الأحد، 30 أبريل 2023

اجتماعيات (53)

تمايزُ الأعراقِ في الأخلاق!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

ذات يوم اشتبكتُ في نزالٍ مع أحد أولاد حيّنا «الفرّاية» صوّب إليّ سكّينَه «الموسى» وطعنني في بطني يريد قتلي، كما كان ظاهراً!

لكنني بفضلٍ من الله تعالى استطعت أن أتّقي الطعنة بيدي اليسرى، فانهمر الدم غزيراً من عضدي، مما أغضبني، فتمكّنت من تخليص خصمي الموسى وطيّه ووضعه في جيبي.

ثم رُحتُ أبطش بالمعتدي حتى كسرت ذراعه التي ضربني بها، وهشمت رأسَه بحائطٍ كان في شارع بيتنا... إلخ.

تحسّبتُ أن يغضبَ أهله لما فعلتُ به، خصوصاً وأنّ الخصومة كانت بيني وبينه، ولم يكن في شارع بيتنا أحدٌ سوانا، فيسعه أن يكذب كما يريد!

تركته يئنّ ويتوجّع ويبكي في الشارع، وذهبت إلى بيتنا، فضمّدت لي والدتي الجرح، وهي تبكي!

غسلت يديّ من الدماء، ووضعت مسدّسي على جنبي، وخنجري على الجنب الآخر، وخرجتُ ناوياً الشرَّ كلّه!

وقفت على باب منزلنا أتأمّل ماذا سيحدث، بعد رفعه وحمله إلى المشفى، وإذا بعمّي شيخ الأسرة «محمّد الحمش» قد ظهر من بيته غاضباً، فصرخ عليّ عندما رآني: تعال لأرى!

دخلنا بيتَه، وقصصتُ عليه القصّةَ، وأقسمت له أنني لا أعرف لماذا هجم عليّ وطعنني يريد قتلي!

قال: أين الموسى؟

أخرجته له من جيبي، ففتحه، فلم يجد عليه أثراً من دمي، فاستحلفني أنّ الموسى هو هذا، فحلفت له أيضاً.

فكّ ضمادَ يدي، وأزال القطن والقهوةَ عن الجرح، وضغط على الجرح، وملأ الموسى بالدم، وتركه عنده ليجفّ، وقال لي: اذهب وضمّد جرحَك من جديد، وانتبه لنفسك «ألف أمّ تبكي ولا أمّي»!

ذهبت أنا إلى البيت، وأصلحت شأن جرحي الذي كان يحتاج إلى خياطةٍ في الحقيقة، ثمّ توضّأت وصلّيت وتغديت، ففتر جسمي ونمت!

يبدو أنّ أهل الشابِّ الخصم عرفوا أنه المعتدي، فجاء وفدٌ منهم إلى بيت عمي، وتفاوضوا معه على المصالحة، فأرسل إليّ عمّي ولده عبدالكريم يستدعيني.

بلّغني عبدالكريم بالحضور، وقال لي: احذر يا أخي، رأيتُ شرر النار في عيونهم!

لقّمتُ مسدّسي، ووضعته على جنبي ظاهراً لكلّ أحدٍ، وأظهرت خنجري الذي كان يزيد طوله على نصف متر أيضاً، ودخلتُ مضافةَ عمّي.

قلت السلام عليكم، وظللت واقفاً!

كان خصمي قد عالجوه في المشفى، وجبروا يده اليمنى بالجبس، وحزموا رأسَه بشاشٍ أبيضَ مملوءٍ بالدماء، فأشفقت عليه!

قال عمّي: لماذا تخاصمتما يا عداب، أنت شابٌّ متديّن، لا تستهويك مشاكل السفهاء والزعران، لماذا كسرت ذراع أخيك، وشججتَ رأسَه؟

قلت له: أنا والله إلى هذه اللحظة لا أدري، اسألوا هذا السفيه الأرعن عمّا فعل !

استغرب أهلُ خصمي، وسأله والده قائلاً: لا شكّ أنّ ما يقوله عداب صحيح، عداب صاحب دين، لا يعتدي ولا يكذب!

لم يردّ الخصم شيئاً!

قال له عمّي: قم صالح أخاك عداباً، فصرخت: لا لا أبداً يا عمّ، حتى أعرفَ لماذا أراد قتلي!

انتهره والدُه، وطلب منه أن يقول السبب، فتلجلج ثم قال: تخاصمت البارحة مع عبدالمنعم الحمش، فأوجعني ضرباً وأهانني، ولم أستطع أن آخذ ثأريّ، وعداب شيخ، لا يحمل سلاحاً أبداً، فقلت: أعلّم عليه، حتى أردَّ اعتباري!       

قاطعته وقلت لهم: أتشهدون أنه كان يريد قتلي، وطعنني ليقتلني، أم لا تشهدون؟

قال والده: نشهد والله، ثم التفت إلى ولده، وبصق في وجهه ولعنه!

أشهرت مسدّسي عندئذٍ وقلت لهم: هل عليّ لومٌ الآن لو قتلتُه؟

وقف والده في وجهي وقال: يا شيخ عداب، أنت والله زهرة هذا الحيّ، ويبقى هذا أخاك، ونحن أهل، والحمد لله جرحك يسير بالنسبة إلى ما فعلتَ به، أرجع مسدسك إلى خصرك، وسامحه لأجلي أنا، وقبّلَ رأسي!

قلت لهم: أنا ابن الحمش، ونحن لسنا أصحابَ غلٍّ ولا حقدٍ، وأنا أسامحه شَرطَ أن يقبّل رأسي ويدي، ويكتب تعهّداً خطيّا بأنّ دمَه مهدورٌ، إذا تعرّض لأيّ فردٍ في هذا الحيّ، من آلِ الحمش، وغيرهم.

حاولوا أن أُسقِطَ هذا الشرطَ، لكنني أصررت عليه، وقد حصل!

قام خصمي، فقبّل رأسي، وتلكّأ بتقبيل يدي، فصرخت به: قبّل، وقدمي فوق رأسك!

قبّل يدي ثلاث مرّات، ثمّ صافحتُ الباقين، وشربنا القهوة والشايَ معاً عند عمّي!

عقب صلاة المغرب خرجنا من منزل عمّي، فدعوت خصمي إلى تناول طعامِ العشاءِ معي وقلت في نفسي: أدعوه إلى الله تعالى، وأحثّه على الالتزام بالصلاةِ والأخلاق!

عندما علمت والدتي بأنّ الضيف الذي دخل دارها، هو الذي أراد قتلي؛ راحت تلطم على وجهها، وتقول: يا الله يا الله، ما هذا الولد الذي جعلتَه ابني، هذا ولد ما عنده قلبٌ أصلاً!

سمعت صوتها، فخرجت من غرفتي، وأومأت إليها أن تخفض صوتها، فراحت تبكي بكاءً مرّاً وتقول: شيطانٌ أراد قتلك، وشرع بقتلك، تحضره إلى بيتي لأعدّ له عشاءً؟

لا والله لا عشاء، ولا شاي، ولا قهوة، ولا حتّى ماء، اطرده من البيت قبل أن أفقد عقلي!

كنت أضحك من تصرّفها لتضحك، وقلت لها: ماما كرديّة، ماما كرديّة!

قالت: إي والله أنا كردّية وجدي الملك المظفّر، أنتم يا بيتَ الحمشِ ليس لديكم قلوب أبداً، بسطاء حدَّ الموت!

واحد شرع بقتلك، تحضره لتعشّيه!

إي والله والله، الذي ينظر إليّ نظرةَ إهانة؛ لا أصفح عنه حتى أصيرَ تحت التراب!

والله لأدعونّ عليه في صلاة العشاء!

سألتها بالله تعالى، وبكرامة جدّها المظفّر عندها أن لا تفعل؛ لأنّها إن دعت عليه؛ ستدمّره بمشيئة الله تعالى.

قامت أختي الكبرى، فحضّرت لنا العشاءَ والضيافةَ، وظلّ يسهر معي إلى صلاة الفجر!

علّمتُه الوضوءِ والصلاةَ، فتوضّأ عندي، وذهبت وإيّاه إلى جامع المرابط، حيث فوجئ شيخي السيّد نايف النوشي السبسبيّ بما رأى، وهزّ رأسَه عجباً!

احتسبتُ طعنتي في سبيلِ الله تعالى، وكنت أتمنّى لو أنّ خصمي اتّقى الله تعالى، وداوم على صلاته، لكنه رجع شيطاناً يشرب الخمرةَ والحشيشَ ويعمل موبقاتٍ كثيرة، ولا أدري إن كان ما يزال حيّاً، أم فارق الحياة !

وأنا لا أجد في قلبي حقداً عليه، أو رغبةً في الانتقام، لا والله!

إنما أحزن عليه أن يكون ماتَ، وهو يمارس المعاصي، ويغضب الله تعالى!

رحم الله جميع من ذكرنا في هذا المنشور، فجميعهم قضى ومضى، وصار في ذمّة الله تعالى.

والله المستعان وعليه التكلان

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

 والحمد لله على كلّ حال.


الجمعة، 28 أبريل 2023

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (11):

لا إنكارَ في مسائلِ الخِلافِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: «هل القاعدة الفقهيّة (إنكارَ في مسائل الخِلافِ) صحيحة؟

وهل هي متّفَقٌ عليها بين العلماء؟

وكيف تكون صحيحةً، والصحابةُ ومن بعدهم من المسلمين؛ استحلّوا دماءَ بعضهم لاختلافهم في مسائلَ قابلةٍ للاجتهاد»؟

أقول وبالله التوفيق: إنّ التقعيدَ النظريَّ المثاليَّ أو الكماليَّ شيءٌ، والتطبيقَ الواقعيَّ شيءٌ آخر!

فقد قال الله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) [الأنبياء] ونحوها في [المؤمنون: 52].

ومعنى هذه الآيةِ - عندي - أنّ الله تعالى أراد لأمّةِ الإجابةِ أن تكون أمّةً واحدةً!

وقال الله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) [الحجرات].

بمعنى أراد الله تعالى للمؤمنين أن يكونوا إخوة !

لكنْ هل أمّة الإسلام اليوم أمّة واحدةٌ، أو نحن أمم متدابرةٌ متناحرةٌ متقاتلة؟

وهل المؤمنون إخوةٌ في واقع الأمر؟

أو إنّ هناك السنيّ والشيعي والإباضيّ، والجميعُ يستحلّ دماءَ الجميع عند الاختلاف الدنيويّ «السياسيّ» فضلاً عن الدينيّ؟

وجملةُ (لا إنكارَ في مسائل الخلاف) هي ذاتُها محلّ اختلافٍ بين العلماء، وأنا سأسير في توضيحها، وترجيح الراجح في نظري من أقوال العلماء، في خطوات متتابعةٍ، حتى نضعَ أيدينا على موضعِ الخلافِ، آخذين بعين الاعتبار؛ أنّ الأمّةَ مقلّدةٌ، منذ عصر الصحابة وإلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرضَ ومن عليها.

أعني أنّ اللاحقَ يتابع السابقَ تحسيناً للظنّ به، واعتقادَ أفضليّته وأعلميّته!

أمّا أنا الفقير؛ فلا أعتقدُ بأفضليّة السلفِ، ولا بأعقليّتهم، ولا بأعلميتهم!

باستثناء من منحه الله تعالى فضلَ السبقِ بقوله الكريم: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) [التوبة].

وفضلُ سَبْقِهم؛ لا يعني أبداً أعقليّتَهم ولا أعلميتَهم، بل إنّ العلماءَ فيهم لا يزيدون على عشرين عالماً، وهم أنفسهم الذين قتلَ بعضهم بعضاً، لاختلافهم في مسائلَ من العلمِ والحياةِ!

مع أنّهم أو أكثرهم سمعوا الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في حَجّةِ الوداع يقول لهم: (لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ) وهو حديث مشهورٌ، مرويٌّ في الصحاحِ عن عددٍ من الصحابة!

أوّلاً: إنّ جملةَ (لا إنكارَ في مسائلِ الخلاف) هي من القواعدِ الأصوليّة، عند مَن يصوّب العملَ بها بها، وليست قاعدةً فقهيّة!

والقاعدة الأصوليّة: هي قاعدةٌ كليّةٌ تنطبق على جميع جزئياتها، مثل (لا يُنسب إلى ساكتٍ قول) ومثل (لا يُنسخُ المتواتر بخبر الواحد).

أمّا القاعدةُ الفقهيّة: فهي قاعدةٌ أغلبيّة تختصّ بالأحكام الفقهيّة لا بأصول الأحكام.

ثانياً: أثراً من آثار التقليدِ القديم الجديد، وأثراً من تجويز الروايةِ بالمعنى؛ فقد عبّر الأصوليون والفقهاء عن هذه القاعدةِ بألفاظٍ متعدّةٍ، أبرزها:

(1) لا إنكار في مسائل الخلاف - لا إنكار في المسائل الخلافية -لا إنكار في المسائل المختلف فيها - لا إنكار في مسائل الاجتهاد - لا إنكار في المسائل الاجتهاديّة - لا إنكار في الظنيّات.

(2) مسائل الخلاف لا إنكار فيها - المسائل الاجتهادية لا إنكار فيها - المختلَفُ فيه لا إنكارَ فيه، وهناك ألفاظ مقاربةٌ ومشابهةٌ لا حاجةَ إلى التطويل بعرضها.

ثالثاً: ما معنى هذه القاعدة عند الأصوليّين ؟

 إنّ أوسع الكلام على هذه المسألةِ؛ تجده لدى ابن قيّم الجوزيّة الدمشقيّ في «إعلامُ الموقّعين عن ربّ العالمين» (5: 243) إذ خطّا قولَ من قال: (لا إنكار في مسائل الخلاف) ونصَّ على أنّ أحداً من الأئمّة لم يقل بهذا القول.

وسبب منشأ الخطأ في نظره؛ أنّ من ليس لديه تحقيقٌ في العلم يظنّ أنّ قول «لا إنكار في مسائل الخلاف» هو ذاته «لا إنكار في المسائل الاجتهادية» فالأوّل خطأٌ محضٌ، والثاني صحيح بقيود!

قال: «المسائلُ التي اختلف فيها السلف والخلف، وقد تيقَّنا صحة أحد القولين فيها؛ كثيرةٌ:

(1) مثل كونِ الحامل تَعتدُّ بوَضعِ الحَملِ.

(2) وأن إصابةَ «جماعَ» الزوج الثاني؛ شرطٌ في حلِّها للأول.

(3) وأن الغُسل يجب بمجرد الإيلاج، وإن لم يُنْزِل.

(4) وأنّ ربا الفَضْل حَرَام.

(5) وأنّ نكاحَ المتعة حرام.

(4) وأنّ النَّبيذ المُسْكر حرام.

(5) وأنّ المسلم لا يقتل بكافر.

(6) وأن المسح على الخفين جائز حضرًا وسفراً» وذكر مسائلَ أُخَرَ، ثم ختم بقوله: «ولهذا صرّح الأئمة بنقض حكم مَنْ حكم بخلافِ كثيرٍ من هذه المسائل، من غيرِ طعنٍ منهم على من قال بها» انتبه إلى دقّة هذا الكلام!

قال: «الصوابُ ما عليه الأئمةُ من أنّ مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليلٌ يجب العملُ به وُجوباً ظاهراً، مثلُ حديثٍ صحيحٍ، لا معارض له من جنسه؛ فيسوغ فيها لاجتهادُ، إذا عُدمَ فيها الدليل الظاهر الذي يجب العملُ به؛ لتعارض الأدلة، أو لخفاء الأدلة فيها.

وليس في قول العالم: إنّ هذه المسألة قطعية أو يقينية، ولا يَسوغ فيها الاجتهاد؛ طَعْنٌ على مَنْ خالفها، ولا نسبةٌ له إلى تعمّد  خلاف الصواب» وانتبه أيضاً.

فابن القيّم يرى أنّ هناك مسائلَ اختلف فيها العلماءُ لأسبابٍ كثيرةٍ، لكنّ الدليلَ رجحانِ صوابِ أحد وجوه الخلافِ؛ ظاهر.

فمن اطّلعَ على دليلِ رجحان الصوابِ؛ لا يجوزُ له أن يخالفَ، ثم يقول: (لا إنكارَ في مسائلِ الخلاف).

أمّا المسائلُ التي اختلف فيها العلماءُ، والدليل؛ فيها غير موجبٍ أو ملزمٍ، والمختلفون فيها من أهل العلم والنظر، وليسوا من أهل التقليدِ والتعصّب؛ فهذه هي المسائل الاجتهاديّة التي يجوز أن يقال فيها: (لا إنكار في مسائل الاجتهاد).

 وللتوسّع في الجانب النظريّ هذا؛ طالع:

التحقيق والبيان في شرح البرهان؛ للأصوليّ علي بن إسماعيل الأبياريّ (ت: 616 هـ) (3: 282).

إعلام الموقّعين لأبي بكر بن قيم الجوزيّة (ت: 751 هـ) (1: 62) و(5: 242) فما بعد.

البحر المحيط، للأصوليّ الفقيه بدر الدين الزركشيّ (ت: 794 هـ) (6: 158).

المنثور في القواعد الفقهية للزركشيّ نفسه (2: 140).

الفوائد الجسام على قواعد ابن عبدالسلام، للأصولي الفقيه أبي حفصٍ البلقينيّ (ت: 805 هـ) (ص: 354).

إجابة السائل شرح بغية الآمل، للأصوليّ الفقيه محمد بن إسماعيل الأمير الصنعانيّ (ت: 1182 هـ) (ص: 416) وغيرها.

رابعاً: التطبيقات:

ينبغي أن لا نُنهي المنشور، من دون لفتِ النظر إلى عددٍ من المسائلِ الخلافيّة الاجتهاديّة في علوم الحديثِ.

(1) هل يؤخذ بخبر الواحد الصحيح في العقائد؟

(2) هل يؤخذ بخبر الواحد الحسن في العقائد؟

(3) هل يؤخذ بخبر الواحد الجيّد والصالح في العقائد؟

بجميعِ ذلك أخذ الحنابلةُ وكثيرٌ من أهل الحديثِ، والأخباريين من الإماميّة.

وقال الأشاعرة والماتريديّة: لا يجوز الأخذ بخبر الواحد في أصول الاعتقاد بخبر الواحد الصحيح، وجوّزوا الأخذ به في مسائل فروع الاعتقاد.

وقال المعتزلة: لا يجوز الأخذ بخبر الواحدِ الصحيح، فضلاً عن عمّا دونه في أصول الاعتقاد وفروعه، والمعتزلة من أهل السنّةِ، وليس كما يُظَنّ أنهم من الشيعة!؟

وبذلك قال الشريف المرتضى من الإماميّة.

وقال الفقير عداب: خبر الواحد الحسن والجيّد؛ لا يصلح لأكثر من الأولى وعدم الأولى، فلا أحتجّ به في أصول العقائد ولا فروعها.

وخبر الواحدِ الصحيح: إذا جاء مشهوراً عن صحابيٍّ مجتهدٍ مثل عليٍّ وعمر وابن عباس وعائشة، رضي الله عنهم؛ أقبله في أصول الاعتقادِ وفروعه؛ ما لم يخالف ظاهرَ القرآن، أو يختلف هؤلاء الصحابة في المسألة.

(4) هل وجود الحديثِ في صحيح البخاريّ يعني أنّه صحيح؟

في نظر الفقير؛ لا يُقبَل قول المقلّد مطلقاً، وليس لخلافه أيُّ قيمة، سوى أنّه وقحٌ يحشر أنفَه فيما لا يعلم!

والذي يعتدّ بخلافه من خرّج صحيح الإمام البخاريّ، أو خرّج (1000) حديثٍ منه، من جميع كتب صحيح البخاريّ، وكان من أهل العلم المشهود لهم فيه، من أهل الاختصاص.

وأنا لا أعلم أحداً خرّج صحيح البخاريّ كاملاً، سوى الحافظِ ابن حجرٍ، والفقير عداب الحمش.

وكان تخريج الحافظ ابن حجر سرديّاً، إلّا فيما نبّه الحفّاظُ السابقون عليه، على علّة فيه.

وقد أجاد إجادةً بالغةً سامقةٌ في تخريج الرواياتِ المعلّقةَ التي بلغت (3570) وصل البخاريّ جميعَها في صحيحه، باستثناء (160) رواية، والضعف يكتنفها من جوانبها.

أمّا تخريج الفقير عداب؛ فهو تخريج استيعابيّ شاملٌ مصادرَ الرواية أوّلاً.

ثمّ تخريجٌ نقديٌّ لكلِّ حديثٍ حديثٍ إسناداً ومتناً، نصَّ السابقون على علّةٍ فيه، أم لم ينصّوا.

بيد أنني لا أخرج عن قواعدِ أهل السنّة أبداً، إلّا في مسائلَ قليلةٍ جدّاً، من النادر أنْ قمتُ بتطبيقها في تخريجي للصحيحين؛ لأنّ العقولَ لا تحتمل!

فعندما يأتيني معاصرٌ يشوّشُ بالقول: أجمعت الأمّة على أنّ كلّ ما في صحيح البخاريّ صحيح؛ أقول له: تبّاً لهذا الإجماع المدّعى، وتبّاً لتلك الأمّة التي أجمعت على ذلك، افتراضاً!

وقد بيّنت في منشورٍ قريبٍ عددَ الأحاديثَ الموقوفةَ والمقطوعةَ  والمرسلةَ والمنقطعةَ والمعلّقة في صحيح البخاري، وهذه جميعها لا تدخل في التشريعِ من قريبٍ ولا بعيدٍ!

ناهيك عن الأحاديثِ الكثيرة التي لم يأخذ بها الأشاعرة والماتريدية في الاعتقاد، والأحاديثِ التي لم يأخذ بها الحنفية والمالكيّة أو أحد المذهبين في الفقه!

والأحاديثِ التي اختلف المحدّثون أنفسهم في تصحيحها وتضعيفها وتعليلها.

والأحاديث التي أخرجها مسلمٍ عن رواةٍ طعن فيهم البخاريّ، والأحاديثِ التي أخرجها البخاريّ، وأعرض عنها مسلم!

لا يمكن لمحدّثٍ يفهم بعلوم الحديثِ أن يقول: إنّ هذه الأحاديثَ جميعَها صحيحةٌ أو مقبولة!

فوجود الحديث في صحيح البخاريّ؛ قد يكون صحيحاً لذاته، أو صحيحاً لغيره، أو حسناً لذاته، أو حسناً لغيره، وقد يكون ممّا اختلف نقّاد الحديث فيه، في مسائل:

تعارض الوقفِ والرفع.

تعارض الوصلِ والإرسال.

تعارض الاتصال والانقطاع.

تعارض الانقطاع وزيادة الثقة.

وهذه المسائلُ جميعها عالجها الإمامُ البخاريّ هو في صحيحه، ولم يتركها لتُنْتَقَد عليه!

(5) مسائل توضيحيّة لما تقدم في البند (4):

(أ) ذكرت في منشور سابق قريب أنّ عددَ الروايات الموقوفة في صحيح البخاريّ (461) رواية.

منها ما هو موقوفٌ يحمل رأي صحابيٍّ في مسألةٍ من المسائل، مثال ذلك:

في كتاب الإيمان (32) قال البخاريّ رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح قَالَ و حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ أَبُو مُحَمَّدٍ الْعَسْكَرِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِاللهِ «بن مسعودٍ» قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وفي كتاب التيمّم (345) قال البخاريّ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ غُنْدَرٌ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ قَالَ أَبُو مُوسَى لِعَبْدِاللهِ بْنِ مَسْعُودٍ:

إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ لَا يُصَلِّي؟

 قَالَ عَبْدُاللهِ «بن مسعودٍ»: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِي هَذَا؛ كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ الْبَرْدَ قَالَ هَكَذَا، يَعْنِي تَيَمَّمَ وَصَلَّى!؟

قَالَ أبو موسى: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟

قَالَ: إِنِّي لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ».

وفي هذا الحديث من الفوائد ما يأتي:

 - كان من رأي عمر الذي تابعه عليه ابنُ مسعود أنّ المسلمَ إذا أراد الصلاةَ ولم يجد الماءَ؛ لم يصلِّ حتى وإن خرج الوقت، فإذاوجد الماءَ؛ توضّأ، ثم صلّى ما فاته.

- أنّ عمر ماتَ، وهو يفتي بهذا، كما في فتح الباري والتمهيد لابن عبدالبرّ!

- أنّ عمّاراً تحاورَ مع عمر في هذه المسألة، ثمّ وعدَ عمر أن لا يحدّثَ بها ما دام عمرُ حيّاً، حتى لا يخالفَ الإمامَ الحاكم!؟

- ابن مسعودٍ لا يرى بعضَ ذلك الجيلَ أصحاب دينٍ وتقوى، بدليل قوله: «إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمْ الْبَرْدَ؛ تَيَمَّمَ وَصَلَّى» وهذا خلاف التهويل والتفخيم الذي يصوّرون فيه أجيال السلف!

(ب) ذكرتُ أنّ عددَ المراسيل في صحيح البخاريّ (93) حديثاً، مثل ذلك:

- في كتاب العلم (64) قال البخاريّ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ فَدَفَعَهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى فَلَمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ.

قال عُبَيْدِ الله المسعودي: فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ: قَالَ فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ).

وهذا حديثٌ مرسلٌ، ابن المسيّب تابعيّ لم يلقَ الرسول، وهو يحكي قصّةً لم يقل من حدّثه بها، وهذا أيسر المراسيل!

ونحن نعتمد على هذه الروايةِ المرسلة، في أنّ كسرى فعل ذلك، وأنّ الله تعالى مزّق ملك الأكاسرة بدعوة الرسول.

 -وفي كتاب الأذان (682) قال البخاري: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِاللهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ عبدالله بن عمر قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ).

قال البخاريّ: تَابَعَهُ «أي: تابعَ يونسَ بن يزيدَ على أنّ الحديث موصولٌ» الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

 وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بن عبدالله، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» يعني مرسلاً، إذ حمزة بن عبدالله تابعيّ.

والبخاريّ ههنا يحكي علّةَ هذا الحديثِ، وهي تعارض الوصل والإرسال.

(ج) ذكرت أنّ عددَ المنقطعاتِ في صحيح البخاري (26) حديثاً، وإليك المثال الآتي:

في كتاب الجنائز (1348) قال البخاريّ:

«أ» حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ الله ِصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ).

«ب» «قال محمد بن مقاتل»: وَأَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ أَخْبَرَنَا الْأَوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِاللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِقَتْلَى أُحُدٍ أَيُّ هَؤُلَاءِ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى رَجُلٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ قَبْلَ صَاحِبِهِ.

وَقَالَ جَابِرٌ: فَكُفِّنَ أَبِي وَعَمِّي فِي نَمِرَةٍ وَاحِدَةٍ.

«ج» قال البخاريّ: وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِراً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ».

فالبخاري أورد ما زادَ به بعضُ الرواة على بعضٍ، وما اختلف فيه قول بعضهم.

ثمّ ختم بأنّ أحدَ الرواة عن الزهريّ وهو سليمان بن كثير العبديّ نقل عن الزهريّ أنّه قال: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِراً» فيكون الحديثُ منقطعاً من هذه الطريق.

ويتعيّن على الناقد أن يدرس أحوالَ الرواة عن الزهريّ؛ ليرجّح ما إذا كان الحديث متّصلاً  صحيحاً،أم منقطعاً ضعيفاً.

وبالنظر في حال سليمانَ هذا؛ وجدنا أنّه دون الإمامين الليث بن سعد والأوزاعيّ بمراحل.

ولم يعتمده البخاريُّ في أيّ رواية عن الزهريّ، إنّما علّق له بعضَ المتابعاتِ وبعضَ المخالفاتِ.

فأن يقول قائل: هذا صحيح وهذا صحيح، بناءً على القاعدة السخيفةِ الهزيلة: «كل ما في البخاريّ صحيح» هذا جنون رسميّ!   

أقول: لكلّ كتابٍ من كتب الرواية الحديثيّة عند أهل السنّة مزايا وفوائد، بيد أن تصنيف صحيح البخاريّ، وتصنيف صحيح ابن حبّان؛ إعجازيٌّ تماماً.

وما قام به الحافظُ ابن حجر لا يتجاوزُ (30%) مما يحتاجه صحيح البخاريّ من خدمة!

وقد مضى عليّ في خدمة صحيح البخاريّ منذ العام (2009) وإلى هذه الساعة، وما خدمت البخاريّ بنسبة (25%) فليتّق الله تعالى الذين يطعنون في صحيح البخاريّ؛ لأنهم جهّالٌ جهلاً مركّباً حقّاً.

وليتقّ الله تعالى الذين يتشنجون عند نقدِ أيّ شيءٌ في صحيح البخاريّ؛ للسبب نفسه؛ لأنهم جهّالٌ جهلاً مركّباً، والله!

ختاماً: المنشور يحتاج أن يكون في (40) صفحة حتى يوفّى حقَّه، وفي هذا القدر كفايةٌ لمن يفهم، ومَن لا يفهم؛ فليحاولْ أن يستفيدَ ويسكت، فقد مَللتُ كلامَ الجاهلين!

والله المستعان.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 26 أبريل 2023

مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (10):

صِفةُ الطَهارةِ الكُمْلَى !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحد الإخوة الأفاضل يطلبُ مني منشوراً يصف صلاة أهل البيت عليهم السلام، وأنا أعلم أنه لا يوجد في كتب أهل السنةِ شيئاً يخصّ صفةَ صلاة آل البيت، فلم يكن علم وفقه آل البيت في القرون الأولى، من اهتماماتِ أهل السنّة على الإطلاق!

 فأخبرته بذلك، فطلب أن أصف له كيف أصلي أنا الفقير عداب.

أقول وبالله التوفيق:

من المناسب أن أقول: إنني منذ خمس سنواتٍ في حال ضعفٍ جسمانيّ كبيرٍ، فليس من المناسب أن أصف صلاةَ الشيخوخة للشباب، لكنّني سأصفها على كلِّ حالٍ لأكون أبعدَ عن الرياءِ والتسميعِ، نعوذ بالله تعالى من ذلك!

الطهارة الصغرى:

جميعكم يعلم كيف يغتسِل من الجنابةِ، وكيف يتوضّأ وضوءَه للصلاة، إنّما أحبّ التأكيدَ هنا على الاستنزاه من البول، قبل الشروع بأيٍّ من الطهارتين!

قرأت لأحدِ المثقفين كلاماً مفادُه أنّ الإنسان ليس مطالباً بالاستنزاه من البول، إنما عليه أن ينتظر حتى يشعر بأنّ المثانةَ قد فرغت، فيقوم بصبّ الماء على قضيبه وما أصابَه البولُ من محاشمه، ثم يقوم فيتوضّأ!

يقول هذا المثقف: وهو ليس مطالباً بأن يُخرج ما في قضيبه من البول، وهذا من أغرب ما سمعتُ في حياتي من فقه!

في مجتمعنا الأُسريّ، لا يعلّمنا الوالدان شيئاً من أمورِ الطهارة، فضلاً عمّا هو أكبرُ؛ لأنهم يستحييون من ذلك، إنما يلفتون أنظارَ مشايخنا ليعلّمونا ما يستحيي آباؤنا من تعليمنا إيّاه.

وقد علّمني سيّدي وشيخي الشريف عارف النوشيّ السبسبيّ دقائقَ الطهارة، وأنا في سنّ الخامسةِ، وربما قبلَ ذلك، لكنّه ظلّ يؤكّد عليها ويذكّرني بها حتى السابعةِ من عمري!

كنتَ في صغري حادَّ المزاج جدّاً، وكانت ذاكرتي قويّةً، تقرب من جهاز التسجيل، فكنت أتضايق من تكرار أيّ شيءٍ، حتى تكرار آياتِ القرآن العظيم ليحفظها التلامذة الصغار في الخامسة والسادسة.

فذكّرني مرّةً بفروض الطهارة وآدابها، فاعترتني الحدّةُ، وقلت له: يكفي شيخي، في كلّ حين تذكّرني بما يُقرِف، واللهِ مللتُ من هذه القصّة!

فسردت عليه فروضَ الطهارة وآدابَها التي علّمني إياها، وقلت له: أتراني حفظتُ؟

قال: أنا أعلم أنك حفظتَ، لكنني أخاف عليك من النار، وعذاب القبر؟

قلت له: ما علاقة النار وعذاب القبر بالبول والغائطِ، والطهارة منهما؟

قال: أمّا عذاب النار؛ فلأنّ من لا يستنزه من بوله؛ لا صلاةَ له، فيلقى الله تعالى وفي ذمّته صلوات عمره، وأمره إلى الله تعالى، إن شاء سامحه، وإن شاء عذّبه.

وأمّا عذاب القبر؛ فقد مَرَّ سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على قبرين في مقبرة البقيعِ بالمدينة المنوّرة، فشاهدهما، أو أوحي إليه أنّهما يعذّبان في قبريهما، فقال لمن معه:

أمّا أحدهما؛ فكان لا يستنزه من بوله.

وأمّا الآخر؛ فكان يمشي في النميمة!

فهمت لماذا؟

قلت له: ماذا تعني كلمة (يستنزه)؟

قال: عند الفقهاء العلماء: الاستنزاه والاستبراء.

أمّا الاستنزاه؛ فهو يعني الاطمئنان إلى انتهاء رشح البول، وذلك بأن يمسح الرجل قضيبه بيسراه، بهدوءٍ ولين، ثم يمسح رأسَ ذكره بمنديل صغير، ويعيد ذلك ثلاثَ مرّاتٍ، فإذا اطمأنّ إلى أنه لم يعد في الإحليلِ شيءٌ؛ صبّ الماء باقتصادٍ حتى يطهر المكان ويتنظّف تماماً، وهذا يسمّى الاستبراء، يقولون: «طلبُ براءة المخرج».

لقول أمّنا السيّدة عائشة رضي الله عنها للنساء المسلمات: (مُرنَ أزواجَكنَّ أنْ يستطيبوا بالماء - فإنّي أستحييهم - فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يفعله) أخرجه جمع من العلماء، والترمذيُّ (19) وقال: حديث حسن صحيح.

وفي رواية عند الإمام أحمد في المسند (24639) قالت: (مُرْنَ أَزْوَاجَكُنَّ يَغْسِلُوا عَنْهُمْ أَثَرَ الْخَلَاءِ وَالْبَوْلِ، فَإِنَّا نَسْتَحْيِي أَنْ نَنْهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَفْعَلُهُ) ويجب عليه عدم الإسراف. هذه الرواية من عندي للتوضيح.

  قال شيخي: الماء هو الماء المعروف، والحجَرُ لم يعُدْ يُستعمَل، إذ صار في بيوت الناس مراحيضُ، فصار الناس يستعملون مناديل الورق، الزهيدةَ الثمن» انتهى كلام شيخي.

أحببت التوكيدَ على هذه المسألةِ لأنني سعمتُ عدداً من تلامذتي يقولون: إنّهم لم يسمعوا بهذه الكيفيّة من الاستنزاه والاستبراء في بيئاتهم، إنما يكتفون بصبّ الماءِ.

ولن أناقشَ أنا ههنا المسألةَ هذه، أهي على الوجوبِ أم الندب، لأنّ مطلوبَ الإخوة أن أصفَ لهم صلاتي، وأنا أقوم بذلك، وأذهب إلى وجوب الاستنزاه، وسنيّة الاستبراء السابقِ ذكرهما.

وإلى منشورٍ تالٍ جديدٍ، نوضح فيه صفة الصلاة الكُملى، من وجهة نظر الفقير عداب.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال. 

الاثنين، 24 أبريل 2023

  مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (9):

خُمُسُ المكاسبِ في الفقه الإسلاميّ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

طلب عددٌ من الإخوةِ أن أكتبَ رأيي في مسألة الخُمُسِ بين السنة والشيعة، بيد أنّ أحدهم أراد بحثاً موسّعاً، مع الأدلّة والترجيح!

وليس هذا الطلبُ من حقّه، ولا من حقّ أحدٍ أن يطلبَه من أحدٍ؛ للأمور الآتية:

الأوّل: أنّ معلومةَ «الفيس بوك» تشبه حبّةَ بسكويت، يقدمها إنسانٌ لأخيه الإنسان، ريثما يصل إلى منزله، ليتغدّى أو يتعشّى!

الثاني: أنّ العالم أو طالبَ العلم؛ ليس موظّفاً لدى «الفيس بوك» أو لدى قرّاء الفيس بوك، إنما هو متطوّعٌ محسن، فاطلب منه المتيسّر (خُذِ العَفْوَ) إذ لديه أعمال علميّة يريد أن ينجزها، ولديه عمل آخر يكسب منه رزقه، ولا بدّ!

إذ ليس في روّاد الفيس بوك، ولا غيرهم من يقدّم إليه أيَّ عِوَضٍ يسدّ حاجاته منه!

الثالث: عرضُ آراء الفقهاء وأدلّتهم، وبيان الراجح منها؛ بحثٌ علميّ، والبحوث العلمية؛ لا تُنشر إلّا بعد اكتمالها، وتوثيق نسبتها إلى كاتبها.

فيكون السؤال الصحيح على النحو الآتي: «شيخنا - شيخي - دكتور، أو أيّ صيغةِ احترامٍ أخرى»: لا يخفى عليكم اختلاف أهل العلم في مسألة خُمُس المكاسب، حبذا لو ألقيتم الضوء على هذه المسألة».

جواب مثل هذا السؤال؛ أكتبه لك بساعة، أو ساعتين، على ضيق وقتي!

أمّا البحث العلميّ، فيحتاج إلى أسبوعٍ، وربما إلى شهر!

أقول وبالله التوفيق:

في الجانب الاقتصاديّ من الفقه الإسلامي؛ لدينا موارد كثيرة، منها:

الصدقات، والهبات، والهدايا، والزكاةُ، والكفّاراتُ، والنذور، والعشور، والخراج، وخُمس الغنائم، والفيءِ، وخمس المكاسب، وغير ذلك أيضاً!

وعندنا مصارف معلومَةٌ لهذه المواردِ الماليّة، من أراد معرفةَ أحكامها؛ فعليه بمراجعة كتاب فقه مذهبيٍّ أو مقارَنٍ، حسب رغبته.

ومنشورنا هذا يخصّ خُمسَ المكاسبِ خاصّةً، إذ إنّ خمسَ الغنائم وخمس المعادن والثروات والركاز والكنوز؛ احتكرتها الحكومات الوطنية لأنفسها، ولم تسمح لرعاياها بأيّ حقٍّ منها، يستوي في ذلك الحكومات التي تحكم بلاد المسلمين وغيرَهم.

قال الله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ؛ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) [الأنفال].

 فخمس الغنائم مصارفه معلومة من هذه الآية الكريمة.

وقال الله تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ؛ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى؛ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ، كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ !؟

وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ؛ فَخُذُوهُ، وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ؛ فَانْتَهُوا، وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) [الحشر].

وأربعةُ أخماس هذا الفيء لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وخُمُسُ الفَيءِ الأخير يصرف فيما ورد ذكره في الآية الكريمة، ومن الشيعةِ مَن يجعله كلَّه للإمام، ولا نصيب فيه للأغنياء باتفاق!

للشريف المرتضى كتاب، سمّاه الانتصار لما انفردت به الشيعة الإماميّة، وسمّاه في إحدى رسائله ضمن المجموع (2: 167) «نُصرة ما انفردت به الشيعةُ الإمامية من المسائل الفقهية» سأنقل قوله كاملاً، ثمّ أعقّب عليه بما يلزم.

قال (ص: 86) منه: «ومما انفردت به الإماميّةُ؛ القولُ بأنّ الخمسَ واجبٌ في جميع المغانم والمكاسب، ومِمّا استُخْرج من المعادن والغَوص والكنوزِ، وما فَضَل من أرباح التجارات والزراعاتِ والصناعات، بعد المؤنةِ والكفاية في طولِ السنة على اقتصادٍ.

وجهاتُ قِسمتِه؛ هو أن يُقسَم هذا الخمسُ على ستة أسهم:

ثلاثة منها للإمام القائمِ مقامَ الرسول صلّى الله عليه وآله، وهي سَهْم الله تعالى، وسَهم رسوله صلّى الله عليه وآله، وسَهم ذوي القربى.

ومنهم مَن لا يخصُّ الإمامَ بسهم ذوي القربى، ويجعله لجميع قرابة الرسول عليه السلام، من بني هاشمٍ.

فأمّا الثلاثةُ الأسهم الباقية؛ فهي ليتامى آل محمد عليه السلام، ومساكينهم، وأبناء سبيلهم، ولا يتعدّاهم إلى سواهم، ممّن استحقّ هذه الأوصاف.

ويقولون: إذا غنم المسلمون شيئاً من دار الكفر بالسيف ، قسم الإمام الغنيمةَ على خمسة أسهم ، فجعل أربعةً منها بَين من قاتل على ذلك، وجعل السهم الخامس على ستة أسهم، ثلاثةٌ منها له عليه السلام ، وثلاثةٌ للأصناف الثلاثةِ من أهله ، مِن أيتامهم ومساكينهم وأبناء سبيلهم.

وخالف في ذلك سائرُ الفقهاء «من غير الإماميّة» وقالوا كلّهم أقوالاً خارجةً عنه، والحُجّةُ فيه الإجماع المتكرّر» وقال في المسائل الرازيّة: «والحجّة في ذلك؛ إجماع الفِرقة المحقة عليه، وعملُهم به».

قال في الانتصار: «فإن قيل: هذا المذهب يخالف ظاهرَ الكتاب؛ لأنّ الله تعالى يقول: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) وعموم الكلام  يقتضي أن لا يكون ذوي القربى واحداً، وعموم قوله تعالى: (وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) يقتضي تناولَه لكلّ من كان بهذه الصفات، ولا يختصّ ببني هاشم؟

قلنا: ليس يمتنع تخصيص ما ظاهره العموم بالأدلّة».

وقال في المسائل الرازيّة: «فالجواب عن ذلك؛ أن العُمومَ قد يُخَصُّ بالدليل القاطع!

وإذا كانت الفِرقة المُحِقّةُ قد أجمعَتْ على الحُكم الذي ذكرناه بإجماعهم الذي هو غيرُ مُحتملِ الظاهر؛ فإنّ إطلاق قوله تعالى (القُرْبَى) يَقتضي بعمومه قرابةَ النَبيّ وغيرِه.

فإذا خُصَّ به قرابةُ النَبيِّ صلى الله عليه وآله؛ فقد عُدِلَ عن الظاهر.

وكذلك إطلاقُ لفظة (الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) يَقضي بدخولِ من كان بهذه الصفة من مسلم وذمي وغني وفقير.

ولا خلاف في أنّ عموم ذلك غيرُ مَرادٍ، وأنّه مخصوص على كل حال».

وقال في الانتصار أيضاً: «لا خلاف بين الأمة في تخصيص هذه الظواهر؛ لأنّ ذي القربى عامٌّ، خصّوه بقربى النبيّ صلى الله عليه وآله، دون غيرهم.

ولفظ (الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) عامٌّ في المشرك والذميّ والغنيّ والفقير، وقد خصّته الجماعةُ «يقصد أهلَ السنّة» ببعض من له هذه الصفة.

على أنّ من ذهب من أصحابنا «الإمامية» إلى أنّ ذا القربى هو الإمام القائم مقام الرسول عليه السلام خاصّةً، وسمّي بذلك لقربه منه نسباً وتخصّصاً؛ فالظاهر معه؛ لأنّ قوله تعالى: (لِذِي الْقُرْبَى) لفظُ واحدٍ، ولو أراد الله تعالى الجمعَ لقال: لِذوي الْقُرْبَى، فمن حمل ذلك على الجماعةِ؛ فهو مخالفٌ للظاهر» إلخ.

وانظر تمامَ ما قاله الشريف المرتضى رضي الله عنه، في جوابات المسائل الرازيّة، ضمن مجموع رسائله تحت عنوان  «أحكام الخمس» فينظر.

قال الفقير عداب: يُلاحَظُ أنّ الشريف المرتضى؛ لم يحتجَّ بأيّ دليلٍ نقليّ من الرواياتِ عن الأئمة؛ لأنّ من مذهبه الذي صرّح به في الانتصار (ص: 6) أنّ عمدته إجماع الإماميّة على المسائل التي انفردت بها.

قال رحمه الله تعالى: «وممّا يجب علمُه أنّ حجة الإماميّة في صواب جميع ما انفردت به، أو شاركت فيه غيرَها من الفقهاء؛ هي إجماعها عليه؛ لأنّ إجماعَها حجة قاطعةٌ ودلالةٌ موجبة للعلم...

وإنما قلنا: إنّ إجماعَهم حجة؛ لأنّ في إجماع الإماميّة قول الإمام الذي دلّت العقولُ على أنّ كلّ زمانٍ لا يخلو منه، وأنه معصومٌ لا يجوز عليه الخطأُ في قولٍ أو فعل!

فمن هذا الوجه كان إجماعهم حجّةً ودليلاً قاطعاً».

ويلاحَظ أيضاً أنّه يرى الخُمسَ للإمام الذي يقوم مقامَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، له نصيبُه منه، ويقوم هو بتوزيع الباقي حسبَ اجتهادِه.

وهو في هذا يوافق أبا بكرٍ وعمر وعثمان، الذين يذهبون هذا المذهبَ ذاتَه، والخلاف بينه وبينهم؛ أنّ يرى الإمامَةَ منحصرةٌ في آل البيتِ، بينما هي عامّة لديهم.

وما دامت مسألةُ الإمامةِ اجتهاديّةً؛ فيجب علينا إعذارَهم فيما ذهبوا إليه، وإن خالفوا غيرهم!

يروي الطبريّ في تاريخه (4: 345) قوله: «إِنِّي أُخْبِرُكُمْ عَنِّي وَعَمَّا وُلِّيتُ.

إِنَّ صَاحِبَيَّ اللَّذَيْنِ كَانَا قَبْلِي «يقصد أبا بكر وعمر» ظَلَما أَنْفُسَهُمَا وَمَنْ كَانَ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ احْتِسَابًا، وَإِنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي قَرَابَتَهُ.

وَأَنَا فِي رَهْطٍ أَهْلِ عَيْلَةٍ، وَقِلَّةِ مِعَاشٍ، فَبَسَطْتُ يَدِي فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ، لِمَكَانِ مَا أَقُومُ بِهِ فِيهِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ ذَلِكَ لِي».

- وممّا يحسنُ قوله في هذه المسألة؛ إنّ إجماعَ الإماميّة، أو إجماع أهل السنةّ، أو إجماع غيرهم من فرق الإسلام؛ ليس حجّةً ملزمة إلّا لمن التزم هو ذلك، إنما الإجماعُ الملزمُ هو إجماع الأمّة قاطبةً.

وليتوضّح لدى قرائي من الإماميّة أنّه لا يثبتُ في خمسِ المكاسبِ أيّ حديثٍ؛ عليهم مراجعة مرآة العقول للشيخ المجلسيّ (5: 255) فقد ترجم الكلينيّ «باب أنّ الأئمة كلَّهم قائمون بأمر الله تعالى، هادون إليه» وأخرج الكليني تحته ثلاثة أحاديث، حكم المجلسيّ على الرواية الطويلة الأولى بقوله: مجهول، وعلى الروايتين الأخريين بقوله: ضعيف!

وترجم بعده (5: 259) باب صلة الإمام، وأورد تحته (7) روايات!

كانت الأولى معلّقةً من دون إسناد، وكانت الثانية والثالثة والخامسة ضعيفةً، وقال عن الرابعة: موثّق، وعن السادسة مرسلة، وعن السابعة موثّق كالصحيح!

والموثّقتان ضعيفتان على الصحيح، وعليه فلا يصح في الباب الثاني هذا شيءٌ أيضاً.

ثم ترجم الكلينيّ (5: 262) «باب الفيء والأنفال وتفسير الخمس وحدوده وما يجب فيه»

وأخرج تحته ثمانية وعشرين روايةً (5: 270 - 304) حكم المجلسيّ عليها على النحو الآتي:

صحيح (7، 13).

حسن (3، 8، 9، 16، 17، 19، 27، 28).

موثق (11)

مختلف فيه (1)

ضعيف (2، 6، 10، 14، 15، 18، 20، 22، 23، 24، 25، 26، )    

مرسل (4)

مجهول (5، 12، 21).

ولو نحنُ سلّمنا بصحة أحكام المجلسيّ؛ فإنّ الصحيح يستدلّ به للأحكام الواجبةِ أو المحرمة، والحسن يستدلّ به للأحكام المندوبة أو المكروهة.

وباقي أحاديث الباب، وهي ثمانيةَ عشر حديثاً؛ مجرّد أعدادٍ لا قيمةَ لها في إثباتٍ أو نفي!

هذه أحاديث «الكافي» المقدّس، فما بالك في أحاديث غيره من الكتب الشيعيّة ؟

وزيادةً في معرفة مذهب الإماميّة في خمس المكاسب؛ انظر المعتبر من بحار الأنوار للشيخ آصف محسني الأفغاني، وانظر شرائعَ الإسلام للمحقّق الحليّ رحمهما الله تعالى (1: 155 - 161) وانظر دروس تمهيدية في الفقه الإسلاميّ للشيخ باقر الإيروانيّ (1: 305 - 322).

ولو كان الشيخ باقرٌ خبيراً بنقد الحديث والرواياتِ؛ لكان كتابُه هذا مرجعاً إماميّاً ممتازاً لأمثالي من غير الإماميّة، وأنصح كلَّ سنيٍّ بقراءته لوضوح عبارته، وحسن عرضه، وجودة ترتيبه وتنظيمه، جزى الله كاتبه خيراً.

ختاماً: لم يثبت أيّ حديثٍ على مشروعيّة خمس المكاسب، فيكون ما يأخذه مراجع الشيعة من الناس على سبيل الإلزام والوجوب سُحتاً وحراماً.

أمّا إذا أعطاهم الناس الخمسَ على سبيلِ الندب، زيادةً في تضخيم ثرواتِ المراجعِ؛ فلا بأسَ في ذلك، ولو أعطوا هذا الخمسَ أو بعضه لمن يفيدهم وينفعهم في دينهم ودنياهم؛ كان أقربَ إلى الله تعالى هدىً ورشاداً!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

السبت، 22 أبريل 2023

 مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (6):

صلاةُ الشيعةِ أم صلاة السنّة !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحد الإخوة عن صفةِ صلاة أهل البيت؟

وسألني أخ ثانٍ عن حكمِ صلاةِ الشيعةِ المعروضةِ على مواقع التواصل الاجتماعيّ؟

وسألني أخٌ آخرُ عن صفةِ صلاتي أنا؟

وسألني عدد من الإخوة قال: أيّهما أصحُّ صلاة أهل السنة، أم صلاة الشيعة؟

أقول وبالله التوفيق:

من المعلوم لدى الناس جميعاً أنّ صلاةَ الجماعةِ هي الصلاةُ التي يُشاهدها المراقب، فيحكم لها أو عليها.

وإذا كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ هو الذي حثَّ إمامَ الصلاةِ على تخفيفِ صلاته، بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ؛ فَلْيُخَفّف؛ فَإِنَّ مِنْ وَرَائِهِ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) أخرجه البخاري في العلم (90) ومسلم في الصلاة (466) من حديثِ أبي مسعودٍ الأنصاريّ، وأخرج البخاريّ (703) ومسلم (467) من حديثِ أبي هريرة مرفوعاً: (إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ؛ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ؛ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ) فلا يكون تخفيفُ الصلاةِ بحدِّ ذاته مدعاةً للّوم والانتقاص!

ومن المعلوم لدى طلبةِ العلم؛ أنّ جمهورَ العلماءِ يذهبون إلى أنّ قراءةَ الفاتحةِ وحدَها، وأنّ تسبيحةً واحدةً في الركوع والسجود؛ تجزئ في الصلاة، ومن اقتصر على الحدّ الأدنى هذا؛ فصلاته صحيحة.

إذا كان هذا واضحاً؛ فلا يُعابُ أحدٌ بسُرعةِ صلاتِه!

لكنْ هل هذه الصلاةُ هي الصلاةُ الكملى؟

لا ريبَ في أنّ صلاةَ الجماعةِ على هذه الصورةِ؛ ليست هي الصلاةَ الكملى، إنما هي صلاةُ تراعي أوضاعَ كِبارِ السنّ والمرضى وأصحاب الحاجات وعوامّ الناسِ الذين لا يعنيهم سوى إجزاءِ فريضة الصلاة!

لكنها ليست هي الصلاةَ التي قال الله تعالى في وصفها:

(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) [البقرة].

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) [المؤمنون].

وأنا الفقير صلّيت مرّاتٍ عديدةً في مساجد الشيعة الإماميّة في العراق، وفي مساجد الزيديّة في صنعاء، وصلّيت صلواتٍ كثيرةً جدّاً في مساجد تركيّا؛ فمن النادرِ أن تَتِمَّ لي صلاةٌ وراءَ إمام منهم!

إذْ إنني أنا الفقير أذهبُ إلى رُكنيّةِ قراءة الفاتحةِ، منفرداً ووراءَ الإمامِ على حدٍّ سواء. وهيهاتَ هيهاتَ أن يستطيع مأمومٌ أن يقرأ الفاتحةَ وراءَ هؤلاء الأئمة، خاصّة في ركعة المغربِ الثالثة، والثالثة والرابعة من الصلوات الرباعيّة.

ولأجل هذا؛ فقد تركتُ صلاةَ الجماعةِ في مساجدِ تركيّا منذ سنوات، إنما أحرصُ على أداء صلاة الجمعةِ، مع ذهابي إلى ضرورة عدالةِ الإمامِ والخطيب!

ولأجلِ هذا وأمورٍ أخرى؛ ذهبَ عددٌ من علماءِ الشافعيّةِ إلى أنّ صلاةَ المَرْءِ مُنفرداً؛ أفضلُ من صلاته جماعةً وراء إمامٍ حنفيٍّ!

والإشكالُ القائم لديّ حقّاً؛ هو: إذا كانت (صَلاةُ الجماعةِ تفضُلُ على صلاةَ الرجلِ وحدَه بسبع وعشرين درجةً) أخرجه البخاريّ (645) ومسلم (650) والترمذيّ في الصلاة (215) من حديثِ عبدالله بن عمر، وهذا لفظه، ثمّ قال: «حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَكَذَا رَوَى نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) وَعَامَّةُ مَنْ رَوَى هذا الحديثَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا قَالُوا: (بخَمْسٍ وَعِشْرِينَ) إِلَّا ابْنَ عُمَرَ، فَإِنَّهُ قَالَ: (بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ).

أقول: إذا كانت (صَلاةُ الجماعةِ تفضُلُ على صلاةَ الرجلِ وحده بسبع وعشرين درجةً) وهي سنّةُ مؤكّدةٌ عند جمهور الفقهاء، بينما هي فرضُ عينٍ، عندَ الحنابلةِ وأكثرِ أهل الحديث، فكيف سيكون التوفيق بين صلاةِ الجماعةِ التي أمرنا الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بتخفيفها، وبين الأحاديث الصحيحةِ الواردةِ بإتمامِ الركوع والسجود؟

وهل تسبيحةٌ واحدةٌ تنسجم مع قول الرسول: (أقيموا الركوع والسجود) ؟

أخرجه البخاري (742) ومسلم (425) ومع قوله الآخر: (إِنَّ أَسْوَأَ النَّاسِ سَرِقَةً الَّذِي يَسْرِقُ صَلَاتَهُ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: وَكَيْفَ يَسْرِقُ من صَلاتِه؟

قَالَ: (لَا يُتِمُّ رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا) أخرجه أحمد والدارميّ مرفوعاً، وأخرجه مالك مرسلاً.

وكم بين قوله تعالى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وبين الأحاديثِ الواردةِ بتخفيف صلاة الجماعةِ من تفاوت؟

وهل أداءُ صلاةِ الجماعةِ على النحو الذي وصفتُه؛ يجعلُ صلاةَ الجماعةِ هذه صلةً بين العبد وربّه تبارك وتعالى؟

إذا صحّتْ أحاديثُ التخفيفِ هذه؛ فما عليّ سوى التسليم، ويكون هدفُ صلاةِ الجماعة في الإسلامُ هو إظهارَ عظمةِ الإسلام، وهيبةِ أهله باجتماعهم، مثلما تكون سبيلاً إلى التعارفِ، الذي يقود إلى التكافل، وتكون صلاةُ النوافلِ هي التي تُربّي شخصيّةَ المسلم وتهذّبها، وهي التي تكون صلةً بين العبدِ وربّه، وإليها أشار الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله الشريف (إنّ أفضلَ الصلاةِ؛ صلاةُ أحدكم في بيته، إلّا الصلاةَ المكتوبة) أخرجه البخاريّ (731) ومسلم (781).

بيد أنّ ما يُعابُ على كثيرٍ من أئمّة الرافضة في صلاة جماعتهم؛ البِدَعَ التي يبتدعونها فيها، ويستحسنونها عقليّأ، بَدْءاً من الأذان والإقامةِ، وانتهاء بأدعيةِ ما بعد التشهّد الأخير!

وسبب ذلك في نظري؛ هو هل يمكن للعقل أن يستقلَّ بإدراكِ بعضِ الأحكامِ الإلهيّةِ التي لم يَرِدْ فيها عن الشارعِ نصٌّ من كتابٍ أو سنّة؟

قال الدكتور الشيخ أحمد كاظم البهادليّ في كتابه مفتاح الوصولِ إلى علم الأصول (1: 97) وهو يَعرِض اختلاف المذاهب في هذه المسألة: «إنّ إدراك العقلِ للحكمِ الشرعيّ - إذا لم يكن هناك نصٌّ يعارض هذا الإدراك - يُعامَلُ معاملةَ ما دلَّ عليه الدليلُ القطعيُّ من الأحكام، ويترتّب على إدراك العقل هذا حُجّيتُه على المكلَّفِ، حجيّةً، يترتّب على امتثالها مَدْحُ العقلاءِ لمن امتثل، وذمّهم لمن خالف، كما يترتّب عليها ثوابُ الله وعقابه.

وهذا الرأيُ لمعظم الأصوليين من الإماميّةِ، ورأيُ جميع المعتزلةِ».

وبمعزلٍ عن رأيِ الشيخِ البهادليّ، الذي رجّحه بعد مناقشةٍ مستفيضة (1: 102 - 111) فمَن عمل بما تقدّمَ؛ فليس بمذمومٍ ولا مُلامٍ عند علماء الإماميّة!

إنّ أئمةَ الإماميّة الأوائل يقولون: إنّ الشهادة الثالثة في الأذان (أشهد أنّ عليّاً وليّ الله) بدعة!

بعد أن ساق الشيخ الصدوق جُمَلَ الأذان في كتابه «من لا يحضره الفقيه» (1: 290) قال: «هذا هو الأذانُ الصحيحُ، لا يُزاد فيه، ولا يُنقَص منه، والمفوّضةُ لعنهم الله قد وضعوا أخباراً، وزادوا في الأذان: «محمد وآل محمد خير البرية» مرّتين، وفي بعض رواياتهم، بعد (أشهد أن محمداً رسولُ اللهِ): أشهد أن عليّاً وليُّ الله مرّتين، ومنهم مَن روى بدلَ ذلك: أشهد أنّ عليّاً أميرُ المؤمنين حقّاً، مرتين!

ولا شكَّ في أنَّ عليّاً وليُّ اللهِ، وأنّه أميرُ المؤمنين حقّاً، وأن محمداً وآلَه صلواتُ الله عليهم خيرُ البَريّةِ، ولكنْ ليس ذلك في أصل الأذان، وإنما ذكرتُ ذلك ليُعرَف بهذه الزيادةِ المُتّهمونَ بالتفويضِ، المدلّسون أنفُسَهم في جُملتنا».

وحين عدّ المحقّق الحليّ جُملَ الأذان في كتابه شرائع الإسلام (1: 65) لم يذكر فيها الشهادةَ الثالثة!

لكنّ محقّق الكتاب السيّد صادق الحسينيّ الشيرازيّ في الحاشية (7) من (ص: 65) استحبّ الشهادةَ الثالثةَ، مع عدم ورود روايةٍ صحيحةٍ بذلك؛ لكفاية مثل ذلك في الاندراج تحت عمومات «التسامح في أدلّةِ السنن».

والشيخ باقر الإيروانيّ في كتابه «دروس تمهيدية في الفقه الإسلاميّ» (1: 171) قال:

«وأمّا أنّ الشهادةَ الثالثةَ ليست جزءاً - من الأذان والإقامة - فلاتّفاق أرباب المذهب على ذلك».

لكنّه مع ذلك رجّح اعتمادَها في الأذان والإقامة، فقال: «أجل هي لا بقصد الجزئيّة؛ راجحةٌ، وشعارٌ للشيعةِ».

وهذا من دون شكٍّ استحبابٌ عقليّ، يجدون له مسوّغاته الواقعيّة!

وبناءً على ما تقدّم من استقلال العقل في التشريع، عند سكوتِ الشارعِ عن المعارض؛ تجد إحدَ المؤذّنين والمقيمين الرافضةَ يستظرف أن يقول: «أشهد أنّ أمير المؤمنين عليّاً وليّ الله .. أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والمعصومين من ذريتهما حُججُ الله».

وتجد أحدَ الأئمة يقول في قنوته: «والعن أعداءهم وخصوصاً أبا بكر وعمر وعثمان وعائشة» فما دام جاء في الروايات أنّ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلم دعا على بعض قبائل العرب؛ فهو يستحسن عقليّاً أن يقنت على أبي بكر وبقيّة الصحابة باللعن!

وهكذا شأنهم في كلّ الزياداتِ والإضافات التي يخترعونها في صلواتهم، تسويغ القيام بها لديهم؛ أنّ الشارعَ سكتَ ولم يرد عنه نهيٌ عنها.

وقد صلّيتُ خلفَ شيخي العالم السيّد محمد مهدي الخرسان غيرَ مرّةٍ، فلم ألحظ في صلاته مخالفاتٍ ولا أحقاداً، بيد أنني ما صليّت خلفَ شيعيّ إماميّ يتجاوز سورة (والضحى) وليس فيهم أحدٌ يجيد تلاوةَ القرآن العظيم بالتجويد على الإطلاق!

أمّا عن صلاتي أنا؛ فقد كتبت كلاماً بهذا الخصوص، بيد أنني وجدت عرضَه عليكم تزكيةً لنفسي، والله تعالى يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى).  

وما أستطيع قولَه إجمالاً: إنّ معالمَ صلاتي الظاهريّة أفضلُ بما لا يقاس من صلاة جميع مَن صلّيت خلفهم من الحنفية والزيدية والإماميّة، ولم أصلِّ في حياتي كلّها، حتى عندما كنت طفلاً صلاةً تشبه هذه الصلوات العجلى، التي ليس فيها خشوعٌ ولا طمأنينةٌ ولا خشوع!

أمّا عن قبولِ الله تعالى ذلك مني؛ فأسأله بأسماءِ الحسنى أن يقبلها.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.