الخميس، 30 يونيو 2022

   اجْتِماعِيّاتٌ (94):

حَدّثوا الناسَ بما يَعرفونَ !؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

مَضى عليّ حينٌ من الدهر، كنتُ فيه غيرَ مقتنع بقول الإمام عليٍّ عليه السلام:

(حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللهُ وَرَسُولُهُ) أخرجه االبخاري في العلم (127).

وغيرَ مقتنع بقول عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه أيضاً: (ما أَنْتَ بِمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، إِلَّا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً) أخرجه مسلم في مقدمة صحيحه.

كنتُ أستبعدُ صدورَ هذا الكلامِ عنهما في عصر الصحابةِ الذين علّمنا شيوخنا أنّهم أذكياء جدّاً، وأهل لغةٍ عاليةٍ، وعلماء، وشجعان، وفرسان، حتى إنّ الإمام أحمد يقول: كلّ الصحابة مجتهدون، ولا أحبّ أن أخالف واحداً منهم!

لم يكن يخطر في بالي - وأنا صغير - أنه يوجد صحابيّ واحدٌ جبان، أو صحابيٌّ بخيل، أو صحابيٌّ يمكن أن يصافح امرأةً، فضلاً عن أن يكون زانياً بها!

قرأتُ في تلك الأيام كلمة للمأمون العباسيّ، انتقص بها مقام عبدالله بن عمر بن الخطّاب، فحكمت على المأمون بأنه كافر زنديق!

كنتُ على مدار حياتي ألاقي من زملائي اعتراضاتٍ عليّ، فكنت أقول: ربما الحسد، ربما النفاسة، ربما الشعور أمامي بالضعف!

ولم أكن أتصوّر أن يوجدَ إنسانٌ لا يفهم الكلامَ الذي يقرؤه، أو يسمعه!

كان شيخنا محمد الحامد - رحمه الله تعالى - ينهانا عن قراءة كتب السيّد قطب، ويعلّل نهيَه إيّانا بأن لغة السيد قطب أدبيّة عاليةٌ، وإمكاناتنا اللغوية والعلميّة قليلة، فربما فهمنا كلام السيد قطب - رحمه الله تعالى - خطأً!

فكنتُ أبحثُ عن كتبِ السيّد قطب، حتى إذا وجدتها عند أحدٍ؛ استعرتُها منه، فأقرأها ثم أعيدها إليه، من دون إخبار أحدٍ بذلك!   

وكانت الأمور التي لا أفهمها قليلةً جدّاً، فكنت أكتبها على دفتر الملاحظات عندي، وأسأل عنها شيخي الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى، أو شيخي الدكتور غسان حمدون، حفظه الله تعالى.

فقرأتُ جميع كتبَ السيّد قطب التي وجدتها في مدينة حماة، أكثرَ من مرّةٍ، في حياة شيخي الشيخ محمد الحامد (ت: 1969م).

عندما طبعتُ بعضَ كتبي؛ جاءتني بعض اعتراضاتٍ، لكنها كانت يسيرةً جدّاً!

عَقبَ انفتاح الناسِ على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ صار السبّ والشتم والقذف والتبديع والتضليل والتكفير!

وظللتُ أقول: لا بدّ أنّ الناس يفهمون، ولكنّ تعصّبهم لمعظَّميهم ولمذاهبهم؛ هو الذي يَقودهم إلى هذا، وليس لأنهم لا يفهمون!

لكنّ الذي تيقّنت منه في هذه الأيام؛ أنّ أكثر الناس لا يفهمون، إلّا ما هو متداوَل بين آبائهم وأمّهاتهم الجهّال والأميين؛ لأنّ هذا المتداوَل هو العقل الجمعي الذي يشترك في فهمه جميع الناس: العلماءُ والمثقّفون والعامّة، وهم لا يريدون أيَّ تصحيحٍ لهذا السائد الخاطئ!

عندما كنت أدرس على يدي شيخي محمد الحافظ التيجانيّ؛ كنت أستشكل كثيراً من الأحاديثِ في الصحيحين، وفي غير الصحيحين، وكنت أخبره بما يشكل عليّ، وعقب توضيحه المشكلَ أقول له: لم أقتنع بهذا الكلام، ولا أرى هذا الكلام صحيحاً أبداً!

ذات مرّةٍ سألته عن سبب تخريج البخاري أحاديثَ عاشوراء، بعضها عقب بعض، وهي متعارضة متضاربة؟

فقال لي: منهج المحدثين؛ عرض جميعِ ما لديهم في الباب، حتى لا يستدرك عليهم!

قلت له: هذا يعني أنّ بعض هذه الأحاديث ليس بصحيح!

قال لي: ربما بعضها صحيح، وبعضها أصحّ!

قلت له: لم أقتنع بهذا الكلام، فلا بدّ أنّ بعض هذه الأحاديث صحيح، وبعضها الآخر ضعيفاً!

فقال لي: عقلُك هذا سيتعبك، يا شيخ فيصل، حاولْ أن لا تقول هذا الكلامَ أمامَ الآخرين؛ لأنه ترسّخ في عقول الأمّة أن جميعَ أحاديث الصحيحين صحيحة!

قلت له: أنا لا يُهمني ما ترسّخ في عقول الناس، يهمّني أن أسمع منك ما يقنعني سيدي!

قال لي: اقرأ فتح الباري؛ سيفتح ذهنك أكثر، ويجيبك على كثيرٍ من الإشكالاتِ!

أشرفَ عليَّ أستاذي الدكتور أحمد محمد نور سيف أربعَ سنواتٍ في رسالة (الماجستير).

فكنتُ أكتبُ فصلاً من عشرين صفحةً، أو ثلاثين، أو خمسين صفحة، فيقرؤه، ثم يقول لي: لا تُدخل هذا الفصلَ في رسالتك!

وكان يفسّر كلامَه حيناً، وفي أكثر الأحيان لا يفسّر، وأنا أمتثل!

حتى حذف لي من رسالتي أكثر من (300) صفحة!

سألته مرّةً عن سبب هذا الحذف المتكرّر، فقال لي: يا شيخ عداب أنا وأنت حريصون على الإقامة في بلد الله الحرام، فلو أنت أبقيتَ هذه الفصول في رسالتك؛ فسينفوننا من مكّة المكرّمة، هذا إذا لم يفعلوا بنا أكثرَ من النفي!

هذه الفصول كلّها تخالف المستقرّ في عقولِ الناس، فأنصحك بأن تصبر على نفسك حتى تحصل على درجة الدكتوراه، ثم انشر ما تريد!

وقد غدوتُ على يقينٍ أنّ أمّةَ الإسلام لن تتوحّد حتى قيامِ الساعة!

وأنَّ أهل السنّة لا يريدون سوى الحقّ الذي يظنون أنّهم عليه!

وأنّ الشيعةَ الإمامية لا يريدون سوى الحقّ الذي يظنون أنّهم عليه!

ومثلهم الزيديّة، والإباضيّة، والإسماعيليّة، والدروز، والنصيريّة، وحتى الكفار!

وأهمّ من أديانهم ذاتِها؛ تعظيم معظَّميهم، والإبقاءِ على صفاتهم العنقاويّة اللازورديّة، حتى لو بيّنتَ لهم أنّ هذه المكتوباتِ كلها كذب بكذب!

قال الله تعالى:

(كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ، ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ، فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) [الأنعام].

(إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ؛ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) [النمل].

وقال تبارك وتعالى:

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) [العنكبوت].

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) [النمل].

قال الزمخشريّ في تفسيره الكشاف (3: 348):

فإن قلت: كيف أسند اللهُ تزيينَ أعمالهم إلى ذاتِه، وقد أسند التزيين ذاته إلى الشيطان؟

قلت: بين الإسنادين فرق، وذلك أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقةٌ، وإسنادَه إلى الله عزّ وجلَّ؛ مجاز.

ولهذا المجاز طريقان، في علم البيان:

أحدهما: أن يكون من المجاز الذي يُسمّى الاستعارةَ.

والثاني: أن يكون من المجاز الحُكميّ.

فالطريق الأوّل: أنه لما متّعهم بطول العمر، وسعة الرزق، وجعلوا إنعامَ الله بذلك عليهم وإحسانه إليهم ذريعةً إلى اتّباع شهواتهم وبطرهم وإيثارهم الرَوْحَ والترفُّهَ، ونِفارهم عمّا يُلزمهم فيه من التكاليفِ الصعبة والمشاق المتعبة؛ فكأنه زيّن لهم بذلك أعمالَهم.

وإليه أشارت الملائكة صلوات الله عليهم، في قولهم: (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ).

والطريق الثاني: أن إمهالَه الشيطانَ وتخليَتَه، حتى يزينَ لهم؛ ملابَسةٌ ظاهرةٌ للتَزيين، فأسند إليه؛ لأنّ المجازَ الحُكميّ، يُصحّحه بعضُ الملابسات.

وقيل: هي أعمال الخير التي وجب عليهم أن يعملوها؛ زيّنها لهم الله، فعَمَوا عنها وضلّوا).

قال عداب: المجاز الحُكميّ؛ هو المجاز العقليّ ذاته، ويسمّى المجاز الإسناديّ أيضاً.

ومفهومه باختصار: إضافةُ الفعلِ إلى ما ليس بفاعلٍ على الحقيقةِ.

ختاماً أمامَ كلّ هذا؛ فإنني حتى أستطيع إكمالَ رسالتي إليكم؛ سأغلق مجال التعليقاتِ عن الفيس بوك، كما هو مغلقٌ على المدوّنة، ثمّ ليشتمني الناس على صفحاتهم كما يشاؤون فأنا لا أزور سوى صفحاتٍ معدودةٍ، أقلّ من أصابع اليدين!

والله حسبنا ونعم الوكيل.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

الثلاثاء، 28 يونيو 2022

        مَسائلُ حَديثيّةٌ (41):

فرضُ خمسين صلاةً على أمّة الإسلام!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: علمتُ أنّ الدكتور أحمد نوفل صديقك، فما رأيُك برفضه حديث المعراجِ، وفرض خمسين صلاةً على المسلمين، في تلك الليلةِ المباركة؟

أقول وبالله التوفيق:

الدكتور أحمد نوفل - حفظه الله تعالى - ليس صديقي وحسب، إنما هو أخي الكبير وأستاذي الفاضل.

وأنا الفقير محدّث، لا أقبلُ منهجَ ردّ الحديثِ المخرّج في الصحاحِ، من جهة متنه، من دون تعيين مدار الحديثِ، ودراسةِ أعمدة الإسناد، ثم الحكم على الإسناد، ثم الانتقال إلى نقدِ متن الحديث!

وسبق لي أن نشرت منشوراً، بيّنت وجهةَ نظري في جميع أحاديث المعراج.

لكنّني في هذا المنشور؛ سأعتمد نقدَ الحديثِ من جهة متنه، ثم أعيد النظر في إسناده، فأقول:

حديث الباب هذا؛ أخرجه البخاري في كتاب الصلاة (349) ومسلم في الإيمان (163) والترمذيّ في الصلاة (213) وقال: حسن صحيح غريب!

وموطن الشاهد من الحديث؛ قَولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَرَضَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً!

قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا!

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ!

فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا تُطِيقُ ذَلِكَ!

فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ «الله تعالى»: (هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ، لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ!

فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي).

قال الفقير عداب:

أوّلاً: من المعلوم لدينا أنّ حديثَ الآحاد إذا خالفَ القرآن الكريم، أو خالفَ الوقائع التاريخيّة، أو خالفَ الإمكانَ، أو خالفَ ما هو أصحّ منه؛ رُفض الحديثُ، وعددنا أضعفَ راوٍ في الإسنادِ قد وهم به، من دون أن نطعن بعدالة الراوي، أو نردَّ سائرَ أحاديثه.

ظاهر هذا الحديثِ؛ أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، حملَ معه من السماء هذه الفريضة، من دون أن يسأل اللهَ تعالى عن مواقيتها وكيفيّاتها، أو ليس في الحديث على الأقلّ بيان ذلك!

من المسلّم أنّ عدد ساعاتِ اليوم والليلة (24) ساعةً، وهذا يعني أنّ على المسلم أن يصلّي في كلّ ساعة مرّتين!

هل يستطيع بشرٌ أن يصلّي في كلّ ساعةٍ صلاتين، وإذ نحن لا ندري عن توزيعِ هذه الصلوات المفترضِ شيئاً؛ فظاهر الخبر أنّ على المسلم أن يبقى صاحياً، في الليلِ والنهار، حتى يتمكّن من أداء خمسين صلاة مفروضة!

يُمكن أن يتمكّن المسلم من هذا مرّةً في السنة، أو مرّةً في الشهر، أما أن يكون في كلّ يوم؛ فهو تكليفٌ بما لا يطاق، ولا يُعقل، ولا يستطيع أن يلتزم به أحدٌ حتى الأنبياء!

وإذا كان كذلك؛ فهذا التكليف لم يحدث أبداً!

ثانياً: هذا الحديث ينصّ صراحةً على جواز النسخِ قبلَ امتثالِ العمل بالمنسوخِ، وهذا عبثٌ يتنزّه عنه العقلاء، فَضلاً عن الشارع الحكيم (وما كان ربّك نسيّاً)!

ثالثاً: نأتي بعد ذلك إلى مخالفةِ هذا الحديث لآياتٍ عديدةٍ من القرآن الكريم:

(وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، هُوَ اجْتَبَاكُمْ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ (78) [الحجّ] وأيُّ حرَجٍ أكبرُ من هذا الحرَج؟

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ (185) [البقرة].

أين اليسر في فرضِ خمسين صلاةً مجهولةَ المواقيت، تستغرق الليل والنهار؟

(هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا (61)[هود].

استعمركم: كلّفكم بعمارة الأرض، وعِمارةُ الأرض تستدعي راحةً وغذاءً ونوماً، وهو ممتنعٌ، أو متعذّر مع هذه الفريضة الشاقّة!

ونحن لو حملنا الخمسين صلاةً على خمسين ركعةً؛ لأنّ كلّ ركعةٍ صلاة؛ فيبقى الإشكال قائماً: متى سنصّلي هذه الخمسين ركعةً، وكيف؟

رابعاً: هذا الحديث فردٌ غريب مطلقٌ، لم يروه عن أبي ذرّ سوى أنس بن مالك، ولم يروه عن أنس سوى ابن شهابٍ الزهريّ، تفرّد به يونس بن يزيد الأيليّ.

ويونس بن يزيد، وثّقه كثيرون، وضعّفه آخرون، ومتى وقفت على ترجمة كهذه؛ فاعلم أن التوثيق ينصرف إلى العدالة الدينية، وقد ينصرف إلى المعرفة بطلب العلم!

أمّا التضعيف؛ فينصرف إلى ضبطه ومعرفته الحديثيّة!

قَالَ الإمامُ وَكِيْعُ بن الجرّاح: رَأَيْتُ يُوْنُسَ بنَ يَزِيْدَ، وَكَانَ سَيِّئَ الحِفْظِ.

قِيْلَ لأَبِي عَبْدِاللهِ أحمدَ ابن حنبلٍ: إِبْرَاهِيْمُ بنُ سَعْدٍ؟

فَقَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ رَوَى إِبْرَاهِيْمُ عَنِ الزُّهْرِيِّ؟ إِلاَّ أَنَّهُ فِي قِلَّةِ رِوَايَتِه أَقَلُّ خَطَأً مِنْ يُوْنُسَ، قَالَ: وَرَأَيْتُه يَحْمِلُ عَلَى يُوْنُسَ، وَضَعَّفَ أَمرَ يُوْنُسَ، وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ الحَدِيْثَ.

وانظر باقي ترجمته في أعلام النبلاء (6: 297) فما بعد!

وحديث الباب من جملة أحاديثِ يونس التي تفرّد بها عن الزهريّ.

فيكون هذا الحديثُ من أوهامه!

خامساً: فرضيّة الصلاة؛ أحد أركان الإسلام، وقد ثبتت فرضيتها بالقرآن الكريم مطلقةً.

وبيّنت السنّة عددَ الصلواتِ، وفي جميع الأحاديثِ أنها خمس صلوات، وليس في شيء من الأحاديثِ أنها كانت خمسين، ثم صارت خمساً، سوى هذا الحديث الموهوم!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الأحد، 26 يونيو 2022

 أَخْلاقُ الإسلام (1):

أَزْمَةُ الأُمّةِ !؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

في ستينات القرن الماضي، وسبعيناته؛ كان وسائلُ الإعلام في معظم الدولِ العربيّة، تسعى حثيثاً في إفساد الأخلاقِ، ونشر مفاهيم الحريّة الشخصيّة (الوُجوديّة) والإلحادِ، عن طريق الأفلام والمسلسلاتِ المحليّةِ والأجنبيّة!

وكان الإسلاميّون مختلفين، في أسباب تخلّف المسلمين، وبعدهم عن دينهم، وانسياقهم وراء الرفاهية والحرية الشخصية، وشيوع السفور والاختلاط، وقلّة مرتادي المساجد، وكثرة مرتادي المقاهي والملاهي الليلة ودور السينما!

الإخوان المسلمون - وهم طليعةُ الإسلاميين في كلّ الاتّجاهات، في تلك الحقبة الزمانية - كانوا يذهبون إلى أنّ أزمة الأمة سياسيّة وفكريّة؛ فمتى استقام فكر الإنسان، وملك الإسلاميون دَفّةَ قيادةِ الأمّة؛ فإنه يستطيع توجيه المجتمع إلى أحسن ما يمكنُ، من التآخي والتناصر وتطبيق سائر الأخلاق الاجتماعية الإسلامية.

وكان السلفيون يرون أنّ مشكلة الأمة عقديّة، فمتى صلحت عقائد الناس؛ قادت هذه العقائدُ إلى تصحيح كلّ شيء!

والعقائد التي يعنيها السلفيون؛ هي التأكيد على أنّ الإيمان قولٌ وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأنّ القرآن كلام الله تعالى، وهو غير مخلوق، ومَن قال: مخلوق؛ فهو كافر!

ويركزون أكثرَ مما تقدّم على إثبات الصفات البشريّة لله تبارك وتعالى: من الوجه والعين والسمع واليد والرِجل والساق!

ويفرّقون بين رضا الله تعالى الصفة المعنوية، وبين ضحك الله تعالى، وتبشبشه، ومشيه وهرولته، وكلّه (بلا كيف)!

وكان العلماءُ ومشايخ الصوفيّة عندنا في بلاد الشام يؤكّدون على التربية الفرديّة الأخلاقية والسلوكيّة والتعبدية، ويذهبون إلى أنّ الفردَ المسلم؛ هو اللبنة الصلبةُ في كيان المجتمع المسلم.

وهذا لا يعني أنّهم لم يكونوا يلتفتون إلى الجوانب الأخرى، بل كان الجميع يرى هذه الأمورَ مشكلاتٍ حقيقيةً في مجتمعاتنا العربية!

بيد أنّهم كانوا يختلفون في تعيين الأزمة الأضخم (قطب الرحى)!

وقد ظهرت في تلك المرحلة من الزمان كتبٌ كثيرة تُعنى بالأخلاق الإسلاميّة، وأدخلت مادّةُ الأخلاق في عدد من كلّيات الشريعة والآداب والتربية!

وعندما عهدت إلى إدارة كليّة التربية في الطائف بتدريس مادّة الأخلاق الإسلاميّة، في قسم الاقتصاد المنزلي، في أثناء الفصلِ الدراسيّ الأوّل من عام (1990) لأبدأ بتحضير نفسي لتدريس هذه المادّة في الفصل الثاني من العام نفسِه؛ بحثت في السوقِ عن كتب في (الأخلاق) ممّا كنت قرأتُه سابقاً، وممّا يمكن أن يكون جديداً منشوراً في الأسواق!

(1) كان أوّل هذه الكتب أهميّة في نظري؛ هو كتاب (دستور الأخلاق في القرآن) للدكتور محمّد عبدالله دِراز المصريّ (ت: 1957م) والكتاب أطروحتُه للدكتوراه، حصل عليها عام من باريس عام (1947).

وقد طبع الكتابُ طبعاتٍ متعدّدة، وكان متداولاً في المكتباتِ في أواخر الستينات، على ما أذكر.

والكتاب ضخم مليءٌ، يقع في (778) صفحةُ طباعيّة، سوى فهارس الكتاب التي انتهت في الصفحة (816).

وكنت قرأت هذا الكتابَ غيرَ مرّةٍ، وأفدت منه في تقويم شخصي، وفي نصح الآخرين، وفي كتاباتي أيضاً!

(2)  مكارم الأخلاق، للإمام أبي بكر ابن أبي الدنيا القرشيّ (ت: 281 هـ).

(3) مكارم الأخلاق ومعاليها، للإمام أبي بكرٍ الخرائطيّ (ت: 327 هـ).

وهو كتاب أثري مسنَدٌ أيضاً، ومهمّ جداً، لتصوّر مفهوم الأخلاق لدى سلفنا الصالح.

(4) مساوئ الأخلاق، للخرائطيّ نفسه.

(5) أمّا الكتاب الثالث؛ فهو (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) للإمام محمد بن حِبّان البُستيّ (ت: 354 هـ).

وطبع الكتاب طبعاتٍ عديدةً، وهو كتاب ماتع نافعٌ، يمتاز بسياقةِ الأخبار بأسانيد المؤلّف!

(6) مكارم الأخلاق، للإمام سليمان بن أحمد الشاميّ الطبراني (ت: 360) وهو يشابه الكتاب الذي قبله.

(7) تهذيب الأخلاق وتطهير الأخلاق، لابن مسكويه (ت: 421 هـ) ويقع في مجلّد واحدٍ (228) صفحةً!

وهو كتاب وجيزٌ مفيدٌ، أنصح الإخوةَ القرّاء أن يبدؤوا به، في تقويم شخصياتهم وعائلاتهم.

(8) الأخلاق والسِيَر في مداواة النفوس، للإمام علي بن أحمد ابن حزم (ت: 456 هـ) وهو كتابٌ مفيد ماتع، يدلّ على معرفة ابن حزم في أسرار النفس الإنسانية وتقويمها.

(9) الأخلاق الإسلامية وأسسها، لشيخنا عبدالرحمن بن حسن حبنّكة الخالديّ الميداني (ت: 2004م).

وهو أضخم كتاب بين هذه الكتب، يقع في مجلّدين، تزيد صفحاتهما على (1500) صفحة طباعية.

والكتاب جليل بديع، يمكن أن تستغني به عن غيره، ولا يمكن أن تستغني بغيره عنه!

إذ هو من دون شكّ قد أفاد من جميع الكتب التي سبقته، لكنّه لا يوضح ذلك ولا يوثّق النصوص التي ينقلها.

وقد سألته مرّةً عن سرّ هذه المسألة لديه، مع أنّ العصرَ لا يحتمل هذا التقليدَ القديمَ!

فقال لي رحمه الله تعالى ما معناه: «على مَن يتشكّك في معلومةٍ ما؛ أن يبحث عن أصولها!

نحن نتعب ونسهر في الوقوف على المعلومةِ، ثم يأتي باحثٌ لم يتعب ولم يبحث؛ فينسب المعلومة إلى الكتابِ الأصليّ ويتخطّانا، إذنْ ماذا صنعنا».

وقد صدرت كتبٌ أخرى عديدة، في الأخلاق، يمكن أن نذكر بعضها في المستقبل، إنْ أحيانا الله تعالى.

بيدَ أنّ قيامي بتدريس (مادّة الأخلاق الإسلامية) لم يحصُل، وللأسف!

إذ اعتقلتني السلطاتُ السعوديّة في الطائف، وسفّرتني من البلاد، وأنا ملومٌ محسور!  

وفي المنشورات القادمة؛ سأعرّف بكلّ واحدٍ من هذه الكتب الأخلاقيّة، وأبرز أهمّ ما فيه، وأودع بعض مفاريده في المنشور الذي يخصّه.

وأحرص على أن لا أكرّر نفسي، ولا أنقل المكرّر، بغيةَ أن أنفعك - أخي القارئ - أكثر!

والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 25 يونيو 2022

 اجتماعيات (89):

بسم الله الرحمن الرحيم

المرأةُ نَخوةُ القبيلةِ !؟

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

على خلاف ما يظُنّ كثيرونَ؛ فقد كان للمرأة العربيّة القَبَليّةِ مكانةٌ مرموقةٌ سامية، لدى جميع القبائل العربية، حتى اشتهر لقبُ (حامي الديار، ومغيث صبايا الأحرار) للفارس الشجاع، الذي يفتدي إحدى نساء القبيلةِ بروحه ودمه!

بل أدلّك على ما هو أبعدُ من ذلك، فلم يكن رجالُ القبائل العربيّة لا ينتخون بآبائهم ولا بأجدادهم، إنما كان لكلّ قبيلةٌ (امرأةٌ رمز) ينتخي بها جميع رجال القبيلة عند الافتخار، وعند التحدّي.

فقد كانت نخوة السادة البو ناصر (أنا أخو هَدْلَة)!

وكانت نخوةُ الموالي العباسيين (أنا أخو وَضحة)!

وكانت نخوة البو تركي الهذّال (أنا أخو ريّة)!

وكانت نخوتنا نحن النعيم (أنا أخو حمرا) !

بينما كانت نساؤنا في الأفراح والأعراس؛ يفتخرن بجدّنا الحمش القريب!

لأنّه كان أبرز شخصيّة دينية واجتماعية في (آل كنعان) فقد كان من أولياء الله الصالحين، وأكرمه الله تعالى بكراماتٍ كثيرةٍ مشهودة، منها أنه عاش (123) سنة، كان يركب فيها كلّها الحصان، سوى ثلاثةِ الأيّام الأخيرة من عمره الشريف، رحمه الله تعالى!

ومما كنّ يغنّين به في الأفراح والمناسبات:

حِنا بنات الحمش / صنعتنا ركوب الخيل!

نلبس حرير بحرير/ ونرخي كمامها للديل!

وين الشجاع الذي/ يطرق بابنا بالليل!

نُسيّب حريمه/ ونجعل حالته بالويل!

ومن ذلك أيضاً:

نحن بنات الحمش/ والشيخ مِهران جدّنا

نحن القصور  العالية / مَن يقدر يَهّدنا

يا طيب ذلك النسب / عندَ النبي حدّنا

ثم الإمام علي / مَن في الورى قَدّنا.

كان رجال القبيلةِ العربية عن بكرة أبيهم ينفِرون؛ لو سمعوا صوتَ امرأةٍ تستغيث أو تطلب النجدة!

وكان جميع رجال القبيلة يركبون خيولهم انتصاراً لواحدةٍ من حرائرهم، إذا عاكسها في الطريق أحد، أو أسمعها كلمةً غير مُرضيةٍ!

ولم تكن نساءُ القبيلةِ أمثالَ كثيرٍ من نساء المسلمات اليوم، جبانةً خوّافةً، تخضع للتهديد والوعيد، أو تخاف من إبلاغ أهلها عن معاكسة أحد الشباب لها، أو محاولته الاعتداء عليها، بل كانت تهدّده، وتقول له: (وَل يا كلب العرب، والله لأخليهم يجوك، ويخلّوا شاربك شارب فار)!

في عام (1968) أرادت دولتنا البعثيّة العلمانيّة التقدميّة؛ أن تحضّر بلدَنا حماة، فأنشأت على ضفاف نهر العاصي حديقةً جميلةً ضخمة، أطلقت عليها حديقةَ أمّ الحسن!

وصار كثيرٌ من الفتيات يرتدن تلك الحديقةَ بمقاصد شتّى، لكنّ قليلاً منهنّ في تقديري مَن كنّ يذهبن إلى الحديقةِ بغيةَ التعرّض للرجال!

ذات ليلةً عقب خروجي من صلاة المغرب، عند شيخي نايف النوشي رحمه الله تعالى، في جامع المرابط؛ صعدتُ درج (الحريري) مسرعاً وكانت عادة لي.

مررت ببعض الشباب، فلم يلفت نظري شيءٌ، ثمّ بعد خطواتٍ، مررت ببعض بنات حيّنا، حيَّ الفرّاية، وأنا مطرق رأسي إلى الأرض، فإذا بإحداهنّ تقول: لا تخفن يا بنات، هذا الشيخ عداب معنا!

وقفت في مكاني ولم أرفع رأسي، وقلت لهنّ: مَن أنتنّ؟

قالت إحداهنّ: أنا أختك فلانة!

قلت لها: خير إن شاء الله، ما الأمر!؟

قالت: هؤلاء الأوباش لحقوا بنا من حديقة أمّ الحسن إلى هنا، ونحن مرعوباتٌ، وما عُدنا نستطيعُ حتى أخذَ النَفَس!

قلت لهن: لا تخفن، قِفْن على جنب!

كان معي سكّين صغيرة، ومعي جنزير رفيع، وكان هذان  سلاحَ معظم الشباب الإسلاميين في حماة!

هيّاتُ الجنزيرَ، وصرخت بالشباب، وهجمت عليهم، فسحب كلّ واحدٍ منهم خنجراً، وهجموا علي أيضاً!

استطعت بفضل الله تعالى أن أوقع خنجرين من الخناجر الثلاثة، من أيديهم، ثم رحت أضربهم بالجنزير على رؤوسهم، حتى هرب اثنان، وتركا خنجريهما في الأرض!

دَخل رفيقهم الثالث إلى زقاق صغيرٍ، يدعى زقاق قاسم آغا، كان يظنه سالكاً، بينما كنت أعلم أنا أنه مسدود!

كنت ألاوحه بالجنزير، وهو يهجم عليّ خطوةً ويتراجع أخرى، حتى أوصلته إلى نهاية الزقاق، وضربته على رأسه ضربةً شجت رأسه، وثار الدم من رأسه!

غفلتُ عن صاحبيه اللذين هربا، فتبعنا أحدهما بحذر شديد، وأمسك بيديّ من الخلف، مثل الكمّاشة، فما عدت قادراً على تحريكهما البتة!

هجم عليّ الرجل الذي أمامي، بكامل حقده، وراح يضربني بكلّ ما أوتي من قوّةٍ بخنجره، وأنا أصدّ ضرباته بقدميّ، حتى طعنني في صدري وبطني ستَّ عشرةَ طعنة، كانت كلّها سطحية غيرَ مؤثّرة!

لكنه هجم عليّ بشراسة وطعنني الطعنة الأخيرة، فكانت القاتلة!

صرخت صوتاً عالياً: يا الله، أشهد أن لا إله إلّا الله، ثم عجزت عن إتمام الشهادة الثانية، فتركاني في الأرض وهربا!

كان طول الطعنة الأخيرة اثنين وعشرين قُطبةَ خياطة، خرج بعض أمعائي منها إلى الأرض، وآثار تلك الطعنات غابت مع الزمان، ما عدا تلك الطعنة؛ فلا تزال بادية بطول (10) سم تقريباً!

إنّ شرف المرأة وكرامتها؛ أعزّ ما يعتزّ به العربيّ، ويبذل روحه رخيصةً في سبيل الحفاظ عليه.

والنَسويّاتُ التافهات، يَلهثن وراء عفنِ الغرب، وعهر الغربِ، وتعامل الرجل الغربيّ الحقير مع المرأة!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 19 يونيو 2022

 مَسائِلُ عَقَدِيّةٌ (13):

مذهبُ أهل البيت؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أوّلاً: أرجو من الإخوة الشيعةِ أجمعين أن يقرؤوا كلامي بهدوءٍ ودقّة، فما أعجبهم منه؛ فالحمد لله على ذلك، وما لم يعجبهم منه؛ فليعرضوا عنه، فأنا لا أبتغي رضاهم!

وأنا لست شابّاً غرّاً، طامحاً إلى شهرةٍ، أو راغباً في منصب، فأنا أعلم منذ أربعين سنةً أنّني مرفوض عند أهل السنة بمذاهبهم، والشيعة بمذاهبهم، والإباضيّة أيضاً!

وإلّا فهل يعقل عقلاً أنّ رجلاً حقّق وخرّج صحيح البخاري وصحيح مسلم، وكتب أكثرَ من ثلاثين ألف صفحةٍ علمية وثقافية، فوق ذلك، ثم لا تقبل به أيّ جامعةٍ للعمل بها؟

ثانياً: أنا الفقير أعتقد عقيدةً أنّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أوصى بالخلافة إلى الإمام عليٍّ عليه السلام بنصٍّ واضحٍ صريحٍ، يفهمه كلّ عربيّ، ومن دلالات النصّ ولايةُ الإمام عليّ أيضاً.

وأعتقد أنّ اجتهادَ الإمام عليٍّ أولى من اجتهاد غيره في مسائل الدين، لكنّ أحداً من الصحابة رضوان الله عليهم؛ لم يرَ اجتهادَ عليٍّ ملزماً له، وكذلك أنا الفقير.

وأعتقد بأنّ أهل الكساء، ومعهم أمّنا خديجة؛ أفضل أمّة الإسلام فضلاً.

لكنني لا أعتقد بوراثة الولاية، ولا وراثة الإمامة، فلا الإمام الحسن إمامٌ واجب الطاعة، ولا واجب الاتّباع في اجتهاده، وكذلك الإمام الحسين، ومن بعدهم من جدودي عليهم السلام.

وأعتقد عقيدةً أنّ الإمامَ علي الرضا عليه السلام هو آخر الأئمة المجتهدين، من الأئمة الاثني عشر!

فجدي الجواد ليس مجتهداً، وجدّي علي الهادي ليس مجتهداً، وولُده الحسن العسكري عليهم السلام ليس مجتهداً، بل كان رجلاً عليلاً، أمضى حياته بالمرض، ومات شابّاً في مقتبل العمر، ولم يخلّف ولداً قطّ!

وبناءً على ما تقدّم؛ فمذهب أهل البيت؛ هو الاجتهاد، وكان بعضهم يعذر بعضاً باجتهاده إذا خالفه.

الإمام الحسن خالف والده الإمامَ عليّاً، فيما صحّ عندي!

والإمام الحسين خالفَ الإمام الحسن، فيما صحّ عندي!

والإمامُ زيدٌ خالف الإمام الباقر، فيما صحّ عندي!

ولا أعتقد بأنّ الله تعالى نصّ على إمامة الحسن، ولا الحسين، ولا عليّ بن الحسين، عليهم السلام، ولا نصّ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم على ذلك، ولا قال:

(الحسن والحسين إمامان قاما أم قعدا) فهذا كذب على الرسول الأكرم!

ولا أعتقد بالبداء ولا بالرجعة ولا بالمهدي!

هذه عقيدتي، رضي بها مَن رضي، ورفضها من رفضها، فلستُ أنا مقلّداً لأحدٍ، حتى أكون مقلّداً لك - أخي القارئ - أو لغيرك.

عليك أن تقبلني كما أنا، أو ترفضني جملةً، وتغادر صفحتي بسلام !

فإذا كنتُ لا أعتقد بعصمة أحدٍ من الأئمة عليهم السلام - لا أهل الكساء ولا غيرهم - فمعنى هذا أنّ اجتهاد الحسن والحسين عندي؛ مثلُ اجتهاد نفسي، وكذلك الأئمةُ من بعدهما.

فلا تستغرب بعد هذا، إذا خالفت جدودي الأئمّةَ الحسين، أو عليَّ بن الحسين، أو محمداً الباقر، فنظري أنا غير نظرك أنت!

وأنت لست مطالباً بمتابعتي، وأنا لم أطالب أحداً بذلك، كما أنني لست مطالباً بمتابعة أحد البتة، على سبيل الحتم والإلزام، سوى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بما جاء به من القرآن الكريم، والسنّة النبويّة الشريفة الثابتة عندي أنا، وليس عند البخاريّ، أو مسلمٍ، أو الكليني، أو الصدوق!

وأؤمن بالإجماع التواضعي التوافقيّ أيضاً، فإذا وقفتُ على حكمٍ أجمع عليه أهلُ السنّة بمذاهبهم، والشيعةُ بمذاهبهم، والإباضيّةُ؛ فألتزم به، وأتحرّجُ جدّاً من مخالفته!

أمّا دعاوي الإجماع عند أهل السنة، أو دعاوي الإجماع عند الشيعة؛ فهي محلّ نظرٍ واجتهادٍ عندي!

وبصفتي متخصّصاً بنقد الحديثِ؛ فأنا لا أعتمد توثيقَ الرجاليّين أبداً، لا ممّن عاصر الراوي، ولا ممّن تقدّم زمانه قرنين أو ثلاثة قرون، سواء عند السنة أو عند الشيعة!

إنّما أستأنس بأقوالهم استئناساً؛ لأنهم هم يتناقضون في أقوالهم، ويناقض بعضهم بعضاً في الراوي الواحد!

فلو وَثّق السيّد الخوئي رجلاً، أو وثّق الشيخ ناصر الألباني رجلاً، ممن لم يسبق للعلماء فيه كلام؛ فصنيعهما محلّ نظر واجتهاد.

وكذلك لو وثّق الإمام النسائيّ (ت: 303 هـ) رجلاً من أهل القرن الأوّل أو الثاني الهجريّ، لم يرد عن المتقدمين فيه كلام، لكنّ أحاديثَه القليلة التي رواها، وافقت المشهورَ عند المحدّثين، فتوثيق النسائيّ في هذه الحال عندي؛ مثل توثيق الألبانيّ!

بمعنى أنني لا أمنح درجة ثقةٍ لمجرّد أنّ أحدَ النقّاد وثّقه!

خصوصاً أولئك الموثَّقين ممن ليس له سوى حديثٍ أو حديثين!

فمن ليس له عشرةُ أحاديثَ فأكثر، ثم ثبت بدراستي لها أنّ أسانيدها إليه صحيحة، وأنّ متونها مقبولةٌ تماماً، من دون تكلّف ولا تعسّف؛ فلا أعطيه درجة ثقةٍ بحالٍ، ولو وثّقوه أجمعون!

ما الذي يجعل اجتهادَ الإمام النسائيّ في مثل هذه الحال؛ أولى من اجتهادي؟

لا شيءَ أبداً، ولا أتحرّج من مخالفةِ أيّ محدّثٍ، من لدن سعيد بن المسيّب وإلى السيد الخوئيّ والشيخ آصفي والشيخ الألباني وغيرهم، إذا لم يقدّموا الدليل الكافي لصحّة ما بنوا حكمهم عليه.

وأزيدكم - أيها الإخوة الكرام - بياناً، فأنا لا أرى الشيخ الكلينيَّ، ولا الشيخَ الصدوقَ، ولا الشيخَ الطوسيّ؛ يبلغون درجة «محدّث» فضلاً عن أن يكونوا نقّاداً مجتهدين في هذا العلم!

إنّ عددَ رواة الحديثِ عند أهل السنة، يتجاوز خمسة عشر ألف راوٍ بيقينٍ، النقّاد المعتدّ بنقدهم لا يتجاوزون خمسةَ عشر ناقداً عندي!

لماذا أقول هذا الكلام؟

أقول هذا الكلام، حتى لا يَتعامل معي الإخوة الشيعة، على ما جاء في القرآن الكريم:

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ!

فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ؛ اطْمَأَنَّ بِهِ!

وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ؛ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ (11) [الحجّ].

(وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) [النور].

أنا الفقير سأبرئ ذمّتي أمام المسلمين جميعاً، في حدود اختصاصي، وليس في حدود مشاركاتي.

فأنا مشارك في جميع علوم الإسلام، لكنني مختصّ بنقد الحديث!

وسأبيّن لأهل السنّة، وللشيعة، وللإباضيّة، ما في كتبهم الروائيّة من خللٍ وزيغٍ وزغل.

وأطلبُ من الجميع أن يَتحمّل مني ذلك، فأنا لا أميل إلى هذا الطرف ولا إلى ذاك.

ومن لم يعجبه كلامي؛ فلينسخه، ثم ليذهب إلى صفحته، فيردّ عليّ كما يشاء، وليشتمني بقدر ما تسمح به أخلاقه وتربيته، وسوء ظنّه!   

ولا حول ولا قوةَ إلّا بالله العليّ العظيم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

           نَقْدُ الحَديثِ عِندَ الشيعَةِ الإمامِيّةِ (1):

نشأةُ نَقدِ الحَديثِ لدى الشيعة الإماميّةِ!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتبَ أحدُ متعصّبي الشيعةِ منشوراً، يقارن فيه بين ثبوت صحيح البخاريّ عنه، وبين ثبوتِ كتاب الكافي عن مؤلّفه الكليني.

فعلّقتُ تعليقةً تناسب المقامَ، فاتّهمني صاحبُ المقال بالجهل، ورمى الفِرَبريَّ بالجهالة، وشتمني عددٌ من جهّال أصحابِه أيضاً، غفر الله لي ولهم أجمعين.

الجهال هم الجهّال، سواء كانوا من الرافضة، أم من الناصبة!

إزاءَ هذا الذي حصلَ اليومَ، سأنشرُ ثلاثين مقالةً تتناول (علوم الحديث) عند الشيعة الإماميّة؛ نصيحةً لإخواني مقلّدة الشيعة الإماميّة، الذين يظنّون أنّ كتبهم صحيحةُ الصدورِ عن الأئمّة الذين يعتقدون فيهم العصمةَ، سلام الله عليهم.

ومن المعلومِ لدى المسلمين جميعاً - سنّةً وشيعةً وإباضيّةً أن علم روايةَ الحديثِ متقدّمٌ في الزمان على على علم درايةِ الحديث، الذي يدعى اليوم (أصول نقد الحديث) ونحن سنتكلّم في هذه المنشوراتِ على العلمين معاً.

يحكي بعضِ علماء الشيعة الإماميّة؛ أنّ لديهم أربع مائة كتابٍ في رواية الحديث متقدّمةً على كتاب «الكافي» لأبي جعفرٍ محمّد بن يعقوب الكليني (ت: 328 هـ) وأنّ الكلينيّ لخّص كتابَه منها، وكذلك فعل الصدوق في كتابه الفقيه، والطوسيّ في كتابيه «تهذيب الأحكام» و«الاستبصار» الذي أرجّح أنا أنّه اختصارٌ لكتاب تهذيب الأحكام، قام به أحد تلامذة الطوسيّ!  

وسأتناول عدداً من أهمّ كتبِ روايةِ الحديثِ الإماميّ بالدرس الحديثيّ النقديّ، قبل الكلينيّ، ثمّ أختم بالكتب الأربعةِ الشيعيّة.

وألفت نظرَ الإخوةِ القرّاء إلى أنّ أكثر المادّة العلميّة التي سأكتبها؛ هي مستخلصة من كتابي غير المطبوع (مناهج المصنّفين في الحديث النبويّ - عند غير أهل السنّة) وقد كتبته بين عامي (1999 - 2002م) فيما أتذكّر الآن، وعندما أرجع إلى الكتاب غداً، إن شاء الله تعالى؛ سأعيّن تاريخ انتهائي منه بدقّة!

أمّا هذا المنشور؛ فهو ابنُ ساعته، وليس من الكتاب المذكور!

أقول وبالله التوفيق:

تأخّر علمُ نقدِ الحديثِ، عند الشيعة الإماميّة كثيراً، وإنْ وُجدَ نقدُ بعض الأحاديثِ على أيدي بعض علماء الإماميّةِ، قبل تأصيل «نقد الحديث» لديهم.

قال الشيخ جعفر السبحانيّ في كتابه «أصول الحديثِ وأحكامه في علم الدراية» (ص: 9) ما نصّه:

«إنّ أوّل مَن ألّف من أصحابنا في علم الدرايةِ - كما هو المشهور - هو جمال الدين أحمد بن موسى بن جعفر بن طاووس (ت: 673 هـ)... وهو واضع الاصطلاح الجديدِ للإماميّةِ في تقسيم الأحاديثِ.

فالرجل من محقّقي علم الرجال والدراية...

نعم السيّد ابن طاوس؛ هو أوّل مَن ألّف حسب ما عثرنا عليه، ويمكن أن يكون سبقه آخرون لم نقف عليهم».

ونقلَ الشيخ جعفر السبحانيّ عن بعض المؤلّفين؛ أنّ الحاكم النيسابوري (ت: 405 هـ) هو أوّل مَن ألّف من الشيعة الإماميّة!

إلّا أن الشيخ جعفراً لم يرتض أن يكون الحاكم من الشيعة الإماميّة أبداً، قال (ص: 10): «لا يظهر من ثنايا الكتابِ تقديمُ عليٍّ عليه السلام على الخلفاء قبله في الخلافة والولاية، وأنّه كان منصوصاً عليه من قِبَل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لقيادةِ الأمّة بعده.

وعلى ذلك، فهو شيعيٌّ بمعنى أنّه محبٌّ لعليّ، ومبغض لأعدائه، لا أنّه شيعيّ بمعنى تقديمه على غيره في الخلافة والولاية، والاقتفاء في الأصول والفروع بأئمة أهل البيت عليه السلام.

وختم (ص: 11) بقوله: «ولأجل عدم وضوحِ حالِه؛ لا يصحّ لنا عدُّه ممّن ألّف من الشيعة في هذا المضمار، فضلاً عن كونه أوّلَ المؤلّفين فيه.

فالقدر المتيقَّنُ أنّ أوّل من ألّفَ هو أحمد بن طاووس الحليّ».

قال عداب: وهذا لا يعني أنّ العلماء المتقدّمين على السيّد ابن طاوس المتأخّر جدّاً (ت: 673 هـ) لم يقوموا بنقدِ بعض الأحاديث!

قال الشيخ محمّد حسن الربّاني في كتابه الماتع «أصول نقد الحديث» (ص: 77) ما نصّه: «موقفُ الشيخ المفيد والشيخ الطوسيّ من نقد الحديث.

إنّ أوّل من نقدَ الأحاديثَ من القدماء؛ هو أبو عبدالله محمد بن محمد بن النعمان، المعروف بالشيخ المفيد (336 - 413 هـ) وهو الفقيه الأصوليّ المتكلّم... فإنه كما كان فقيهاً أصوليّاً متكلّماً؛ كان مهتّماً بالروايات، ولم يقف عند إسنادها وحده، بل نظر إلى الإسناد والمتن، وإلى القواعد الأخرى!

ففي المصادر الروائيّة؛ رواياتٌ صرّحت بأنّ شهرَ رمضان لا ينقُص عن ثلاثين يوماً أبداً، وجملةٌ من هذه الروايات مذكورة في كتاب «الكافي» و«الفقيه».

ومع هذا، فقد ناقشها الشيخ المفيد وتلميذه الشيخ الطوسيّ (ت: 460 هـ) - وهما المعروفان في الفقه بالشيخين - وحكما بعدمِ صحّتها، وبأنها من شواذّ الأخبار».

[انتبه أخي القارئ].

وسواءٌ رجّح الأصوليون عدمَ صحّة جميع ما في الكتب الأربعة الأصول، عن المعصومين، أم رجّح الأخباريّون صحّة صدورها عنهم؛ فلسنا الآن بصددِ دراسة ذلك في هذا المنشور!

إنما غرضنا أن نبيّن؛ بأنّ الشيخ المفيدَ من أوائلِ من نقدَ بعض أحاديثِ «الكافي» و«الفقيه» لكنّ وضع قواعدَ تؤصّل لعلم دراسة الحديث «النقد» كان متأخّراً جدّاً، حتى إنّ بعض علماء الإماميّة نصّ على أنّهم أخذوا علوم دراية الحديث عن المحدّثين من أهل السنة!

ختاماً: ممّا تقدّم يظهر أنّ نقدَ الحديثِ عند الشيعة الإماميّة تأخّر قروناً كثيرةً، وكانوا قد بنوا عقائدهم وأصولهم وفقههم، قبل أن يقوم نقّاد الحديث بتمييز صحيح الرواياتِ من سقيمها!

ولهذا يصعبُ على كثيرٍ من العلماء المعاصرين تجاوزُ ما قرّره العلماء المتقدّمون من الغلوّ والتعصّب ومبدأ ضرورة مخالفة الآخرين، من غير الإماميّة!

بل إنّ كثيراً من متأخّري الإماميّة، مثلِ الحرّ العامليّ؛ رفضوا عمليّةَ «نقد الحديث» وتقسيم الحديث إلى «صحيح وحسن وموثّق وضعيف» وزعموا أنّ جميع روايات الكتب الأربعة قطعيّة الصدور عن المعصومين!

وسيأتي الكلام على الكتب الأربعة في موضعه، إن شاء الله تعالى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الجمعة، 17 يونيو 2022

 التَصَوُّفُ العَليمُ (18):

فَوائدُ زيارةِ قُبورِ الأَئمّةِ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سأني أحد الإخوة عن الفوائد التي يجنيها المسلم، عند زيارة قبر الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو زيارة الإمام عليٍّ، أو زيارةِ أيّ إمامٍ آخر من أئمة آل البيت، وغيرهم من الصالحين، رضي الله عنهم؟

وطلب أحدُ الإخوة على العام - فيما أظنّ - أن أذكرَ الفوارق الشعوريّة بين زيارة مرقدِ هذا الإمام أو ذاك!؟ أظنّ هذا ما طلبه على العام، والله المستعان!

أقول وبالله التوفيق:

سأجيب على هذين السؤالين بفقراتٍ موجزة، والله الموفق والمعين:

أوّلاً: زيارةُ مرقد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو زيارة مرقد الإمام عليٍّ، أو زيارةِ مرقدِ أيّ إمامٍ آخر من أئمة آل البيت، أوغيرهم من الصالحين، رضي الله عنهم؛ ليست بفريضةٍ من فرائض الإسلام الظاهرة.

فمن شاءَ؛ زار، ومَن لم يشأ؛ فلا تثريب عليه.

ثانياً: ليس هناك أيّ دليل شرعيٍّ ينهى عن زيارة القبور، حتى قبور الكافرين!

ثالثاً: ثبتَ في السنة توجيه الناسِ إلى زيارة القُبور، فقد أخرج الإمام مسلم في الجنائز (977) وكثير من المصنفين، من حديث بُريدةَ بن الحُصيبِ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، فزوروها، فإنها تذكّر بالآخرة)

أخرجه الترمذيّ في الجنائز (1054) وهذا لفظه، وقال: «في الْبَاب عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري، وعبدالله بن مسعودٍ، وَأَنَس بن مالكٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، رضي الله عنهم.

وحَدِيثُ بُرَيْدَةَ؛ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، لَا يَرَوْنَ بِزِيَارَةِ الْقُبُورِ بَأْسًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَقَ».

فمن زار القبورَ؛ فقد اتّبع خُطواتِ الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليس بمبتدعٍ، ولا عابدٍ للقبور.

رابعاً: ليس من الشرك ولا الكفر ولا الردّة؛ تقبيلُ القبر، أو التمسّحُ به، أو الطوافُ حوله؛ لأننا نطوف حولَ الكعبة - وهي حجارة - لا نطوف حولها لأنّ فيها أنبياء أو صالحون، فالطواف بحدّ ذاته؛ ليس شركاً، ولا ردّةً عن الإسلام، لكنّه غير مشروع!

متى يُصبحُ مظهراً من مظاهر الشرك؛ عندما يعتقد المقبّل، أو الطائف، أو المتمسّح أنّ ما يفعله عبادةً، يتقرّب بها إلى صاحب القبر، أو يتقرّب بها إلى الله تعالى؛ لأنّ العبادة توقيفٌ من الشارع، والشارع لم يأذن بهذه العبادة.

خامساً: زيارةُ قبور الأنبياء والأئمة والصالحين؛ تعني الولاءَ لهؤلاء الأنبياء والأئمة، والرضا بمنهجهم في الحياة، وسلوكهم في التقرّب إلى الله تعالى.

وتعني إعلانَ حبّ الزائر لهم في الله تعالى؛ لأنهم كانوا يحبّون الله تعالى، وهو يحبهم لصلاحهم وكمال عبوديتهم.

خامساً: من زارَ الرسولَ أو الإمامَ أو الصالح، وهو يعتقد أنّ واحداً منهم - وهو داخل قبره - يستطيع أن يشفيه، أو يرزقه، أو ينجِحُ مطالبَه بقدراته الذاتية؛ فقد أشرك بالله تعالى.

عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سألت الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم:

أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟

قَالَ الرسول: (أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا، وَهُوَ خَلَقَكَ) أخرجه البخاري في التفسير (4477) ومسلم في الإيمان (86) والترمذي في التفسير (3183) وقال: حسن صحيح.

أمّا من زار هذا القبر أو ذاك، وقد شهد أربعون من أهل الإسلام أنّ صاحب القبر من أهل الجنّة، ثم توسّل إلى الله تعالى به؛ فقد صنع الصوابَ، ولا شيءَ عليه البتة!

سادساً: زائرُ القبرِ - أنا وغيري - تعتريه أحوالٌ يكون فيها ساميَ الروحِ، صحيحَ العبادةِ، كثيرَ الطاعةِ والذكرِ لله تعالى، وتعتريه أحوالُ فتورٍ عن الطاعات، وربما تعتريه أحوالُ معاصٍ وذنوبٍ صغيرة أو كبيرة!

فشعوره لدى زيارة قبر الصالح؛ ستختلف بالتأكيد على حسب أحواله التي ذكرتها.

سابعاً: أنا ليس مأذوناً لي أن أتحدّث عن أحوالي القلبيّة والروحيّة، وقد عوقبتُ عقوباتٍ كثيرةً لأجل هذا، وذكرت ذلك علانيةً، ثم يأتي بعضكم، فيتفلسف، ويقودني إلى المخالفةِ من جديد!

وسأقول في هذا المنشور شيئاً مفيداً، الله وحده شاهد عليه، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم شاهده أيضاً.

لكنْ أيّ واحدٍ يسألني عن شيء من هذا مستقبلاً؛ سأحظره والله، لو كان ولدي!

اتّكلوا على الله تعالى، ثمّ على أعمالكم، ولا تركنوا إلى تجارب الآخرين؛ فإنكم لن تنالوا حسنةً واحدةً من حسناتهم، إذا كانوا محسنين!

أحدُ أولاد عداب الحمش - حفظه المولى ورعاه - ظهر في وجهه وجسمه عندما سكّنا الطائف دماملُ كثيرة، منها متقيّح، ومنها غير متقيّح، ونحن أسرة نظيفةٌ جدّاً!

أصررت على أنّ تحمّمه والدته كلَّ يوم، لكنّ الولد لم يتحسّن أبداً!

كان لي صديقٌ في مشفىً راقٍ خاصٍّ، افتُتح حديثاً، تحت عنوان «مستشفى الأمين».

أخذت الطفل إلى مشفى الأمين، وأجرينا له الفحوص المطلوبةَ، فظهر أنّ لديه ثقبين في القلب (البُطين، ومكان آخر نسيت أين).

أخذت الطفل إلى مشفىً حكوميّ عام، وكان فيه تلميذ لي، فأجرى له الفحوص اللازمة على مدى أيّام، فظهرت النتيجةُ مطابقةً لنتائج مشفى الأمين!

وأنا الفقير لديّ عُقدةٌ من المشافي العامّة، فرجعت إلى مشفى الأمين، واتّفقنا على أجر عمليّة القلب، قدرها (15000) ريال سعودي، مع تخفيض (50%) لأجل عداب!

واتّفقنا على أن أعطيهم مقدّماً خمسة عشر صكّاً مصرفيّاً، في كلّ صكٍّ ألف ريال؛ لأنني قطعاً لم أكن أملك (2000) ريال!

حدّد المشفى موعدَ العمليّة، ووعدتهم بإحضار الصكوك يوم العمليّة، وانصرف إلى بيتي.

وأنا في الطريق إلى البيت؛ راودتني فكرةُ القيامِ بعمرةٍ أنا وزوجتي، رجاء أن تنجح العلميةُ الخطرة تلك!

وافقت زوجتي على ذلك، وانطلقنا مباشرةً من الطائف إلى مكة المكرّمة، وأدّينا مناسك العمرة، وطُفنا للوداع، وخرجنا من بيت الله الحرام لنعودَ إلى الطائف!

قلت لزوجتي: أنا سأذهب إلى المدينة المنورة الآن، فإمّا أن تذهبي معي، أو أتركك الليلةَ في بيت أحد ثقات الحمويين في مكة المكرمة؟!

قالت: بل أذهب معك، فأنا مشتاقة لزيارة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وزيارة ستّنا فاطمة الزهراء عليها السلام.

وانطلقنا بعد صلاة العشاء - في غالب الظنّ - إلى المدينة المنوّرة.

زرنا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأمّنا فاطمة في حجرتها، وزرنا باب البقيع؛ لأنه كان مقفلاً.

دعوتُ الله تعالى بما فتح الله به عليّ، وناجيت الرسولَ، وطلبت منه الشفاعة لدى الرحمن الرحيم.

 ورجعنا في طريق مكة المكرمة، حتى وصلنا أبيار عليّ، فأحرمنا بعمرة  ثانيةٍ، وأديناها بعد وصولنا إلى مكة المكرمة، ثم انطلقنا، فأصبحنا في بيتنا في الطائف!

ذهب الطفلُ إلى مدرستِه، ثم رجع يلعب ويقفز ويزعجُ أهل البيت!

عندما رجعتُ من الجامعة؛ سمعت صوتَ والدته تصرخ عليه، فأنبتها لعلوّ صوتها!

قالت أمّ محمود: يبدو أنّ العمرة والزيارة نفعت، انظر إليه غدا مثلَ الشيطان!

في اليوم التالي، أو الذي بعده؛ اتصلت بتلميذي في المشفى العام، وقلت له: إني خائف من هذه العملية كثيراً، فهل يمكن أن تعيدَ لي فحص الدم والتصوير الطبقي المحوري فحسب!؟ قال: على الرحب والسعة!

أجرينا للولد فحوصات عديدةً للدم، وصوّرناه التصوير الطبقى المحوريّ، فخرج تقرير طبيب الأشعة، وتقرير فحوص الدم إيجابيّاً، ليس في القلب أو الدم أيّ شيء مؤذٍ!

حملت التقارير والأشعة الجديدة، وأبقيتها في السيارة، وذهبت إلى مشفى الأمين، الذي سيُجري العملية لولدي، فقلت لهم ما قلته للمشفى العام: أنا خائف من هذه العملية، فأرجو إعادة إجراء الفحوص اللازمة.

قال لي مدير المشفى ومالكها: يا دكتور أنت هاوٍ دفعَ فلوسٍ إضافيّة، هاته في موعد العميلة وتوكّل على الله، ولا تخف، فقد أجرينا عمليّات كثيرةٍ مشابهة!

لكني أصررت ودفعت لهم التكاليفَ نقداً، فقاموا بإجراء الفحوصات، فجاءت نتائجها مطابقةً لنتائج المشفى العام!

أعاد مشفى الأمين تحاليل الدم والتصوير، مرّةً أخرى، فجاءت النتائج ممتازة، ليس فيها أيّ شيء مؤذٍ!

فأراد الرجل أن يُعيد إليّ جميعَ النقودِ التي دفعتها للمشفى؛ لأنّ تشخيصهم كان خطأً، واعتذر الرجل!

فتبسّمتُ وقصصتُ عليه القصةَ، فسرّ سروراً كثيراً، وأصرّ على أن يعيد إليّ ما دفعته إليهم في ذلك اليوم.

ولدي، والحمدُ لله تعالى لا يشكو من شيءٍ البتّة، وقد تزوّج وله أولاد، وهو يدرس ويعمل.

بعد أعوام كثيرة؛ أغواني الشيطانُ والنفس الأمّارة بالسوء؛ فوقعت في مخالفةٍ شرعيّة، لا يختلفُ المسلمون جميعاً على حرمتِها، إنما يختلفون: أهي من الكبائر، أم من الصغائر؟ ومع إغواء الشيطان؛ وقعتُ بها عدداً من المرّات !

وحتى لا يذهب خيالُ بعض القرّاء بعيداً؛ ليست هي بالشرك ولا السحر ولا السرقة ولا الزنا ولا اللواط، ليست من هذه المذكوراتِ بسبيل!

دعاني الشيخ صالح كامل - رحمة الله عليه وغفرانُه - إلى جدّة، لحضور مؤتمرٍ أو ندوةٍ لا أذكر، فحضرت.

ثمّ سافرتُ إلى المدينة لزيارة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنا مرعوب!

طيلةَ الطريق، كنت أستغفر الله وأتوب إليه (100) مرّة، وأصلي على الرسول (100) مرة!

عندما دخلتُ إلى المسجد النبويّ؛ شعرتُ بأنني مرفوضٌ تماماً من الرسول الكريم!

صليت في الروضة الشريفة ركعتين، ثم اقتربت من الحجرة الشريفةِ، فنهرني الشرطيّ الواقف عند القبر، وأبعدني!

وقفت في ركن زاوية المسجد أعتذر وأتوب وأتوسل، لكن من دون فائدة!

جاءني واردٌ قلبيّ أن انصرفْ، وإلّا ستُفتَضح!

خرجتُ من أيّ بابٍ لا أدري، وأين وضعتُ حذائي؛ لا أدري!

شاهدتُ أمامي ساحة كبيرةً جدّاً جدّاً، رخامها أبيضَ، فظننته بارداً مثلَ رخام الحرم المكي الشريف!

فقلت في نفسي: أمشي إلى آخره، ثم أخرج من الباب المقابل، وأشتري حذاءً ألبسه!

مشيتُ على الرخام الأبيض فعلاً خطوتين، ثلاثاً، خمساً، وإذا بالبلاط  يغلي بدرجة حرارة لا تقل على (1000) درجة في شعوري!

وكنت كلّما مشيت خطوةً أخرى يزداد الشعور بالحرارة، حتى إنني عشتُ الحديث الذي أضعّفه (في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه) فقد كان دماغي يغلي فعلاً، وغدوتُ مثل الحمارَ الذي يدور في الرحا، لا أدري ماذا أفعل، ولا إلى أين أتوجّه!

استمرّت الحال هكذا، حتى أيقنت بالموت، وأنا أردّد الشهادتين والتوبة!

ثم جلست على الأرض، فجعلت مقعدتي تغلي أيضاً، واستسلمتُ للموت!

لا أدري كم الوقت الذي قضيته شبهَ مغمىً علي في تلك الساحة الجميلة جدّاً، لكنها كانت عليّ جهنمّ!

ثمّ جاء شرطيّان ومعهما حذاء، فساعداني حتى وقفت على قدمي، وأخرجاني خارج ساحة المسجد هذه!

بيد أنني لم أستطع المشيَ، فقد نضجت قدماي، وانتفختا، فاتّصلت بأحد الإخوة من سكان المدينةِ المنوّرة، فجاء وحملني إلى المشفى، وداووا لي قدميّ، وقد بقيت أكثر من شهرٍ لا أستطيع المشيَ عليهما.

ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم؛ لا أرى الرسولَ أو أحداً من أجدادي عليه وعليهم أكمل الصلاة والسلام، في حالٍ طيبة، أو في وقتِ سرور أبداً!

إنّما أراهم، أو أرى بعضهم إذا وقعتُ في خطأٍ أو ذنبٍ، ليقوموا بتعنيفي أو ضربي، كما حدث معي في رمضان المبارك، من السنة الماضية (1442 هـ).

ختاماً: ظهر لكم إخواني الأكارم  أنّ زيارة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تنفع، أم لا تنفع؟

وزيارةُ مراقدِ أجدادي الأئمة، وزيارة مراقد الصالحين، رضي الله عنهم؛ لها فوائد وآثارٌ فوريّةٌ أو مستقبليّة، لكنّها معي فوريّة، في أكثر الأحيان!

والله تعالى أعلم.

وأستغفر الله وأتوب إليه.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.