الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

التصوف العليم


في عصور الجهل والتقليد؛ انبهر بعض المسلمين بكل وافد، حتى صاروا يستدلون على وجود ربهم تبارك وتعالى بطريقة الفلسفة اليونانية التي أضلت أهلها ولم توصلهم إلى يقين ولا إلى توحيد؛ زاعمين أنهم يقتدون برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما نسب إليه: (الكلمة الحكمة ضالة المؤمن، فحيث وجدها؛ فهو أحق بها) أخرجه الترمذي وضعفه بقوله: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
وعلى هذا المنهج الكلامي والتقليد الأعمى؛ عظّم كثيرٌ من المتصوفة ما يقوله شيوخهم وكأنه الوحي المنزّل، فتركوا يسرَ الإسلام وصفاء الإسلام، وتكلموا في وحدة الوجود والظاهر والباطن وانبهروا بالكشوف والفتوح التي أكرم الله بها بعضهم، فقدسوهم، إلخ!
فالتصوف الذي نرفضه؛ هو إعطاء الشيخ تلك القدسية التي لا تكون إلا لله، ولعلها تزيد أضعافاً على استحقاق أفضلهم.. بل لعلها تزيد على ما كان أصحاب رسول الله الكريم يتعاملون بها معه!
والتصوف الذي نرفضه؛ هو هجر الأذكار والأوراد الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتمسك بأذكار وأوراد اخترعها شيخٌ قد يكون جاهلاً أصلاً لا يحسن نطق تلك الأذكار! وكتاب الأذكار للإمام النووي مهجور ولا يعرفه الكثيرون!
ولذا فإني إذا طلب أحد الشباب مني وِرداً أجزته بكتاب الأذكار، وإذا طلب مني كتاباً في الأخلاق والسلوك أجزته بكتاب رياض الصالحين؟!
والتصوف الذي نرفضه هو الدعوى أو الاعتقاد بالحلول، والاتحاد، ووحدة الوجود، وسقوط التكاليف، فمن يؤمن بواحدة من هذه المعتقدات كما هي عند أهلها الذين نقلناها عنهم انبهاراً؛ فهو كافرٌ كفراً ناقلاً عن الملة.
والتصوف الذي نرفضه هو ذلك الاتّجار باسم الطريق، فترى الشيخ منعماً مترفاً، وتلامذته جياعٌ لا غذاء ولا دواء ولا مسكن لهم، وهمّهم الأكبر إرضاء ذاك الشيخ وتقديسه وتقديس أولاده.
والتصوف الذي نرفضه هو ادّعاء اختصاص الصوفيه بالحقائق واختصاص العلماء بالرسوم وما اجمل أن يكون العالم صوفياً؛ لأنه يعرف ما يأتي وما يذر.
التصوف العليم الذي ندعو إليه هو القيام لله تعالى في مرتبة الإحسان، والتفاني في طاعته وتبليغ دينه لعباده على المحجة البيضاء (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) وبهذا المفهوم الشرعي للتصوف؛ ذهب شيخنا العلامة السيد عبدالله بن الصديق الغماري رحمه الله تعالى إلى وجوب سلوك التصوف على كل مسلم، وما لم يسلك أولئك الجفاة الغلاظ منهج التصوف العليم هذا، فمن أين تأتيهم رقة الطبع، ومن أين تنور قلوبهم ووجوههم، ومن أين يتذوقون كتاب الله عز وجل؟
نحن ندعو لاتباع التصوف العليم؛ ونرجو ألا نأكل اللقمة حتى نتحقق حلّها، ولا نقول الكلمة حتى نتحقق مشروعيتها، وما نحن بمعصومين من خطأ غير مقصود، والله وليّنا، نعوذ بالله من الخذلان.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا، والحمد لله رب العالمين.

الجمعة، 30 نوفمبر 2012

المجتمعات الاسلامية المعاصرة.. بين الاسلام والطائفية


الإسلام بمعناه الشامل: هو الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعبادته، فهو دين آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام. والإسلام في صورته الأخيرة الخاتمة: هو الدين الذي بعث به الله تعالى رسوله محمّداً صلى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمون هم الذين يدينون لله تعالى بهذا الدين.
ودين الإسلام له ثلاث شعبٍ كبرى هي: شعبةُ الإسلام، وشعبة الإيمان، وشعبة الإحسان.
فشعبة الإسلام: وهي المرقاة الأولى في هذا الدين، تشمل النطقَ بالشهادتين، وإقامَ الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحجّ إلى البيت الحرام. فمن قام بأركان الإسلام هذه؛ فهو مسلم.
وشعبة الإيمان: وهي المرقاة الثانية الأعلى في هذا الدين وتشمل الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر. فمن يعتقد بأركان الإيمان هذه؛ فهو مؤمن إن شاء الله تعالى. وأما الإيمان بالقدر فقد اختلف المسلمون في فهم كيفيّة الاعتقاد به على مذاهب كثيرة:
فأهل السنة لهم مذاهب متعددة في مفهوم القدر؛ فالأشاعرة يؤمنون بما يسمونه الكسب، ومعناه منحُ الله تعالى العبد قدْراً من الحرية يمكّنه من اكتساب أفعاله، مع خضوع كسـبه لإرادة الله تعالى، ويوافقهم الإباضية في نظرية الكسب.
وأكثر الصوفية وأهل الحديث جبرية (رفعت الأقلام، وجفّت الصحف)، والمعتزلة يرون أنّ الله تعالى أقدرَ العبدَ على خلق أفعال نفسه، وللعبد الحرية المطلقة في الاختيار، ويوافقهم الزيدية والإمامية المعاصرة على هذا. وجميع هذه الفرق؛ تعتقد بتدخّل اللطف الإلهيّ لتدارك العبد المسلم.
وقد كانت فِرق الجبرية والأشاعرة والمعتزلة والزيدية والإمامية والخوارج حاضرةً في القرن الرابع الهجريّ، عصر نضوج الثقافة وتشكّل المدارس الإسلامية، وجميعها كانت معاصرة لأواخر عصر السلف، فقبل المحدثون روايةَ الإماميّ والزيدي والقدري والمرجئ، ولو كان هؤلاء كفّاراً؛ لما جاز قَبولُ رواياتهم في الدين!
ثمّ تأسست في القرن الرابع فرقة الأشاعرة، وفرقة الماتريدية، وهاتان الفرقتان تكوّنان اليوم (90%) من أهل السنة بالمصطلح السياسيّ، وإن كان الأشاعرة يضلّلون المثبتةَ من الحنابلة، والحنابلة يضللون بقيةَ أهل السنة الذين هم جمهور الأمة الأعظم!
وشعبةُ الإحسان: وهي ذروة مقام العبودية السامي، فهي الرقابة الذاتيّة لكلّ مسلم (أن تعبدَ اللهَ كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه؛ فإنه يراك) وهي السمو في مراتب كمال العبودية لله تعالى وحده. وشعبة الإحسان هي بالضبط «تزكية النفس الإنسانية» وتكون بتحقيق الشعب الثلاثِ الآتية:
تلاوة القرآن مع التدبّر.
والصلوات المفروضة والمندوبة، وأهمّ المندوبة؛ السنن الراتبة وقيامُ الليل.
الأذكار والأوراد الثابتة عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم.
ويجمع آليّات القيامِ في مرتبة الإحسان؛ قول الله تعالى: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت : 45]، فَمَن يقوم لله تعالى بهذه الشعب الثلاث، وَفق منهج إسلاميّ صحيح؛ فهو من المحسنين الصالحين، إن شاء الله تعالى. والخلاف بين طوائف الأمة الإسلامية الأربع؛ هو اختلافٌ سياسيّ في أصله، ثمّ علّقنا على هذا الخلاف السياسيّ أحكاماً عقديّةً وفقهيّة، تأتي بعد أركان الدين الإسلامي التي تقدمت. وتوضيح ذلك بمثالٍ عمليّ؛ أنفع..
فمسألة الصحابة؛ هي مسألة سياسيّة، وليست ركناً من أركان الإيمان أو الإسلام أو الإحسان. إنّ الصحابة رضي الله عنهم اضطُروا في سقيفة بني ساعدة أن يسارعوا في اختيار خليفةٍ للرسول صلى الله عليه وآله وسلّم، وكان الظرف مواتياً لاختيار أبي بكر ر ضي الله عنه، دون أن يكون أحدٌ من بني عبد مناف قادةِ قريشٍ وسادتها موجوداً، ولا ريب في أنّ أبا بكرٍ عظيم كبير كريم، لكن اختياره لم يكن بناءً على مشورة قيادات الأمة، كما هو منهج اختيار الحاكم عند أهل السنة، ولا كان اختياره وفق الأعراف العربية التي كانت سائدةً قبل الإسلام وبعد الإسلام في انتقال الزعامة والسيادة، ففريق من المسلمين قالوا: ما دام أبو بكر كفؤاً كريماً، وما دام كثيرٌ من الناس قد بايعوه، ونقض بيعتهم يعني نقضهم العهد، وهذا محال في عرف العرب المسلمين في ذلك العصر، فلتمض الأمور على هذا الاتجاه. وأدخلوا فيما بعدُ إرادةَ الله في المسألة، بمعنى أن إرادته تعالى تدخّلت في سياقة الأمور لتخلص إلى هذه النتيجة، وأكثر أهل السنة على هذا!
وفريق رأوا أن تلك الطريقة في الاختيار ستكرّس مبدأ التغلّب، وبالتالي فهي خطأ وما تولّد عن الخطأ فهو خطأ، وبالتالي فبيعة أبي بكر غير صحيحة عندهم.
وفريق ثالث من زعماء قبائل العرب الذين يرون استحقاق القيادة لذي الشرف الأسمى وذي الكرم وذي القوة والشجاعة والقُرب من القائد المتوفى، وكانت تلك الصفات وافرةً في عليّ أكثرَ من أي شخصية أخرى في المسلمين، ناهيك عن كونه هو خليفةَ والده سيّد قريشٍ قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم. فلو لم تكن الرسالة قد حصلت؛ لكان عليّ هو سيد قريش وهو بالتالي سيد العرب وفارسهم، وجميع فرسان العرب تعترف بهذا، ولا تعترف به لأيٍّ من الصحابة سواه على الإطلاق! ولا أريد أن أسترسل في هذه المسألة أكثر من هذا؛ لأنّ الهدف توضيح سبب الافتراق السياسيّ بين من رضي بما حصل اضطراراً، ومن رفض ذلك؛ لأنه خلاف الأصول والمتعارف عليه. وتوالت الأخطاء في اختيار الخليفة، حتى كان اختيار عليّ نفسه تحت تهديد الثوار قَتلةِ عثمان الشهيد رضي الله تعالى عنه.
وحين خرجَ معاوية بن أبي سفيان على إمام عصره عليّ بحجة مساهمته بقتل عثمان أو تخاذله عن نصرته، وعدم القصاص من قتلته؛ كانت الأمةُ كلها مع عليّ لقتال الباغي معاوية الخارج على الإمام الحقّ، وعدّوه ظالماً لعليّ، متطاولاً على ما ليس له بحقّ.
وفي فتنة التحكيم؛ رفض كثيرٌ من أصحاب عليّ قَبوله التحكيم، وخرجوا على قيادته وكوّنوا لأنفسهم جماعةً يقودها عبدالله بن وهب الراسبي، وهو من جيل الصحابة وحصلت ظروف اضطُرّ عليّ إلى قتالهم واستئصالهم في معركة النهروان. فانشقّ عن جيشه جماعةٌ منه تألّماً لقتل أقاربهم وقرّائهم الذين لم يخالفوا عليّاً لا في عقيدة ولا في فقه ولا في أخلاق، إنما خالفوه في مسألة سياسية! هؤلاء يوالون أبا بكر وعمر ويجلّونهما، لكنهم يكفّرون عثمان كفر شركٍ ناقلٍ عن الملّة لتغييره أحكام الله في نظرهم، ويكفّرون عليّاً كفر نعمة؛ لاعتقادهم أنه ظالم آثم في رضاه بالتحكيم، ثم في قتل جماعتهم.
فأنت ترى أنّ أسباب الاختلاف هي مسألة سياسية؛ تمخّض عنها فرقة كبيرةٌ تماشي الحاكم حتى لو كان ظالماً متغلّباً؛ حفاظاً على الدين واستمرار وحدة الأمة، فيما رأى علماؤها المرضيّ عنهم من السلطان، وهذه الفرقة هي التي اصطلح على تسميتها أهل السنة. وفرقة تطوّرت أفكارها وازدادت أحقادها مع استمرار مناصرة عامة المسلمين (أهل السنة) للحاكم المتغلب، بأي صورة كان تغلبه، وكردّة فعل عنيفة للاضطهاد الذي عاشوه في ظلّ الحكام الذين غلبوا على أهل السنة؛ صار هؤلاء يكرهون أبا بكر عمر؛ لأنهما هما اللذان تسرعا، وسنّا في هذه الأمة سنة الغلبة، فحرما آل البيت من حقهم في قيادة الأمة. وكرها عثمان لأنه غيّر وبدّل في اجتهادهم المدعوم بأدلتهم، وهذه الفرقة هم الشيعة ثم هم أنفسهم انقسموا على فرقتين كبيرتين هما: الشيعة الجعفرية الإمامية، وهي الفرقة الأكثر عدداً، والشيعة الزيدية، وهم الذين يقولون: إنّ عليّاً هو أحقّ الأمة بالخلافة، لكنه تنازل عن حقّه لمصلحة الأمة، وأطاع أبا بكرٍ وعمر، وقبل أعطياتهما فهما أخطآ في أخذ البيعة من غير مشورة، لكنه خطأٌ غير مقصود لإقصاء عليّ، وإنما كان اضطراراً، فهو خطأ مغفور إن شاء الله تعالى.
أما الخوارج؛ فقد عدّوا أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لكنهم يخالفون أهل السنة والشيعة في موقفهم من عثمان وعليّ؛ ولذلك كانت لهم فرقتهم الخاصة بهم. والملاحظ أن اختلافهم جميعاً؛كان مبنياً على اجتهادٍ ساغ لدى قادتهم، وصارت كل طائفة تعتقد أنها على الحقّ، وأن غيرها على خطأٍ أو باطل!
وأهل السنة هم الجمهور الأعظم؛ يعتقدون أنهم هم أهل الحق، ولهذا يطلقون على أنفسهم اسم الفرقة الناجية، وأنّ غيرهم مبتدعةٌ ضالّون!
ومع الزمن صار التشيّع تهمةً ينفيها عن نفسه كلّ إنسانٍ يعيش بين أهل السنة؛ خوفاً من تصفيته، أو تهميشه وإهانته، ونتيجة التشنج الطائفيّ؛ صار كلّ باحثٍ يخالف الإطار العام الذي صاغه حكّام أهل السنة؛ يعدُّ مبتدعاً، ويوصف بالتشيع والرفض والزندقة، خصوصاً إذا شمّوا منه رائحة ميلٍ إلى آل البيت، وانتقادٍ لأمر ما مما جرى في عصر الصحابة، وهذا ظاهر واضح في اتّهامهم عشراتٍ من علماء الحديث بالتشيع والرفض بل والزندقة، وهم من خيار عباد الله تعالى، والشيعة لا يعرفونهم ولا يعترفون بهم ولا يعدّونهم من علمائهم، من مثل الحافظ عبدالرحمن ابن خراش (283 هـ) والنسائيّ (301 هـ) والحاكم النيسابوري (405 هـ) وغيرهم كثير!
أما الشيعة؛ فقد جاوزوا الحدّ في خصومتهم وتشدّدهم، فمنهم من يكفّر الصحابةَ كلّهم بعد انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا عدداً محدوداً، لا يتجاوز في أكبر إحصائية لهؤلاء سبعةً وعشرين صحابياً!
ومنهم من كفّر أبا بكر وعمر وعثمان وجميع من خرج على عليّ من كبار الصحابة أمثال طلحة والزبير وابن الزبير، ثم معاوية وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وسمرة بن جندب ونفرٍ آخرين، وأطلقوا على أتباعهم لقب العامّة؛ لأنهم أتباع الظالمين بالترغيب والترهيب، والعامة عندهم ليسوا بكافرين، لكنهم أعوان الطغاة.
والخوارج قد انقرضوا، ولم يبق منهم سوى فرقة الإباضية الصغيرة نسبيّاً، وأظنّ عددهم لا يتجاوز ثلاثةَ ملايين نسمة في العالم.
أما الشيعة الزيدية؛ فقد يصل عددهم إلى خمسة عشر مليوناً، ويُقدّر عدد الإمامية بمائتي مليون نسمة في العالم. والسؤال الضروريّ اليوم: هؤلاء جميعهم يؤمنون بأركان الإيمان وأركان الإسلام وبالإحسان التي يسميها أهل السنة التزكية، ويسميها جماهيرهم التصوّف، ويسميها الإمامية (العرفان)، أقول: إذا كان هؤلاء يعتقدون بهذه العقائد كلّها، والصحابة جميعهم بمن فيهم عليّ ليسوا من أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وإن كانوا من حملتها والناشرين لها والمدافعين عنها، وإذا كان لكلّ فرقة من هذه الفرق أدلّتها، أو شبهاتها على الأقل؛ فنحن لا يجوز لنا التكفير والتفسيق في الجملة، كما لا يجوز لنا ادّعاءُ الحقّ المطلق في جميع شؤون الحياة العقدية والفكرية والفقهية والأخلاقية والسياسية. وإنّ الذي أراه أنّ الأمة متّفقة على أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وما وراء ذلك يكون اختلافها في التطبيقات والفروعيات، التي لا تتجاوز (5%) على أقصى تقدير باستثناء المسائل السياسية وما تفرّع عنها.
نعم يمكن ادّعاءُ أنّ أهل السنة أكثر الفرق الإسلامية حقّاً في مسائل الخلاف، لكنّ هذا لا يسوّغ لنا ذلك العداء الذي يقودنا إليه الحكّام الظلمة على مدار التاريخ؛ لنبقى وَقود نارهم، وقرابين فداءٍ لعروشهم الظالمة لنا قبل غيرنا من الفرق الأخرى.
فالدين الإسلامي: هو أركان الإسلام وأركان الإيمان والإحسان، والفرق الإسلامية جميعها متّفقةٌ عليها، وبالتالي فهي فرق مسلمة مؤمنة، ومذهب سلف الأمة؛ العذر بالجهل، والعذر بالاجتهاد.
فهذه جملة ما ينبغي إدراكه وفهمه في واحدة من أشهر مسائل الخلاف، ليتسنى للمسلمين أن يوحدوا صفوفهم ويعيشوا في إخاء وسلام.

الخميس، 29 نوفمبر 2012

امة الاسلام واحدة

قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : 92] وانظر [المؤمنون:52]


وقال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: (الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ يَرُدُّ مُشِدُّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ وَمُتَسَرِّيهِمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ) أخرجه أبو داود (2751) وهذا لفظه، والنسائي (4734) وأصله عند البخاري (1870) ومسلم(1370).
والمسلمون في اجتهادي: كلّ من ينتسب إلى الإسلام انتساباً حقيقياً، ويعتزّ بهذا الانتساب، حتى لو كان فكره منحرفاً.
والحكم عليه بأنه غير مسلمٍ؛ لانحرافه؛ قضاء يقوم به أهل العلم المجتهدون الأحرار الذين يحبون المسلمين ويرحمونهم، ويشفقون عليهم من عذاب الله تعالى ومن النار... نحن دعاة إلى الله تعالى، وإلى الحق، فمن قال لنا: أنا مسلم؛ قبلنا قوله من دون تردد ولا تشكيك، ثم استفسرنا منه عن مفهومه للدين، فإن كان ما لديه من مفهوم صحيحاً باركنا له ذاك الفهم الصحيح، وإن كان ما لديه خطاً؛ بيّنا له خطأه من القرآن العظيم ومن مواضع اجماع الأمة التواضعي فقط، وأرشدناه إلى الصواب.
إذا كنا أتباع من بعثه الله رحمةً للعالمين؛ فيجب أن نكون أولاً رحمةً للمؤمنين الذين ينتمون إلى هذا الدين، ولا ينتمون إلى غيره، مهما كانوا مخطئين، ومهما كانوا جاهلين! فالمسلم الذين يظن نفسه مسلماً، ولا يعلم لنفسه ديناً سوى الإسلام، وكان نشأ في بيئة منحرفة في فهم الإسلام أو في بعض مفاهيمها عن الإسلام، فهل واجبنا الأخذ بيده إلى ساحة الحق لننقذه من مصيره الحزين يوم القيامة، أو واجبنا أن نقول له: أنت كافر، أنت ضالّ، أنت ملحد! فنزيده ضلالاً إلى ضلاله، ونزيده استمساكاً بباطله الذي لا يعرف غيره؟
والقواسم المشتركة بين المسلمين كثيرة جداً، فلا يختلف المسلمون بجميع فرقهم على أنّ فرائض الإسلام العملية هي: الشهادتان والصلاة والصيام والزكاة والحج، والجهاد لدفع الصائل، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكلهم يعتقدون بذلك.
وجميع المسلمين يعتقدون أن أركان الإيمان المتفق عليها هي المجموعة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً) [النساء : 136]، الجميع يعتقدون بذلك، ويعتقدون أن من يكفر بواحد من هذه الأركان؛ فقد خرج من الملة بعد إقامة الحجة عليه.
ويعتقد جميع المسلمين بوجوب الصدق والأمانة والحفاظ على ضروريات الإسلام (حفظ النفس والدين والنسل والعرض والمال)، جميعهم يعتقدون بوجوب ذلك وأنه من المعلوم من الدين بالضرورة.
ويعتقد جميع المسلمين بحرمة الزنا والخمر والكذب والغش والغيبة والنميمة والخيانة والجاسوسية، وسائر المناهي الكثيرة جداً والواردة في كتاب الله تعالى، فلا أعلم عالماً من المسلمين أجاز واحدة من هذه المناهي في الأحوال الطبيعية.
والإسلام نظم كثيرة، فهناك نظام الإسلام العقدي، ونظام الإسلام العبادي، ونظام الإسلام الأخلاقي، ونظام الإسلام الجنائي، ونظام الإسلام الاقتصادي ونظام الإسلام السياسي... وغيرها كثير. والمسلمون يتفقون على معظم أسس الأنظمة السابقة باستثناء النظام السياسي، فيجب أن يعذر بعضنا بعضاً، وأن نقرأ بهدوء وروية تاريخنا الإسلامي في العصر الراشدي فقط؛ لنرى حسن النية من الجميع، وحرص الجميع على أمة الإسلام، لكن لنحصر (أخطاء السقيفة وآثارها) و(أخطاء أبي بكر وآثارها) و(أخطاء عمر وآثارها) و(أخطاء عثمان وآثارها) و(أخطاء عليّ وآثارها) ثم ننظر في ظروف أخطاء كل واحدٍ من هؤلاء وأسبابها، ومنها حجمه الحقيقي من العلم الشرعي ومن العلم السياسي، ثم لنرصد نسبة الآثار المؤلمة لكل واحد منهم على حدة، ثم لنجمع هذه الأخطاء بعضها مع بعض، فسنرى كمّاً كبيراً جداً من الأخطاء، إن كان يُعذر به كل واحدٍ منهم على حدته فلا يجوز بحالٍ من الأحوال أن نسوّغ هذه الأخطاء، فضلاً عن أن نصوب فاعلها، كما لا يجوز أن نتبناها ونجعلها من ضمن المنهج السياسي الإسلامي.
فإن نحن فعلنا هذا، وليأخذ ما شاء من الوقت؛ فسيصبح لدينا معيار واضح لمعرفة سبب الخطأ الأكبر في مسيرة الراشدين، وهو عدم اكتشافهم أو اكتشاف أكثرهم لمنهج القرآن السياسيّ، ثم تأتي مسألة جواز ولاية المفضول مع وجود الأفضل والأعلم، ثم تأتي مسألة مراعاة البيئة في الاختيار... فأمة الإسلام في ذلك الوقت كانت لا تزال تعظم الشجاعة والقوة، وتعظم العلم والتقوى، وتعظم النسب والرفعة، وتعظم القرب من الحاكم السابق، ولا ترى من حاجة إلى إخراج السلطان من عشيرته ما دام فيها الكفء القادر... والمسلمون لم يراعوا في السقيفة هذه الأمور كلها؛ لأن السقيفة كلها كانت فلتة، لكن وقى الله شرها كما قال عمر... لكن أنا أقول: وقى الله شرها مؤقتاً، ثم كانت تداعياتها السلبية وآثارها مدمرة للنظام السياسيّ الإسلامي على الأقل في اختيار الخليفة وصلاحيات الحاكم والتأبيد في خلافته!
فلتطلعوا على أهم ما كتب في الموضوع، لا للطعن على أحد من الراشدين رضي الله عنهم، لكن لتتحققوا من صحة كلامي هذا أوّلاً، ثم لتتجاوزوا تاريخ الراشدين السياسي (الاضطراريّ كله) ولتنظروا في معالم النظام السياسي في القرآن العظيم بتجرد وموضوعية؛ بعيداً عن الأحكام المسبقة.
ولتنتبهوا إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنّ صفات حكام الأقاليم غير الخليفة الأعظم فهذا عليّ نفسه ولى عبدالله بن عباس على البصرة وكان عالما وداهية وسياسياً، لكنه ولى الأشتر النخعي لفروسيته وبطولته، ولم يكن عالماً، ولا عشر عالم، وغيره من ولاة علي ممن هم على شاكلته عديدون.
فلو نحن اشترطنا في الخليفة الاجتهاد، فهل نشترطه في (مرسي، والمرزوقي والمالكي؟) مثلاً!!؟
وإذا لم يمكنا جمع الأمة في دولة واحدة، أو في عشر دول، فهل نكون كفرنا، أو فسقنا، أو ضللنا، أوليس علي هو أوّل من أرسل إلى معاوية يقول له ما معناه: (لقد تفانى الناس، ورأيت من حرصك على الدنيا والإمارة ما سيحاسبك عليه الله تعالى يوم تلقاه، وأنت من الطلقاء الذين لا تحلّ لهم الخلافة، وقد رأيت رأيا أرجو أن يكون فيه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلك الشام وما وراءها، ولي العراق والحجاز وما وراءهما) معنى هذا أورده الطبري في تاريخه مسنداً، لكنني لم أحقق في سنده لا على منهج المحدثين ولا على منهج المؤرخين؟ فانظروا في واقعية هذا الطرح، واعلموا أنه مذهب الزيدية والإباضية.
الذي أريد أن أخلص إليه هو ضرورة فهم (مفهوم الحاكمية في القرآن) و(مفهوم الحاكم في القرآن) و(مفهوم الشورى في القرآن) و(مفهوم العدل في القرآن) ومفهوم (وحدة الأمة في القرآن) هل هي وحدة سياسية اندماجية؟ أو هي وحدة توافقية تنسيقية في أمور السياسة، وهي وحدة فكرية وعقدية، أو هكذا يجب أن تكون؟
والله من وراء القصد
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين


الأحد، 14 أكتوبر 2012

التقريب بين المذاهب الإسلامية


التقريب بين المذاهب الإسلامية:
هذا العنوان خطأ منذ ولادته قبل قرن من الزمان، وكان الشيخ حسن البنا من أبرز شخصياته.
وهو خطأ اليوم، رغم كثرة المؤتمرات التي عقدت لهذا الغرض في عواصم عديدة من البلاد العربية والإسلامية.
ذلك أن جميع المؤتمرين من شتى المذاهب؛ يعتقدون أنّ مذهبهم هو الحقّ، والمذاهب الأخرى كلها فيما تخالفه فيه على باطل.
فإذا كانت هذه القاعدة مترسخة في قلوب المؤتمرين جميعاً، فكيف يتمّ التقريب؟ هذه واحدة!
والثانية: إنّ جميع المذاهب الإسلامية تعتمد على الروايات الإسنادية في أدلتها للفروع الفكرية والفقهية، وتكون هذه الروايات نسبة (90%) من أدلة الفقه المنقول.
والإباضية يزعمون أن (مسند الربيع الإباضي) أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى.
والزيدية يزعمون أنّ (مسند الإمام زيد بن علي) صحيح النسبة إلى زيد رضي الله عنه، وهو يمثل فقه آل البيت!
وكتب الشيعة الإمامية الأربعة (الكافي للكليني، ومن لا يحضره الفقية للصدوق، والتهذيب والاستبصار للطوسي) يعدّها الأخباريون من الشيعة أصح كتب الرواية، والأصوليون وإن كانوا يضعفون كثيراً من رواياتها نظرياً، لكنهم لا يكادون يميزون رواية من أخرى في الاستدلال خصوصاً في مواضع خلافهم مع المذاهب الأخرى.
وأهل السنة يعتقدون أن هذه الكتب كلها ليس فيها أسانيد يعتمد عليها، ويجب أن يعرض جميع ما فيها على الكتب المسندة عندنا فإذا وجد متن الحديث في صحيح البخاري؛ فهو يأخذ درجة صحيح البخاري وإذا لم يوجد الحديث الوارد فيها إلا في معجم الطبراني، أو تاريخ بغداد، أو تاريخ دمشق مثلاً؛ فإنه يحصل على درجة الإسناد الموجود في هذا الكتاب المسند أو ذاك من كتبنا؛ لأنه لا ثقة بأسانيد هذه الكتب كلها عند أهل السنة كما أسلفت.
فكيف يكون هناك تقارب أو تقريب بين المذاهب وهذه هي منطلقات الجميع؟
لقد حضرت واحداً من هذه المؤتمرات، واقترحت عليهم المقترحات الآتية:
المقترح الأول: رصد مواضع الإجماع الفكرية والفقهية بين المذاهب الإسلامية جميعها وهي كثيرة جداً.
المقترح الثاني: أن يتفق المؤتمرون على منهج لعرض روايات كتب الحديث عليه؛ إذ لا يمكن أن يتحقق أيّ تقريب ما لم يظهر أن دليل هذا المذهب هو الأقوى فيأخذ به الجميع، ويتنازل كلّ منهم عن دليله الروائيّ، ويعده ضعيفا لا يصلح للاحتجاج به.
المقترح الثالث: الوصول إلى نتيجة في موضوعات أصولية أساسية:
أ) عدالة الصحابة.
ب) حجية قول الصحابي.
ج) قبول مرسل الصحابي.
د) حجية قول الفقيه.
هـ) عصمة أئمة الشيعة.
و) حجية قول الإمام الشيعيّ.
ز) حجية الإجماع الطائفيّ.
فقال لي أحد المنظمين لذلك المؤتمر على انفراد: أنت من كلّ عقلك تظنّ أنّ هذا المؤتمر من أجل التقريب؟
قلت: إذا لماذا تنفقون على المؤتمر كل هذه الأموال؟
قال: هكذا يريد الساسة، والمسألة إعلامية فقط!
أنا أرى أن دعوة التقريب من أساسها فاشلة وكاذبة من جميع الأطراف، وقد عرضت تجربتي مع الحسينيات حيث أنني زرت أكثر من عشرة منها في بغداد وكربلاء والنجف، وما رأيت فيها شركاً، ولا سباً للصحابة ولا استغاثة بغير الله تعالى.
أنا ادعو قومي إلى الأدب مع المسلمين، وإلى الشرف في الخصومة وترك الكذب والافتراء من بعضنا لبعض، ولا أدعو مطلقاً إلى التقريب بين المذاهب،
أنا لا أدعو إلى التشيع الإمامي ولا التشيع الزيدي؛ لأنني لو كنت أعتقد أنهما أو أحدهما هو المذهب الصحيح؛ لوجب عليّ الانتقال إليه فوراً. لكنني أدعو إلى الصدق والإنصاف والتوثيق والأدب.
فمن يعتقد ويقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) هو أقرب إليّ من كلّ كافر بهذه الشهادة.
أسأل الله الهداية والإنصاف للمسلمين جميعاً والله المستعان

الجمعة، 21 سبتمبر 2012

من معالم شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم


من معالم شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم:
1.    الخلق العظيم:
قال الله تبارك وتعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
والخلُق: كلمة شاملة للاتصاف بكل ما هو جميل محبوب، والابتعاد عن كل ما هو مكروه.
وقال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه رحمة مهداة لجميع عوالم المخلوقات، وجميع المخلوقات تستفيد من هديه ومنهجه حتى الذين به يكفرون. ومن مظاهر رحمته صلوات الله وسلامه عليه أنّ أيّ عظيم من الملوك والحكام لا يستطيع فتح مدينة حتى يقتل معظم رجالها، والنبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه أقام دولة الإسلام على مدى عشر سنوات، وفي جميع حروبه لم يُقتَل من العرب مسلمين وكافرين ألف فارس محارب! لأنّ الحرب عنده ليست للانتقام والتشفي والإذلال، وإنما هي بمنزلة العملية الجراحية الاضطرارية التي لا بدّ منها لإنقاذ المريض!
وقال الله تعالى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ) آل عمران: 128
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم عبدٌ لله تعالى يأتمر بأمره، وينتهي عما نهاه الله عنه، ويعلمه ربه تعالى أنّ عليه الدعوة إلى الله، وحساب عباد الله على خالقهم (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) النور: 54
وقال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب: 21
فالقدوة للأمة هو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا فمن كان يرجو الله واليوم الآخر؛ فيتوجب عليه اتباع هديه صلى الله عليه وآله وسلم والالتزام بسنته، عن طيب نفس، سواء ظهرت له الحكمة أم لم تظهر (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً) النساء: 65
2.    فضله السامي في بيان مكانة الأنبياء السابقين صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين:
لقد قرأت النسخة المترجمة من التوراة والإنجيل، مما يُدعى (الكتاب المقدس) عند اليهود والنصارى، فوجدت في العهد القديم صوراً من الشرك بالله ما يذهل منه العاقل، ووجدت بعض الأنبياء عندهم قتلة، وبعضهم غدارين، وبعضهم زناة بالمحارم، وبعضهم كذابين؟؟؟ إلى آخر ذلك من الافتراءات.
ولو نظر كلّ وَبشٍ من الأوباش الذين يتطاولون على سيدّ الخلق محمد صلى الله عليه وآله وسلم اليوم في القرآن العظيم؛ فسيرى المكانة الصحيحة الحقيقية للنبيّ الذي يقدسه ويحبه، ولن يرى في غير القرآن الكريم بعض المكانة العظيمة لموسى وعيسى عليهما السلام.
كتب رجل أمريكي متعصّب لموسى وعيسى عليهما السلام كتاباً سماه (أعظم مائة رجل في التاريخ) وهو (مايكل هارت) ووضع معايير علمية وفكرية يعرض صفات كل رجل عليها، فاضطرته هذه المعايير -كما قال- أن يضع سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم أعظم العظماء فصنفه أعظم رجل في التاريخ!!؟؟
واعتذر إلى قومه من اليهود والنصارى بأن المعلومات الصحيحة عن موسى وعيسى نادرة! وأنّ نصوص التوراة والإنجيل لا يوثق بها لأنها متناقضة متدابرة (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً) النساء: 82
قال: ومما يؤسف له أن تاريخ ولادة موسى وعيسى وتاريخ وفاتيهما غير معروفة. وأثنى على صفات النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم وإنجازاته العظيمة وآثاره القيمة الممتدة منذ حياته وحتى اليوم. ولو أنّ هذا الكاتب رجع إلى القرآن الكريم بصفته وثيقة تاريخية مسندة صحيحة النسبة قطعاً إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لوجد فيه من صفات عيسى وموسى ومعالم من رسالة كلّ واحدٍ منهما ما كان يجبره على أن يضع موسى وعيسى عليهما السلام قبل جميع البشر العاديين الذين جعلهم قبلهما.
إن موسى عليه السلام رسولٌ، صالح، صادق، شجاع، طائع لله، وقل من صفات الخير التي نسبها القرآن العظيم له ما شئت! وقل في عيسى ابن الصديقة مريم العذراء روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم من صفات الخير والبرّ والرحمة ما شئت! لكن تذكّر أن تلك الصفات السامية إنما هي في القرآن وحده.
فاليهود افتروا على موسى، واتهمه بعضهم بقتل أخيه هارون، ووبخوه لأنهم أوذوا قبل أن يرسل إليهم وبعدما أرسل إليهم، وطلبوا منه أن يجعل لهم آلهة، وعبدوا في غيابه العجل. واليهود افتروا على نبيهم عيسى عليه السلام، فرموا أمه الصديقة عندنا بالزنى، وعابوا عليه أنه من غير أب! وكذبوه في رسالته وحاربوه، ووشوا به إلى السلطان الروماني الوثني فأمر بصلبه فنجاه الله تعالى.
والنصارى أساؤوا إلى عيسى عليه السلام وكذبوا عليه وحطوا من قدره أيضاً! فقال بعضهم: هو الله تجسد في رحم مريم، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، مما جعل عيسى يعتذر عن ذلك ويقول: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن: اعبدوا الله ربي وربكم). المائدة: 117
وبعضهم قال: هو ابن الله. وكذبوا عليه فقالوا: لقد صلب فعلاً، ثم قام من الأموات، ثم عرج إلى السماء فقعد على يمين أبيه، تعالى الله عن إفكهم. ثم كذبوا عليه وعلى الله، فجعلوا صلبه فداءً لمعاصي البشرية وحقارة الكافرين، فأبطلوا التكليف ومن ثمّ الحساب والثواب والعقاب! وحرفوا كتابه العظيم الإنجيل، فملؤوه بالوثنيات والشرك الأكبر.
بينما موسى وعيسى عندنا من أولي العزم من الرسل المصطفين الأخيار (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران: 33
فهذه واحدة من الخصال التي جعلت رسولنا محمد صلوات الله وسلامه عليه رحمة للعالمين
3.    لين الجانب والتواضع:
النفس البشرية، كلّ نفسٍ بشرية، مهما كان صاحبها من الرفعة والمنزلة العالية، أو كان من ذوي المنازل الدونية؛ فإنّ (الأنا) جامحة لديه.
وفي دراستي لكتاب (الأذكار) للإمام النووي، عقدت فصلا بعنوان (الجانب التربويّ في كتاب الأذكار) توصلت فيه إلى أنّ وظيفة جميع الأخلاق الإسلامية؛ هي المحافظة على (الأنا) من الثورة.
تواضع لي: يعني لا تشعرني بأنك أعلى مني في أيّ شيء!
أحسن إلى جارك: يعني لا تتفوه بكلمة تحرّك الأنا، أو تتصرف بشيء يثير غضبه!
اصبر على أذى جارك: يعني تنازل عن بعض حقوقك في سبيل ألا تتطور الخصومة التي سببُها شيء يسير جداً إلى قتال، وعنف!
أكمل المؤمنين أيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطؤون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف: يعني يجب أن لا تثير حفيظة المقابل وأناه!
وانظر إلى تلك الصفات التي وصف الله تعالى بها رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ تجدْ ما تقدم جلياً واضحاً!
قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) الأحزاب: 21
وقال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) آل عمران: 159
وقال تعالى: (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة: 128
وقال تعالى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَن تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً) الأحزاب: 6
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً) النساء: 64
فالنبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم، ومع هذا؛ فقد وُجد في جيل الصحابة من وجّه إليه الإساءة تلوَ الإساءة؛ لأنّ (أناه) جامحة لم تتروض بعد! فجاء القرآن الكريم ليربيهم، ويعلمهم كيف يتعاملون مع تلك الشخصية الفريدة في تاريخ الإنسانية!
قال تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة: 61
وقال تعالى: (لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) النور: 63
وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) الحجرات: 3
وغيرها وغيرها كثير. فلين الجانب، وخفض الجناح، واحتمال الأذى من الناس، وغيرها من صفات رسول الله السامية؛ هي التي مكّنت رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم من تأليف قلوب أولئك الأعراب الجفاة! حتى قال بعض الكاتبين: لو لم يكن لرسول الله معجزةٌ، سوى أنه استطاع أن يصنع من أولئك البدو الجفاة خيرَ أمّة أخرجت للناس؛ لكفاه معجزات، صلى الله عليه وآله وسلم.
كنت جالساً مرّة في مجلس الشيخ سعيد حوى رحمه الله تعالى، وهو على الأقلّ عالم حماة الأكبر. فقام واحدٌ من جيل تلامذته، بل هو من تلامذته يؤنبه، ويتطاول عليه، وينتقده، وقبل كلّ حملة جديدة من حملات التوبيخ يقول له: أخ أبو محمد، يا أخ أبو محمد! وهو عامل عاديّ، لا يعرف من أمور دينه إلا اليسير اليسير. كان الشيخ سعيد ينظر إليّ من طرفٍ خفيّ، يخشى أن أثور على الرجل، بينما كان وجهه كله إلى ذلك الشاب، وهو يقول له أحياناً: صدقت! وأحياناً يقول له: سامحك الله، وأحياناً يقول له: جزاك الله خيراً، تبصرني بعيوبي! وأنا أجزم قطعاً أن ليس في الشيخ سعيد شيء مما يقول هذا الجاهل، لكن هو يريد أن يقال عنه: جريء، وفهمان، وشجاع، لأنه أنّب الشيخ سعيد حوى! وفي لحظة من اللحظات صرخت في وجهه: كفى كفى، كفاك كلاماً فارعاً ووقاحة ضربك العمى ما أوقحك! مع أنه صديقُ عمرٍ لي. غضب الرجل، وترك الشيخ سعيد، واستدار إليّ، فقلت له: انا لست الشيخ سعيد حوى، أنا عداب الحمش، والله أقلع عينيك هاتين من وجهك! استطاع الشيخ سعيد أن يهدئ الأوضاع ريثما خرجنا من مجلسه، فانتظرت الرجل على الباب حتى خرج، فهجمت عليه أريد أن أضربه، فحال بيني وبينه أحد من كان حاضراً! فقلت لمن أعدّه وقحاً متطاولاً: أنت تحتاج إلى أدب، وإلى تربية، وإلى أن تعرف قدر نفسك، قتلت الشيخَ قتلاً! فقال: ما شاء الله عن أدبك وأخلاقك ولطفك، والله تعالى يقول: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الأعراف: 199
ويقول: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) آل عمران: 159
أين أنت من هذه الأخلاق؟ أين أنت من قول الله تعالى (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) الفتح: 29
لم أردّ عليه شيئاً، وإنما تركتهم جميعاً، وانصرفت! فلما جئت أحاسبُ نفسي؛ وجدت أنني أسأت إلى الرجل أكثر بكثير مما أساء هو إلى الشيخ سعيد، مع فارق المنزلة على كلّ حال! في يومٍ آخر؛ التقيت الشيخ سعيداً، فسلّمتُ عليه، فلم أتبيّن إن كان ردّ عليّ السلام لكنه قال لي: بهذا التحمّل والصبر تريد أن تكون قائداً؟ بهذا الصراخ والتوبيخ تريد أن تكسب قلوب الناس للدعوة، وتنقذهم من النار؟
ولهذا أقول دائماً: أنا لا أصلح للقيادة مطلقاً؛ لأنّ البشر لا ينقادون للشجاع والقويّ كما ينقادون لدمث الأخلاق، ليّن العريكة، الذي يتواضع لهم، ويشعرهم بقيمتهم، ولا يرى لنفسه منزلةً فوق منازلهم. الناس في ذلك كلهم سواء، ما عدا الأنبياء المعصومين صلوات الله عليهم.
ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المثل البشريّ الأعلى في ذلك كله! والآيات الكريمة السابقة من جملة الآيات التي عرضت وقائعَ أهّلت الرسول الأعظم لثناء ربه تعالى عليه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
أخرج البخاري (3138) من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنه قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ غَنِيمَةً بِالْجِعْرَانَةِ، إِذْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: اعْدِلْ! فَقَالَ الرسول لَهُ: (لَقَدْ شَقِيتُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ)!
وأخرج أبو داود (4775) والنسائي (4776) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كُنَّا نَقْعُدُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَإِذَا قَامَ قُمْنَا فَقَامَ يَوْمًا وَقُمْنَا مَعَهُ حَتَّى لَمَّا بَلَغَ وَسَطَ الْمَسْجِدِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ، فَجَبَذَ بِرِدَائِهِ مِنْ وَرَائِهِ، وَكَانَ رِدَاؤُهُ خَشِنًا فَحَمَّرَ رَقَبَتَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ احْمِلْ لِي عَلَى بَعِيرَيَّ هَذَيْنِ؛ فَإِنَّكَ لَا تَحْمِلُ مِنْ مَالِكَ، وَلَا مِنْ مَالِ أَبِيكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا! وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، لَا أَحْمِلُ لَكَ حَتَّى تُقِيدَنِي مِمَّا جَبَذْتَ بِرَقَبَتِي! فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ لَا وَاللَّهِ لَا أُقِيدُكَ فَلَمَّا سَمِعْنَا قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ أَقْبَلْنَا إِلَيْهِ سِرَاعًا، فَالْتَفَتَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (عَزَمْتُ عَلَى مَنْ سَمِعَ كَلَامِي أَنْ لَا يَبْرَحَ مَقَامَهُ حَتَّى آذَنَ لَهُ) فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ: (يَا فُلَانُ احْمِلْ لَهُ عَلَى بَعِيرٍ شَعِيرًا، وَعَلَى بَعِيرٍ تَمْراً).
هكذا إذاً صحابيّ جافٍ من الأعراب، ليس مشركاً ولا منافقاً، إذ لا دليل على ذلك البتة، يؤذي رسول الله، ثم يرفض القصاصَ من نفسه، فيكافؤه الرسول الكريم بأن يحمل له أوقار بعيرين من الطعام! فأي لين وأي تواضع!
فهذه بعض من خصاله الشريفة، صلوات ربي وسلامه عليه
4. منزلته عند الله:

في البداية يجب التأكيد على أنّ منزلة الرسول الأكرم عند ربه تعالى تبقى في حدود التفطن الدائم لمقام العبودية، والقيام بأداء الرسالة.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) المائدة: 67
فإذا وضح هذا؛ فمن منزلة الرسول الأعظم عند ربه تعالى، ما تراه في قوله الكريم: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الأعراف: 157
انظر إلى هذه المنزلة؟
التبشير به صلوات ربي وسلامه عليه؛ مكتوب في التوراة والإنجيل!
هو العظيم الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات ويحرم الخبائث. هو الرحيم الذي أحل الله تعالى على يديه للخلق كثيراً من الأحكام الشديدة التي أُلزموا بها، أو هم ألزموا أنفسهم بها. ثم أوجب على الخلق الإيمان به، وتعظيمه، ونصرته، واتباع أحكامه وسنته. ثم جعل المؤمنين به والمتبعين لسنته والمعظمين له وناصريه هم المفلحين الناجين. وانظر عدداً من الآيات في نحو هذا المعنى الجليل.
(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الأعراف: 158
(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) الأنبياء: 107
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) التوبة: 128
في مقابل هذه الصفات السامية، والوظيفة الرسالية العليا؛ فماذا قال فيه ربه تعالى؟
قال له ربه عزّ وجلّ: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) القلم: 4
(لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) الحجر: 72
(فلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ) فاطر: 8
(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) الكهف: 6
فهنيئاً لهذا الرسول العظيم بعناية ربه به وحبه إياه ومنزلته عنده. وهنيئاً للمؤمنين بهذا الرسول العظيم الرؤوف الرحيم بهم. وهنيئاً للإنسانية بهذا الرحمة المهداة.
فهل نصدّق الله تعالى في هذه الصفات السامية التي أضفاها على رسوله الكريم محمد ابن عبدالله (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ) الأعراف: 157
أم نصدق أناساً أوباشاً أوشاباً جهلة حاقدين بما نسبوه إلى هذا الرسول العظيم من إفك وزور؟
إنّ هؤلاء الأوباش كأسلافهم الأوغاد الذين وصفوا أنبياءهم الكرام بكل صفات الدناءة والنذالة والخيانة والغدر والحقد... فتلك تربيتهم وهذه ثقافتهم، وبئست التربية الحقيرة والثقافة المعوجة. فرسل الله تعالى جميعهم كرام، معصومون، ذوو صفات سامية عالية.
(ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) النحل: 123
(شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) الشورى: 13
صدق الله العظيم، وكذب أولئك الأوشاب اللئام الجهال، وهل من مصيبةٍ أطمّ من الجهل؟
صلوات الله وسلامه وبركاته ورحماته عليك يا سيدي يا رسول الله، وعلى آلك الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن صحابتك الأكرمين.