِهَا، وَغَسْلَهُ مَلْحَفَتَهَا» والبيهقيّ في السنن الكبير (5: (4226) بتمامه.

قال الفقير عداب: إسنادُ الحديث ثقاتٌ عن آخرهم، سوى عبدالله بن شهابٍ الخولانيّ، راويه عن عائشةَ.

ترجمه الذهبيّ في الكاشف (2778) ولم يذكر رتبته.

وترجمه ابن حجر في التقريب (3386) وقال: مقبول، يعني حيث يتابَع.

وقال الدكتور بشار عواد في تعليقه على التقريب (3386) معقّباً على قول ابن حجر: «مقبول»: «بل صدوق، فقد روى عنه ثلاثةٌ، ووثّقه ابن حبّان، وأخرج له مسلم في صحيحه، ولا نعلم فيه جرحاً، وحديثه الواحد الذي أخرجه مسلم عنه، عن عائشة (290) معروفٌ، روي متنه ومعناه، من طرقٍ صحيحةٍ كثيرة.

ومن عجبٍ أنّ المصنّف «ابن حجر» قال قبل قليل في ترجمة عبدالله بن سلمان الأغرّ المدنيّ: «صدوق» وقد روى عنه اثنان فقط، ولم يوثقه سوى ابن حبّان، ورى له مسلمٌ حديثاً واحداً فقط، ليس بقوة متن هذا الحديث» انتهى.

قال عداب: لي على هذا الكلام ملاحظاتٌ عديدة:

الأولى: ليس لعبدالله بن شهاب الخولانيّ في الكتب التسعةِ، سوى هذه الرواية الواحدة، عند مسلم (290) أخرجها عقب روايةِ همّام بن الحارثِ عن عائشة في الموضوع ذاته، فهي إذنْ متابعةٌ لرواية همّام، وليست عمدةً في بابها.

وليس لعبدالله بن سلمانَ في الكتب التسعة، سوى حديثٍ واحدٍ أيضاً، أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب الريح التي تكون قُربَ القيامة (117).

وهذا يعني أنّه اعتمد على عبدالله بن سلمان، دون عبدالله بن شهاب، الذي اعتبر به اعتباراً.

الثانية: ذكر المزيّ في ترجمة عبدالله بن شهابٍ ثلاثةَ رواة عنه، كما قال الدكتور بشار.

لكنني لم أجد روايةَ الشعبيّ عنه، في شيءٍ من كتب الرواية.

ووجدتُ له روايةً واحدةً من حديثِ خيثمة بن عبدالرحمن عنه، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أخرجها عبدالرزاق في مصنفه (6: 494) وسعيد بن منصور في سننه (1: 327) والسنن الكبير للبيهقيّ (7: 558).

أمّا عبدالله بن سلمان الأغرّ؛ فقد ترجمه المزيّ في تهذيبه (15: 49) وذكر له راويين:

(1) صفوانَ بن سُليم، عند مسلم (117) وأبي عوانة في مستخرجه (369) وعند كثيرين.

(2) وعَبْدَاللهِ بنَ عثمانَ بنِ خُثَيم، عند أبي عروبة الحرانيّ في الأوائل (175).

لكنني وجدتُ عدداً من الرواة الآخرين رووا عنه، فروى عنه:

(3) عبدالعزيز بن محمد الدراورديّ، عند الطبراني في المعجم الكبير (17: (952) تحقيق حمدي السلفي، مكتبة ابن تيمية.

(4) ومحمّد بن عجلان، عند الخرائطيّ في اعتلال القلوب (375) مكتبة نزار مصطفى الباز، تحقيق حمدي الدمرداش.

 وفي مساوئ الأخلاق للخرائطيّ ذاته رقم (292) مكتبة السوادي، بتحقيق مصطفى الشلبي.

(5) ومحمد بن عَمرو بن علقمة، عند ابن القيسراني، في أطراف الغرائب (5: 204 (5161) طبعة دار الكتب العلمية.

(6) وموسى بن عقبة، عند ابن خزيمة في صحيحه (1143) وابن حبان كما  في الإحسان (3247) وهو في التقاسيم (225) وقال هنا: «لسلمان الأغرّ ابنان:

أحدهما عبدالله، والآخر عبيدالله، جميعاً حدثا عن أبيهما، وهذا عبدالله» والبيهقي في السنن الصغير (813) وانظر إتحاف المهرة (4372) فقد نصّ على أنّه عبدالله.

قال عداب:

وأحاديث عبدالله بن سلمان هذا، تزيد على عشرة أحاديث:

فقد أخرج له مسلم (117) وابن خزيمة (1143) والسرّاج (1150) وأبو عوانة (301، 369) والطحاوي في معاني الآثار (4697) والخرائطي في اعتلال القلوب (375) وفي مساوئ الأخلاق (280) وابن الأعرابي في معجمه (1581) وابن حبان (225) والحاكم في المستدرك (8406) والداني في الفتن (539) والبيهقي في السنن الصغير (813) وغيرهم.

سوى الأحاديثِ التي اختَلَفتْ فيها طبعات الكتب، أهي من حديثه، أم من حديثِ أخيه عبيدالله بن سلمان.

فقد أخرج أحمد في مسنده (10009) حديثاً من طريق مالك عنه، فلم أعدَّ مالكاً في الرواة عنه، لهذا الخلاف.

ثالثاً: إذا عددنا كيفيّة تخريجِ مسلمٍ للراوي تقويماً له في ميزان فقه الجرح والتعديل؛ فهو أخرج له متابعةً.

يضافُ إلى هذا؛ أنّ مَن روى عنه ستةٌ من الرواة؛ أقوى ممن روى عنه ثلاثةٌ.

ويكون مَن رُويَ عنه عشرةُ أحاديثَ؛ أقوى في الجملة ممن وجدنا له حديثين.

ويكون من احتجّ به مسلمٌ؛ أقوى ممن اعتبر به.

فيكون حكمُ ابن حجر على عبدالله بن شهابٍ بأنه مقبول، وأنّ عبدالله بن سلمان صدوق؛ عين الصواب.

ناهيك عن أنّ متنَ الحديثِ الذي رواه عبدالله بن شهابٍ عن عائشةَ؛ غريب غريبٌ، ولولا روايةُ همّام بن الحارثِ، وعلقمة والأسود عن عائشة نحوَه؛ لحكمت بنكارة الحديث!

أضف إلى هذا أمرين:

الأوّل: أنّ روايةَ عبدالله بن شهاب عند مسلم (290) قَالَ: «كُنْتُ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمْتُ فِي ثَوْبَيَّ».

أخرجه أحمدُ بعينه من حديثِ همّام بن الحارث قال: إنَّهُ كَانَ نَازِلًا عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمَ، فَأَبْصَرَتْهُ جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ، وَهُوَ يَغْسِلُ أَثَرَ الْجَنَابَةِ مِنْ ثَوْبِهِ» ومن النادر أن يتطابق متن حديثين، إلا كان أحدهما سرقةً عن الآخر، وهماً أم تعمّداً.

الأمر الثاني: ساق الخطيب البغداديّ في كتابه «الأسماء المبهمة» الحديث (196) من ثلاث طريق عن عائشة:

الطريق الأولى: طريق همّام عنها.

الطريق الثانية: طريق علقمة عنها.

الطريق الثالثة: طريق عبدالله بن شهاب عنها، ثم قال:

«هَذَا الحديث إنَّما يحفظ بالإسناد الأول، وضيف عائشة هو همّام بن الحارث، وقيل: عَبْدُاللهِ بْن شهاب الخولاني».

فجزم باسم همّام، ومرّض اسم ابن شهاب.

فعبدالله بن شهابٍ هذا؛ مجهول العين في حقيقة أمره، بينما هو في الاصطلاح مجهول الحال، إذ روى عنه اثنان.

ومجهول الحال؛ يُقبل في المتابعات في إطار الحسن لغيره، عند المحدّثين، وهذا هو حدّ المقبول، وهو ما فعله مسلم. 

ومع صحة إسناده؛ فأنا أستبعد صدورَ أقلَّ منه عن أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها!

- تدخّلها مباشرةً بمعاتبة الضيف على صنيعه!

- قولها: «أفرك المنيَّ، أحكّه، أحتّه، أقرص دم الحيضة، أمصّه، أمجّه) فإنّ قلبي لا يتقبّل هذا أبدا، ولا حرج في ذلك، فأثرها هذا من فعلها، وليس منسوباً إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

أمّا جملة (كنت أفرك الجنابةَ) أو (أفرك المنيّ من ثوب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد أخرجها أبو داود في الطهارة (372) وأحمد في المسند (24064، 24659، 24936، 25778) من طريق الأسود بن يزيد النخعيّ عن عائشة.

والنسائيّ في الطهارة (296) وأحمد في المسند (24378، 26395) من طريق الحارث بن نوفل عن عائشة.

وأخرجه أحمد في مسنده (26265) من طريق القاسم بن محمد عن عمّته عائشة.

فهذا القدرُ؛ لا سبيلَ إلى دفعه، وتأويلُه سائغ لدى جماهير العلماء، وهو أنّ عائشة رضي الله عنها أمّ المؤمنين، وهذه المسائل الدقيقة؛ تعرف من بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بأفضلَ ممّا تُعرف من خارجه.

أمّا نزولُ الأضياف على عائشة رضي الله عنها؛ فليس من المعقولِ أن يكون الأضيافُ معها في غرفتها، كما حاول أن يفهم بعض السفلة!

إذ هي قد تركت غرفتها التي فيها ضريح الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعد دفن عمر بن الخطّاب فيها.

ولو افترضنا - جدلاً - أنّ عائشةَ ترى جوازَ ذلك لأنها أمّ المؤمنين؛ فمن المحال أن يرضى الصحابة رضوان الله عليهم بذلك، والله تعالى يقول:

(وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً؛ فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ (53) [الأحزاب].

فإذا كان سؤال شيءٍ من حاجات الدنيا لإحدى أمّهات المؤمنين؛ يستدعي وجود الحجاب الساتر بينها وبين السائل، فهل يَتصوّر مسلمٌ عاقلٌ أن يبيت رجلٌ منزلِ إحدى أمهات المؤمنين، دون أن تكون في مأمنٍ تامّ منفردةً في حجرتها؟

أمّا رؤيةُ الجاريةِ للضيف، وهي تستدعي أن يكون الضيفُ في دار عائشة ذاتها؛ فقد كان منزلها بين بيوت الصحابة رضوان الله عليهم، وما كان لأحدٍ من المنافقين الجرأةُ على أذى نساء الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد يكون بيتُ الأضيافِ غرفةً مجاورةَ لمنزل عائشة، وتكون الجاريةُ تخدم الأضياف، كما هو معروف لدى جميع العرب البدو في ذلك الزمان، بل حتى في زماننا هذا، فالناس الذين لديهم خادمات، هن يقمن بتقديم الضيافة للضيوف والزوّار.

فمن الضروريّ أن يستحضرَ القارئُ طبيعةَ المجتمع البدويّ والريفيّ البدائيّ، في ذلك الزمان، قبل أن تدعَ الشيطانَ يملأ قلبك شكّاً وسوء ظنّ.

في جوار منزلنا في حيّ الفرّاية، ورقمه (55) ركامٌ من التراب برقم (54) كنّا ندعوه «خربة» الشيخ خالد، جدّنا الرابع (1795 - 1908م).

وهي قطعةُ أرضٍ كانت مَضافةً معروفةً باسمه، ولم يكن لها أيّ مدخلٍ إلى منزل الأسرة، وكان الأضياف ينزلون فيها، ويقوم أناس على خدمتهم.

فربما تكون دارُ عائشةَ، التي كان ينزل بها الأضيافُ، على هذا النحو. 

 إنّ بيوتَ أمّهات المؤمنين؛ حصونٌ حصينةٌ، بما جعل الله تعالى لهنّ من المكانة الساميةِ، التي لم يكن يجرؤ مخلوقٌ أن يتطاول عليها، أو يخدش سموّها.

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يُفْدون أمهاتِهم بالغالي والنفيس، فلا يَتصوّر الشرَّ في أمّهات المؤمنين، إلا  سافلٌ مريضُ القلبِ، غيرُ موقّرٍ للرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.