مَسائل حديثية (18):
حديث غلبة الرحمة على الغَضب !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا،
وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا،
وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ،
وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ أحد الإخوة الأحباب يسأل عن حديث أبي سعيد الخدري) رضي
الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:
(ما خلق الله شيئاً، إلا جَعل له ما يغلبُه، وجعلَ رحمتَه تَغلِبُ
غَضبَه).
أورده صاحبُ قوت القلوب، من رواية عطاء بن يسار، عن أبي سعيد
الخدريّ مرفوعاً.
أقول وبالله التوفيق:
هذا الحديثُ أورده أبو طالب المكي في كتابه «قوت القلوب» (1:
366) والغزالي في إحياء علوم الدين (1: 366) غيرَ معزوٍّ إلى مصنّف.
وفي
تخريج أحاديث الإحياء (5: 2197) قال الحافظ العراقيّ: «رواه أبو الشيخ في كتاب
الثوابِ، وفيه عبدُالرحيم بنُ كردم، جَهّله أبو حاتمٍ، كما في الجرح والتعديل (5:
339) وقال الذهبيّ في الميزان (2: 606): ليس بِواهٍ ولا هو بمجهول».
وترجمه
في تاريخ الإسلام (4: 438) وقال: «قال أبو حاتم: هُوَ مَجْهُولٌ.
يَعْنِي أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَدَالَةِ عِنْدَهُ، مَا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ حُجَّةٌ».
وقال ابن حجر في اللسان (4: 7): «قال في الوهم والإيهام (4: 18)
قال أبو حاتم: مجهول.
ثم قال أبو الحسن ابن
القطّان: فإنظر كيف عرفه برواية جماعة عنهم ثم قال فيه مجهول، يعني: مجهول الحال.
قال ابن حجر: وذكره ابن حبان في الثقات (7: 133) وقال: كان
يخطىء، وقال أبو أحمد الحاكم «في الكنى»: لا يُتابَع على حديثه».
قال عداب: يلاحظُ القارئ الكريم أنّ هؤلاء المحدّثين الكبار؛
كرّسوا عنايتهم إلى نقد إسناد الحديثِ، حتى أوصلوك إلى قناعةِ أنّه إسنادٌ ضعيف،
ليس بحجّة!
ولم يتطرّقوا إلى شيءٍ مما يخصّ متنَ الحديث!
فيأتي مَن يريد الحطَّ من قدر الحديثِ، فيقول: إنّ المحدّثين لا
يُعنَوْن بنكارة متون الأحاديث!
وهذا خطأٌ من قائله، سببه قلّةُ ممارستِه لمناهج المحدّثين.
إنّ بعضَ المحدّثين من غير أهل السنّة، يقول: إسناده ضعيف،
إسناده مجهول، في إسناده كذّاب، ثمّ يذهب فيتكلّم على متنِ الحديث، ويستنبط منه
استنباطاتٍ غريبةً ذكيّة، وقد يتحدّث عن نكارة الحديثِ، إذا كان يخالف هواه!
بينما لا يتكلّف نقّاد أهل السنة الحديثَ عن متن الحديثَ، ما
دام إسناده غير حجّة؛ لأنه اشتغالٌ بما لا فائدة منه.
لكن من باب مُجاراةِ السائدِ في أيّامنا النحِساتِ هذه؛ أقول:
ما دام الحديث ضعيفاً؛ فلا حاجة بنا إلى تكلّف شرح ألفاظه.
لكن جملة (وجعلَ رحمتَه تَغلِبُ غَضبَه) هي ذاتها عند البخاري
(3194) ومسلم (2751) من حديث أبي هريرة؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله
وَسَلَّمَ قال:
(لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ
عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ:(إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي).
هذا لفظ مسلم، ولفظ البخاريّ هنا (إِنَّ رَحْمَتِي غَلبَتْ
غَضَبِي).
وفي لفظ آخر عند البخاريّ (7422) ومسلم (2751): (إِنَّ
رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي).
وعندي أنّ الرحمة والغضب؛ صفتا فعل لدى الرحمن الرحيم، وليستا
صفتين ذاتيّتين.
إذ المقصودُ من الرحمة؛ إيصال الثواب والسعادةُ إلى المكلّفِ،
والمقصودُ من الغضبِ؛ إيصال العذاب والعقاب العادلِ إلى الكافر والمنافق.
والله سبحانه يتعالى عن الانفعالاتِ النفسيّة ومؤثّراتها في
ذاته العليّة.
وحين راح ابن حجر في فتح الباري (9: 540) يشرح الحديثَ؛ قال:
والمراد من الغضب لازمه، وهو إيصالُ العذابِ إلى من يقع عليه الغضب!
وبناءً على أنّ الرحمةَ والعذاب، من صفات الأفعال؛ لا مانع من
تقدّم بعضها على بعض، لكن ما الفائدة المجنيّة من سبقِ الرحمةِ الغضبَ، أو من غلبة
الرحمةَ الغضبَ من دون تكلّف التأويل؟
وإذا نحن عددناها من صفات الذات، فكيف يسبق بعضها بعضاً، أو
يغلب بعضها بعضاً آخر!
فأنا الفقير أرى حديثي أبي سعيد الضعيف، وحديث أبي هريرة
المصحّح، كليهما منكرين، وقد قدّمت في غير ما موضع من أبحاثي وكتبي؛ أنني أتوقّف
في كلّ حديث حديثٍ ينفرد به أبو هريرة، وفي كلّ حديثٍ ينفرد به أبو سعيد؛ لأمورٍ
تتعلق بضبط أبي سعيدٍ، وتتعلّق بعدالة أبي هريرة وضبطه معاً.
وسأترجم لأبي هريرة ترجمةً علميّة نقديّة، وسأترجم لأبي سعيدٍ
ترجمةً علميّة نقديّة أيضاً، فأنا أنفي صفة الضبط التامِّ عن أيّ بشرٍ سوى رسول
الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعد قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ
فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه (7) [الأعلى]
وقوله العظيم (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ
بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) [القيامة].
والصحابةُ ليسوا أفضلَ ضبطاً ممن بعدهم من العلماء إطلاقاً؛
لغلبة الأميّة عليهم.
كما أنّهم مجتمع بشريٌّ متنوّع، ومتفاوت الكمالات، وإضفاء صفة
العصمة التطبيقيّة على صفاتهم وسلوكياتهم؛ من الباطل الواضح، الذي كرّسته السلطة
الأمويّة؛ لئلّا تحاكَم أقوال القلّة من الصحابة
الظلمة والمنافقين.
وهذا ما نجده اليوم شائعاً بيننا شيوعَ الاستفاضة والتواتر، فمن
يوجّه أيّ نقدٍ لموقف واحدٍ من الصحابة؛ يُشنّع عليه، وقد يكفَّر!
وهذا من أبطل الباطل، وسنبيّنه في مباحث علميّة مفردة!
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا
وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه
وسلّم تسليماً
والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق