الثلاثاء، 30 أغسطس 2022

  التَصَوُّفُ العَليمُ (19):

  تَوبةُ مالكِ بن دينارٍ الزاهد (ت: 131 هـ)!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قصّت عليّ بنتي قصّة توبةِ الإمام مالك بن دينارٍ رضي االله عنه، ثمّ سألتني: هل هذه القصة صحيحة؟

وإذْ إنني غدوتُ أنسى كثيراً، ولم أتذكّر شيئاً عن القصّة؛ قلت لها: لا أظنّ هذه القصّةَ صحيحةً، لكن سأبحث لك عنها، وأوافيك بالجواب!

أقول وبالله التوفيق:

وجدت في كتاب التوّابين لابن قدامة المقدسيّ (ص: 124) وفي كتاب الزواجر عن اقترافِ الكبائر لأحمد ابن حجَر الهيتميّ المكيّ (1: 269) وفي موسوعة الأخلاق والزهد لياسر عبدالرحمن «معاصر» (1: 28) أنّ توبةَ مالك بن دينارٍ؛ كانت على النحو الآتي:

قال ابن قدامة: «ورُوي عن مالك بن دينار أنّه سُئِل عن سبب توبته فقال:

كنتُ شُرَطيّاً، وكنت منهمكاً على شُرب الخمر، ثم إنني اشتريت جارية نفيسةً ووقعت مني أحسن موقعٍ، فولدت لي بنتاً، فشغفت بها، فلما دَبّت على الأرض ازدادت في قلبي حبّاً، وألِفَتْني وألِفْتُها.

فكنتُ إذا وضعتُ المُسْكِر بين يَديَّ؛ جاءت إلي وجاذبتني عليه، وهَرَقَتْه على ثوبي.

فلما تَمّ لها سنتان؛ ماتت؛ فأكمدني موتها حزناً.

فلما كانت ليلةُ النِصف من شعبان، وكانت ليلةَ الجُمعةِ؛ بِتُّ ثَمِلاً من الخمر، ولم أُصَلِّ فيها عِشاءَ الآخرة!

فرأيت فيما يرى النائم كأنَّ القيامةَ قد قامت، ونُفِخ في الصورِ، وبُعْثِرت القُبورُ، وحُشِرَ الخلائقُ وأنا معهم.

فسمعتُ حِسّاً مِن ورائي، فالتَفَتُّ، فإذا أنا بتنّينٍ أعظمَ ما يكون أسودَ أزرقَ، قد فتح فاه مُسرعاً نحوي.

فمررتُ بين يديه هارباً فزعاً مَرعوباً، فمررت في طريقي بشيخٍ نَقِيِّ الثوبِ، طيّبِ الرائحةِ، فسلّمت عليه، فرَدّ السلامَ، فقلتُ: أيها الشيخ، أجرني من هذا التنين، أجارك الله!

فبكى الشيخُ، وقال لي: أنا ضَعيفٌ، وهذا أقوى مني، وما أقدر عليه، ولكن مُرَّ وأسرعْ، فلعلّ اللهَ أن يُتيحَ لك ما يُنجيك مِنه.

فولّيت هارباً على وجهي، فصعِدتُ على شُرُفٍ مِن شُرَفِ القيامةِ، فأشرفت على طبقاتِ النيرانِ، فنظرتُ إلى هَولها، وكدتُ أهوي فيها، فزعاً من التنين!

فصاحَ بي صائح: ارْجِع، فلستَ مِن أهلها، فاطمأننتُ إلى قوله، ورَجَعت!

ورجع التنين في طلبي فأتيت الشيخ فقلت: يا شيخ سألتك أن تجيرني من هذا التنين فلم تفعل فبكى الشيخ وقال: أنا ضعيف ولكن سر إلى هذا الجبل فإن فيه ودائع المسلمين فإن كان لك فيه وديعة فستنصرك.

قال: فنظرت إلى جبل مستدير من فضة، وفيه كُوىً مُخرّمةٌ وستورٌ معلّقة.

على كل خَوخة وكوّة مصراعان من الذهب الأحمر، مفصلة باليواقيت، مكوكبة بالدُّرّ

على كلّ مِصراعٍ ستر من الحرير.

فلمّا نظرت إلى الجبلِ؛ وليت إليه هارباً، والتنّين من ورائي، حتى إذا قربت منه؛ صاح بعض الملائكة: ارفعوا الستور وافتحوا المصاريع وأشرفوا، فلعل لهذا البائس فيكم وديعة تجيره من عدوه.

فإذا الستور قد رفعت، والمصاريع قد فتحت، فأشرف عليَّ مِن تلك المخرمات أطفالٌ بوجوه كالأقمار، وقَرُب التِنين منّي، فتحيرت في أمري.

فصاح بعض الأطفال: ويحكم أشرفوا كلُّكم، فقد قَرُب منه عدوه.

فأشرفوا فوجاً بعد فوج، وإذا أنا بابنتي التي ماتت قد أشرفت عليَّ معهم، فلما رأتني بكت وقالت: أبي والله!

ثم وَثبت في كفة من نورٍ، كرِمْيَةِ السَهم، حتى مَثُلَت بين يَديّ، فمدّت يدَها الشمال إلى يدي اليمنى، فتعلّقت بها، ومدّت يدها اليمنى إلى التنين فولّى هارباً.

ثم أجلستني، وقعدت في حجري، وضربت بيدها اليمنى إلى لحيتي، وقالت:

يا أبت (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ [الحديد: 16] .

فبكِيتُ وقلت: يا بُنيةُ، وأنتم تَعرفون القرآن؟ فقالت: يا أبت، نحن أعرف به منكم.

قلت: فأخبريني عن التِنّين الذي أراد أن يُهلكَني؟ قالت: ذلك عملك السوء قَوّيتَه فأراد أن يُغرقَك في نارِ جهنم.

قلت: فأخبريني عن الشيخ الذي مَررتُ به في طريقي؟ قالت: يا أبت، ذلك عملك الصالحُ، أضعفتَه، حتى لم يكن له طاقة بعملك السوء.

قلت: يا بنية! وما تصنعون في هذا الجبل؟ قالت: نحن أطفال المسلمين، قد أُسكنّا فيه إلى أن تقوم الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم.

قال مالكُ بنُ دينارٍ: فانتبهتُ فزِعاً، وأصبحتُ فأَرَقْتُ المُسكِرَ وكسرتُ الآنيةَ، وتُبتُ إلى اللهِ عزّ وجلَّ، وهذا كان سبب توبتي».

قال عداب تاب الله عليه: قصّة حزينةٌ مؤثّرةٌ، بكيتُ غيرَ مرّةٍ، وأنا أقرؤها!

لكنْ ما صحّة نسبتها إلى الإمامِ العالم الزاهد العابد الحكيم، مالك بن دينار؟

أوّلاً: عندنا كتبٌ مسندةٌ كثيرةٌ، أوردت كثيراً من أخبار مالك بن دينار، من مثل:

- كتاب الزهد والرقائق لابن المبارك (ت: 181 هـ)

- كتاب الزهد لأسد بن موسى (ت: 212 هـ).

- كتاب الزهد لأحمد بن حنبل (ت: 241 هـ).

- كتاب الزهد لأبي حاتم الرازي (ت: 277).

- كتاب الزهد والزاهدين لابن الأعرابيّ (ت: 340 هـ).

- كتاب الزهد الكبير للبيهقي (ت: 458 هـ) وغيرها كثير!

 ثانياً: الكتب التي ترجمت لمالك بن دينار؛ كثيرةٌ جدّاً أيضاً، منها:

- طبقات ابن سعد (7: 180).

- طبقات خليفة بن خياط (1792).

- تاريخ البخاري الأوسط (1526).

- تاريخ البخاري الكبير (1321) ونصّ على أنّه كان حارس عمر بن عبدالعزيز.

- الثقات للعجلي (1523).

- المعرفة والتاريخ للفسوي (2: 96).

- تاريخ الطبري (11: 646).

- الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (916).

- الثقات لابن حبّان (5: 383) وقال: «مَالك بن دِينَار، مولى لبني نَاجِية بن سامة بْن لؤَي بْن غَالب الْقرشِي كنيته أَبُو يحيى من أهل الْبَصْرَة.

يروي عَن أنس بن مَالك، وَكَانَ من زهاد التَّابِعين والأخيار وَالصَّالِحِينَ، كَانَ يكْتب الْمَصَاحِف بِالْأُجْرَةِ ويتقوت بأجرته، وَكَانَ يجانب الإباحات جهده، وَلَا يَأْكُل شَيْئا من الطَّيِّبَات، وَكَانَ من المتَعَبِّدَةِ الصُّبُر، والمتقشفة الخُشُن.

مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَيُقَال سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَيُقَال سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَقد قيل: سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، وَالصَّحِيح أَنه مَاتَ قبل الطَّاعُون وَكَانَ الطَّاعُون سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة».

- وحلية الأولياء لأبي نعيم (2: 357).

وكثيرون غير هؤلاء، ترجموا لمالك بن دينارٍ، ولم يذكروا هذه القصةَ العاريةَ عن الإسناد.

قال الذهبيّ في النبلاء (5: 362): «عَلَمُ العُلَمَاءِ الأَبْرَارِ، مَعْدُوْدٌ فِي ثِقَاتِ التَّابِعِيْنَ، وَمِنْ أَعْيَانِ كَتبَةِ المَصَاحِفِ، كَانَ مِنْ ذَلِكَ بُلْغتُهُ».

ولعلّ ابنَ قدامةَ العالم الكبيرَ، إنّما روى هذه القصّةَ العجيبةَ؛ لشاهد التوبةِ الغريبة الذي فيها.

وعلماؤنا من غير المحدّثين؛ تعنيهم العبرةُ من القصّة، أمّا التفتيش عن الأسانيدِ؛ فليس من اهتماماتهم، وللأسف!

ختاماً: كان مالك بن دينار، كما وصفه ابن حبّان، وكما وصفه الذهبيّ، وكان حارسَ عمر بن عبدالعزيز، ومِن المُحال أن يَقبل عمرُ بن عبدالعزيز بحارسٍ سكّير، إنما جمع حوله خيارَ التابعين وأتباعهم.

وقد روَى مالكٌ الحديثَ أيضاً، لكنّ أكثرَ رواياتِه موقوفةٌ على الصحابةِ، ومقطوعةٌ على التابعين، ورواياته غير المرفوعة هذه تزيد على (250) رواية.

وكان له اختيارٌ في القراءات، نقلها عنه أصحاب كتب الرواية؟

واللهُ تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الأحد، 28 أغسطس 2022

    مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (14):

كَيفَ نُوَفّق بين عِصمةِ الأنبياءِ عن الذنوبِ، وبين نسبةِ الظُلْمِ إليهم؟!

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قال الله تبارَكَ وتعالى:

(يَامُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ؛ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) [النمل].

نقل الطبريّ في تفسيره (18: 16) أقوالَ عددٍ من العلماء المتقدمين، وأقوالَ بعض النحويين، ثم قال: «يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَنْ أَتَى ظُلْمًا مِنْ خَلْقِ اللَّهِ، وَرَكِبَ مَأْثَمًا، ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً.

يَقُولُ: ثُمَّ تَابَ مِنْ ظُلْمِهِ ذَلِكَ، وَرُكُوبِهِ الْمَأْثَمَ؛ (فَإِنِّي غَفُورٌ).

يَقُولُ: فَإِنِّي سَاتِرٌ عَلَى ذَنْبِهِ وَظُلْمِهِ ذَلِكَ، بِعَفْوِي عَنْهُ، وَتَرْكِ عُقُوبَتِهِ عَلَيْهِ (رَحِيمٌ) بِهِ أَنْ أُعَاقِبَهُ، بَعْدَ تَبْدِيلِهِ» إلى الأحسن.

وناقش أبو جعفرٍ النحّاسُ في إعراب القرآن (3: 137) النحويين بقولهم في معنى الاستثناء هنا، ثم قال: «المعنى أنّ موسى صلّى الله عليه وسلّم لمّا خاف من الحيّةِ؛ قال له اللهُ جلّ وعزّ: (لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ).

عَلِم جلّ وعزّ أنّ مَن عَصى منهم يُسرّ الخيفَةَ، فاستثناه، فقال: (إلّا مَن ظَلَم، ثمّ بدّل حُسْناً بعد سوء) أي: فإنّه يخاف، وإن كنتُ قد غفرت له.

فإن قال قائل: فما مَعنى الخوفِ، بعد التوبة والمغفرة؟

قيل له: هذه سبيلُ العُلماءِ باللهِ جلّ وعزّ؛ أن يكونوا خائفين من مَعاصيهم، وَجِلينَ، وهم أيضاً لا يأمنون أن يَكون قد بقي من أشراط التوبة شيء لم يأتوا به، فهم يخافون من المطالبة به».

وقال الرازي في مفاتيح الغيب (24: 545): «أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) مَعْنَاهُ: لَكِنْ مَنْ ظُلِمَ.

وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ تَرْكِ الْأَفْضَلِ أَوِ الصَّغِيرَةِ.

وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّعْرِيضَ بِمَا وُجِدَ مِنْ مُوسَى، وَهُوَ مِنَ التَّعْرِيضَاتِ اللَّطِيفَةِ.

قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللهُ: كَانَ واللهِ مُوسَى مِمَّنْ ظَلَمَ بِقَتْلِ الْقِبْطِيِّ، ثُمَّ بَدَّلَ، فإنّه عليه السلام قال: (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي؛ فَغَفرَ له).

وقال القشيريّ في لطائفه (3: 27): «هذا يدلّ على جواز الذّنب على الأنبياء عليهم السلامُ، فيما لا يَتعلقُ بتبليغِ الرسالةِ، بشرط ترك الإصرار.

فأمّا مَن لا يُجيزُ عليهم الذنوبَ؛ فيُحمَل هذا على ما قَبل النُبوّة».

ختاماً: ليس عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا عن واحدٍ من أصحابه شيءٌ ثابتٌ في تفسير هذه الآية الكريمة!

وإذْ لا يوجَد؛ فحَملُ الآيةِ على معناها الظاهرِ؛ هو المتعيّنُ.

وقد لخّص الإمام القشيريُّ مذهبي العلماء في هذه المسألة، وكلاهما حسنٌ.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

 مَسائِلُ مِنْ عُلومِ القرآنِ والتَفسيرِ (13):

كيفَ تَكون حادثةُ الإفكِ خيراً للمسلمين ؟!

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في حوارِ مع أحدِ الإخوةِ الكرام؛ قال لي: يتعين عليك يا شيخ عداب؛ أن تجمع الآياتِ التي يُشكل فهمها على كثيرٍ من الناس، وتعالجها معالجةً ميسَّرةً، يفهمها سائرُ الناس، في منشوراتٍ متواليةٍ، غيرَ متباعدةِ الزمن، ثمّ تجمع في كتابٍ يستفيد منه من شاء الله تعالى له الاستفادة.

قلت له: مَثّل لي بآيةٍ مشكلةٍ الفهم عندك أنت، وليس لدى عامّة الناس؟

فقال: مثل قول الله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ؛ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ!

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) [النور].

كيف يكون هذا الاتّهام الكاذبُ، الذي عكّر قلبَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقلوبَ أبي بكرٍ وأسرته، وقلوب المؤمنين جميعاً وآذاهم وأحزنهم، كيف يكون خيراً للمؤمنين؟

كيف يكون خيراً للمؤمنين، ولا تزال طائفةٌ من المسلمين يرمون أمّ المؤمنين بالفاحشة، بشبهاتٍ قامت لديهم، سببها هذا الإفكُ الخبيث»؟

أقول وبالله التوفيق:

الإِفكُ المقصودُ في الآيةِ الكريمةِ؛ هو اتّهامُ بعضِ المنافقين وبعضِ الصحابةِ أمَّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها بالفجور.

ولكي نفهم كيف تكون هذه التهمةُ خيراً للمؤمنين، وشرّاً للمنافقين؛ عليها أن نفهم الآية منفردةً، ثمّ نفهمها في ضوء ما سيقت فيه من آياتٍ!

أوّلاً: هذه الآية الكريمةُ حوتْ جملةً من المواقف والأحكام على النحو الآتي:

(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ؛ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ)...(لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).

فهم جماعةٌ من مجتمع الصحابةِ، فيهم حسّانُ بن ثابتٍ، ومِسْطَحُ بن أثاثةَ، وحَمْنةُ بنت جحشٍ، وغيرهم.

فهؤلاء من المسلمين، والمسلم ليس معصوماً عن قذف أخيه المسلم - وإن كان محرّماً عليه قذفُه - ومتى ثبت أنه قذفه؛ أقيم عليه حدّ القذف!

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً).

فمن تاب منهم؛ كان هذا الحدُّ كفّارةً لإثمه.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ).

والذي عُني بإشاعةِ الإفك، وحرّض غيره عليه؛ له عذابٌ عظيم!

وقد وردت جملةُ (عَذَابٌ عَظِيمٌ) في القرآن العظيم أربعَ عشرةَ مرّةً، جميعها يشير إلى عذابِ الآخرة.

وفي هذا إشارةٌ إلى المنافق عبدالله بن أُبيّ بن سلول؛ لأنّه كان من المسلمين في الظاهر، لكنه منافق في الباطن، ومن مات منافقاً؛ فهو من أهل النار!

(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) [النساء].

والآن يأتي قول الله تعالى: (لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) بياناً بأنّ ما ظاهره الشرُّ؛ قد يكون هو الخيرَ في المآل، أو يكون ظاهرُه الشرَّ، وباطنه هو الخيرَ المحض!

قال الله تعالى:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ.

وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ.

وَاللهُ يَعْلَمُ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) [البقرة].

(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) [النساء].

وهذا يعني أنّ الله تعالى أعلم بمآلات الأمور، وعلى المؤمن أن يسعى إلى الخير والطاعات، فإن أصابه ما ظاهره الشرّ والسوء؛ فعليه الصبرُ الجميل، حتى تظهر له المآلات، أو يصبرَ حتى ينالَ رضا الله تعالى في الآخرة.

فالدنيا بالنسبة إلى الآخرة؛ لا شيء، والله تعالى يقول: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) !

قال أبو بكر ابن العربي المالكي في أحكام القرآن (3: 363):

« قَدْ بَيَّنَّا فِي كُتُبِ الْأُصُولِ حَقِيقَةَ الْخَيْرِ، وَأَنَّهُ مَا زَادَ نَفْعُهُ عَلَى ضُرِّهِ. وَحَقِيقَةُ الشَّرِّ؛ مَا زَادَ ضُرُّهُ عَلَى نَفْعِهِ.

وَأَنَّ خَيْراً لَا شَرَّ فِيهِ؛ هُوَ الْجَنَّةُ، وَشَرًّا لَا خَيْرَ فِيهِ؛ هُوَ جَهَنَّمُ!

وَلِهَذَا صَارَ الْبَلَاءُ النَّازِلُ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ خَيْراً؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ مِنْ الْأَلَمِ قَلِيلٌ فِي الدُّنْيَا، وَخَيْرُهُ - وَهُوَ الثَّوَابُ -كَثِيرٌ فِي الْآخِرَةِ.

فَنَبَّهَ اللهُ تَعَالَى عَائِشَةَ وَمَنْ مَاثَلَهَا، مِمَّنْ نَالَهُ هَمٌّ مِنْ حَدِيثِ الإفكِ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ مِنْهُ ليس بشَرٍّ، بَلْ هُوَ خَيْرٌ، عَلَى مَا وَضَعَ اللهُ الشَّرَّ وَالْخَيْرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيا، مِنْ الْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وَرُجْحَانِ النَّفْعِ فِي جَانِبِ الْخَيْرِ، وَرُجْحَانِ الضُّرِّ فِي جَانِبِ الشَّرِّ».

وبعضَ هذا الكلام قال الطبري والجصّاص والماوردي والرازي، وغيرهم.

أمّا الإمامُ القشيريُّ الصوفيّ؛ فكلامُه في مقامٍ آخر، مختلفٍ تماماً عن كلام ابن العربي!

قال في لطائفه (2: 596): «بيّن اللهُ سبحانَه أنه لا يُخلي أحداً مِن المحنة والبلاء في المحبة والولاء، فالامتحانُ مِن أقوى أركانه وأعظم برهانِه وأصدق بيانه!

قال الله تعالى:

(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا: آمَنَّا، وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2). وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا، وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) [العنكبوت].

كذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم (أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً؛ الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ.

فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً؛ اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ.

فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ، حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) أخرجه جمع من المصنفين، منهم أحمد والدارميّ وابن ماجه، والترمذيّ في جامعه (2398) وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

ويقال: إنّ اللهَ سبحانه؛ غيور على قُلوبِ خَواصِّ عبادِه، فإذا حَصلت مُساكنةُ بعضٍ إلى بعضٍ؛ يُجري اللهُ ما يَردّ كلَّ واحدٍ منهم عن صاحبه، فيردّه إلى نفسه!

وإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمّا قيل له: أيُّ الناس أحبُّ إليك؟ قال: عائشة!

فأجرى اللهُ حديثَ الإفك، حتى ردّ قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها إلى الله، وردّ قلب عائشة عنه إلى الله!

حيثُ قالت لمّا ظهرتْ براءةُ ساحتها: «بحمد اللهِ، لا بحمدك»!

ويقال: إن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (اتقوا فراسةَ المؤمن؛ فإنّ المؤمن ينظر بنور الله) مَرويٌّ عن عبدالله بن عمر، وأبي سعيدٍ الخدريّ، وعن أبي أمامةَ، وسأفرد لهذا الحديثِ منشوراً خاصّاً.

 فإذا كانت الفراسةُ صفةَ المؤمن؛ فأولى الناس بالفراسة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لَم تَظهر له بحكم الفِراسةِ براءةُ ساحتها، حتى كان يقول: (إنْ كنت فعلتِ شيئاً؛ فتوبي).

والسبب في ذلك؛ أنّه فى أوقات البلاءِ، يَسدّ اللهُ على أوليائه عيونَ الفِراسةِ، إكمالا للبلاء» انتهى كلامه بتصرّف يسير ببعض الألفاظ لتُفهَم.

أمّا ما يتعلّق ببعض المسلمين الذين ما يزالون يتّهمون عائشة رضي الله تعالى عنها؛ فهم أفرادٌ سفهاءُ أوغاد، ينتسبون إلى الشيعة الإماميّةِ، من أمثال ياسر الحبيب، وأمير القريشي، وقليلين غيرِهم في عصرنا، عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين!

وهم إنما استندوا إلى رواية في تفسير القُميّ «أنّ عائشة زوّجت نفسها من طلحة بن عبيدالله، في طريقهم إلى البصرة، وأنّ المهدي المزعوم، سيخرجها من قبرها ويحييها، ثم يقيم عليها حدَّ الزنا؛ لأنه محرّم عليها الزواج بعد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وقد بيّنت في منشور سابق أنّ السيد محمد رضا السيستاني أوضح بأنّ هذا التفسير غير ثابتِ النسبة إلى القميّ، وأنه لا يُعتمَد عليه في قَبول الروايات!

وبتبنّي مثل هذه الفريةِ التي أبطلها الله تعالى؛ يتبيّنُ أنّ هؤلاء من أتباع عبدالله بن أُبيّ بن سلول، زعيم المنافقين في العهد النبويّ.

أمّا مذهب الشيعة الإماميّة؛ فخلاصته أنّ الله تعالى عصمَ جميعَ زوجات الأنبياءِ عليهم السلام، من ارتكاب فاحشةِ الزنا.

بل إنّ كثيراً من علماء الشيعة، لا يرون أنّ هذه الآياتِ نازلةٌ في براءة عائشة، إنما هي في براءة مارية القبطيّة أمّ «إبراهيم بن الرسول» صلى الله عليه وآله وسلّم.

قال السيّد الطباطبائيُّ في الميزان (15: 45): «الآيات تشير إلى حديث الإفك، و قد روى أهلُ السنّة أنّ المقذوفةَ في قصّة الإفك؛ هي أم المؤمنين عائشة، وروت الشيعةُ أنّها مارية القبطية أم إبراهيم التي أهداها مقوقس ملك مصر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم و كلٌّ مِن الحديثين لا يخلو عن شيءٍ، على ما سيجيء في البحث الروائي الآتي».

وقال السيّد الطباطبائيُّ في موضع آخر من الميزان (15: 52): «إنّ تَسرب الفَحشاءِ إلى أهل النَبيِّ؛ يُنفّر القلوبَ عنه.

فمن الواجبِ أن يُطهّر اللهُ سبحانه ساحةَ أزواجِ الأنبياءِ عن لوثِ الزنا والفحشاءِ، وإلّا لَغَت الدعوةُ.

وتثبت بهذه الحجّة العقليةِ عفتُهُنّ واقعاً، لا ظاهراً فحسب، والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم أعرفُ بهذه الحجة منّا، فكيف جاز له أن يرتاب في أمر أهلِه، برمْيٍ مِن رامٍ، أو شيوعٍ مِن إفك» كما تقول الروايات؟

ختاماً: إنّ الخيرةَ فيما اختاره الله تعالى، وممّا اختاره جلّ وعزّ اختبار المؤمنين وابتلاؤهم بالأمراض النفسيةِ والجسمية والاجتماعيّة؛ ليختبر صبرهم وصدقهم وإيثارَهم الآخرة على الأولى.

ولو لم تكن حادثةُ الإفك هذه؛ لما نالت أمّ المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها شرفَ إكرامِ الله تعالى بإنزاله في حقّها قرآناً يتلى إلى أن يرثَ الله الأرضَ ومَن عليها.

ومن الخير للمجتمع؛ ظهور عددٍ من المنافقين وضعاف النفوسِ، ممن لا ينظرون بتعظيم إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولا يوقّرون نساءَه أمهات المؤمنين، عرفهم المسلمون بعد هذه الحادثة.

ومن الخير أن يتنبَّه المجتمعُ المسلم إلى خطورةِ شيوع ظاهرة القذف بين الناس.

ومن الخير في هذا الاتّهام؛ أن لا يتشكك المسلم الصالحُ، إذا ابتلي ببعضِ الابتلاءات الصعبةِ!

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

         مَسائلُ حَديثيّةٌ (55):

الملكان الموكلان بالمؤمن المتوفّى يزيدان في حسناته إلى يوم القيامة!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أرسل إليّ أحد الإخوةِ القدماء الكرام مقطعاً صوتياً لواعظٍ وُصف بأنه العلّامة فلانٌ!

يستدلُّ بالحديثِ الآتي على أنّ العبدَ المؤمن لا ينقطع عمله إلى يوم القيامة، إذ يوكّل الله تعالى الملكَين اللذين كانا يكتبان حسناته وسيئاته في الدنيا، بتسبيح الله تعالى وحمده وتكبيره، وأن يكتبا ذلك في صحيفته!

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام أبي الشيخِ الأصبهانيِّ (ت: 369 هـ) في كتابه «العَظَمَةِ» (503) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ هَارُونَ بْنِ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَبِيبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ عَنْ ثَابِتِ البُنانيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَكَّلَ بِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ مَلَكَيْنِ يَكْتُبَانِ عَمَلَهُ، فَإِذَا مَاتَ؛ قَالَ الْمَلَكَانِ اللَّذَانِ وُكِّلَا بِهِ، يَكْتُبَانِ عَمَلَهُ:

قَدْ مَاتَ، فَائْذَنْ لَنَا أَنْ نَصْعَدَ إِلَى السَّمَاءِ!

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ]سَمَائِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ مَلَائِكَتِي يُسَبِّحُونِي[!

فَيَقُولَانِ: أَفَنُقِيمُ فِي الْأَرْضِ؟

فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ]أَرْضِي مَمْلُوءَةٌ مِنْ خَلْقِي يُسَبِّحُونِي[.

فَيَقُولَانِ: فَأَيْنَ؟

فَيَقُولُ: قُوما عَلَى قَبْرِ عَبْدِي، أَوْ عِنْدَ قَبْرِ عَبْدِي؛ فَسَبِّحَانِي، وَاحْمَدَانِي، وَكَبِّرَانِي، وَاكْتُبَا ذَلِكَ لِعَبْدِي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[.

وأخرجه البيهقيّ في شعب الإيمان (9462) من طريقِ يحيى بن يحيى النيسابوريّ عن عثمان بن مطر، به مثلَه.

وأخرجه ابن الجوزي في الموضوعات (3: 228) والسيوطيّ في موضوعاته (2: 359) من طريق عيسى بن خالد «اليماميّ» عن عثمان بن مطر، به مثلَه.

وعثمانُ بن مطر، قال فيه أبو زرعة في ضعفائه (152): ضعيف الحديث.

وقال البزار في مسنده (2842): « وَعُثْمَانُ بْنُ مَطَرٍ هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ».

وأسند العقيليّ في الضعفاء (3: 216) عن ابن معين قال: كان ضعيفاً ضعيفاً.

وقال النسائيّ في ضعفائه (420): ضعيف.

وقال ابن حبان في المجروحين (667): « يَرْوِي الموضوعات عَن الْأَثْبَات لَا يحل الِاحْتِجَاج بِهِ».

ونقل ابن عدي في ضعفائه (6: 278) عن البخاريّ قوله: عنده عجائب، منكر الحديث!  

وختم ابن عدي ترجمته بقوله: «وَأَحَادِيثُهُ عَنْ ثَابِتٍ خَاصَّةً مَنَاكِيرُ وَسَائِرُ أَحَادِيثِهِ فِيهَا مَشَاهِيرُ، وَفِيهَا مَنَاكِيرُ، وَالضَّعْفُ بَيِّنٌ عَلَى حَدِيثِهِ» وهذا الحديثُ من روايته عن ثابت.

وقال ابن الجوزيّ في الموضوعات (3: 229): اتّفقوا على تضعيف عثمانَ بن مطر!

خلاصة الكلام: هذا الحديثُ ضعيف الإسنادِ جدّاً، والمتّهم به عثمان بن مطرٍ الشيبانيّ.

ومعنى أنّه متّهم به؛ أنه هو الذي نسبه إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تعمّداً، أو وهماً.

فإن تعمّد؛ فهو داخل في وعيد متعمّد الكذب على الرسول!

وإن نسبه وهماً؛ فالله تعالى أعلم بجزائه!

لكننا نحنُ مأمورون باجتناب الاحتجاج بالحديثِ المكذوب على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، سواءٌ نسب الحديث إليه وهماً أم عمداً.

أمّا عن نكارة متنه؛ فعثمان بن مطر تنقل عنه عجائب، كما قال البخاريّ!

وحتى يكون كلامنا على متنه دقيقاً؛ يجب أن نمهّد بهذا التمهيد:

أخبرنا الله تعالى في كتابه الكريم أنّ من وظائف الملائكةِ الكثيرةِ؛ تسبيحَ الله تعالى، وحمدَه، والاستغفارَ للمؤمنين.

قال الله تعالى:

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) [غافر].

(وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) [الشورى].

وأخبرنا أنّ من وظائفِ الملائكةِ؛ لعنَ الكافرين الذين ماتوا على كفرهم!

قال الله تعالى:

(كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86).

أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ؛ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87).

خَالِدِينَ فِيهَا، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ، وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88).

إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَأَصْلَحُوا؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً؛ لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90).

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ؛ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ.

أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) [آل عمران].

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) [البقرة].

وأخبرنا الله تعالى أنّ الملائكةَ من سكّان السمواتِ، وليسوا من سكّان الأرض، فقال تبارك وتعالى:

(قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95) [الإسراء].

(مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) [الحِجر].

(يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) [النحل].

(تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) [المعارج].

وأخبرنا أنّ من وظائف الملائكةِ متابعةَ المؤمنين والعنايةَ بهم.

قال الله تعالى:

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد].

لكنْ ليس في الكتابِ ولا في السنّة أنّ السمواتِ والأرضَ تضيقُ بالملائكة الموكّلين بالمؤمن، وليس لهم مكانٌ يقيمون فيه سوى المقابر، وعلى قبر كلّ مؤمن ملكان اثنان!

وإثباتُ مثل هذا الاعتقادِ؛ يحتاجُ إلى آيةٍ قرآنيّةٍ، أو حديثٍ صحيحٍ صحيحٍ.

فأولئك الوعّاظ الجهلةُ؛ يشوّهون ثقافةَ المسلمين باستشهادهم بمثل هذه الأحاديث الضعيفةِ والمكذوبة!

خاصّةً إذا كان في الأحاديثِ الصحيحةِ نقيضُ ما جاء في أحاديثهم الضعيفة والمنكرة!

فقد أخرج مسلم في كتاب الوصية من صحيحه (1631) والترمذي في الأحكام من جامعه (1376) من حديث أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ؛ انْقَطَعَ عَمَلُهُ، إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ، وَعِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ).

وقال الترمذيّ:«هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ».

ختاماً: حديثُ عثمان بن مطرٍ؛ موضوع مكذوب، والمتّهم بوضعِه عمداً أو وَهماً؛ عثمان هذا.

ولذلك أودعه ابن الجوزي والسيوطيّ في الموضوعات.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 27 أغسطس 2022

      مَسائلُ حَديثيّةٌ (54):

قصّةُ حاطِبِ بن أبي بلتَعَةَ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني أحد الإخوة الأكارم عن صحّةِ قصّةِ حاطبِ بن أبي بلتعة، وهل هي واقعةُ حالٍ، أو يحقّ للحاكم المسلم أن يعفوَ عن الجاسوس أو الخائن؟

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب الجهاد من صحيحه، باب الجاسوس (3007) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِالله «المدينيّ»: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ «بن عيينة»: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي حَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ «بن عليّ بن أبي طالبٍ» قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَا وَالزُّبَيْرَ، وَالمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ، قَالَ: (انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً، وَمَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا) فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ، فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا أَخْرِجِي الكِتَابَ، فَقَالَتْ: مَا مَعِي مِنْ كِتَابٍ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِها.

فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا فِيهِ: «مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ المُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا)؟

قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ، إِنِّي كُنْتُ امْرَءاً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ المُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ بِمَكَّةَ، يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ؛ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَداً، يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُ كُفْراً، وَلاَ ارْتِدَاداً، وَلاَ رِضًا بِالكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَقَدْ صَدَقَكُمْ)!

قَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ!

قَالَ رَسُولُ اللهِ: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْراً، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ رَسُولُ اللهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)

قَالَ سُفْيَانُ «بن عيينة»: وَأَيُّ إِسْنَادٍ هَذَا !» تعجّباً من جلالته وثقةِ رواته!

قال الفقير عداب:

مدار حديثِ الباب على الإمامِ عليّ، عليه السلام، رواه عنه:

عبدالله بن حبيبٍ أبو عبدالرحمن السلميّ المقرئ، عند البخاري (3081، 6259) ومسلم (2494).

وعُبيدالله بن أبي رافعٍ، عند البخاريّ (3007، 4890) ومسلم (2494).

وللحديث شاهدٌ من حديثِ جابر بن عبدالله؛ أخرجه مسلم في صحيحه (2495) وأحمد في مسنده (14774) والترمذيّ (3864) وقال: حديث حسن صحيح.

وله شاهدٌ آخر من حديثِ أبي هريرة، عند أحمد (7941) والدارميّ (2761) وأبي داود (4654) وغيرهم.

والحديثُ يحتملُ من التخريج أكثرَ ممّا ذكرتُه، لكنْ ما دام الحديثُ صحيحاً؛ فلا حاجة بنا إلى التطويل.

قال أبو الحسن بنُ بطّال (ت: 449 هـ) في شرحه على صحيح البخاريّ (5: 162): «قال الطبريُّ: فى حديث حاطب بن أبى بلتعة من الفقهِ؛ أن الإمام إذا ظهر مِنْ رَجلٍ من أهلِ الستر على أنّه قد كاتب عَدواً من المشركين، يُنذرهُم ببعضِ ما أَسرَّه المسلمون فيهم، مِن عَزْمٍ، ولم يَكن الكاتبُ مَعروفاً بالسَفَه والغِشِّ للإسلام وأهله، وكان ذلك مِن فِعلِه هَفوةً وزَلّةً، مِن غيرِ أنْ يَكون لها أخوات؛ فجائزٌ العفوُ عنه كما فعله الرسول بحاطب من عفوه عن جُرمِه، بعدما اطّلَع عليه من فعله.

وهذا نظير الخبر الذى روت عمرة عن عائشة أن الرسول قال: فإنْ ظَنَّ ظانٌ أنّ صفحه صلى الله عليه وسلم إنما كان لما أعْلَمَه اللهُ مِن صِدقِه، ولا يَجوز لمَن بَعدَ الرسول أن يَعلمَ ذلك؛ فقد ظن خَطأً؛ لأنّ أحكام الله فى عباده، إنّما تجري على ما ظَهَر منهم.

وقد أخبرَ اللهُ نبيَّه عن المنافقين الذين كانوا بين ظَهرانَي أصحابه مُقيمين، مُعتقدين الكفرَ، وعرّفه إيّاهم بأعيانهم، ثم لم يُبِحْ له قتلُهم وسبيُهم، إذْ كانوا يُظهرون الإسلام بألسنتهم!

فكذلك الحكمُ في كلِّ أحدٍ مِن خَلقِ اللهِ أنْ يُؤخَذَ بما أظَهرَ، لا بما أبطن».

وقال أيضاً (5: 163): « وفيه جوازُ العَفوِ عن الخائنِ للهِ ورسولهِ في تَجَسُّسٍ، أو غَيرِه».

وقال أبو عبدالله المازريّ (ت: 536 هـ) في كتابه المعلِم بشرح صحيح مسلم (3: 281): «اختلفَ المذهبُ «المالكيّ» في المسلم، يُطَّلَع عليه أنّه جاسوس على المسلمين!

فقال مالك: يجَتَهِد فِيه الإمام.

وقال ابنُ وهب: يُقتَلُ، إلاَّ أن يَتوبَ.

وقال ابن القاسم: يُقتلُ، ولا أعرفُ له توبةً.

وفرَّق عبدُالملكِ «بن حبيب، صاحب الواضحة» بَينَ مَن عُرفَ بالغَفلَةِ، وكانت منه مَرّةً، وليس من أهل الطّعن على أهلِ الإسلام، وبين المُعتادِ لذلك، فَقَتَلَ مَن اعتاد ذلك وَنُكّلَ الآخر.

وقال سُحنون: قال بعض أصحابنا: يُجلدُ جَلداً، مُنَكَّلاً، ويُطالُ حَبْسُه وَينفَى مِن مَوضع يَقرُب فيه مِن المشركين.

واختار بعض شيوخنا اعتبارَ ما كان عن فعلِه:

- فإنْ قُتِل المسلمون بفعلِه، ولولاه لم يقتلوا؛ قُتِل، وإنْ لم يُقْتَلوا عوقِب.

وإنْ خُشِيَ أن يعود لمثلها؛ خُلِّد في السِّجن.

ومَذهبُ الشّافعي التّجافي عَن ذِي الهيئة غيرِ المُتَّهم، الفاعل ذلك بجهالةٍ.

ويُحتَجُّ في مثل هذه الصورة بحديث حاطِبِ.

ولعلّ مَن أمَر بقتله من أصحابنا؛ رآه كالمحاربِ، الذي طال أمرُه، وأراقَ الدِّمَاءَ، لعظم ضرر هذا بالمسلمين، فَيُقتَل إلاّ أن يتوب.

ومَن لم يُثْبتْ التوبةَ له؛ يَراه كالزنديق والساحرِ، لماّ كانا مُسرَّين لفعلِهما؛ لم تُقبَل توبتُهما فكذلك هذا لمَّاَ كان مُسِرّاً لفعله.

ومَن لم يَر قتلَهم واقتصر على التَّنكيلِ؛ لم يَره كالمحارب؛ لأنّه لم يباشرِ الفِعلَ، وإنما صار كالمُغْري بذلكَ، أو الآمرِ بذلك مَن لاَ تلزمُه طاعتُه، فلا يَستوجب القَتلَ.

ومَن فرّق بين المعتاد وغيره؛ رأى أنّه باعتياده يَعظم جرمُه، ويَشتَدّ ضررُه فَيَحسن قياسُه عَلىَ المحَارِبِ، وإذا كانت منه الفَلتةُ؛ لم يَحْسُنْ قِياسُه على المحارب».

والذي يَظهرُ لي أنّ حديث حاطبٍ، لا يَستقلُّ حُجةً فيما نحن فيه؛ لأِنّه اعتذر عن نفسه بالعذر الذي ذَكر فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صَدَق) فقطع على صِدقِ حاطبٍ لتَصديقِ النبيّ صلى الله عليه وسلم له، وغيرُه مِمّن يَتجسَّسُ؛ لا يُقطَع على سَلامةِ باطنِهِ، ولا يُتيقن صِدقُه فيما يَعتذرُ به، فصار ما وَقع في الحديث قَضيّةً مَقصورةً، لا تَجري فيما سِوَاها، إذ لا يُعْلَم الصِدقُ فيه، كما علم فيها».

ختاماً: حديث خيانةِ حاطبِ بن أبي بلتعة لله ولرسوله وللمؤمنين؛ صحيحةٌ، وعَفوُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم عنه؛ واقعة حالٍ، ولا يصحّ تعميمُ مثل هذا الحكم في كلّ خائنٍ، له سوابقُ حسنة، وإلّا كثرت الخيانةُ في ذوي الهيئاتِ!

وللحاكم الشرعيِّ أن يختارَ الأصلحَ في حقّه، وفي حقّ الأمّةِ.

فإنْ رأى الحاكم الشرعي أن يقتله؛ فله ذلك.

وإن رأى أن يسجنه؛ فله ذلك.

وإن رأى أن يضربه حدَّ الفِريةِ تعزيراً؛ فله ذلك.

وإن أراد أن يعفو عنه عفواً تامّاً؛ فله ذلك، وإن كنت لا أختارُ هذا الرأيَ في عصرنا الذي كثر فيه الفسادُ وقلّة الدين.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

    والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الأربعاء، 24 أغسطس 2022

   مَسائلُ حَديثيّةٌ (53):

كيفَ نَحكُم على الروايةِ الحَديثيّةِ بالوَضْعِ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

قرأتُ واستمعتُ إلى عددٍ من هُواةِ المعرفةِ، أو الشهرةِ، أو أهل الأهواء؛ أنّ محمد بن بردزبة «البخاريّ» كذاب، وأنّ مسلمَ بن الحجّاج كذّاب، وأن الحاكم النيسابوريّ كذاب وضّاع رافضيٌّ خبيث!

ومن الظاهر على هذه الأصناف من المغرضينَ؛ الجهلُ المطبقُ بعلومِ الشريعةِ عامّة، وبعلومِ الحديثِ خاصّةً، ولا شيءَ أضعب على العالمِ من محاورةِ الجاهلِ؛ إذ ليس بين العالم والجاهل مرتكزاتٌ مشتركةٌ يرتضيها الطرفان عند الحوار!

ولا أريدُ الذهابَ بكم بعيداً في الإنشاءِ وتزويقِ الألفاظ، إنّما ننتقلُ مباشرةً إلى ساحةِ علوم الحديث!

أوّلاً: أصحاب الكتب الستّة (البخاري ومسلم وابن ماجه وأبو داود والترمذيّ والنسائيّ) اشتهرت كتبُهم أكثر من الكتب التي تقدّمت عليهم، هذا صحيح!

لكنّ هؤلاء الأئمة الستّة؛ لم يؤلّفوا كتبَهم من رواياتٍ شفويّة، نقلوها عن شيوخهم أبداً!

هذا جهلٌ فاحشٌ بمسيرة تأليف الكتب الستّة وغيرها، من الكتب المصنّفة في جمع السنة النبويّة والروايات الحديثيّة.

إنما هم جميعاً اختاروا أحاديثَ كتبهم من مصنّفاتٍ سبقتهم في التأليف بخمسين سنة أو مائة سنة، أو أكثر!

وإليك توضيح ذلك:

إنّ ما وصلَ إلينا، وطُبِع من المصنّفاتِ الحديثيّة؛ أقلُّ من المصنّفاتِ المخطوطة التي لم تُطبَع بعد!

وما وصل إلينا من المصنّفات الحديثيّة مطبوعاً ومخطوطاً؛ أقلُّ من المصنّفات التي فُقِدتْ بسببِ أحداثِ الدهر على الأمة الإسلاميّة.

وإذا كان الاستقصاءُ غير ممكنٍ في منشورٍ على الانترنيت؛ فيكفي أن أُمثّل بستّة كتبٍ صُنّفت قبل جميع الكتبِ الستة بخمسين سنة، أو مائة سنة، وقد استقى كلّ واحدٍ من أصحاب الكتب الستة كثيراً من أحاديثه منها.

1- جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) صنّفه الإمام معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً.

2- مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) برواية تلميذه أبي داود الطيالسيّ، المتوفى (204 هـ).

3- جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) برواية محمد بن يوسف الفريابي، عنه.

4- موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) صنّفه الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً.

5- موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً.

6- مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170 هـ) تقريباً.

 هذه ستّة مصنّفات موجودةٌ بين أيدينا، يمكن لكلّ باحثٍ أن يراجعها، حتى لو كان في المرحلة الإعداديّة من الدراسة!

ثانياً: سأذكر لبعض أصحاب الكتبِ الستة عددَ الأحاديثِ التي أخرجها من مصنفات هؤلاء الأئمة المصنفين الثقات المتقدمين:

(أ) البخاري:

1- أخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252 هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً (263) روايةً، منها (4، 6، 7، 27، 42).

2- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه (252 هـ) من مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف كتابه قبل (130 هـ) (795) روايةً، منها (10، 13، 15، 17، 21).

3- وأخرج البخاريُّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252 هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه قبل عام (130 هـ) (353) روايةً، منها (34، 68، 90، 111، 157).

4- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252 هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً (644) روايةً، منها (2، 19، 22، 24، 29).

5- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252 هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) والذي صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً (136) رواية منها (71، 89، 114، 202، 210).

6- وأخرج البخاريّ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (252 هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170 هـ) تقريباً (120) روايةً، منها (42، 135، 278، 398، 416).

(ب) مسلم بن الحجاج:

- أخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257 هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً (300) روايةً، منها (24، 36، 57، 83، 95).

2- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه (257 هـ) من مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف كتابه قبل (130 هـ) (590) روايةً، منها (1، 5، 13، 17، 22).

3- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257 هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه قبل عام (130 هـ) (235) روايةً، منها (21، 49، 55، 57، 58).

4- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257 هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً (346) روايةً، منها (11، 52، 71، 98، 115).

5- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257 هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) والذي صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً (544) رواية منها (7، 21، 24، 40، 47).

6- وأخرج مسلمٌ الذي صنّف كتابه الجامع الصحيح (257 هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170 هـ) تقريباً (399) روايةً، منها (18، 24، 36، 57، 83).

وهكذا هي الحالُ مع بقية الكتب الستّة، لا أحتاج إلى مزيدٍ من الأمثلة.

ثالثاً: سأنتقل مباشرةً إلى الحاكم أبي عبدالله النيسابوري، المتوفى (405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي أنجز مسوّدته عام (405 هـ) ولم يتسنّ له تنقيحُه ومراجعته، إذ جرى في الآونة الأخيرة حملةٌ حقيرةٌ ضدّه، رحمه الله تعالى.

فأقول:

- أخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من جامع معمَر بن راشدٍ، المتوفى (153 هـ) والذي صنّفه الإمام معمر قبل عام (130 هـ) تقريباً أكثرَ من (100) روايةً، منها (33، 35، 87، 97، 152).

2- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من مصنّف شعبةَ بن الحجّاج المتوفى (160 هـ) والذي صنّف كتابه قبل (130 هـ) (328) روايةً، منها (3، 20، 26، 43، 44).

3- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من جامع سفيان الثوريّ المتوفى (160 هـ) والذي صنّف جامعه قبل عام (130 هـ) أكثرَ من (100) روايةً، منها (94، 108، 128، 129، 142).

4- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من موطأ الإمام مالك بن أنس، المتوفى (179 هـ) والذي صنّفه الإمام مالك قبل عام (150 هـ) تقريباً، أكثر من (60) روايةً، منها (74، 140، 375، 446، 472).

5- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من موطّأ عبدالله بن وَهبٍ القرشيّ، المتوفى (197 هـ) والذي صنّفه ابن وهبٍ قبل عام (160 هـ) تقريباً، أكثر من (200) رواية، منها (4، 59، 84، 119، 206).

6- وأخرج الحاكم (ت: 405 هـ) في كتابه المستدرك، الذي صنّفه عام (405 هـ) من مصنّف عبدالرزاق بن همّام، المتوفى (211 هـ) وقد صنّفه قبل عام (170 هـ) تقريباً أكثرَ من (200) روايةً، منها (35، 78، 104، 130، 131).

فإذا روى (البخاريّ، أو مسلم، أو ابن ماجه، أو أبو داود، أوالترمذيّ، أوالنسائيّ) أو روى الحاكم النيسابوريّ في المستدرك، أو غيره من كتبه، حديثاً في سنده معمر بن راشد، أو مالك بن أنس، أو شعبة بن الحجاج، أو سفيان الثوري، أو عبدالله بن وهب، أو عبدالرزاق الصنعاني، وظهر أنّ الحديثَ موضوعٌ، أو منكر، أو ضعيف، جدلاً؛ فلا يُتَّهم بوضعه واختلاقه البخاريُّ أو مسلمٌ، أو أيُّ واحدٍ من أصحاب الكتب الستة، أو الحاكم!

إنّما يجب أن يتوجّه الطعنُ مباشرةً إلى صاحب الكتابِ الأوّل!

فإنْ كان صاحب الكتاب الأوّل ثقةً حافظاً؛ فيجب أنْ نبحثَ عن شيخه أو شيخ شيخه في هذا الحديث، فإذا وجدنا شيخَه ضعيفاً؛ اتّهمناه بوضع الحديثِ تعمُّداً أو وهماً!

وفي الجملةِ؛ يُلصق الحديث الموضوعُ أو الضعيفُ بأضعف راوٍ في الإسنادِ، إلّا أن يقوم دليلٌ ظاهرٌ على خطأ أحد الثقات به!

ختاماً: إنّ جملة (جمع وصنّف) تعدُّ من أعلى درجات التوثيق عند العلماء، إذ ليس كلّ ثقةٍ يقوى على التأليف، كما هو معلوم لكلّ طلبة العلم.

وقد وصف ابن حباّن أكثرَ من ثلاثين محدّثاً بهذه الصفة (جمع وصنّف) في كتاب الثقات، منهم:

أحمد بن زهير، تلميذ بن المبارك (8: 11).

أحمد بن سفيان النيسابوريّ (8: 28).

أحمد بن الفرات الرازي (8: 36).

أحمد بن السميدع الشيبانيّ (8: 53).

أحمد بن عمرو بن خيثمة البغدادي (8: 55).

وقال في ترجمة حسين بن عليّ الكرابيسيّ (8: 189) ما نصّه:

«حُسَيْن بن عَليّ الْكَرَابِيسِي أَبُو علي، من أهل بَغْدَاد.

يروي عَن يزِيدَ بن هَارُون والعراقيين.

حَدَّثنا عَنهُ الْحسنُ بن سُفْيَان.

كَانَ مِمَّن جمع وصنف، مِمَّن يحسن الْفِقْه والْحَدِيث!

وَلَكِن أفْسدهُ قلَّة عقله!

فسبحانَ من رفع من شَاءَ بِالْعلمِ الْيَسِير، حَتَّى صَار علما يقْتَدى بِهِ، وَوضع من شَاءَ مَعَ الْعلم الْكثير، حَتَّى صَار لَا يلْتَفت إِلَيْهِ»!؟

وقلّة عقلِ الحسين الكرابيسيّ؛ هي معارضته لأحمد بن حنبلٍ في مسألة خلق القرآن!

وههنا إشارة إلى منهج ابن حبّان في مصانعة الناس، وعدم معارضتهم، وقد أكّد في كتابه «روضة العقلاء» كثيراً على ضرورة مجاملة الناس، وعدم مواجهتهم!؟

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.