الأربعاء، 27 ديسمبر 2023

      مسائل حديثيّة (62):

 مَناتِنُ المَرْأَةِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدهم عن حديث: (من نظر إلى امرأةٍ، فأعجبته؛ فليذكر مناتنها)

أصحيح هو؟

وإذا كان صحيحاً؛ فما تفسيره؟

قلت له: قرأتُ هذا الكلامَ في أساس البلاغةِ للزمخشريّ، ربما قبل ستّين عاماً، وبحثتُ طويلاً، وسألتُ عنه عدداً من الشيوخ، في تلك الأيّام؛ فلم أستطع الوقوفَ على مصدرٍ له، سوى أساس البلاغة للزمخشريّ.

وعندما سكنتُ مكّة المكرّمةَ - زادها الله شرفاً وتعظيماً وأمناً - قرأتُ نحوَ هذا الكلام في أحد كتب الفقه الحنبلي - لا أتذكّر اسمه - وعزاه لابن مسعود!

ولم يسألني عنه أحدٌ طيلةَ هذه السنين، وسأبحثُ عنه بعدما تيسّرتْ لنا سبل البحثِ في الموسوعات!

أقول وبالله التوفيق:

أخرج أبو يوسف في كتاب الآثار (894) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، عَنْ حَمَّادِ بن أبي سليمان، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النخعيّ؛ أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ، فَأَعْجَبَتْكَ؛ فَاذْكُرْ مَنَاتِنَها».

وأخرج أبو بكرِ ابنُ أبي شيبة في المصنّف (17205) قال: حَدَّثَنَا زيدُ بنُ حُبَابٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَخعيّ: فِي الرَّجُلِ يَرَى الْمَرْأَةَ قَالَ: «يَذْكُرُ مَنَاتنَها».

وقال الزمخشريّ في أساس البلاغة (2: 248): وفي الحديث: «إذا رأى أحدكم امرأةً فأعجبته؛ فليذكر مناتنها».

وفي تهذيب اللغة للأزهريّ (14: 30) «روى اللِحياني عن الأصمعيِّ قال: «اذْكُر مَناتِنَها وأَناتِنَها».

وفي إرواء الغليل للشيخ الألبانيّ (6: (1789): «لم أَقفْ على سنده إلى ابن مسعود، وقد أخرج ابن أبي شيبة بإسنادٍ رجالُه ثِقاتٌ نحوَه عن إبراهيمَ النخعيّ».

قال عداب: فيما قاله الشيخ الألبانيُّ تساهلٌ ظاهر، فالإسناد فردٌ غريب مطلقٌ من لدن ابن أبي شيبة إلى إبراهيم، وعطاء بن السائبّ قد تغيّر واختلط، فلا بدّ من بيان ذلك!

غيرَ أنّ عطاءً توبع من حمّاد بن أبي سليمان متابعةً تامّةً، وحالُ حمّادٍ قريبةٌ من حالِ عطاء، بيد أنّ الرجلين من العلماءِ المشهورَين بالرواية عن إبراهيم النخعيّ، فنطمئنّ إلى صدور هذا الكلام عن إبراهيم.

أمّا مَقْصِدُ هذا الأثر وغايتُه؛ فخلاصَته؛ أنّ المرأةَ أعظم وأكبرُ شهواتِ الرجل الدنيويّة، وهو إذا رآها؛ ثارتْ شهوتُه ورَغب بها، وربما قادته تلك الشهوةُ إلى افتراسِها، وهي ليست حلالاً له، فماذا يصنع؟

مَن كانت له زوجة، يَسْهلُ وصولُه إليها؛ يمكنُه أن يقضي وطرَه منها، فيذهب ما في نفسه من شهوةِ تلك المرأةِ أو يخفّ، بحيث يستطيع السيطرة عليه بعدئذٍ!

أمّا مْن ليست لديه زوجةٌ، أو كان يعسر عليه الوصولُ إليها، فماذا يصنع؟

يُرشِده هذا الخبرُ عن إبراهيم النخعيّ الفقيه إلى أن يتذَكّر «مناتن المرأة» فإنّ ذلك يُضعِف شهوتَه إياها.

ولا ريبَ في أنّ مثلَ هذه الوصفةِ النفسيّةِ والذهنيّةِ تنفع أصحابَ الذوقِ العالي، والحسَّ المُرهَفَ، فهم إذا تذكّروا الحيضَ والنفاسَ وغيرهما ممّا كتبه الله تعالى على بناتِ آدم؛ تغيّرت مشاعرُ أحدهم الشهويّة تجاهَ تلك المرأةِ التي شاهدها عرضاً في قارعة الطريق.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

     والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 23 ديسمبر 2023

  قَريباً مِن السياسةِ (70):

مكانة الشيخ عبدالكريم المدرّس لدى الدولة العراقية البعثيّة ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

أرسل إليّ أحد الإخوة الأفاضل مقطعَ (فيديو) قصيراً للشيخ محمد مَهدي الصميدعيّ الحسينيّ، يقول فيه: «كثيرٌ من المفتين في العالم الإسلاميّ، وحتى في العراق، قبل ما تصير دار الإفتاء، مفتي العراق الشيخ عبدالكريم بيارَة (الله يرحمه) كان ناطقاً رسميا باسم الحكومة، ماذا تقول الحكومةُ لا يستطيع أن يقول: لا» !

إلى أن يقول: «دار الإفتاء اليوم أخذت شخصيّة قويّة، ويعود الفضل لله تعالى، ثمّ للحكومة العراقية الحالية، التي استقت هذا الشراب وهذه الآداب والأخلاق، مما تعلمته من المرجعية الشيعية» انتهى.

قال الأخ الذي أرسل إليّ هذا المقطع: «بصفتك قريباً من الشيخ عبدالكريم بيارة، وهو شيخُك - كما ذكرتَ غير مرّةٍ على صفحتك:

هل فعلاً كان الشيخ عبدالكريم بيارة ناطقاً رسميّاً باسم الحكومة العراقية السابقة؟

وهل كان يفتي للحكومة العراقية بما تريد، لا يستطيع أن يقول: لا ؟».

أقول وبالله التوفيق:

قبل إقامتي في العراق من (7/ 3/ 1992) حتى (13/ 8/ 2002م) كنت أسمعُ من زملائنا العراقيين في مكّة المكرّمة، عن الشيخ عبدالكريم بيارة «رحمه الله تعالى ورضي عنه»  كلَّ ثناءٍ على علمه وحالِه، حتى كانوا يلقبونه «الشافعيَّ الصغير» أو «الشافعيَّ الثاني».

وكانوا يبالغون في الإطراء - كعادة العراقيين في كلّ شيءٍ - حتى كان بعضهم يقول: إنه يحفظ مهذّب الشيرازيّ، ومنهاج النوويّ.

فكنتُ أقول في نفسي: زملاؤنا هؤلاء؛ مثل تلامذة شيخنا محمّد الحامد  «رحمه الله تعالى ورضي عنه» لمثابرته على على خمسةِ دروسٍ علميّة في الأسبوع الواحد، ولفُشُوّ الجهل بيننا؛ كان بعضهم يزعم له الاجتهادَ المطلق، لكنّه لتواضعِه لا يخرج عن مذهب الحنفيّة!

بمعنى آخر: لم يكن إطراؤهم ذاك يستهويني، ولا يأخذ مني أيَّ مأخذ!

حتى إذا قرّرت الإقامةَ في العراق؛ نزلتُ ضيفاً على تكيةِ حضرة الشيخ حاتم كاظم الدليميّ نسباً، الرفاعيّ طريقةً، وكان يعرف في ذاك الزمان بــ(الشيخ حاتم الراوي) حفظه المولى.

كان الشيخ حاتم دائمَ الزيارةِ للشيخ عبدالقادر الجيلانيّ «رضي الله عنه» فأخبرني أنّه سيذهب إلى زيارةِ الشيخ عبدالقادر، أأصحبه في زيارتي، أم أبقى في التكية؟

قلت له: بل أنا أرغب بزيارته، فهو حبيبي وجدّي من جهة الأمّهات.

بعد ما زرنا مشهدَ الشيخ عبدالقادر؛ استأذن الشيخ حاتم وقال: «أنا أستأذنكم ربعَ ساعة، لازم أزور شيخي عبدالكريم المدرس، ما يصير أزور الحضرة، وما أزور شيخ الحضرة»؟

قلت: هل يمكنني زيارتُه معكم، أو ثمّة خاصٌّ بينكما في هذه الزيارة؟

قال: أبداً لا يوجد أيّ أمرٍ خاصٍّ، هو شيخي وشيخ العراق كلّه، وأحبّ أن أتبرك بزيارته وأقبّل يده!

حين دخلنا إلى غرفة الشيخ عبدالكريم؛ كان يتحدث، فلمّا أنهى حديثَه؛ قام الشيخ حاتم، فصافحه وقبّل يده ورأسه.

وجئت أنا فقبلت رأس الشيخ عبدالكريم ويدَه، وعرّفه الشيخ حاتم عليّ!

قال له الشيخ عبدالكريم ضاحكاً: قل له: يحذر العراقيين، ويمسك لسانَه!

ضحكنا جميعاً، وجلسنا مصغين لما يقول الشيخ.

في هذا اللقاء الأوّل قال الشيخ عبدالكريم للحاضرين، وفهمتُ أنّ الخطاب لي حتماً:

«طلّاب العلم في البدايات يكونون جهّالاً، ما يعرفون شيّ، والجاهل يستعظم أيّ شيء يصدر عن العالم، ويراه كبيراً، من هنا تنزرع ثقته بهذا العالم، ويثابر على طلب العلم على يديه، ولولا هذا الانبهار؛ ما أحبّ الشيخَ، ولا صبرَ على صعوبة طلبِ العلم، وطولِ ساعاته يوميّاً.

مثل أخونا هذا - شسمه قلتَ لي يا حاتم؟ - قال له الشيخ حاتم: أبو محمود.

قال الشيخ عبدالكريم: مثل أخونا أبو محمود السوري، كان لديهم في بلدهم شيخٌ عالم فاضل من الصالحين، وكان تلاميذه يحبونه ويعظمونه كثيراً، لويش؟ لأنهم جهال!

مو لازم إذا أنت أصبحت من أهل العلم ومن أهل القرآن - ما شاء الله - تحاول تصغير شيخهم بعيونهم، لأنّ هذا يؤذيهم، ولا يضرّ ذلك العالم شيئاً.

إي نعم!

كلّ الشيوخ هم في حقيقة الأمر أقلّ مما هم عليه في أنظار تلاميذهم «الكلام من الذاكرة».

فهمت أنا أنّ الشيخ عبدالكريم من أهل القلوب، والتزمتُ زيارته وحدي، لا لأستفيد منه علميّاً أبداً، إنما ليوجهني التوجيه الروحي الأسبوعيّ.

وكنت أسأله بعض الأسئلةِ التي أخالفه فيها، في كلّ مرةٍ، من دون إثقالٍ عليه، فيكون جوابُه واحداً دائماً: أنا رجلٌ شافعيّ، لست بمجتهدٍ، أقول بما أعلمه من مذهب الإمام الشافعيّ رحمه الله تعالى.

استمرّت علاقتي بالشيخ على هذا النحو طيلةَ وجودي في بغداد، وكان يسدّدني في كلّ مرة أزوره فيها.

كانت منزلتي لدى الدولة العراقيّة في تلك البرهة من الزمان جيّدةً، وكنت محترماً في جميع دوائر الدولة، لكنني كنت أحشِم نفسي عن مخالطة رجالِ الدولة تماماً، ولم أعرف منهم طيلةَ عشر سنواتٍ، سوى الرئيس صدّام حسين، والنائب عزّة الدوريّ، والوزير عبدالله فاضل.

ورأيتُ عدي صدّام مرتين في تلفزيون الشباب، سلّم عليّ في إحداهما ومشى، وتصايحتُ معه في المرّة الثانية، وحسب!

كان الرئيس صدّام حسين يستفتيني أحياناً قليلة، يرسل إليّ وفداً مكوّناً من ثلاثةِ أشخاص، معهم مذكّرة الرئيس الشخصيّة، مكتوبٌ فيها سؤالاً أو أكثر بخطّ الرئيس، ويحدّدون لي الجواب بمقدار الصفحتين المتقابلتين، لا يزيد.

كنتُ أُجلسهم في غرفة الضيوف، وأجلس في مكتبتي أكتب الجواب على ورقٍ خارجيّ، ثم أختصره بالقدر المطلوب، ثم أكتبه بيدي في مفكّرة الرئيس صدّام، ثم أعطيهم الجواب، وينصرفون.

لا والله، ثم لا والله، ثمّ لا والله العظيم؛ لم يطالبوني ولو مرّةً واحدةً بشيءٍ، ولم يعاتبوني على شيءٍ، ولم يقولوا لي: عدّلْ شيئاً، بل إنني لا أتذكّر أنهم قرؤوا الفتوى في بيتي قطّ!

وسمعت من الرئيس صدّام حسين نفسه ثناءً على الشيخ عبدالكريم المدرس، وقال بالحرف الواحد: «الشيخ عالم وقور، كبير في السنّ، ونحن لا نطلب منه شيئاً، ولا نكلّفه بشيء»!

وكان الأستاذ عزّة إبراهيم يزوره في غرفته، وأثنى عليه أمامي مرّاتٍ عديدة!

كان رئيس المحكمة العسكريّة يزورني في بيتي، ويشاورني في بعض الأمور العاجلة «الرجل من تكريت وكان مهذّباً فاضلاً، اغتيل في تلك الأيام، نسيت اسمَه والله».

سألتُه مرّةً: لماذا تستفتوني أنا، ولا تستفتون مشايخَ العراق، وفيهم من هو من شيوخي؟

قال: لا يخفى عليك أنّ للدولة رهبةً في نفوس الناس، وحتى المشايخ، ونحن قد عرفناك تماماً، لذلك نستفتيك، ولا نستفتي مشايخَ العراق، حتى لا نُحرج المشايخَ من جهة، وحتى لا يُقال: أُخذت منهم الفتوى بالقوّة!

قلت له: وأنتم معشر البعثيين العفلقيين تُهمّكم الفتوى الشرعيّة، في قليلٍ أو كثير؟

قال: لا يا شيخ عداب لا، نحن والله مسلمون، ومؤمنون بالله تعالى، وتوجّه السيّد الرئيس والحزب نحو الدين حقيقيّ، لكن بالتدريج يا شيخ عداب، والحملة الإيمانية أنت على أوّلها - كما يقولون - وعارف كلّ شيء!

كانت العلاقةُ بيني وبين شيخي عبدالكريم بيارة قويةً وقريبة، فلم يذكر لي مرّةً واحدةً أنّ الدولة العراقية البعثية طلبت منه فتوى قطّ!

لكنّه كان مستاءً من تعيين أحدِ تلامذتي شيخاً للحضرة القادريّة!

لم أكنْ أعلم بهذا، ولا استشارني الأستاذ عزّة إبراهيم في تعيينه أبداً.

دخلت إلى جامع الحضرة القادرية، وقد أقيمت صلاة العصر، وتقدّم تلميذي هذا، فصلّى بنا العصر، وفي أثناء تلاوة الأذكار بعد الصلاة رآني.

جاء الرجل فصافحني وقبّل يدي، وكان هذا شأنه من قبل، وأخبرني بأنه أصبح شيخاً للحضرة القادرية، ودعاني إلى زيارته في مكتبه، فقلت له: أزور الشيخ عبدالكريم الكبير أوّلاً، ثم أزورك.

فصحبني حتى دخلتُ إلى غرفة الشيخ عبدالكريم، وسلّم هو على الشيخ وانصرف!

سلّمت على الشيخ كالمعتاد، وأجلسني عن شماله، وقال لي متبسّماً: لماذا يعيّنون التلميذ شيخاً للحضرة القادريّة، ولا يعيّنون شيخَه العالم؟ وتبسّم طويلاً!

قلت له: يا مولانا هذه دولة بعثيّة، وتلميذي هذا بعثيّ، وأنا من الإخوان المسلمين، كيف يعينونني إماماً للحضرة القادريّة، وضحكنا معاً.

وشكا لي شيخنا عبدالكريم بعضَ تصرفات تلميذي هذا، فكنت أنبّهه عليها، وحدثني شيخي عبدالكريم أنّ تلميذي كان يسمع كلامي في كثيرٍ من الأحيان.

فلا أدري كيف ومتى كان شيخنا عبدالكريم بيارة المدرّس ناطقاً رسميّاً باسم الدولة العراقيّة كما لم أسمع من أحدٍ أنّ الدولةَ استفتت شيخنا عبدالكريم بشيء طيلةَ وجودي في العراق!

لا لأنهم كانوا يستفتونني أنا، في كلّ ما يطلبون، لا أبداً.

إنّما لأنهم كانوا يقدّرون سنَّ الشيخ ووضعه الخاصّ، ولأنهم يريدون فتاوى معاصرة، تتناسب مع واقع الحصار الذي كانوا يعيشونه، والشيخ مذهبيٌّ حدّي، هذا ما أظنّه وأقدّره، ولم يحدّثني به أحد.

ثمّ إنّ الشيخ مهدي الصميدعي يثني على هذه السلطةِ المجرمة العميلةِ التي تحكم العراق منذ عام (2003) بقوله: «ويعود الفضل لله تعالى، ثمّ للحكومة العراقية الحالية، التي استقت هذا الشراب وهذه الآداب والأخلاق، مما تعلمته من المرجعية الشيعية».

مع أنّ الشيخ الصميدعيّ هذا غير مطالَبٍ - فيما أُقدّر - بأن يثني على السلطة الحاكمة الغاشمة هذا الثناء، لكنه وقع في النفاق الاجتماعيّ، الذي يشتهر به أهل العراق، وللأسف!

لا أظنّ عالماً أو طالبَ علمٍ في العراق، يفضّل السلطةَ الحاكمةَ في العراق اليوم، على سلطة الرئيس صدّام حسين السابقة، خاصّة السنواتِ العشرةَ الأخيرةَ من حكمه.

فمن أين جاءنا الشيخ الصميدعي بهذه الوصفة الروحانية الساميةِ لحكومة العراق الحاليّة؟

ختاماً: لم يكن شيخنا عبدالكريم المدرّس ناطقاً رسميّاً باسم حكومة العراق قطعاً، ولم يكن يكتب للدولة ما تريد، بل لم تكن الدولة العراقية في عصر الرئيس صدّام حسين تطالب العلماء بشيءٍ يقولونه أصلاً!

وهذا الدكتور عبدالرزاق السعديّ، وهذا الدكتور عبداللطيف هميّم، هما موجودان في العراق ويمكنهما أن يقولا ما يريدان على السلطة السابقة، وأرجو منهما أن يوضحا لي وللقارئ الكريم ما إذا كانت السلطة العراقية السابقة أجبرتهما على فتوى تريدها.

أمّا أنا فأشهد الله العظيم أنني كنت أكتب للرئيس صدّام منتقداً أيَّ ممارسةٍ غير شرعية بلغتني عن أحد من رجال السلطة، إلى درجة أن اللواء «عبد حمود» قال لي مرّة بجفاء: «خفّ شوية عن السيّد الرئيس، ما حدا من المشايخ تعّبنا بقدّك».

رحمَ الله تعالى جميعَ من ذكرتهم في هذا المنشور، ورحمنا معهم بفضله ولطفه.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 2 ديسمبر 2023

      مَسائِلُ حَديثِيّةٌ (60):

مَتى يُترَكُ حديثُ الراوي؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشور السابق  (59) قلت: «مَن غلبَ خطؤه الحديثيُّ على صوابِه؛ تُرِكَ حديثُه كلُّه، وأهل الحديثِ هم أصحاب هذا الشأن»!

فعلّق أحدُ السادةِ من الشيعةِ بقوله: «ما هو المستند في قولكم: «مَن غلبَ خطؤه الحديثيُّ على صوابِه؛ تُرِكَ حديثُه كلُّه».

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: ممّا لا يحتاجُ إلى توثيقٍ أنّ علماءَ الحديثِ متّفقون على أنّ الراوي إذا كان الغالب على حديثه الضعفُ والمنكر؛ غدا متروكاً، لا يحتجّ بحديثِه عند الانفرادِ أو الموافقة، فضلاً عن المخالفة.

أمّا عند موافقتِه الثقاتِ في بعضِ ما روى؛ فالعِبرةُ بحديث الثقاتِ دونه!

ثانياً: يُستدلُّ لهذا المنهج السليمِ بقولِ الله تعالى:

(فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103).

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9).

ولا ريبَ في أنّ فسّاقَ المسلمين قد عملوا بعضَ الصالحات، التي قد تصلُ إلى (49%) ومع هذا يدخلون النار، وَفقَ هذه الآية الكريمة، وتَحبطُ أعمالهم الصالحة!

وقال الله تعالى:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؟

قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا (219) [البقرة].

موطن الشاهِدِ في هذه الآية الكريمة؛ عدمُ اعتبارِ منافعِ الخمر الدنيويّة لاستمرار إباحتِها، بل إنّ الشارعَ أهدرَ هذه المنافعَ لغلبةِ مضارّها الدينيّة والدنيويّة.

وكذلك المحدّثُ الذي صنّف كتاباً في الحديث النبويّ، فشحنه بالروايات الضعيفةِ والمنكرةِ والمجهولةِ، حتى غلبت أخطاؤه الحديثيةُ على صوابِه، فيُهدَر صوابُه الأقلُّ في أخطائه الكثيرة (1).

ختاماً: قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

«مَنْ كَثُرَ غَلَطُه مِن المحدّثين - ولم يكن له أصْلُ كِتَابٍ صحيح - لم نقبل حديثَه، كما يكون مَنْ أكْثَرَ الغَلَطَ في الشهادةِ؛ لم نَقبلْ شهادَتَه» (2)

واللهُ تَعالى أَعْلَمُ.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر المحدث الفاصل (ص: 406) وشرح مذاهب أهل الأخبار لابن منده (ص: 82) والمدخل إلى علم السنن للبيهقيّ (1: 240) والجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع للخطيب البغدادي (2: 90) وشرح علل الترمذي لابن رجب (1: 394) فما بعد، وما شئت من كتب علوم الحديث.

 (2) الرسالة للشافعي (ص: 380).

الخميس، 30 نوفمبر 2023

        مَسائِلُ حَديثِيّةٌ (59):

لا يَعرفُ قدْرَ عليٍّ إلّا الله تعالى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

نشر أحدهم جملةَ (يا عليّ لا يعرفكُ إلّا اللهُ وأنا) من دون عزوٍ ولا تخريجٍ ولا حكم!

علّقت على صفحته بقولي: هذا كلام كذب، لم يقله الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يُنقَلْ إلينا بإسنادٍ صحيح!

فطلبَ الدليلَ على صحة كلامي، وإلّا فإنه ومَنْ وراءه يعتقدون بصحته!

أقول وبالله التوفيق:

أوّلاً: أشكر لصاحبِ الصفحةِ أدَبَه وصبرَه، إذ عادةُ الروافضِ الهجومُ والسبابُ، من دون تحرٍّ ولا تريّث!

ثانياً: سبق وأن قلت مرّاتٍ عديدةً: كُتب الرافضةِ ساقطةُ الاعتبار حديثيّاً!

الكتابُ الذي يحتوي على (70 - 90%) من الروايات المجهولةِ والمكذوبة والمجهولةِ؛ ساقطٌ عند أهلِ الحديثِ، فلا يقال بعد ذلك: نأخذُ بغير الضعيف والمكذوب؛ لأنّ مَن غلبَ خطؤه الحديثيُّ على صوابِه؛ تُرِكَ حديثُه كلُّه!

وأهل الحديثِ هم أصحاب هذا الشأن!

ثالثاً: رجعتُ إلى كتب الرافضة المرفوعة على «الموسوعة الشيعية الشاملة» فوجدت الآتي:

(1) وجدتُ في موسوعةِ الإمام عليّ لمؤلفها محمد الريشهريّ (9: 159) رقم الرواية (3586) ما نصّه: «رسول اللهِ (صلى اللهُ عليه وآله وسلم):

(يا عليّ، ما عرف اللهَ إلّا أنا وأنت، وما عرفني إلّا اللهُ وأنت، وما عرفك إلّا اللهُ وأنا» وليس فيها عزوٌ ولا تخريجٌ ولا حكم!

(2) ووجدتُ في مختصر بصائر الدرجات (ص: 131) ما نصه: «ومِن ذلك ما روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله: (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا اللهُ وأنت، وما عَرفك إلا الله وأنا) وليس فيه عزوٌ ولا تخريجٌ ولا حكم!

(3) ووجدتُ في حلية الأبرار للسيد هاشم البحراني (2: 6) ما نصّه:

«هو الآية الكبرى التى عليها وقعت الاشارة من قوله : (ما عرفك إلّا الله ورسولُه صلى الله عليه وآله...» وليس فيه عزوٌ ولا تخريجٌ ولا حكم!

ومثل هذا العَزْوِ لا يفيدُ في سوق العلم شيئاً!

فصعدتُ إلى مواقع الرافضة على الإنترنيت، فوجدت كلاماً كثيراً خالياً من التخريج، أجودُه الآتي:

(1) في موقع مركز الأبحاث العقائديّة التابع للسيد علي السيستاني، لكنه لا يعبّر عن آرائه بالضرورة؛ وجدتُ فيه الآتي:

س: هناك حديث : (يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا اللهُ وأنت، وما عَرفك إلا الله وأنا).

هل نص هذا الحديث صحيح ومامدى صحته والوثوق بناقليه وفي اي الكتب يمكن ان اجده؟ جزاكم الله خيرا.

ج: «ورد هذا الحديث في كتاب (مناقب آل أبي طالب) أو كتاب (تأويل الآيات)، وكتاب (مختصر بصائر الدرجات)، وكتاب (مدينة المعاجز)، بالإضافة إلى( بحار الأنوار(.

والحديثُ مُرسل، وهو ضَعيف من جهة السند، وإن كان له متن معتبر بالمقارنة مع بعض الروايات، التي تتحدث عن مناقب أمير المؤمنين (عليه السلام) وفضائله، فلا يجوز رده بسبب ضعف سنده، وذلك لوجود ما يعضده معنى في جملة من الأخبار».

قال الفقير عداب: بل يجب ردّه؛ لضعف سنده من جهةٍ، ولاشتماله على الغلوّ الفاضح من جهة أخرى، وسيأتي!

ووجدت في موقع المكتبة الإسلامية العلوية؛ ما نصّه:

ج: أوردَ هذا الحديثَ ميرزا محمّد تقيّ، الملقب بحجة الإسلام، في كتابه صحيفة الأبرار، عقيب الحديث (447) من دون سندٍ، واعتبره خبراً مشهوراً مأثوراً.

وأورده الحافظ رجب البرسيّ، من دون سندٍ، في كتابه مشارق أنوار اليقين (ص: 112) وقال: هذا حديث صحيح.

وأورده شرف الدين النجفيّ في كتابه تأويل الآياتِ مرسلاً.

وأورده الحسن بن سليمان في كتابه مختصر البصائر مرسلاً.

وأورده السيد هاشم البحرانيّ في كتابه مدينة المعاجز، بلا إسناد.

وورد في رسالةٍ ذكرها آغا بزُرْك الطهراني، في كتابه الذريعة المجلد (21) رقم الرواية (5038) مرسلاً.

ثم قال محرّرُ الجواب: وهذا الإرسالُ يدلّ على شهرة الحديثِ وتواتره وقطعيّته، بالإضافةِ إلى ذلك؛ فإنّ مؤدّاه يدلّ على صحّته، من دون أدنى شكٍّ!

وكتبه: حسين محمد المظلوم» انتهى!

قال الفقير عداب: هذا يؤكّد ما قلتُه مراراً: إنّ كتب الرواية الرافضيّة ساقطة الاعتبار!

هذه روايةٌ ليس لديها إسنادٌ، تلفّظ بها أحدُ الغلاةِ، فصارت ديناً رافضيّاً؛ لأنّ «مؤدّاه يدلّ على صحّته، من دون أدنى شكٍّ!».

هذا سخفٌ عقليّ، فوق أنّه جهلٌ مطبقٌ بعلوم الحديث النبويّ، أو تدليسٌ يرادُ منه خداعُ عامّة الشيعة المساكين، الذين يحبّون الإمامَ عليّاً عليه السلام، ويظنّون أنهم كلّما بالغوا في إضفاء الصفاتِ العالية عليه؛ تقرّبوا إلى الله تعالى أكثر!

خلاصة الحكم على الحديث: إنّه روايةٌ من دون إسنادٍ، وكلّ روايةٍ من دون إسنادٍ؛ لا يجوزُ نسبتها إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويكون مضمونها مكذوباً عليه!

هذا عن إسنادِ الحديث!

أمّا عن متنه الذي جعله هذا المظلوم «مؤدّاه يدلّ على صحّته، من دون أدنى شكٍّ!» فهو باطلٌ أيضاً.

فجملةُ (يا عليّ، ما عرف اللهَ إلّا أنا وأنت) كذب على الله ورسوله، فقد عرف اللهَ تعالى أنبياؤه الذين أمرنا الله تعالى بالاقتداء بهم، إذ قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) وعليٌّ ذاته يقتدي بهم قطعاً.

وجملةُ (وما عرفني إلّا اللهُ وأنت) فقد عرفته أمّ المؤمنين خديجة عليها السلام، وآمنت به وصدّقته، وآزرته، يوم كان عليّ عليه السلام صبيّاً في العاشرةِ من عمره!

وعرفه أبو طالبٍ الذي آزره ونصره، وعانى ما عاناه في شِعْبِه الأقفر سنوات!

وجملة (ما عرفك إلّا اللهُ وأنا) فقد عرفَ الإمام عليّاً الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم والسيدة فاطمة والسيدان الحسن والحسين عليهم السلام، في الحدّ الأدنى!

ثمّ عرفه عمّارُ وسلمانُ والمقدادُ، وجميعُ الذين ثبتوا على ولايته إلى يومِ استشهاده!

كفاكم تنفيراً للناسِ عن الإمامِ عليّ وأهل البيت عليهم الصلاة والسلام، بكثرة كذبكم، وسقاطة غلوكم القميء!

فما كان آباؤنا إلّا بشراً من البشر - لحماً ودماً وعصباً وعقلاً - أكرمهم الله تعالى بالإيمان الراسخ، والفهم الراجح، والصفاتِ النبيلة، وحسب!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الخميس، 23 نوفمبر 2023

 مَسائِلُ عَقَديّةٌ (10):

تَوحيدُ الأسماء والصفات (2) !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

تناولتُ في المنشور السابق (9) تفسيرَ إضافةِ الوجه إلى الله تعالى، بإيجازٍ شديدٍ!

وسأتناول في هذا المنشورِ إضافةَ ما زعموه صفةً ذاتيّةً أخرى لله تعالى!

ثانياً: عَينُ - أَعْيُن الله تعالى!؟

قال الله سبحانه عمّا يصفون:

(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا) [هود: 11] و[المؤمنون: 27].

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48].

(وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) [القمر].

(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) [سورة طَهَ].

والأعيُنُ: جمعٌ مفرده عَيْنٌ، وجميع هذه الآيات الكريمات، من بابةٍ واحدة، ليس لها صلةٌ بعينٍ حقيقيّة، إنما هي مجاز!

قال الطبريّ في تفسيره (16: 59): «قَوْلِهِ: (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) قَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: لِتُغَذَّى وَتُرَبَّى عَلَى مَحَبَّتِي وَإِرَادَتِي».

وَقَالَ آخَرُونَ: «بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنْتَ بِعَيْنِي فِي أَحْوَالِكَ كُلِّهَا».

وقال الراغب في المفردات (ص: 599): (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) أي: بكلاءتي وحفظي.

ومنه: عَيْنُ الله عليك، أي: كنتَ في حِفظِ الله ورعايَته.

وقيل: جَعلَ ذلك حفظتُه وجنودُه الذين يحفظونَه.

وجمعه: أَعْيُنٌ وعُيُونٌ، قال تعالى: (وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ).

وقال فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب (22: 48): قَوْلُهُ: (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) قَالَ الْقَفَّالُ: لِتُرَى عَلَى عَيْنِي، أَيْ عَلَى وَفْقِ إِرَادَتِي.

وَمَجَازُ هَذَا؛ أَنَّ مَنْ صَنَعَ لِإِنْسَانٍ شَيْئاً، وَهُوَ حَاضِرٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ صَنَعَهُ لَهُ كَمَا يُحِبُّ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ مَا يُخَالِفُ غرضَه، فكذا هاهنا.

وَفِي كَيْفِيَّةِ الْمَجَازِ قَوْلَانِ:

الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنَ العَينِ؛ العِلْمُ، أي تُرَى عَلَى عِلْمٍ مِنِّي.

وَلَمَّا كَانَ الْعَالِمُ بِالشَّيْءِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ، كَمَا أَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهِ يَحْرُسُهُ عَنِ الْآفَاتِ؛ أُطْلِقَ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى الْعِلْمِ لِاشْتِبَاهِهِمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.

الثَّانِي: الْمُرَادُ مِنَ الْعَيْنِ؛ الْحِرَاسَةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَى الشَّيْءِ؛ يَحْرُسُهُ عَمَّا يُؤْذِيهِ.

فَالْعَيْنُ كَأَنَّهَا سَبَبُ الْحِرَاسَةِ، فَأَطْلَقَ اسْمَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ مَجَازاً، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى».

وقال في موضع آخر من تفسيره (17: 344): قوله: (تَجْري بِأَعْيُنِنا) َهَذَا لَا يُمْكِنُ إِجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ، مِنْ وُجُوهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ للهِ تَعَالَى أَعْيُنٌ كَثِيرَةٌ، وَهَذَا يُنَاقِضُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ تعالى: (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي).

وَثَانِيهَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَصْنَعَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَلِكَ الْفُلْكَ بِتِلْكَ الْأَعْيُنِ، كَمَا يُقَالُ: قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ، وَكَتَبْتُ بِالْقَلَمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ.

وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ ثَبَتَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، كَوْنُهُ تَعَالَى مُنَزَّهًا عَنِ الْأَعْضَاءِ وَالْجَوَارِحِ وَالْأَجْزَاءِ وَالْأَبْعَاضِ، فَوَجَبَ الْمَصِيرُ فِيهِ إِلَى التَّأْوِيلِ، وَهُوَ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ مَعْنَى بِأَعْيُنِنا: أَيْ بِعَيْنِ الْمَلَكِ الَّذِي كَانَ يُعَرِّفُهُ كَيْفَ يَتَّخِذُ السَّفِينَةَ.

يُقَالُ: فُلَانٌ عَيْنٌ عَلَى فُلَانٍ، نُصِّبَ عليه ليكون متفحّصاً عَنْ أَحْوَالِهِ، وَلَا تَحولُ عَنْهُ عَيْنُهُ.

الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ عَظِيمَ الْعِنَايَةِ بِالشَّيْءِ؛ فَإِنَّهُ يَضَعُ عَيْنَهُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا كَانَ وَضْعُ الْعَيْنِ عَلَى الشَّيْءِ سَبَبًا لِمُبَالَغَةِ الِاحْتِيَاطِ وَالْعِنَايَةِ؛ جَعَلَ الْعَيْنَ كِنَايَةً عَنِ الِاحْتِيَاطِ.

لِهَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ بِحِفْظِنَا إِيَّاكَ؛ حُفِظَ مَنْ يَرَاكَ، وَيَمْلِكُ دَفْعَ السُّوءِ عَنْكَ».

وانظر لفتاتٍ جميلةً في بصائر ذوي التمييز للفيروزأباديّ (3: 444) والكليّات للكفوي (ص: 317، 642).

وأمّا ما يقولُه المجسّمة في قوله تعالى: (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) من أنّ نفيَ هذه الصفاتِ عن آلهةِ المشركين؛ يستلزم أن يمتلك الإله الحقُّ مثلَها؛ غايةُ الجهل والصفاقة!

إذْ إنّ الآية التي سبقتها تقول: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ؛ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ، فَادْعُوهُمْ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) [الأعراف].

سواءٌ كان المشركون يعبدون أصناماً، أو أوثاناً، أو أشجاراً، أو نجوماً وكواكبَ؛ فجميعُ هذه المخلوقات تعبد الله تعالى، قال جلّ ذكره:

(إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً).

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ)؟!

(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ: ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهاً!!

قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين).

المراد من الآيةِ الكريمة التي استدلّوا بها؛ أنه تعالى يقول للمشركين ما معناه:

إنّ الذين تعبدون من دون الله تعالى؛ هم يعبدون الله تعالى مثلكم، علاوةً على أنهم أضعفُ منكم، إذ إنهم لا يمتلكون الأرجلَ والأيدي والأبصارَ والآذانَ، التي تمتلكون.

فكيف تلتمسون القوّةَ والعونَ والرزقَ والنصرَ، ممّن لا يمتلك من ذلك شيئاً.

ختاماً: تبيّن ممّا سبق أنّ إضافةَ (العين - الأعين) إلى الله تعالى؛ مجازٌ أو كنايةٌ عن الحفظِ والرعايةِ والتسديد، وليست هي صفة لله تعالى!

بل إنّ مفهوم الصفةِ مفقودٌ في كلّ ما يقول هؤلاء المجسّمةُ والمشبّهةُ إنّه صفة!

إنّ الوجه والعين واليد والرجل والساق؛ ليست صفاتٍ، عند من له أدنى فهم باللغة العربيّة، إنما هي جوارح لذواتِ الأرواح!

الوجه بعض الإنسان، والعين بعضه، واليد بعضه، وهكذا.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 22 نوفمبر 2023

 مَسائِلُ عَقَديّةٌ (9):

تَوحيدُ الأسماء والصفات (1) !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال لي: قرأتُ لكَ كلاماً مفادُه أنّك تنكر توحيدَ الأسماءِ والصفات، وتقول: هذا ليس بتوحيدٍ أصلاً!

وتقول: هذا التوحيد ممّا انفرد به الحنابلةُ، وأشاعه ابن تيمية الحراني!

فهل فهمي هذا لكلامك صحيح، وما قولك في جعل التوحيد ثلاثةَ أنواع؟

أقول وبالله التوفيق:

يُعجبني مثلُ هذا الأخ السائل كثيراً، إذ هو يستوضح من صاحب الكلام ما اشتبه عليه من كلامه، ولا يُسارع في الإنكار، قبل الاستيضاح.

وإذْ إنني مريضٌ عاجزٌ عن كتابةِ المطوّلاتِ؛ فسأذهب إلى القرآن الكريم مباشرةً، وأستعرضُ بعضَ ما يثبته المجسّمة صفةً ذاتيّةً لله تعالى!

فإنْ ثبت أنّه صفةٌ؛ أثبتُّ وجودَ صفاتٍ (متشابهةٍ) لله تعالى في القرآن الكريم!

وإذا لم يثبت أنّ في القرآن الكريم أيّ صفةٍ من هذه (المتشابهات) فلم يعد بنا حاجةٌ إلى الروايات الحديثيّةِ، التي تُفيضُ بالعلل القادحة، التي أيسرها التفرّد من غير الحفّاظ!

أوّلا: وجهُ الله تعالى.

أثبت المجسّمة لله تعالى وجهاً لا كوجوه المخلوقات بلا كيف، واستدلّوا على ذلك بآياتٍ من القرآن الكريم، منها قوله تعالى:

(وَللهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ، وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).

(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ).

(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى)

(ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون).

(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).

أمّا معنى الابتغاء: فقد قال الراغب الأصبهانيّ في المفردات (ص: 137) ما نصّه:

البَغْيُ: طلبُ تجاوز الاقتصادِ فيما يَتحرّى، تجاوزه، أم لم يتجاوزه.

فتارةً يُعتبر في القَدْر الذي هو الكميّة.

وتارة يعتبر في الوصف، الذي هو الكيفية.

يُقال: بَغَيْتُ الشيءَ: إذا طلبتُ أكثر ما يجب، وابْتَغَيْتُ كذلك.

قال الله عزّ وجل: (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ) وقال تعالى: (يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ).

والبَغْيُ على ضربين:

- أحدهما محمود، وهو تَجاوزُ العَدلِ إلى الإحسانِ، والفَرضِ إلى التطوّع.

- والثاني مَذموم، وهو تَجاوز الحق إلى الباطل، أو تجاوزه إلى الشُّبَهِ.

ولأنّ البَغْيَ قد يكون محموداً ومَذموماً؛ قال تعالى: (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) فخصّ العُقوبةَ ببَغيهِ بغيرِ الحَقِّ.

 وأمّا الابتغاءُ؛ فقد خُصّ بالاجتهادِ في الطلَب، فمتى كان الطلب لشيءٍ محمودٍ؛ فالابتغاء فيه محمود نحو: (ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ) و(ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى).

فهل المؤمن المتّقي يبالغُ في الوصولِ إلى (وجهِ الله تعالى) بكونه صفةَ ذاتٍ على ظاهرها كما يقولون؟

وما معنى المبالغةِ في الوصولِ إلى وجه الله تعالى؟ تَقبيلُه، لَمْسه، مشاهدتُه، مقابلتُه؟

من البدهيّ أنّ اللفظَ إذا احتمل من المعاني أوجهاً؛ اخترنا من هذه المعاني ما يليق بنسبته إلى الله سبحانه تعالى.

قال الراغب في مفرداته (ص: 856): «أصل الوجه الجارحة. قال تعالى: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ).

ولمّا كان الوجهُ أوّلَ ما يستقبلُك، وأشرفُ ما في ظاهر البدنِ؛ استعمل في مستقبل كلّ شيء، وفي أشرفه ومبدئه، فقيل: وجْه كذا، ووجْه النَهار.

وربَما عبّر عن الذّات بالوجه، في قول اللهِ (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

قيل: ذاته، وقيل: أراد بالوجه هاهنا التّوجّهَ إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة.

وقال تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) و( كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ، إِلَّا وَجْهَهُ) و(يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) و(إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ). قيل: إنّ كلمةَ «الوجه» في كلّ هذا زائدةٌ، ويُعنى بذلك: كلّ شيء هالك، إلّا هو، وكذا في أخواته.

ورُوي أنه قيل ذلك لأبي عبد الله عليٍّ الرّضا عليه السلام «ما معناه»؟

فقال: سبحان اللهِ، لقد قالوا قولاً عظيماً، إنما عَنى الوجهَ الذي يُؤتى منه.

ومعناه: كلُّ شيء من أعمال العبادِ هالكٌ وباطلٌ، إلا ما أريدَ به الله، وعلى هذا الآيات الأخرُ، وعلى هذا قوله: (يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) و(تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).

ولا يخفى على أحدٍ أنّ قوله تعالى (فَأَيْنَما تُوَلُّوا؛ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لا يمكن حمْلُه على ظاهره؛ لأنّه تجسيمٌ محض، ولأنّ الله تعالى جزماً ليس في الجهةِ التي يتوجّه إليها المصلّي بذاتِه!

انظر مثلاً إلى قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) وقوله (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) وقوله (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) وقوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) إنّه لا معنى لحمل كلمة (الوجه) في كلّ هذا على جارحة الإنسانِ، إنّما هي كِنايةٌ عن المسلكِ والطريقِ والمذهب.

وينبغي أن نستذكر المعانيَ التي نسبها الكافرون إلى الله تعالى، فنزّه نفسَه المقدسّةَ عنها فقال: (سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُون).

نَخلص من هذا؛ أنّ إضافة الوَجْه إلى الله تعالى في القرآن الكريم، إمّا أنّها زائدةٌ تفيد التشريف والتكريم!

أو أنّها الجِهَةُ التي يُطلب ثوابُ الله تعالى من قِبَلِها.

ونحن لا نثبت «رؤيَةَ الله تعالى بالأبصار لا في الدنيا، ولا يوم القيامةِ» فلا يلزمنا فهم جريرِ بن عبدالله البَجليّ الأعرابيّ، ولا غيرِه ممن هم في درجته من الأعرابيّة والفهم.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 12 نوفمبر 2023

        مَسائل حديثية (58):

المَسْبوقُ بالصلاةِ، يُتِمُّ أمْ يقضي؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال لي صاحبي الحنفيّ: إذا فاتتني مع الإمام ركعةٌ، أقرأُ سورةً مع فاتحةِ الركعةِ الفائتةِ، أم أقتصر عليها؟

قلت له: ألست حنفيّاً؟

قال: بلى!

قلتُ: وإذا قلتُ لك: اقرأ سورةً بعد الفاتحةِ، وهذا مذهبك الحنفيّ!

أم قلت لك: إنّ أوّلَ صلاتك هي الركعةُ التي أدركتَها، وهذا مذهب الشافعية وأهل الحديث، فهل تتابعُ الشافعيَّ في مذهبه؟

قال: وهل يجوز التلفيقُ بين المذاهب في نظرك؟

قلت له: المذاهب كلّها إرشاديّةٌ، وأقوالُها استئناسيّة عندي، وليس شيء من اجتهاداتها ملزماً لي!

أمّا بالنسبة لك؛ فخذ بالأحوطِ، وهذا اتّجاهٌ لدى كثيرٍ من علماء السلف!

قال: ليس هذا مقصدي من السؤال، إنما سمعتُك تقول: إنّ الفقهاء عامّةً، وفقهاءَ الحنفيّة خاصّةً؛ ضعفاء في علم نقد الحديث وتقويمه، ولذلك فهم يقدمون الحديث الضعيف على الصحيح، والحديثَ المرسل على المتّصل، والحديثَ المعلول أو الشاذّ على السليم من العلل، بل وقد يقدمون قولَ إبراهيم النخعيّ على حديث صحيح!

ومذهب الحنفيةِ في هذه المسألة؛ يُبطِل دعواك علينا!

هذا الحديث أخرجه البخاريّ ومسلم، وأنتم معشَر الشافعية تعرضون عنه، وتأخذون بالأضعف!

أقول وبالله التوفيق:

لنجعل كلامنا في نقد هذا الحديثِ على مرحلتين:

المرحلة الأولى: نقد الحديث في إطار الصحيحين.

المرحلة الثانية: نقد الحديث في إطار الصحاح الستّة والسنن الستّ!؟

المرحلة الأولى:

أخرج البخاري (635) - واللفظُ له - ومسلم (603) من حديث عبدالله بن أبي قَتادةَ عن أبيه الحارث بن رِبعيٍّ الصحابيّ، قال: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلّي مَعَ النَّبيِّ([1]) e إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ([2]) فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: (مَا شَأْنُكُمْ؟) قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلاَةِ. قَالَ: (فَلاَ([3]) تَفْعَلُوا، إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ([4]) فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)([5]).

ولفظُ مسلمٍ مثله، إلّا آخره، ففيه: (فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا سَبَقَكُمْ؛ فَأَتِمُّوا).

وأخرج البخاري (636، 908) ومسلم (602) من حديث أبي هريرة قال:

سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ e يَقُولُ: (إِذا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ؛ فَلاَ تَأْتُوها تَسْعَوْنَ، وَأْتُوها تَمْشُونَ، عَلَيْكُمُ([6]) السَّكِينَةُ، فَما أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَما فاتَكُمْ فَأَتِمُّوا)([7]).

وهذا حديث مشهورٌ عن أبي هريرة، رواه عنه بهذا اللفظ في الصحيحين:

سعيدُ بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن بن يعقوب الحرقيّ، وهمّام بن منبّه.

وليس في الصحيحين جملةُ (وما فاتكم؛ فاقضوا) البتّة، فكيف يكون دليلكم أصحَّ أيها الحنفيّ؟!

نعم عند مسلمٍ رواه هِشَامُ بنُ حَسَّانَ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أنّه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فلا يَسْعَ إِلَيْهَا أَحَدُكُمْ، وَلَكِنْ لِيَمْشِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالوَقَارُ، صَلِّ مَا أَدْرَكْتَ، وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ).

وجميع رواةِ الحديث عن أبي هريرة « سعيدُ بن المسيّب، وأبو سلمة بن عبدالرحمن بن عوف، وعبدالرحمن بن يعقوب الحرقيّ، وهمّام بن منبّه» خالفوه وقالوا: (فأتّموا).

ومهما كان حفظ محمد بن سيرين؛ فيُقضَى لرواية أربعةٍ - ثلاثةٌ منهم من الحفّاظ - على روايةِ واحدٍ، مهما كان حافظاً!

خاصّةً وأنّ الإمامَ مسلماً قدّم رواياتِ أولئك الحفّاظِ في الباب، وجعل رواية ابن سيرين آخرَ روايةٍ فيه!

هذا الكلام العلميُّ في إطار الصحيحين!

فمَن كان يذهب إلى أنّ ما اتّفق عليه الصحيحان؛ أقوى مما انفرد به أحدهما

فحديث الباب جاء في الصحيحين عن أبي قتادة، وعن أبي هريرة من طرق، بلفظ (فأتّموا) وجاء لفظ (وَاقْضِ مَا سَبَقَكَ) من رواية ابن سيرين وحده!

وقد حكى الدارقطنيّ في العلل (10: 28) اختلاف أصحاب ابن سيرين عنه:

فَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَهِشَامُ بْنُ حَسَّانَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أبي هريرة مرفوعا.

وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ وَهِشَامٍ مَوْقُوفًا» وتتمة كلامه ثمّة.

ختاماً: تبيّن لنا أنّ روايةَ (وما فاتكم؛ فأتّموا) أقوى بمرّاتٍ من رواية (وما فاتكم؛ فاقضوا).

فهل سيترك السادةُ الحنفيّة الروايةَ المرجوحةَ، ويتبنّون الروايةَ الراجحةَ؟

كلّا إنهم لن يفعلوا؛ لأنّ حديثَ الخصوم عَرَفوه، فكان لهم منه موقف!

ولهذا نحن نقدّم قول المذهب على الحديثِ، كما قال لي أحدهم!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.



([1]) في بعض النسخ: رسول الله.

([2]) في بعض النسخ: الرجال.

([3]) في بعض النسخ: لا تفعلوا.

([4]) في (ك): بالسكينة والوقار، وقال: ما. / في بعض النسخ: السكينةَ.

([5]) من حديث الحارث بن ربعي t: أخرجه أحمد في باقي مسند الأنصار (5: (22661) ومسلم في المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة (603) والدارمي في الصلاة، باب كيف يمشي إلى الصلاة (1283). انظر التحفة [9: 12111] والإتحاف [4: 4041].

([6]) تراجع في (ك) في بعض النسخ: وعليكم السكينةَ.

([7]) سبق تخريجه برقم (636). انظر التحفة [10: 13251] و[11: 15165، 15259] والإتحاف [16: 20305].