الخميس، 25 مايو 2023

  مَسائل حديثية (34):

أبو الحَسنِ الكَرَجيُّ من هو ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحدُ طلّاب العلم يقول: «قرأتُ لأحدِ علماء الوهّابيةِ الكلامَ الآتي:

«قال الإمامُ أبو الحسن الكرَجيّ - من علماء القرن الخامس الهجريّ - ما نصّه:

«لم يزل الأئمة الشافعيّةُ يأنفون أن يُنسبوا إلى الأشعريِّ، ويتبرّؤون مما بنى الأشعريّ مذهبَه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحَوْمِ حوالَيْه».

فردّ عليه عالم أشعريّ بقوله: «من اعتمد على الشيخ الحرّاني - ابن تيمية - وتلميذه ابن القيّم في نقل أقوال الناس ومذاهبهم؛ فقد بنى بناءَه على جُرُفٍ هارٍ!

وذلك لأنّ هذا الكلامَ مكذوبٌ على الكَرَجيّ، كما نصّ على ذلك الحافظُ عبدالوهّاب السبكيّ، رحمه الله تعالى، في طبقات الشافعية (6: 140 - 146).

والكَرَجيّ هذا؛ شِبهُ مَجهولٍ عند الشافعيّةِ، وليس هو من أئمّتهم البتّة»!

وقد رجعتُ إلى الموضوعِ الذي أشار إليه العالمُ الأشعريُّ، وقرأته غيرَ مرّةٍ، فلم أفهم أنّ الرجل مجهولٌ!

فأرجو أن توضّح لنا الحقيقةَ في حال هذا الكَرَجيّ، وفي نسبة هذا الكلام إليه، فأنت من أهل الاختصاص بالجرح والتعديل والتراجم، وشكراً لكم».

أقول وبالله التوفيق:

لم يذكر السائلُ مَن هذا الوهّابي الناقلُ عن ذاك الكَرَجيّ، كما لم يذكر اسمَ العالم الأشعريّ، ولم أتذكّر شيئاً من هذا الموضوع!

بيد أنّ ما لفتَ نظري من الوهلةِ الأولى في سؤاله؛ أن السبكيّ ترجم الرجلَ في صفحاتٍ عديدة (6: 140 - 146) فإنْ كان النقلُ صحيحاً؛ فمن المستبعد جدّاً أن يترجم السبكيّ لمجهول في طبقات علماءِ الشافعيّة، ومن غير المتصوَّر أن يُترجم له في ستّ صفحات!

فلنذهب معاً إلى طبقات الشافعيّة (6: 140 - 146) لنقف على حقيقة الأمر.

رجعتُ إلى الموضِع ذاته، ثمّ رجعتُ إلى بدايةِ الترجمة في الطبقات (6: 137) فوجدت ابن السبكيّ قال: «مُحَمَّد بن عبد الْملك بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد الكَرَجيّ - بِالْجِيم - أَبُو الْحسن بن أبي طَالب، ولد سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة.

وَسمع الحَدِيث من مكي بن عَلان الكرجي وَأبي الْقَاسِم عَليّ بن أَحْمد بن بَيَان الرزاز وَأبي عَليّ مُحَمَّد بن سعيد بن نَبهَان الْكَاتِب وَأبي الْحسن بن العلاف وَغَيرهم.

روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَجَمَاعَة»

أقول: قول ابن السبكيّ: «روى عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ وَأَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ وَجَمَاعَة» يزيل عنه جهالةَ العين اتّفاقاً!

تابع ابن السبكي كلامه (6: 138) قائلاً: «صنّفَ تَصانيفَ فِي الْمَذْهَب وَالتَّفْسِير، ووقفت لَهُ على كتاب «الذرائع فِي علم الشَّرَائِع» سأذكر مِنْهُ مسَائِل إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَالَ «تلميذه» ابْن السَّمْعَانِيّ فِيهِ: «أَبُو الْحسن من أهل الكَرَج، رَأَيْته بها.

إِمَامٌ، ورعٌ، عَالمٌ، عَاقلٌ، فَقِيهٌ، مُفْتٍ، مُحدّث، شَاعِرٌ، أديبٌ، لَهُ مَجْمُوع حسن!

أفنى طول عمره فِي جمع الْعلم ونشره، وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب إِلَّا أَنه كَانَ لَا يقنت فِي صَلَاة الصُّبْح، وَكَانَ يَقُول إمامنا الشَّافِعِي رَحمَه الله قَالَ: «إِذا صَحَّ الحَدِيثُ؛ فاتركوا قولي، وخذوا بِالْحَدِيثِ، وَقد صَحَّ عِنْدِي أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترك الْقُنُوت فِي صَلَاة الصُّبْح».

وتابعَ ابن السبكيّ ترجمته حتى (ص: 146) فيكون ترجمه في عشر صفحاتٍ، فكيف يكون مجهولاً مَن هذه حاله، وتلك صفاته؟

ثمّ تفكّرت بما يمكن أن يكون شبهةً لدى ذاكَ العالم الأشعريّ في تجهيلِه، فوجدت ابن السبكيّ قال في (6: 140): «حَكَى لي وَالِدي - تقيّ الدين السبكيّ رَحمَه الله - عَن شَيْخه الدمياطي هَذَا، فَقلت لَهُ: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَلم يكن وَالِدي يَعرفُ تَرْجَمَةَ هَذَا الكرجيِّ، فَكتب عني هَذَا فِي كِتَابه «معنى قَول الإِمَام المطلبي: إِذا صَحَّ الحَدِيث فَهُوَ مذهبي» قَالَ: «قَالَ لي ابْني عبد الْوَهَّاب: إِنَّه لَيْسَ من أَصْحَاب الشَّيْخ أبي إِسْحَاق، وَلَكنّه من أَصْحَاب أَصْحَابه،  وَكَانَ يُدَرّسُ كِتَابَه «المهذّب».

فكأنّ هذا العالمَ الأشعريَّ - حين رأى الشيخَ تقيَّ الدين السبكيَّ لا يعرف الكَرَجيَّ - قال: إنّه شبه المجهول، وليس ذلك بصحيح، بل هو عالم مكينٌ ذو فنونٍ، بيد أنّه ليس أشعريّاً!

ثم قال ابنُ السبكيّ: «ثمَّ قَالَ ابْن السَّمْعَانِيّ: وَله قصيدة بائية فِي السّنّة، شرح فِيهَا اعْتِقَادَه واعتقادَ السّلف، تزيد على مِائَتي بَيتٍ، قرأتها عَلَيْهِ فِي دَارِه بالكَرَج»!

وبدأ ابن السبكيّ (6: 141) ينقل أبياتاً من هذه القصيدةِ، ويرفضها حتى شكّك في نسبة هذه القصيدةِ إلى الكَرَجيّ.

ونقل ابن السبكي منها:

وخُبْثُ مقَال الْأَشْعَرِيّ تخنّث ... يُضاهي تلَوّيه تَلوّي الشغازب

يُزيّن هَذَا الْأَشْعَرِيُّ مقالَه ... ويَقْشِبه بالسُمّ، يا شرَّ قاشب

فينفي تفاصيلاً، وَيُثبت جملَة ... كناقضةٍ، من بَعد شدّ الذوائب

يُؤوّل آيَاتِ الصِّفَات بِرَأْيهِ ... فجرأتُه فِي الدّين جرْأَةُ خارب

ويَجزم بالتأويل مِن سنَن الْهدى ... ويَخلب أَغْمَاراً، فأشْئِم بخالِب.

قال السبكي عقب هذه الأبيات:

«هَذَا كَلَامُ مَن لَا يَستحيي من الله، وَالْغَرَض على كَلَامه لائحٌ، فَإِن أهل الْبدع الَّذين هم أهل الْبدع حَقًا بِلَا خلاف بَين الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء؛ هم المجسمة والمعتزلة والقدرية والجهمية والرافضة والمرجئة، لم يشْتَغل بهم إِلَّا فِي بَيْتَيْنِ، وَأطَال فِي الأشاعرة!

وَلَا يخفى أَنّ الأشاعرةَ؛ إِنَّمَا هم نفس أهل السّنة، أَو هم أقرب النَّاس إِلَى أهل السّنة!

ثمَّ إِن قَوْله: «مقَال الْأَشْعَرِيّ تخنث» من رديء الْكَلَام، وَمن أعظم الافتراء».

وختم ابن السبكيّ ترجمةَ هذا الكرجيّ (6: 146) بقوله: «هَذَا مَا أردْت حكايتَه مِنْها، وَلَو أمكن إعدامُها من الْوُجُودِ؛ كَانَ أولى، والأغلب على الظَّن أَنَّهَا مُلفّقةٌ مَوْضُوعَة، وَضع مَا فِيهَا من الخرافات مَن لَا يستحيي!

ثمَّ أَقُول: قبّح الله قَائِلهَا كَائِنا مَن كَانَ، وَإِن يكن هُوَ هَذَا الكرجيَّ، فَنحْن نبرأ إِلَى الله مِنْهُ.

إِلَّا أَنِّي على قَطْعٍ بِأَن ابْن السَّمْعَانِيّ لَا يقْرَأ هَذِه الأبيات، وَلَا يسْتَحلُّ رِوَايَتها، وَقد بيّنت لَك من الْقَرَائِن الدَّالَّة على أَنَّهَا مَوْضُوعَة مَا فِيهِ كِفَايَة، توفّي الكرجي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة» انتهى.

قال الفقير عداب: ترجم ابنُ السمعانيّ شيخَه هذا في مادّة «كَرجي» (11: 67) فقال:

«كتبت بالكرج عن الإمام أبي الحسن محمد ابن أبى طالب عبدِالملك بن محمد الكرجي، وكان إماماً مُتقناً مُكثراً من الحديث.

وسمعت من ابنه أبي مَعْمَر وهبِ اللهِ بالكَرَج، ومن ابنه الآخر أبي معشر رِزقِ الله بن أبي الحسن الكرجيّ».

لكنّني لم أقف على ترجمته في «كتاب التحبير في المعجم الكبير» فأغلب الظنّ أنّ أحدَ النساخ حذف الترجمةَ منه، لما فيها من هجومٍ على الأشاعرة.

فالكَرجيّ إذنْ إمام متقن، ولديه ولدان عالمان، وهو من أئمّة الفقه الشافعيّ!

وترجمه الذهبي في تاريخ الإسلام (11: 578) ونقل كلامَ تلميذه ابن السمعاني، كما نقل عدداً من أبيات قصيدته.

وأرّخ وفاته في كتابه العِبَر (2: 443) ونقل كلام السمعاني وزاد: «شيخ الكَرَجِ وعالمها ومفتيها».

وذكر اسم قصيدته «عقيدة أصحاب الحديث» في كتاب العرش (1: 409) وقال في موضع آخر منه (2: 438): «وموجود منها الآن «عقيدة أصحاب الحديث» نُسَخٌ، من بعضها نُسخةٌ بخطّ الشيخِ تقيّ الدين ابن الصلاحِ، على أولّها مكتوب: هذه عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، بخطّه رحمه الله.

ختاماً: أنا الفقير لست وهّابيّاً، ولست سلفيّاً، ولست حنبليّاً، ويشهد الله على لساني وقلبي أنني كتبتُ إلى شيخي عبدالعزيز ابن باز، وقلتُ له مواجهة: يا سماحةَ الشيخ: «أنا لست حنبليّاً في الصفاتِ ولا في الفقه»!

بل أنا الفقير لست معجباً بسلف الحنابلةِ جميعهم، مهما كبرت أسماؤهم لديهم، ولا أرى نفسي محتاجاً إلى أحدٍ منهم بشيءٍ!

كما أنني لستُ في الصفاتِ أشعريّاً أيضاً، بل أنا مؤوّل مطلقاً أؤوّل الوجه واليدَ واليدين والعين والأعين، وسائر تلك الإضافات التي يسمّونها صفاتٍ!

والله لا يضحك، ولا يتبشبش، ولا يهرول، ولا ينزل ولا يصعد، ولا يئطّ به العرش، ولا يجلس عليه، ولا يَفضل منه مقدار أربع أصابع، أو أكثر، واستواؤه على العرش؛ معناه تمامُ ملكه وملكوته، تعالى الله عن هذه المعتقداتِ علوّاً كبيراً.

سواء اعتقدها السلف، أم اعتقدها الخلف، فلست أنا ملزماً باعتقاداتٍ أراها تشبيها وتجسيماً صارخين!   

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 21 مايو 2023

 مَسائل حديثية (33):

اقتدوا بأبي بكر وعمر !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

في منشور مسائل عقديّة (7) ذكرتُ عدداً من الأحاديثِ الضعيفةِ، التي خرّجتها سابقاً في منشوراتٍ متخصّصة، لكنّ عدداً من الإخوةِ استغرب حكمي عليها بالضعف، إمّا لأنه جديدٌ على صفحتي، أو لأنّه قرأ تلك المنشوراتِ قراءةً عابرةً، أو لأنّه لم يقرأها أصلاً، وكلّ ذلك وارد!

وسأقوم بتخريج تلك الأحاديثِ تِباعاً، باختصارٍ شديد، موضحاً حكمي على كلّ حديث!

بإسنادي إلى الإمام الترمذيّ في كتاب المناقب، باب مناقب أبي بكر وعمر (3662) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّارُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) وأخرجه أحمد في مسنده (23245).

قال أبو عيسى: وَفِي الْبَاب عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ، وهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ

قال عداب: بل إسناده منقطع؛ لأنّ عبدالملك بن عمير؛ لم يلقَ ربعيَّ بن حراش!

وقد بيّن الترمذي علل هذا الحديث فقال:

«وَرَوَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مَوْلًى لِرِبْعِيٍّ عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وهو عند أحمد في مسنده (23267).

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ قَالُوا حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ نَحْوَهُ.

وَكَانَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ يُدَلِّسُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَرُبَّمَا ذَكَرَهُ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِالْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَرُبَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ عَنْ زَائِدَةَ.

قال عداب: لا يُهمّ تدليس ابن عيينة هنا كثيراً؛ لأنّ علّة الحديثِ أكبر من التدليس!

وَرَوَى هَذَا الْحَدِيثَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ هِلَالٍ مَوْلَى رِبْعِيٍّ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» وهو عند أحمد في مسنده (23419).

وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ أَيْضاً عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

رَوَاهُ سَالِمٌ الْأَنْعُمِيُّ - كُوفِيٌّ - عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ» انتهى كلام الترمذيّ.

والسطر الأخير من كلام الترمذيّ فيه سقطٌ - فيما يترجّح لديَّ - تصويبُه من مسند الإمام أحمد في مسنده (23386) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا سَالِمٌ الْمُرَادِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ هَرِمٍ الْأَزْدِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ المدائنيّ، ورِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، مرفوعاً نحوه.

قال عداب: سالم بن عبدالواحد الأنعمي: ضعيف.

وأبو عبدالله المدائنيّ مجهول!

خلاصةُ الحكم على الحديث: طرقُ حديث حذيفةَ، كلّها ضعيفةٌ، لا تصلح للحجّية!

وإنما حسّنه الترمذيّ لورود شاهدٍ ضعيفٍ له، أخرجه عقب حديث حذيفة.

وانظر كلاماً مفيداً في تحفة الأشر اف للمزيّ (3: 28).

عقب حديث حذيفة، برقم (3805) قال الترمذيّ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَعِيلَ بْنِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي، مِنْ أَصْحَابِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ ابْنِ مَسْعُودٍ).

قَالَ الترمذيّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَيَحْيَى بْنُ سَلَمَةَ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ».

في مطبوعة أحمد شاكر: «حسن غريب» وهو خطأ، والتصويب من تحفة الأشراف للمزيّ (7: 73).

قال عداب: ضعيف + ضعيف = حسن!

ضعيف + مجهول = حسن!

هذا ترقيع هزيلٌ، ليس له أدنى قيمةٍ عندي، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بالفضائل، التي كان يُقصد منها تقريبُ بعض الصحابةِ من قلوب المسلمين!

بينما أصبح المسلمون يوالون ويعادون عليها، ويبغض بعضهم بعضاً من أجلها، وربما اقتتلوا فيما بينهم أيضاً !

لهذا فأنا لم أعُدْ أتساهل في أيّ نوعٍ من أنواع الأحاديث: الفضائل، والتفسير، وأشراط الساعة، والترغيب والترهيب، وغيرها.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.


  قَريباً مِن السياسةِ (16):

التَرويجُ لأردوغان لماذا ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

كتب إليّ عددٌ من الإخوة يقولون: ليس من مصلحةِ السوريين أن يتدخّلوا في الشؤون الداخليّة لتركيّا وغير تركيّا؛ لأنّ أهل البلادِ يرفضون ذلك من جهة، ولأنّ مصلحة السوريين في غربتهم وتشريدهم؛ تقتضي ذلك!

أقول وبالله التوفيق: كتبت منشوراً سابقاً، أبرزت فيه لماذا يُفضَّل أن لا نتدخّل في شؤون البلاد الأخرى!

بيد أنّ عدداً من الإخوةِ والأخواتِ، طلبوا مني بيانَ الموقفِ الشرعيّ من مسألةِ اختيارِ أيٍّ من المرشّحِين لرئاسةِ تركيا، فهل يسعني السكوت؟

نحنُ في تركيا اليومَ الأحد (21/ 5/ 2023) أمامَ فسطاطَين لا ثالثَ لهما:

- فسطاط ينادي بالقرآن والإيمان والإسلام!

- وفسطاط ينادي بالعلمانية والتبعيّة للغرب الصليبيّ!

فريق يصومون ويصلون ويزكون ويحجون، ويمتنعون عن الزنا والخمرة والمحرمات.

ونساؤهم يرتدين الحجاب، ويلتزمن العفاف، ويؤدين العبادات!

وفريق ينصرون الشذوذ الجنسيّ والعشق والخمور والسفور وممارسة الحياة اللاهية!

فـ(أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا).

ليس هذا فحسب!

الأهمّ من هذا هل يجوز للمسلم أن يواليَ وينصرَ الذين يشجّعون على مبارزةِ الله تعالى بالمعاصي، فضلاً عن الإلحادِ الكامنِ في الدعوات العلمانية الغربية؟

(أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ)؟

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ؟..سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ).

(أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً؟.. لَا يَسْتَوُون).

ألا هل بلّغت؟

اللهم فاشهد.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 20 مايو 2023

 مَسائل حديثية (32):

هل بلال سيّد الأمّة ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

طلب مني أحدُ الإخوةِ شرحَ حديثِ عمر بن الخطّاب (أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدنا بلالاً)!

قلت له: في ذاكرتي أنني كتبت منشوراً منذ سنواتٍ في تخريج هذا الحديثِ وشرحه، فابحث عنه!

رجع إليّ يقول: لم أجد لدى أحدٍ علماً عن هذا الحديثِ، وقال لي أحدهم: إن كان الشيخ كتب شيئاً حول الحديث؛ فقد ضاع في صفحته السابقة!  

فوجدت نفسي مضطراً لأن أبحث عن ذاك المنشور، فوجدته ضمن منشوراتِ عام (2017م) فلا أدري هو من منشورات تلك السنة، أم من غيرها؟

وإليك المنشور السابق الذي نشرته يومها تحت سلسلة (نصائح الطالبين):

بلال سيّد الأمّة ؟!

كتب إليّ يقول: «شيخنا... من المسلّمات عند أهل السنّة أنّ ترتيب الراشدين من الصحابة في الفضل؛ على حسب ترتيبهم السياسيّ، لكنّ سيّدنا عمر جعل بلالاً الحبشيَّ سيّد الأمة، فهل هذا الحديث صحيح؟

وكيف يستقيم هذا، وأهل السنة لا يذكرون بلالاً حتى بين العشرة المبشرة بالجنة)؟

أقول وبالله التوفيق:

حديثُ البابِ؛ أخرجه البخاريّ في مناقب بلال بن رباح (3754) من حديث

مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قال: أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِالله الأنصاريّ رَضِيَ الله عنهُمَا قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: (أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا) يَعْنِي بِلَالًا!

ومن حديث جابر؛ أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (31966) وابن شبّة في تاريخ المدينة النبوية (3: 838) والخرائطي في المكارم (263) والحاكم في المستدرك (5239) وقال: صحيح، ولم يخرجاه، وأخرجه البخاري كما ترى.

ومحمد بن المنكدر من أفاضل أهل زمانه عبادة وتقوى وعلماً، وروايته عن جابر في الكتب الستة وغيرها.

وقد رُوي هذا الحديث متّصلاً ومنقطعاً، ورجّح الدارقطنيّ في العلل (139) المتّصل.

وروي من حديث عائشةَ عن عمر، أخرجه الترمذي في جامعه (3656) وقال: حسن صحيح غريب!

وأقول: إنّ إتقانَ فنونِ اللسان العربيّ، وأساليب القول عند العرب؛ هو الأساس في الفهم الصحيح لدين الإسلام، بعيداً عن التناقض والاضطراب!

انظُرْ إليّ مثلاً، أخاطب زميلي بقولي: مولانا الشيخ فلان، سيدنا الشيخ فلان.

وزميلي يخاطبني بمثلِ تلك الصيغ أيضاً!

فإذا لم يكن عقلك يستوعبُ سوى ظاهر اللفظ؛ فلن تفهم أنّ هذه العباراتِ كناياتٌ عن الاحترام والتواضع وهضم النفس والعرفان والاعتراف بالفضل لأهله، وليس المقصودُ منها أنّ زميلي الشيخَ فلاناً مولايَ، يعني يملكني، ولا أنه سيّدي أو سيّدنا؛ وأنه أفضل مني، وأنني رقيق على باب داره!

نعم عمر كان يرى أبا بكرٍ أفضلَ هذه الأمة على الحقيقة، وحلفَ أنّ القتلَ في غير إثم أحبُّ إليه من أن يكون أميراً على قومٍ فيهم أبو بكر.

وأبو هريرة كان يرى جعفر بن أبي طالب خيرَ الناس للفقراء والمساكين، كما في صحيح البخاري (3708).

وعليٌّ عليه السلام يهضم نفسه، فيقول: (خير هذه الأمة بعد نبيها؛ أبو بكر ثم عمر) وقال عقب ذلك: ( ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين) أخرجه البخاري (3671).

فهَضْم عليٍّ نفسَه؛ ظاهرٌ في قوله هذا؛ إذ لا يقول أحد من المسلمين: إنّ علياً في الفضل مثل معتّب بن قشير، أو الصعب بن جثامة مثلاً!

وبلال: ليس سيّد الأمة، ولا هو من أبرز ساداتها، إنما هو عبدٌ أكرمه الله تعالى بإيمان عميقٍ، احترمه المسلمون لأجله، وكان مؤذّن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم مدة حياته في المدينة، ثم لم يؤذّن لأحدٍ بعدَ الرسول.

ففي إطارِ برّ عمر ببلالٍ الحبشيّ العَبدِ الذي ليس له عشيرةٌ ولا مالٌ، والرفق به والرفع من شأن إيمانِه واستقامته؛ يجب أن يُفْهَم قول عمر.

ومسألة إعتاق أبي بكرٍ بلالاً؛ فيها تضخيم وتهويلٌ أيضاً، من أجل إثبات منقبة جليلةٍ لأبي بكر، على عادة الطائفيّين، يعظّمون الصغير الذي في صالحهم ليظهر كثبيراً !

وظاهر الروايات الواردة في هذه المسألة؛ أنّ أبا بكرٍ أعتقه بالتدبير، يعني يصبح حرّاً بعد وفاته!

فقد أخرج البخاري في فضائل الصحابة (3755) من حديث قيس بن أبي حازمٍ أَنَّ بِلَالًا قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِنَفْسِكَ؛ فَأَمْسِكْنِي!

وَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا اشْتَرَيْتَنِي لِلهِ؛ فَدَعْنِي وَعَمَلَ الله).

لكنّ أبا بكرٍ لم يتركه وعمَل اللهِ أبداً، بل بقي عبداً له طيلةَ حياةِ أبي بكر!

وحين استأذن بلالٌ أبا بكرٍ في الجهاد؛ قال له: (أنشدك اللهَ وحقّي)؟

فأقام معه بلال في المدينة حتى توفي، فلما مات أبو بكر؛ هاجر بلالٌ إلى الشام مجاهداً، فمات في طاعون عمواس (18- 20 هـ) كما في طبقات ابن سعد (3: 236) وفتح الباري (11: 191).

رضي الله عن أبي بكرٍ وعن عمر وعن بلالٍ، وعن سائر صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم الصادقين المجاهدين.

وسلام الله على عليّ وعلى سائر آل بيت الرسول، فأولئك قوم لا يقاس بهم أحد!

وأختم بجملة مفيدةٍ في مسألة فضائل الصحابة، والمفاضلة بينهم للإمام الفقيه الحافظ المجتهد أبي عُمَر بن عبدالبرّ في مقدمة كتابه الاستيعاب (1: 18) قال:

(فضل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ جماعةً من أصحابه بفضائل خَصّ كلّ واحدٍ منهم بفضيلةٍ، وسَمَه بها، وذكره فيها.

ولم يأت عنه عليه السلام أنه فضّل منهم واحدًا على صاحبِه بعينِه، من وجهٍ يَصِحّ!

ولكنه ذكر من فضائلهم ما يُستَدَلُّ به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم!

وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أحلمَ وأكرمَ معاشرة، وأعلمَ بمحاسن الأخلاقِ، من أن يُواجِه فاضلاً منهم بأن غيرَه أفضلُ منه، فيَجِدُ من ذلك في نفسه!

بل فضّل السابقين منهم وأهلَ الاختصاص به؛ على من لم يَنَلْ منازلهَم.

فقال لهم: (لو أنفق أحدُكم مثلَ أحدٍ ذَهَبًا؛ مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلا نَصِيفَهُ) انتهى.

والحديث الأخير هذا؛ أخرجه البخاري (3673) ومسلم (4611) من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعاً.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الثلاثاء، 16 مايو 2023

  مَسائل حديثية (31):

هل ضاع مِن السنّة النبويّة شيءٌ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

(رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

كتب إليّ اثنان من طلابي - رجلٌ وامرأة - كلاهما يحمل درجة الدكتوراه في الشريعة الإسلاميّة، يقولان ما معناه:

لا نشكُّ في أنّك قرأت كتابَ «المدخل إلى كتابِ الإكليلِ» للإمام أبي عبدالله النيسابويّ الملقّب بالحاكم (ت: 405 هـ).

ولا بدّ من أنّك قرأت فيه (ص: 35 - 37) ما نصّه:

(1)«قَدْ كَانَ الْوَاحِدُ مِنَ الْحُفَّاظِ يَحْفَظُ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ !؟

(2) سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ سَعِيدٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمِ بْنِ وَارهْ قال: كُنْتُ عِنْدَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بَنْيَسابُورَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ، وَهَذَا الْفَتَى يَعْنِي أَبَا زُرْعَةَ الرَّازِيَّ قَدْ حَفِظَ سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ!؟

(3) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرٍ الْمُزَكِّي يَقُولُ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنَ خُزَيْمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ خَشْرَمٍ يَقُولُ: كَانَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ «رَاهَوَيْهِ» يُمْلِي سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ حِفْظًا!

(4) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنِ أَبِي دَارِمٍ الْحَافِظَ بالكوفة يقول: سمعت أبا الْعَبَّاسِ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ «بن عقدة»الْحَافِظَ يَقُولُ: أَحْفَظُ لِأَهْلِ البيت ثلاثمائة أَلْفِ حَدِيثٍ!

(5) سَمِعْتُ أَبَا عَلِيٍّ الْحَافِظَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ بْنَ سَعِيدٍ «بن عقدة» يَقُولُ: ظَهَرَ لِأَبِي كريب بالكوفة ثلاثمائة أَلْفِ حَدِيثٍ!

(6) سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي دَارِمٍ يَقُولُ: كَتَبْتُ بأصابعي عن أبى جعفر الخضرمي «مُطَيِّنٍ» مِائَةَ أَلْفِ حَدِيثٍ!

(7) سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمَّدِ بن يحيى يقول: سمعت محمد بن الْمُسَيَّبِ الْأَرْغِيَانِيَّ يَقُولُ: كُنْتُ أَمْشِي بِمِصْرَ وَفِي كُمِّي مِائَةُ جُزْءٍ فِي كُلِّ جُزْءٍ أَلْفُ حَدِيثٍ!

(8) قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ: «وَقَدْ كَانَ فِي عَصْرِنَا جَمَاعَةٌ بَلَغَ الْمُسْنَدُ الْمُصَنَّفُ لَهُ عَلَى تَرَاجِمِ الرِّجَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَلْفُ جُزْءٍ مِنْهُمْ أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ الْأَصْفَهَانِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَاسَرْجِيُّ» يريد: في كلّ جزءٍ ألف حديثٍ، كما تقدّم في الخبر الذي قبله!!؟

قلت لهما وأنا أضحك: عندنا في مدينةِ حماة مثلٌ يقول: «مجنون يحكي وعاقل يسمع»!

ومثلٌ آخر يقول: «أنا والله لا أكذّبك، لكنّ كلامك لا يخشّ بعقلي»!

هذا الحافظ الجِهبذُ محمد بن المسيّب الأرغيانيّ، الذي كان يمشي في مصر، وفي كُمِّ ثوبه مائة جزءٍ حديثيّ والجزء الحديثيّ بين (16 - 20) صفحة!

كيف كان يحمل (2000) صفحة في كُمّ ثوبه أيها العقلاء؟

هل يُتصوّر من بشرٍ أن يحمل خمسةَ مواعين من الورق، وهو يطلب العلم؟

هذا على فَرَضِ أنّ ورقهم كان مصقولاً مرتّباً مثلَ أوراقنا اليوم!

وهل يتصوّر عاقلٌ أن تتسع عشرون صفحةً لألف حديث؟

لنفترض أنّ الصفحة تتسع لثلاثين سطراً، في كلّ سطرين حديث واحد!

فهذا يعني أن في كل صفحةٍ خمسةَ عشر حديثاً!

فلو نحن ضربنا (20) صفحة في (15) حديثاً؛ يكون الجزء الحديثيّ يحتمل (300) حديثاً في الحدّ الأقصى، وليس ألفَ حديث!

يبدو أنّ الذهبيّ استغرب كلام الأرغيانيّ لهذا، فقال في ترجمته من النبلاء (14: 425): «هَذَا يَدُلُّ عَلَى دِقَّةِ خَطِّه، وَإِلاَّ فَأَلفُ حَدِيْثٍ بِخَطٍّ مُفَسَّرٍ تَكُونُ فِي مُجَلَّدٍ، وَالكُمُّ إِذَا حُمِلَ فِيْهِ أَرْبَعُ مُجَلَّدَاتٍ فَبِالجَهْدِ».

أرجو وآمل أن نفكّر بعقولنا عندما نقرأ بعيوننا، وإلّا فسنظلّ نعيش في عالم الأحلام والأوهام!

أقول وبالله التوفيق:

لو أننا عددنا جميعَ مئاتِ الآلافِ التي أوردها الحاكم مسندةً إلى أصحابها؛ تدخل تحت قولِ الإمام أحمد «صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُ مائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ».

وأحمدُ نفسه يقول عن مسنده: «هذا الكتاب قد جمعته وأتقنته من أكثر من سبع مائة وخمسين ألفَ حديثٍ، فما اختلف المسلمون فيه من حديث رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم؛ فارجعوا إليه، فإن كان الحديثُ في المسند، وإلّا؛ فليس بحجّة».

أخرجه أبو موسى المديني بإسناده في كتابه «خصائص المسند» (ص: 13).

فنحن لو سلّمنا - جدلاً - بصحّة نسبة هذا الكلام إلى أحمد: إنّه صنّف مسنده وأتقنه من (750) ألف حديث!

وسلّمنا بصحة صدور هذا الكلام عنه  «صَحَّ مِنَ الْحَدِيثِ سَبْعُ مِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ وَكَسْرٍ».

وجملة أحاديث مسند الإمام أحمد بالمكررات الكثيرة، حسب أفضل طبعة للمسند حقّقها الشيخ شعيب الأرناؤوط وفريقه (27647) فإليك هذا الأسئلة:

- هل يجوز للإمام أحمد أن يتجاوَز (700000) وكسراً، نسبوا إليه أنّها أحاديث صحيحة، ثمّ يخرّج لنا كتاباً فيه (27647) حديثاً مكرّرة، وهي بدون تكرار (9339) حديثاً، الصحيح منها لا يتجاوز خمسةَ آلاف حديثٍ بحالٍ؟

يا سيّدنا يا أحمدُ ابنَ حنبلٍ، قدّس الله سرّكَ العزيز:

كيف تقول: إنّ الأحاديثَ الصحيحةَ (700000) حديث، ثم تستغني عن (695000) حديثٍ صحيح، لا تخرّجها في مسندك، ثمّ تحذّر المسلمين من الأخذ بأيِّ حديث ليس في مسندك المقدّسِ هذا؟

قال أحمد!

قال البخاري!

قال الحاكم!

أعيروني عقولكم ساعةً وافهموا، ولا تؤوّلوا، فقد كان من مذهب أحمد إبطال التأويلات!

قال عداب: الإمام أحمد يرى أنّ كلّ حديث صحّ إسناده؛ فهو سنّة، حتى لو لم يعمل به أحد من الفقهاء!

وأبوابُ كتبنا الفقهيّة مبنية اليوم على القياس والاستحسان والمصلحة وعمل أهل المدينة ومقاصد الشريعة!

وممّا لا ارتياب فيه أنْ لو كان عندنا (700000) حديثٍ صحيح عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ما احتجنا إلى مصادر التشريع هذه كلّها !؟

وبناءً على قول الإمام أحمدَ هذا؛ يكون جوابُ سؤالِ المنشور: هل ضاع من السنة النبوية شيء؟

نعم ضيّع الإمامُ أحمدُ والمحدّثون مِن قَبله ومن بعده (695000) حديثاً صحيحاً.

هل يسعنا كلامٌ سوى هذا؟

وإذا قدّسنا كلام الإمام أحمد هذا - بعد تصحيح نسبته إليه جدلاً- فيجب علينا أن نضعّف أكثرَ من ألفٍ وخمس مائةِ حديثٍ في الصحيحين، ليست في مسند أحمد!

بيان ذلك بصورة وجيزة؛ أنّ عدد أحاديث صحيح البخاريّ بالمكرر (7563) حديثاً، وافقه أحمد على (6209) أحاديث منها، فيكون البخاريّ قد أخرج (1354) حديثاً ليست في مسند أحمد، وهي ليست بحجّة عنده!

وأنّ عدد أحاديث صحيح مسلم (5362) حديثاً، حسب ترقيم العالميّة، وافقه أحمد على  (4974) حديثاً منها.

فيكون مسلمُ قد أخرج (388) حديثاً ليست في مسند أحمد، وهي ليست بحجّة عنده!

ألا يسعُ المشككين بصحيح البخاريّ ومسلمٍ أن يقولوا: إنّ الإمام أحمدَ ضعّف (1742) حديثاً من أحاديثِ الصحيحين، فلماذا تتّهموننا بديننا ؟

ولو نحن طبّقنا نظريّةَ أحمد هذه؛ لصنعنا في كتب السنّة الأصول الأعاجيب!

إذ ما من كتابٍ من كتبِ السنن الخمسةِ، إلّا وقد انفرد بمئات الأحاديث عن مسند الإمام أحمد، فهل جميع هذه الأحاديث ضعيفة؟!

- عدد أحاديث سنن الدارميّ (ت: 255 هـ) [3503] أحاديث، وافقه الإمام أحمد على تخريج (1656) حديثاً منها، فيكون الدارميّ قد انفرد  بـ ( 1837) حديثاً وأثراً، هي ليست بحجّة عند أحمد!

- عدد أحاديث سنن ابن ماجه (ت: 273 هـ) [4341] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (2552) حديثاً منها، فيكون ابن ماجه قد انفرد بــ(1789) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!

- عدد أحاديث سنن أبي داود (ت: 275 هـ) [5274] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (3105) أحاديثَ منها، فيكون أبو داود قد انفرد بــ(2269) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!

- عدد أحاديث جامع الترمذيّ (ت: 279 هـ) [3956] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (2466) حديثاًمنها، فيكون الترمذيّ قد انفرد بــ (1480) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد، مع أنّ الترمذيّ صحّح وحسّن مئاتٍ منها (145، 184، 233، 360، 391)!

- عدد أحاديث السنن المجتبى للنسائيّ (ت: 303 هـ) [5758] حديثاً، وافقه الإمام أحمد على تخريج (4418) حديثاً منها، فيكون النسائيّ قد انفرد بــ(1340) حديثاً، هي ليست بحجّة عند أحمد!

والسؤال الآخر: إذا كانت جميعُ هذه الآلاف من الأحاديث التي أخرجها أصحاب الكتب الأصول ضعيفةً عند أحمد؛ فلماذا نَشغلُ أنفسنا بدراستها وتعليمها، وإمامُ أهل السنة وشيخ المحدّثين يضعّف أكثر من سبعةِ آلافِ حديثٍ منها ؟!

ختاماً: إذا كنّا نقصدُ بالسنّةِ النبويّةِ ما يُمكنُ إدراجُه تحت مسمّى (أدلّة الأحكام الفقهيّة) فأستبعدُ ضياعَ شيءٍ منها، مجرّد استبعادٍ نظريّ.

وإذا كنّا نقصد بالسنّة الأحاديثَ الإرشاديةَ والتربويّةَ والسيرةَ النبويّة وتاريخ الراشدين؛ فقد ضاع من ذلك كثيرٌ كثير، وفي القرآن الكريم، وفيما صحّ من الرواياتِ كفاية وغنىً!

تقريب ذلك بمثال:

بقي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في مكّةَ المكرمة، يعلّم أصحابَه العقيدةَ والفكر والعباداتِ ثلاثَ عشرةَ سنةً، وليس في كتب السنّة (100) حديثٍ مكيٍّ صحيح!

وخطبَ الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المدينة أكثرَ من (500) خطبةِ جمعة!

ليس بين أيدينا منها ثلاثون خطبةً صحيحةُ الأسانيد، والموجودُ أطرافُ خُطَبٍ وليس خُطباً.

كلّ ذلك بفضل عبقريّةِ واجتهادِ جيل الصحابة الذي لم، ولن يخلقَ الله أذكى منهم ولا أعقل ولا أحفظ ولا أتقى ولا أعلم «جيلٌ قرآنيٌّ فريد» كما يقول السيّد قطب!

ولا حولَ ولا قوّةَ إلا بالله العليّ العظيم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

  والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 10 مايو 2023

 قَريباً مِن السياسةِ (11):

اللهم انصر أهلَنا في الأرض المقدّسة ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لا يخفى على أحدٍ انحيازُ الغَرْبِ الظاهر إلى جانب العدوّ المحتلّ لأرضنا المقدسة، وتصريحهم المستمر بضمان أمن كِيانهم الغاصب، ومجاهرتهم بأنّ من حقّ هذا الكيان المجرم الدفاعَ عن شعبه وبلاده!

وحكّامنا رضي الله عن غيرهم؛ ليسوا أكثَر من أدواتٍ بائسةٍ بيد ذاك الغرب المجرم المُبيد!

لكنْ ماذا عن ردود أفعالِ المظلومين في ديارنا المقدّسة؟!

لقد اغتال الكيان الإرهابيّ أربعةً من قادتنا العسكريين الكبارِ، وقتل أضعافَ أعدادهم من المدنيين الآمنين، وجرح عشراتٍ، وربما مئاتٍ آخرين، فماذا فعلنا نحن؟

إنّ كلَّ قائدٍ من قادتنا المؤمنين، لا يُعادلُه في حُكمِ الله تعالى؛ هذا الكيان كلّه!

(أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) [القلم].

أطلقنا (500) صاروخٍ، لم تَقتلْ كلباً في الأرضِ السليبة المغصوبة!

هم قتلوا وجرحوا وهدموا وأخافوا أهلنا في الأرض المقدسة!

نحن لم نقتلْ كلباً، ولم نجرح هِرّاً، إنما أخفناهم في حظائرهم تحت الأرض، فأين معادلةُ الردع المزعومة؟

إنّ العسكريين لا يخيفهم أبداً إطلاق الصواريخ، إنما هم يستخفّون بإطلاقنا تلك الفزّاعاتِ عليهم، ويخططون لأذيّتنا وجَرحِ كرامتنا في الوقت الذي نطلق هذه الصواريخَ في الهواء، والتي تسقط في الخلاء!

هل يخيف الكيانَ الإرهابيّ الغاصبَ فعلاً أن تملؤوا السماءَ بالأضواء الملوّنةِ الجميلة؟

أو إنّ الذي يُخيف الكيانَ الإرهابيَّ؛ استهدافُ قادته الكبار، كما استهدف هو قادتنا؟

يذكّرني هذا «التناوُش» الحاصلُ هذه الأيّام، بما حصل مع الأخ الشهيدِ صلاح الدين يوسف المقدسيّ «بلال» وزميله، رحمهما الله تعالى، يومَ كانا قنّاصَيْن في إحدى بلاد العرب المحتلّة!

قال بلال: كان المطلوب من كلّ واحدٍ منّا أن يُطلق رصاصةً واحدةً في كلِّ يومٍ، من قنّاصةٍ أمريكيّة على أحد جنود العدوّ، فحسب!

فكنّا أنا وزميلي نقوم بعمليّة الاستطلاع بواسطة «المنظار المكبّر» طيلةَ النهار، ثم نتفق على إطلاق الرصاصتينِ معاً في الدقيقة ذاتها، وكنّا لا نستهدف امرأةً مجنّدةً ولا جنديّاً ولا سائق دبّابةٍ أو مصفّحة، إنّما كنّا نرصد الضبّاط!

قلت له: ولماذا الضبّاط دون بقيّة الجنود؟

قال: لقول الله تعالى: (قاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لَا إيْمانَ لهم) [التوبة].

قلت له: القراءةُ المعروفة (لَا أَيْمانَ لهم)؟

قال: هناك قراءةٌ صحيحةٌ بكسر الهمزة، هي قراءة الشاميّ ابن عامرٍ تَبَعْكُم، من السبعة، وضحكنا.

تابع قائلاً: كنّا نطلق تلك الرصاصة على العدوّ، ثم نستلقي في الخندق العميق، وربما نُمتُ أنا في مكاني، في الوقت الذي يطلق فيه العدوُّ آلاف طلقات رشاشات الـ (500) علينا.

وإذا كان الضابطُ المصابُ من العدوِّ كبيراً، ربما حلّقت الطائراتُ فوقنا، ورمتنا بأطنان القنابل المتفجّرة، ساعةً وساعتين، وربما أكثر، بينما نحن لم نطلق سوى رصاصتين فحسب، وها نحن سالمون!

أنا لا أقلّل من جهودِ وجهادِ أبطالنا في الأرضِ المحتلّة أبداً والله !

بيد أنني أرى مُعادلةَ اليوم معكوسة تماماً!

هم يقتلون ويجرحون ويهدمون، ونحن نطلق عليهم مئاتِ الصواريخِ لإخافتهم!؟

أرجو أن لا يُقالَ لي: هم أدرى بواقعهم ومصلحتهم، وأعلم بالحرب منك؟!

فأقول: أنا لا أزعم أنني أعرف من أحدٍ بفنون الحربِ، ولا بفنون السلم!

إنّما المشاهَدُ هو ما ذكرتُه لكم الآن، وهو لا يُحدِثُ أثراً، ولا يُحقّق في العدوّ ردعاً يُذكَر، وأخشى أن يكون إسرافاً وإهداراً للسلاحِ أيضاً!

اللهم انصُر الحقّ وأهلَه، واخذُل الباطلَ وأهله.

اللهم آمن أهلَ الأرض المقدسةِ السليبةِ في أوطانهم، وكفَّ أيديَ الظالمين عنهم!

اللهم وآمنّا في أوطاننا، وكفَّ أيديَ الظالمين عنّا!

ولا حولَ ولا قوّةَ إلّا بالله العليّ العظيم.

قولوا: آمين آمين!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


الثلاثاء، 9 مايو 2023

      ضَرائِبُ النَسَبِ الشَريفِ (2):

ماذا عن الأشرافِ الأُخَيْضِريّة ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحدُ الإخوةِ عن الأشراف الأخيضريّةِ في نجدٍ والحجاز؛ هم أنفسهم الذين يُطلِقُ عليهم أهل نجدٍ «خضيري» وهل من كتبٍ مطبوعةٍ، تعرّفنا بتاريخهم ؟!

أَقول وباللهِ التوفيق:

يحسن الإجابةُ على هذه التساؤلاتِ؛ بفقراتٍ متسلسلة وجيزة!

أوّلاً: نحن آلَ البيتِ؛ منتشرون في شتّى بقاعِ الأرض، من الصين واليابان شرقاً إلى الأمريكيتين غرباً، لأسبابٍ عديدةٍ.

وقد كتب النسّابةُ الشريفُ إبراهيم بن ناصر ابن طباطبا العلويّ كتاباً سمّاه «مُنتقلَة الطالبيّة» ذكر فيه أسماءَ الأقاليم والبلدان التي رحل إليها الطالبيّون واستوطنوها.

وقد صدر الكتابُ عن مؤسّسةِ التاريخ العربيّ ببيروت، عام (1431 هـ).

ثانياً: مع بداية القرن السادس الهجريّ؛ بدأت حكوماتُ الأعاجمِ (التركُ والفُرسُ والكُرْد) تفرض على الشعوبِ التي تحكمها مذهباً فقهيّاً معيّناً من المذاهب الإسلاميّة السائدة في تلك البلاد؛ لأنّ نسبة (999%) من الأعاجم لا يعرفون العربيّة، فطَرْحُ مسائل الخلافِ العقديّ والفقهيّ عليهم يشوّش عليهم القليلَ الذي يعرفونه من الدين، ومع مرور الزمان؛ دخلَت حمولاتٌ وبيوتاتٌ من آل البيت في مذاهب البلدان التي يقيمون فيها، حتى إنني التقيتُ بهاشميّين إباضيّة، في سلطنةِ عُمان.

وكانت إحدى طالباتي التي أقرأتهنّ شيئاً من القرآن الكريم هناك هاشميّةً، سألتها: أنت هاشميّة قرشيّةٌ؛ قالت: نعم!

قلت لها: هاشميّة وإباضيّةٌ كيف؟

قالت: لا أدري، لكن هذا ما عليه أهلنا منذ قديم الزمان !؟

ثالثاً: أثراً ممّا تقدّم؛ فقد اختلفت رؤانا الفكريّة والفقهيّة في جواب السؤال الآتي؟

هل قيادةُ الأمّة حقٌ لذراري السبطين الحسن والحسين عليهما السلام، من دون بقيّة الخلق، كما يقول السادةُ الزيديّة؟

أو إنّ حقّ قيادةِ الأمّة للأئمّة الإثني عشرَ، الذين غَيّبَ الإماميّة آخرَهم نظريّاً، وبقيت الأمّة عندهم من دون إمام حتى جاء إمامَهم الخُمينيُّ، فتبنّى فكرةَ ولايةِ الفقيه، وقام بثورةٍ شاملةٍ في إيران الفارسيّة؛ أورثت جمهورية إيران الإسلاميّة الشيعيّة؟

أو إنّ كبارَ علماءِ وساسةِ آل البيتِ؛ أولى بقيادةِ الأمّةِ من غيرهم، عندما تتكافأ قُدراتُ الشخصيّات، كما يقولُ الفقير عداب الحمش؟

أو إنّ كبارَ علماءِ وساسةِ آل البيتِ؛ مثلهم مثل غيرهم من بقيّة المسلمين، ومَن يختاره أهل الحلِّ والعَقدِ؛ يكون إمامَ الأمة وقائدَهم، كما عليه أهل السنّة بمذاهبهم؟

علماءُ وسادةُ آل البيت حتى نهايةِ القرنِ الخامس الهجريّ؛ من النادر أن تجدَ فيهم سنيّاً، إنما كانوا شيعةً زيديّةً أو إسماعيليّةً أو إماميّةً!

وكان الإماميّةُ عاطلين تماماً في الجانب السياسيّ، نتيجةَ تشريع السفراء المحتالين المتآمرين لهم بعدم جواز الدخول في السياسةِ، حتى يظهر قائمُ الزمان، الحُجّةُ، المهديُّ المنتظر، فيكون هو قائدَ الأمّةِ وإمامَها، فكانوا موافقين عمليّاً لأهل السنّة في هذا الجانب: مَن يتغلّبُ على السلطة؛ يخضعون له خضوع أهل السنّة تماماً!

وفي كلّ عامٍ منذ عام (328 هـ) وحتى اليوم؛ يخرجَ علينا غير واحدٍ يبشرّ بأنّ المهديّ سيظهر هذا العام، في موسم الحجّ، ولم يظهر سوى أدعياء المهدويّة الشطّار !؟

رابعاً: قامت الدولةُ الأخيضريّة الزيديّةُ في الحجاز أوّلاً، ونتيجةَ كثرةِ ضغوطاتِ الدولة العبّاسية عليها، لما لمكّة المكرّمة والمدينة والمنوّرة من رمزيّةٍ دينية وسياسيّة؛ انتقلت الدولة الأخيضريّة من إقليم الحجاز إلى إقليم اليمامة، الذي هو أعمّ من نجدٍ في نظري!

واستمرَّ حكمها هنالك - بين مدٍّ وجزرٍ في الاتّساع والانحسار، منذ العام (232 هـ) حتى منتصف القرن السادس الهجريّ (567 هـ).

وكان أوّلَ أئمّة الدولة الأخيضريّة الزيديّةِ في اليمامةِ وما حولها؛ الإمامُ الناصر لدين الله إسماعيلُ بن يوسف بن إبراهيم بن موسى الجَون (ت: 252 هـ) رحمهم الله تعالى.

وكان آخرَ أئمّة الدولةِ الأخيضريّةِ في اليمامة؛ إسماعيلُ بن يوسف بن محمّد بن محمّد «كِرْزاب»  (ت: 495 هـ).

وبقيت اليمامةُ دون سواها في يد بني الأخيضر بعد محمّد «كِرْزاب» حتى انتهى مُلكُ وسلطان الأشراف الأخيضريين على يدِ القبائل الإسماعيليّة التي كانت في البحرين والإحساء ونواحي نجد، عام  (567 هـ).

وقد ذكر النسابة ابن عِنبةَ في كتابه المشهور «عُمدةُ الطالب في أنساب آل أبي طالب» (ص: 139) أنّ بني يوسف الأخيضر دَخلوا أحلافاً مع القبائل الكبرى في اليمامة، وقال: إنّ بني يوسفَ الأخيضر تحالفوا مع بني عامر بن صعصعةَ من قيس عيلان، وهم نحو ألفِ فارس، يحفظون شرفَهم، ولا يُدخلون فيهم غيرَهم، ولكنهم يجهلون تسلسلَ أنسابهم، ويقال لهم: بنو يوسف!

وأكبرُ ظنّي أنّ أكثرَ من يُطلِقُ عليهم النجديّون لقب «خضيري» هم من أولئك الأشراف الأخيضريين الكرام.

خامساً: أمّا عن الكتب التي ذكرت أنسابَ الأخيضريّين القدامى؛ فأكثر كتب الأنساب!

والكتبُ التي ذكرت أنسابهم بعد انهيار دولتهم؛ إنما ذكرت أنساب بعضِ المشهورين منهم وحسب!

تصوّر أخي القارئ أنّ ابن عنبةَ يتحدّث عن ألف فارسٍ من الأشراف الأخيضريين، في منتصف القرن الثامن تقريباً، وهم حلفٌ مع قبيلةٍ واحدة، دون سائر المتحالفين مع القبائل الأخرى، فكم أعدادِ ذراريهم في أيّامنا هذه؟!

ومّمن ذكر أنسابَ بعضهم بعد انقضاء دولتهم؛ السيّد ابنُ عنبة في كتابه عمدةُ الطالب (ص: 134 - 139) والسيّد مهدي الرجائي في كتابه «المُعقّبون من آل أبي طالب» (1: 78 - 82) والسيّد علوان الحسيني البعلبكي في كتابه بحر الأنساب، وكثيرون غيرهم.

أمّا الكتب التي تخصّصت بدراسة تاريخِ الدولة الأخيضرية؛ فهناك كتابُ (الإمارة الأخيضريّة) للباحثِ أيمن بن سعد النفجان، صدرت الطبعة الأولى منه عام (1431 هـ) عن دار المؤلّف، في عُنيزةَ القصيم، وعلى شبكة الإنترنيت معلوماتٌ قليلة عن الكتاب، بيد أني لم أقف عليه، إنما قرأت نقولاً منه في الكتابِ الآتي توّاً !   

سادساً: الكتاب النافع الماتع، كتاب (الروضة النديّة في تاريخ وحضارة الدولة الأخيضريّةِ) (232 - 567 هـ) لمؤلّفه الدكتور عبدالحميد بن علي الفقيهيّ، وقد صدرَ قريباً عن مكتبة الرضوان، عام (1444 هـ) ولم يُذكَر اسم البلد أو المدينة التي فيها هذه المكتبة!

وقد بيع في مَعرض جُدّة للكتاب بتاريخ (15) ديسمبر عام (2022م) كما في موقع المعرض على الإنترنيت، وقد أكرمني الله تعالى بنسخة منه.

يقع الكتاب في (483) صفحةً من القطع الطباعيّ المتوسط (17 × 24).

وقد أدار المؤلّف كتابه على خمسة فصول، إضافةً إلى مقدّمةٍ وخاتمةٍ وملحق.

ناهيك عن ثبت المصادرِ المهمّ جدّاً، وثبت مباحث الكتاب.

الفصل الأوّل: دولةُ بني الأخيضر في الحجاز (ص: 15 - 94).

الفصل الثاني: دولةُ بني يوسف الأخيضر في اليمامة (95 - 149).

الفصل الثالث: علاقة دولةُ بني يوسف الأخيضر بالدول والقوى الإقليمية (153 - 230).

الفصل الرابع: المظاهر الحضاريّةُ في دولةِ بني يوسف الأخيضر (233 - 347).

الفصل الخامس: ضعف الدولة الأخيضريّةِ وانهيارها (353 - 444).

ملحق ببعض صور المراجع (ص: 447 - 464).

خاتمة الكتاب (ص: 465 - 468).

الكتاب مفيد وثيقٌ، أدعو جميعَ الأشرافِ الكرامِ، وسائرَ المهتمّين إلى قراءة هذا الكتاب بتأمّل، وليتذكّر القارئ الكريم قصيدةَ أبي البقاء النَفْزيِّ الرندي في رثاء الأندلس الحبيب، وفيها:

«لكلِّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصانُ

فلا يُغَرَّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدتها دُوَلُ

مَن سرّه زمنٌ؛ ساءته أزمانُ

وهذه الدار لا تُبقي على أحدٍ

ولا يدوم على حالٍ لها شانُ

يمزّق الدهر حتماً كلَّ سابغةٍ

إذا نَبَتْ مَشرفيّاتٌ وخُرصانُ

أين .. وأين .. وأين؟

أتي على الكلّ أمرٌ لا مردَّ له

حتى قَضَوا، فكأنّ القومَ ما كانوا ».

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.