الثلاثاء، 28 سبتمبر 2021

       مَسائل حديثية (25):

مُعجَمُ الطَبَرانيِّ الكبيرُ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

المعجم الكبير للإمام الطبرانيّ؛ من كتب الرواية والعلل الجليلة، فيه آلاف من الأحاديث المُعلّة، التي لا يحسن للناقد تجاوزها في تخريجه وحكمه على الأحاديث المروية عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعن أصحابه رضي الله عنهم.

ولنترك الطبرانيَّ ذاته يحدّثنا عن كتابه، ثم نزيد شرحاً وتوضيحاً.

قال الطبراني في خطبة كتابه المعجم الكبير (1: 51):

«الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمِّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ.

هَذا الْكِتَابُ أَلَّفْنَاهُ، جَامِعاً لِعَدَدِ مَا انْتَهَى إِلَيْنَا، مِمَّنْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، عَلَى حُرُوفِ «أ ب ت ث».

بَدَأْتُ فِيهِ بِالْعَشْرَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ لِأَنْ لَا يَتَقَدَّمَهُمْ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، خَرَّجْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدِيثاً وَحَدِيثَيْنِ وَثَلاثاً، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ كَثْرَةِ رِوَايَتْهِمْ وَقِلَّتِهَا.

فمَنْ كَانَ مِنَ الْمُقِلِّينَ؛ خَرَّجْتُ حَدِيثَهُ أَجْمَعَ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رِوَايَةٌ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، مَنِ اسْتُشْهدَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ؛ ذَكَرْتُهُ مِنْ كُتِبِ الْمَغَازِي وَتَارِيخِ الْعُلَمَاءِ؛ لِيُوقَفَ عَلَى عَدَدِ الرُّوَاةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذِكْرِ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.

وَسَنُخْرِجُ مُسْنَدَهُمْ بِالِاسْتِقْصَاءِ، عَلَى تَرْتِيبِ الْقَبَائِلِ، بِعَوْنِ اللهِ وَقُوَّتِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ» انتهت خطبة الكتاب!

قال الفقير عداب:

معجم الطبراني الكبير؛ لا توجد منه نسخة تامّة حتى اليوم، بل وُجدت منه قطعةٌ شملت اثني عشر مجلّداً، تنتهي بعمرو بن دينار عن عبدالله بن عمر بن الخطّاب، رقم الحديث (13654).

ثمّ هنالك سقطٌ قدّره محققو الكتاب بأربعة مجلّدات (13 - 16).

لكنّ الدكتور سعد بن عبدالله الحميد، وفريق من الباحثين قاموا بتحقيق الجزأين الثالث عشر والرابع وعشر.

وفي بداية الجزء الثالث عشرَ؛ وصف دقيقٌ للنقص الموجود في هذا الكتاب الكبير.

ومقدار الجهد الذي بذله المحققون في إخراج هذين الجزأين من الكتاب.

ويبدأ الجزء الثالث عشر بالحديث رقم (13655) متابعاً ما سبق من الأجزاء الاثني عشر، وينتهي المجلّد الرابع عشر بالحديث رقم (15059).

ثمّ يبقى النقص سارياً في المجلدين (15 - 16).

ثم يبدأ الجزء السابع  عشر بترقيم جديد يبدأ بحديث واحدٍ لعمرو الأنصاري ثمّ العجلانيّ (1) ثم حديث عَمْرُو بْنُ عَوْفِ بْنِ مِلْحَةَ الْمُزَنِيُّ (2) وينتهي هذا القسم من الكتاب في الجزء التاسع عشر، الحديث رقم (1087).

ثم يأتي الجزء العشرون، ويبدأ بحديث المسوَر بن مخرمة (1) وينتهي بالصفحة (447) والحديث (1096).

وقد حقّق الدكتور سعد بن عبدالله الحميد قطعةً من الجزء الحادي والعشرين، الذي يتضمن جزءاً من أحاديث الصحابي النعمان بن بشير الأنصاريّ جاءت في (216) حديثاً.

ثمّ يبدأ الجزء الثاني والعشرون بحديثِ الصحابيّ وائل بن حجر الحضرميّ بترقيم جديدٍ أيضاً (1) وينتهي هذا المجلّد (ص: 452) والحديث رقم (1103).

ثم يبدأ الجزء الثالث والعشرون بترقيم جديد (1) وينتهي (ص: 441) بالحديث رقم (1069).

ثم يبدأ المجلد الرابع والعشرون بترقيم جديد (1) وينتهي (ص: 445) بالحديث رقم (1095).

ثمّ يبدأ المجلّد الخامس والعشرون بترقيم جديد (1) وينتهي (ص: 187) بحديث رقم (460).

وهذا يعني أنّ ثمّةَ انقطاعاً بين هذه المجلّدات، يمكن تعيينه لو وازن الباحث بين الصحابة الذين خرّج عنهم الطبرانيّ، والصحابة الذين خرّج عنهم أصحاب الكتب التسعة، على سبيل التقريب؛ لأنّ الطبرانيَّ أراد أن يجمع في كتابه هذا أسماءَ جميع الصحابة الذين كانت لهم رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو بعضهم عن بعض.

وعلى الباحث في هذا الكتاب أن يوثّق النصوصَ المعزوّة إلى المعجم الكبير، من الجزء والصفحة، أو الجزء ورقم الحديث، هكذا (17: (137).

ويمكن أن يوثق النصوص المنقولة أو المعزوّة، من المجلد الأول إلى نهاية المجلد الخامس عشر بترقيم متسلسل من دون تعيين الجزء، لكن عليه أن يشير إلى منهجه في مقدمة عمله.

ومما ينبغي التذكير به؛ أنّ الأصل في أحاديث المعجمين الصغير والأوسط الغرابة والضعف، وليست كذلك أحاديثِ المعجم الكبير؛ ففيه الحديث الصحيح والحسن والضعيف بأنواعه الكثيرة.

ومعاجمُ الطبراني الثلاثةُ، فيها ما قد أخرجه البخاريّ ومسلمٌ، وغيرهما من أصحاب الكتب الستة الأصول، وفيها ما لم يخرّجه أحدٌ من أصحاب الكتب الستة.

ومن فوائد ما أخرجه الطبرانيّ مما هو في الكتب الستّة؛ زيادةُ أسانيدَ قد تقوّي بعض أسانيد الكتب الستّة، والإشارةُ إلى التفرّد والعلل الواقعة في أسانيد أو متون كثيرٍ من أحاديث الكتب الستّة.

وقد قام عددٌ من العلماء بجمع معاجم الطبرانيّ، بعضها إلى بعضٍ مع حذف المكرّر، وهذا خطأ منهجيّ من وجهة نظري، لكنّه حفظ لنا زوائدَ الطبرانيّ في معاجمه الثلاثةِ، على الكتب الستة (خ م ق د ت ن) في كتاب مهمٍّ جداً، دعاه «مجمع الزوائد ومنبع الفوائد».

وقد تكلّم الحافظ نور الدين الهيثميّ على منهجه في استخراج الزوائدِ وترتيبها في مواضعها من كتابه، فانظرها في خطبته للكتاب (1: 63- 72) وطالع مقدمةَ تحقيق وتخريجِ هذا الكتابِ، لفضيلة الدكتور الشيخ محمود سعيد محمد ممدوح القاهريّ (1: 17- 61) من طبعة «مؤسسة اقرأ الخيريّة» بالقاهرة (2010م) ففيها فوائد جمّة.

ومجمع الزوائد كتابٌ حافلٌ، أودع فيه الهيثميّ (18776) حديثاً، ممّا لم يخرّجه أصحاب الكتب الستّة.

وسأقدّم إليك أخي القارئ منشوراً خاصّاً بمجمع الزوائد، وأهميّةِ كتب الزوائد بعد أن ننتهي من التعريف بكتب الإمام الطبرانيّ، إن شاء الله تعالى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الأحد، 26 سبتمبر 2021

 مَسائل حديثية (24):

فضيلةُ العِشق!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

عَقِبَ تعليقتي على صفحةِ أحد الإخوة الشعراء؛ تواصل معي أحد الإخوة، يسألني عن صحّة حديث ابن عباس (مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ، فَكَتَمَ، فَمَاتَ؛ مَاتَ شَهِيداً).

وقال: أظنّ أنّ أحد العلماء المغاربة صحّحه، والله أعلم!

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام محمد بن حبّان البُستيّ في كتاب المجروحين، رقم (456) رحمه الله تعالى قال: «سُوَيْد بْن سَعِيد الحدثانيّ، من أهل الأنبار، مولده بالحَدِيثة.

يَرْوِي عَن عَلِي بْن مسْهر وَحَفْص بْن ميسرَة، حَدثنَا عَنْهُ شُيُوخنَا (ت: 239 هـ).

يَأْتِي عَن الثِّقَات بالمعضلات.

رَوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَن ابن عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ عَشِقَ، فَعَفَّ، فَكَتَمَ، فَمَاتَ؛ مَاتَ شَهِيداً).

وَمَنْ رَوَى مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ الْوَاحِدِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ؛ يَجِبُ مُجَانَبَةُ رِوَايَاتِهِ.

هَذَا إِلَى مَا يُخطىء فِي الآثَارِ، وَيَقلّبُ الأَخْبَارَ» انتهى.

وقال الدراقطنيّ في تعقباته على ابن حبّان (ص: 121): «سُوَيْدُ بْنُ سَعِيٍد ثِقَةٌ، وَلَكِنَّهُ كَبُرَ، فَرُبَّمَا قَرَأَ الْقُومُ عَلَيهِ بَعْدَ أَنْ كَبِرَ حَدِيثاً فِيهِ بَعْضُ النَّكَارَةِ، فَيُجِيزُهُ.

وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ «يعني حديثَ الباب» فَالْبَلِيَّةُ مِمَّنْ رَوَاهُ عَنْ سُوَيْدٍ، لَا مِنْهُ، وَهُوَ شَيْخٌ، يُعْرَفُ بِمُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْخَصِيبِ، يَضَعُ الْحَدِيثَ».

وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (6: 554) من طريق إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْفَقِيه عَنْ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدٍ الْحَدَثَانِيُّ، به مثله.

وأخرجه الخطيب في موضع آخر من تاريخه (15: 239) من طريق مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْخَصِيبُ عن سويد، به مثلَه.

وأخرجه الخطيب في تاريخه (14: 501) أيضاً، من طريق أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ الطُّوسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهَرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، مرفوعاً مثله.

ثم قال: «رواه غير واحدٍ عَنْ سويد، عَنْ علي بْن مسهر، عَنْ أبي يحيى القتات، عَنْ مجاهد، عَنِ ابْن عَبَّاس، وهو المحفوظ».

وأورده ابن القيسراني في تذكرة الحفاظ له (861) ثم قال: «سُوَيْدٌ تَكَلَّمَ فِيهِ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الْحَدِيثَ».

وقال النسائيّ في ضعفائه (260): ليس بثقة.

ونقل ابن عساكر في تاريخه (72: 340) من طريق حسين بن فهم عن ابن معين أنّه ذكر عنده سويد بن سعيد الحدثاني، فقال: لا صلى الله عليه قال ابن فهم: ولم يكن عنده بشيء.

وقال الذهبي في المغني (1: 290): شيخ مُسلم مُحدث نبيل لَهُ مَنَاكِير قَالَ أَبُو حَاتِم صَدُوق وَقَالَ احْمَد مَتْرُوك وَقَالَ النَّسَائِيّ لَيْسَ بِثِقَة وَقَالَ البُخَارِيّ عمي وَكَانَ يقبل التَّلْقِين وَقواهُ الدَّارَقُطْنِيّ.

قال عداب: قول الدارقطنيّ: إنّ البلاء في الحديث ممّن روى عن سويد؛ غير دقيق، إذ قد رواه عن سويد جماعة، كما قال الخطيب.

وقد صحّح حديثَ ابن عبّاس هذا غير واحدٍ من العلماء، وأفرد له الحافظ أحمد بن محمد بن الصدّيق الغماري جزءاً، حقّقه ونشره الدكتور إياد الغَوْج في الأردن. 

وأنا أميلُ إلى تضعيفه سنداً، وإلى نكارته متناً!

أمّا تضعيف سنده؛ فلما سبق من الكلام في سويد، وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه أحاديثَ، إلّا أنّ جمهور النقّاد على تضعيفه.

وأمّا متنه؛ فمشكل جدّاً؛ لأنّ العشق مرضٌ عُضال، من النادر أن يبرأ العاشق منه.

وقد عاصرنا وعايشنا بعضَ من وقع في هذا البلاء، فحدّثني بعضهم وأقسم بأنّه لا يدري إذا شرع في الصلاة ماذا يقرأ، ولا كم من الركعاتِ صلّى.

وقد شاهدتُ بنفسي أحدَ من يكتم أموره وأحوالَه، من أصدقائي، حين شاهد خطيبته وحبيبته التي زوّجها أهلها الأغبياء من غيره، تطوف بالكعبة المشرّفة؛ وقع في الأرض مغشيّاً عليه!

وقال لي أحدهم: أنا ينطبق عليّ قول ذاك الشاعر:

يا قبلتي في صلاتي   إذا وقفت أصلّي

فحبيبتي هي قبلتي، وهي صلاتي، وهي قيامي وقعودي!

فإذا وصل بالإنسان العشق إلى هذه الحال؛ فهو ممّن ينطبق عليهم قول الله تبارك وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله) والمفترض بالمسلمين أنهم من (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ).

فكيف إذا تمادى به الحالُ، فصار حبّ معشوقته أشدّ من حبّه لله تعالى؟

وأظنّ العاشقَ يغفل حقيقةً -لا مجازاً - عن الله تعالى، ويغدو تفكيره في محبوته، أعاذنا الله من الغفلة عن جَنابه.

ولشدّة تأثير العشقِ المَرَضيِّ هذا على عقل العاشق وقلبه وروحه ومشاعره؛ عدّه ابن قيّم الجوزيّة من الشرك الأكبر!

قال في إغاثة اللهفان (2: 151): «إنّ تَعَبُّدَ القلب للمعشوق شرك، وفعل الفاحشة معصية، ومفسدة الشركِ؛ أعظم من مفسدة المعصية.

وأيضاً، فإنّ الإنسان قد يتخلّص من الكبيرة بالتوبة والاستغفار، وأما العشق إذا تمكن من القلبِ؛ فإنّه يَعز عليه التَخَلُّصُ منه».

وقال نحو ذلك في كتابه الداء والدواء (ص: 212).

ومن المعروفِ المتداول بين الناس؛ أنّ العاشقَ أعمى، لا يسمع ولا يبصر ولا يفكّر إلّا بمعشوقته.

وحتى الذين ابْتُلوا بالعشق، ثم تمكّنوا بفضل الله تعالى من تجاوزِ مرضهم هذا؛ فهم لا ينسون حبيباتهم، وتبقى في قلوبهم غصص وحزنٌ وشوقٌ إلى ذكرهنّ، إنْ لم يمكن التواصل معهنّ.

وتبقى مثل هذه الآلام مع الإنسان العاشق، الذي لم يتمكّن من الزواج بمحبوبته ربما إلى آخر عمره.

وهذه الأحوال الشنيعة، وعبوديّة الشهواتِ المدمّرة؛ هي ما يريد الغرب الفاجر أن يرمينا به، حتى تنصرف قوانا وطاقاتنا إلى محادّة الله تعالى، والانشغال بشهوات الدنيا ومتاعها.

وقانا الله تعالى وإياكم، من هذا البلاء المدمّر، وعبوديّة الشهوات والهوى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

السبت، 25 سبتمبر 2021

مَسائل حديثية (23):

مُعْجَمُ الطبرانيّ الأوسط!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

معجم الطبرانيّ الأوسط؛ واحدٌ من كتب الغرائبِ والمنكرات والعلل، شأنُه في ذلك شأنُ المعجم الصغير، صنّفه الطبرانيّ «على معجم شيوخه، يأتي فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب, فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني بيَّن فيه فضيلَتَه وسَعَةَ روايته، وكان يقول: هذا الكتاب روحي؛ فإنّه تعب عليه, وفيه كلُّ نفيسٍ وعزيزٍ ومُنكر» كما قال الإمام الذهبيّ.

وفائدةُ هذا النوعِ من المصنّفاتِ؛ كبيرةٌ جدّاً، في ساحة النقد الحديثيّ، قبل إصدار الباحثِ حكمَه الأخير على الحديثِ، الذي يقوم بتخريجه!

إذ إنّ علم العلل، يبحث عن خفايا في أسانيد الأحاديث ومتونها، مع أنّ ظاهرها الصحّة!

وقد يوجد في هذه الكتب توضيحاتٌ وأسانيد مفيدةٌ؛ لا توجد في الكتب المشهورة، وقد تفيد الباحث في حكمه على الحديث.

وأوّل طبعة لهذا الكتاب؛ كانت بتحقيق الدكتور محمود الطحّان الحَلَبيّ، وجاءت في عشرة مجلدات، سوى الفهارس.

وطبع بتحقيق الشيخ طارق عوض الله المصريّ، وصدرت طبعته الأولى عن دار الحرمين في القاهرة، عام (1415 هـ).

وطبع في مصر بتحقيقٍ ثالثٍ آخر، لم أطّلع عليه.

ويبدأ الكتاب، من دون مقدّمة للمؤلّف، بشيخ الطبراني أحمد بن عبدالوهّاب بن نجدة الحَوطيّ، وقد روى عنه في المعجم الصغير حديثاً واحداً، كما تقدّم في المنشور السابق، بينما روى عنه في المعجم الأوسط هذا (1- 34) حديثاً.

أمّا شيخه عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ السَّدُوسِيُّ، فقد روى من طريقه عشرةَ أحاديث (3691 3700).

وينتهي الكتاب بشيخ الطبرانيّ يعقوب بن مجاهد البصريّ، الذي روى عنه سبعة أحاديث (9483 9489) وبه ينتهي الكتاب.

وهذا يعني أنّ الطبرانيَّ لا يلتزم بتخريج عددٍ متساوٍ من الأحاديثِ، عن كلِّ واحدٍ من شيوخه.

وقد ذهب بعض الكاتبين إلى أنّ الكتاب ناقصٌ من آخره كثيراً، اعتماداً منه على قول السيّد محمد بن جعفر الكتّاني، في الرسالة المستطرفة (ص: 135): «ويقال: إنّ فيه ثلاثين ألف حديث».

والذي يترجّح لديّ أنّ النقصَ من آخره، ليس بهذا القدر الكبير، إذا ما قارنّا بين خاتمة كتابه «المعجم الصغير» وخاتمة «المعجم الأوسط».

فقد كان آخرَ من روى عنه الطبرانيّ في المعجم الأوسط، يَعقوبُ بن مجاهد البصريّ، وقد روى عنه سبعةَ أحاديث (9483 9489) كما تقدّم!

بينما روى في المعجم الصغير في حرف الياء عمّن اسمه يعقوب، بدءاً من الحديث (1134) ثم عمّن اسمه يحيى (1156) وعمّن اسمه يزيد (1183) وعمّن اسمه يونس (1187) وعمّن اسمه يُسر، ثم روى عمّن عرف بالكنى (1189) ثمّ من روى عنهن من النساء (1192 - 1198).

فربما كان النقص في حدود (100- 200) حديثاً يجد طالبُها الزوائد منها، في مجمع الزوائد، أو في مجمع البحرين في زوائد المعجمين، كليهما للهيثميّ.

أمّا أن يكون النقصُ في حدود عشرين ألف حديثٍ؛ فهذا مستبعَدٌ جدّاً!

وقد أخرج الطبراني في الأوسط هذا، من طريق البخاريّ أربعة أحاديث (1289، 5972، 6043، 6044).

قال في الأول منها (1289): حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْمَخْزُومِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُحَمَّدُ، إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ يَقْتَتِلُونَ عَلَى الدُّنْيَا فَاعْمَدْ بِسَيْفِكَ عَلَى أَعْظَمِ صَخْرَةٍ فِي الْحَرَّةِ، فَاضْرِبْ بِهَا، حَتَّى يَنْكَسِرَ، ثُمَّ اجْلِسْ فِي بَيْتِكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ يَدٌ خَاطِئَةٌ أَوْ مَنِيَّةٌ قَاضِيَةٌ» فَفَعَلْتُ مَا أَمَرَنِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»

قال الطبرانيّ: لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ إِلَّا مُحَمَّدٌ، تَفَرَّدَ بِهِ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ المَخزوميُّ».

قال عداب: لم يخرّج البخاريُّ هذا الحديث في صحيحه.

وخرّج لمحمّد بن مسلمة الأنصاريّ ثم الحارثيّ حديثاً آخر (6906) في دية إجهاض جنين المرأة.

وأخرج حديث الباب في ترجمة محمد بن مسلمة، في التاريخ الكبير (1: 11).

وقال في الثاني منها (5973): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الْأَحْمَرُ النَّاقِدُ قَالَ: حدّثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ بِلَالٍ قَالَ: حدّثنا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بنِ جُندَبٍ قَالَ: (نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، أَوْ عَلَى خَالَتِهَا).

ثمّ قال: «لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ قَتَادَةَ، إِلَّا هَمَّامٌ، وَلَا عَنْ هَمَّامٍ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ بِلَالٍ، تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ».

قال الفقير عداب: وقد خرّج البخاريّ هذا الحديث في كتاب النكاح من صحيحه (5108) من حديث جابر بن عبدالله.

ومن حديث أبي هريرة (5109، 5111) رضي الله عنهم.

ولم يخرّجه من حديث الحسن عن سمرة، مع أنّه يثبت سماع الحسن من سمرة.

ففي كتاب العقيقة (5472) قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الْأَسْوَدِ: حَدَّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ قَالَ: أَمَرَنِي محمّدُ بْنُ سِيرِينَ أَنْ أَسْأَلَ الْحَسَنَ البصريَّ مِمَّنْ سَمِعَ حَدِيثَ الْعَقِيقَةِ؟ فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: «مِنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ».  

وأخرج البخاريّ حديث الحسن عن سمرة، في التاريخ الكبير (1: 43) وقال: لا يصحّ فيه سمرة!

وقال الطبرانيُّ في الحديث الثالث (6043): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْعُصْفُرِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: ثَنَا أَيُّوبَ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلَالٍ، عَنِ «صالح» بنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.

ونَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ؛ أَنَّهُمَا عبدالله بن عمر وأبو هريرة - حَدَّثَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ».

ثم قال: «لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ نَافِعٍ إِلَّا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، تَفَرَّدَ بِهِ أَيُّوبُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبَى بَكْرِ بْنِ أَبَى أُوَيْسٍ».

قال عداب: والحديث بنصّه أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة من صحيحه (534).

قال في فتح الباري، في شرح هذا الحديث: «ونافعٌ: هو بالرفع معطوف على الأعرج، والحديث من رواية صالح بن كيسان عن نافع».

وقال في الموضع الرابع الأخير (6044): حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْعُصْفُرِيُّ قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ: نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَحْيَى الشَّجَرِيُّ قَالَ: نا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَفَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ؛ قَالَ: «آيِبُونَ، تَائِبُونَ، عَابِدُونَ، لِرَبِّنَا حَامِدُونَ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ».

قال الطبراني: «لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، إِلَّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، وَلَا عَنْ عَاصِمٍ إِلَّا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، تَفَرَّدَ بِهِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّجَرِيُّ».

قال عداب: لم يخرّج البخاريّ، ولا واحدٌ من أصحاب الكتب التسعة هذا الحديثَ، من طريق جابر بن عبدالله، إنما أخرجه البخاريّ في المغازي (4116، 6085) من حديث عبدالله بن عمر، وفي اللباس (5968، 6185) من حديث أنس بن مالك.

مع أنّه أخرج  لعاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حديثين (450، 5683).

ولم أقف عليه في شيءٍ من كتب البخاري المطبوعة.

بينما أخرجه أبو عبدالله المَحامليُّ في كتاب الدعاء (86) من طريق شيخه البخاريّ، بمثل إسناده عند الطبراني في الأوسط.

ومن طريق المحامليّ؛ أخرجه أبو طاهر السِلَفيُّ في الأربعين البلدانية (ص: 46).

ومن طريق أبي طاهرٍ؛ أخرجه أبو الفضل المقدسيّ في الأربعين على الطبقات (ص: 286).

ثمّ قال: «رواتُه بعدَ البخاريّ، إلى النبيِّ صلّى اللهُ عليه وسلّم، كلّهم مدنيون».

فكتاب المعجم الأوسط؛ من الكتبِ المفيدة، ولا يستغني عنه طالب علم البتّة!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ. 

الخميس، 23 سبتمبر 2021

 اجتماعيات (٢5):

ذكرى مولد العَداب

عليه الرحمن تاب!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

حدّثني والداي رحمهما الله تعالى، ورزقني وإيّاهما اللُقيا على حوضِ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم قالا، واللفظ لوالدتي:

«لقد وَلدتُكَ عند قول المؤذّن: «الله أكبر، الله أكبر» من فجر يومِ الجمعةِ السابعَ عشرَ من صفرِ الخير، مِن شهور سنةِ تسعٍ وستّينَ وثلاثِ مائةٍ بعد الألف، من الهجرة الشريفة» الموافق للتاسع من شهر كانون الأول، من شهور سنة (1949م).

ومِن لطيفِ الموافقات ليومنا هذا؛ أنني كنت وصلت في ختمة القرآن العظيم، فجر هذا اليوم، إلى سورة الفجر، ولم أكن أعرف أنّ هذا اليومَ يوافق يوم مولدي.

ومن جميلِ الموافقات؛ أننا الآن في يوم جمعة أيضاً.

وهذا يعني أنني قبلَ ساعةٍ واحدةٍ من كتابةِ هذا المنشور، قد مضى من عمري أربعةٌ وسبعون عاماً هجريّة، وطَعنتُ في الخامسةِ والسبعين.

في ليلةِ السادس والعشرين من حزيران، من شهور عام (1975م) رأيت رؤيا طويلةً أفزعتني، فصلّيتُ الظهر في جامع المَرابط، حتى يعبّرها لي شيخي السيّد نايف النوشي السبسبيّ، رحمه الله تعالى، لكنّه لم يُصلّ ذلك الظهرَ في مسجده.

عَقِبَ صلاة الظهر؛ رجعتُ إلى بيتنا، وفي الطريق تذكّرت أنّ الأهل طلبوا مني بعض الأغراض، فتابعت طريقي إلى دكّان ابن عميّ السيّد أحمد حسين الرجب الهبطة، وإذا بشيخي نايف صاعداً من جهة باب البلد، وقد وصلَ مقابلَ منزل شيخنا الكبير الجليل محمّد محمود الحامد رحمه الله تعالى.

ألقيت السلام على الشيخ نايف، وقبّلت يده، وقصصت عليه الرؤيا، ريثما هدأ صدرُه الشريفُ، من تلاحق أنفاسه، أثراً من آثار تلك الصَعدَة القاسية، إذ نحن وإياهم نسكن في قمّة «جبل النار» وخليق به أن يُدعى «جبل النور»!

عقب انتهائي من سردِ رؤيايَ الطويلةِ على مسامعه؛ تبسّم وقال لي: رؤياك ناقصة حاول أن تتذكّر أكثرَ!

تذكرتُ شيئاً يسيراً منها، فقلته له، فتبسّم وقال لي: ما زالت رؤياك ناقصةً، لكنّها مع ذلك واضحة!

انظر يا عداب: ستُصيبُك بلوى قريباً قريباً، وستعيش بقيّة عمرك في الغربةِ، وستكون الخمسون عاماً الأولى من حياتك صعبةً، ثمّ يفرّج الله كربَك!

وإنْ صدقت رؤياك وأراها صادقةً جدّاً فأنت تعيش ستّاً وسبعين سنةً، وعدّة أشهر!

أنصحك أن تغادر سوريّا فوراً، إن استطعتَ!

قلت له: حجزتُ لي ولزوجتي وطفلتي إلى ليبيا يومَ الاثنين، في الثلاثين من حزيران؟

قال رحمه الله تعالى: لو استطعتَ أن تغادرَ الآن أو غداً؛ فهو خير لك ولأهلك!

أوصلتُه إلى منزله، ورجعتُ إلى بيتنا، فوجدت سيدتي الوالدة تبكي بحرقةٍ!

سألتها عن سبب ذلك؛ فلم تجبني، لكنّها قالت: «ليتَ لساني شُكِلَ، يومَ دعوتُ عليك»!

قلتُ لها: أيَّ دعوةٍ منهنّ؟

سكتَتْ، ولم تُجبْ، وازداد بكاؤها، حتى خرجت من البيت مرّةً ثانية، وذهبت إلى المقبرةِ القريبة من بيتنا، حيث زُرتُ قبرَ جدّي السيد إبراهيم، وقبرَ شيخي محمد الحامد، وأحدهما قريبٌ من الآخر، ومكثت ثمّة طويلاً، أستغفر لي ولهما، وأقرأ القرآن الكريم، وأهبُهما ثوابَه.

كنتُ مدلّلاً على والدتي، فكنت أرهقها بطلباتي الماليّة، وفي إحدى المرّات، طلبت منها شيئاً يسيراً من المالِ، فرفضتْ إعطائي، فرفعتُ صوتي ملحّاً، فغضبت، وهي سريعةُ الغضب جدّاً، ثم قالت لي: «رُحْ، إن شاء الله، مُشتّتٌ في البلاد»!

أنا أعرف أنّ الله تبارك وتعالى يَغضبُ لغَضبِ والدتي، ويستجيب دعاءها لا محالة!

فعلمتُ أنني سأصاب بمصيبة!

لكنْ انظروا إلى هذه المصيبةِ والبليّة؛ فقد بدأ شتاتي في البلاد، من تاريخ (30) حزيران، من عام (1975م) وحتى كتابة هذا المنشور، ولم يتيسّرْ لي أن أعود إلى بلدي لأزورَ قبرَ والدتي، قبلَ موتي!

فليحذر الإخوة الأصدقاءُ والشباب، من دعوةٍ قاصمةٍ، تقلب حياتَهم رأساً على عَقب!

اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولمشايخنا وأساتذتنا وزملائنا وتلامذتنا وأصدقائنا وخصومنا، وسائرِ عبادك المؤمنين.

اللهم قد سترتنا فيما مضى، فأسبغْ علينا جميلَ سترك في القليلِ الباقي، واستعملنا في طاعتك، ووفقنا إلى خدمة كتابك وسنّة نبيّك وحبيبك المصطفى محمّد، صلّى الله عليه وآله وسلّم، أزكى صلاة وأسناها، واجعلنا بالصلاة عليه من الفائزين.

وكلّ عام وأنتم بخيرٍ، وكلّ ساعةٍ وأنتم إلى الله تعالى أقرب!

]رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 22 سبتمبر 2021

 مَسائل حديثية (21):

مَعاجمُ الطبرانيّ الثلاثة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: «لماذا صنّف الطبرانيّ ثلاثةَ معاجمَ، ولم يجمعها في كتاب واحد، مع العلم بأنّه كثيراً ما يخرّج الحديث الواحد في المعاجم الثلاثةِ، أو في اثنين منها، وهل يختلف منهجه في المعجم الصغير، عن المعجم الأوسط، وعن المعجم الكبير؟ وشكراً لكم».

أقول وبالله التوفيق:

الطبرانيّ: هو أبو القاسم سليمانُ بن أحمد بن أيّوب اللخميّ الطبرانيّ، نسبةً إلى مدينة طبريّة في جنوبيّ سوريّا اليوم.

قال الذهبيّ في تذكرة الحفاظ (3: 85): «الحافظ الإمام العَلّامة الحجة بقية الحفاظ، مُسند الدنيا!

وقال في النبلاء (16: 119): هُوَ الإِمَامُ الحَافِظُ الثِّقَةُ الرَّحَّالُ الجَوَّالُ، مُحَدِّثُ الإِسلاَمِ، عَلَمُ المعمَّرينَ».

ولد سنة ستين ومائتين، بمدينة «عكّا» وكانت أمّه منها.

وسمع في سنة ثلاث وسبعين، وهلّم جرّاً

وحدث عن ألف شيخ أو يزيدون!

قال أبو نعيم: توفي لليلتين بقيتا من ذي القعدةِ، سنة ستين وثلاثمائة.

قال الذهبيّ: استكمل مائة عام وعشرة أشهر.

وقال الذهبيّ في التذكرة أيضاً: صنف المعجم الكبير، وهو المسند سوى مسند أبي هريرةَ، فكأنه أفرده في مصنّف!

وقال في النبلاء (16: 122): «المُعْجَمُ الكَبِيْرُ: هُوَ مُعْجَمُ أَسمَاءِ الصَّحَابةِ وَترَاجمِهِم وَمَا رَوَوْهُ، لَكنْ لَيْسَ فِيْهِ مُسْندُ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلاَ اسْتوعبَ حَدِيْثَ الصَّحَابَةِ المُكثرينَ، فِي ثَمَانِ مُجَلَّدَاتٍ.

والمعجم الأوسط في ست مجلدات كبارٍ، على معجم شيوخه، يأتي فيه عن كل شيخ بما له من الغرائب والعجائب،, فهو نظير كتاب الأفراد للدارقطني بيَّن فيه فضيلته وسَعَةَ روايته، وكان يقول: هذا الكتاب روحي, فإنّه تعب عليه, وفيه كلُّ نفيسٍ وعزيزٍ ومُنكر، وصنف المعجم الصغير وهو عن كلِّ شيخٍ له حديثٌ واحدٌ، وصنّف أشياء كثيرةً، وكان من فرسان هذا الشأن مع الصدق والأمانة» وقال نحو ذلك في تاريخ الإسلام (8: 143).

قال الإمام الطبرانيُّ في خطبة كتابه «المعجم الصغير» (1: 21):

«هَذَا أَوَّلُ كِتَابِ فَوَائِدِ مَشَايِخِي، الَّذِينَ كَتَبْتُ عَنْهُمْ بِالْأَمْصَارِ، خَرَّجْتُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَدِيثاً وَاحِداً، وَجَعَلْتُ أَسْمَاءَهُمْ عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ».

والفوائد: يراد منها ما يستفيده المصنّف من هذا الشيخ، دون غيره، ولذلك عدّوها أحياناً مرادفة لغرائب الشيوخ.

باب الألف، من اسمه أحمد:

حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، أَبُو عَبْدِالله، بِمَدِينَةِ جَبَلَةَ، سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَتَيْنِ: حَدَّثَنَا جُنَادَةُ بْنُ مَرْوَانَ الْأَزْدِيُّ الْحِمْصِيُّ: حَدَّثَنَا مُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «سَأَلْتُ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ ثَلَاثَ خِصَالٍ، فَأَعْطَانِي اثْنَتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً.

سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ؛ فَأَعْطَانِيها.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَقْتُلَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ؛ فَأَعْطَانِيها.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعاً، فَأَبَى عَلَيَّ).

قال الطبرانيُّ:  لَمْ يَرْوِهِ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ؛ إِلَّا جُنَادَةُ».

قال عداب: عندما يقول الطبرانيّ: لم يروه عن مبارك بن فضالة، إلا جُنادة؛ فلا يعني أنّ هذا الحديث لا يعرف إلّا من حديث جنادة، كلّا!

بل إنّ رواية مبارك بن فضالة؛ لا تُعرف إلا من هذه الطريق.

وإلّا فمرسل الحسن نفسه؛ أخرجه الطبري (9: 305) في تفسير قوله تعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ) الآية [الأنعام: 65] قال:

حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ «الدورقيّ» قَالَ: ثنا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ يُونُسَ بن عبيد، عَنِ الْحَسَنِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (سَأَلْتُ رَبِّي، فَأُعْطِيتُ ثَلَاثًا، وَمُنِعْتُ وَاحِدَةً.

سَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُسَلِّطَ عَلَى أُمَّتِي عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، يَسْتَبِيحُ بَيْضَتَهُمْ. وَلَا يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ جُوعًا.

وَلَا يَجْمَعَهُمْ عَلَى ضَلَالَةٍ، فَأُعْطِيتَهُنَّ.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَلْبِسَهُمْ شِيَعاً، وَيُذِيقَ بَعْضَهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ؛ فَمُنِعْتُ).

وسئل الدارقطنيُّ، كما في العلل له (12: 65) عن حديث الحسن، عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألت ربي، فأعطاني ثلاثا، ومنعني واحدة)؟

فقال: يرويه جنادةُ بن مروانَ عن مبارك بن فضالة، واختلف عنه:

فرواه ابن عوف الحمصي، عن جنادة، عن مبارك، عن الحسن، عن أنس «يعني: مرفوعاً».

وخالفه الوليد بن مروان، فرواه عن جنادة، عن مبارك، عن الحسن «يعني الحسن عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم» مُرْسَلاً.

وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ».

وحديث أنسٍ من طريقٍ أخرى أخرجه الإمام أحمد في مسنده (12129) من طريق بُكير بن عبداللهِ الأشجِّ عن الضحّاك بن عبدالله القرشيّ، عن أنس مرفوعاً.

ونحوُ متنه مرويٌّ عن عددٍ من الصحابةِ رضي الله عنهم، أصحّها حديث سعد بن أبي وقّاص، عند الإمام مسلم في صحيحه (2890) ولفظُه عنده: إنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل: (سَأَلْتُ رَبِّي ثَلَاثًا، فَأَعْطَانِي ثِنْتَيْنِ، وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً.

سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ، فَأَعْطَانِيها.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ، فَأَعْطَانِيها.

وَسَأَلْتُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ، فَمَنَعَنِيها).

ولا يخفى عليكم أنّ اختلاف ألفاظ الأحاديثِ في المسألة الواحدة؛ هو أثرٌ من آثار حفظ الرواة وضبطهم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

الأحد، 19 سبتمبر 2021

 مَسائل حديثية (21):

هل كان أبو لؤلؤةَ مجوسيّاً؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ يقول: «قرأت لك منشوراً قديماً جدّاً تقول فيه: إنّ أبا لؤلؤة قاتل عمر؛ لم يكن مجوسيّاً، إنّما كان نصرانيّاً وأسلم، وله ابن محدّثٌ كبير»!؟

أقول وبالله التوفيق:

لستُ أتذكّر مثلَ هذا المنشور الغريبِ، في فقراته كلّها.

أمّا أنّه ليس مجوسيّاً، وإنّما هو نصرانيّ؛ فالمسألة خلافيّة، كما سيأتي.

وأمّا أنّ له ولداً محدّثاً؛ فهذا غلط، ومن المحال أن أكونَ قلتُ مثلَ هذا الكلام!

إنّما له بنت صغيرةٌ مسلمةٌ، قتلها عبيدُالله بن عمر بن الخطّاب مع آخرين، عندما سمع بمقتل أبيه.

لكنْ سواء كان أبو لؤلؤةَ مجوسيّاً، أم كان نصرانيّاً، أم كان مسلماً؛ فهو ممّن يدخل ابتداءً تحت قول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) [النساء].

فكيف وقد قتل خليفة المسلمين عمر بنَ الخطّاب، وستّةً أو سبعةً من المسلمين معه، رضي الله تعالى عنهم، في دقائقَ معدودة!؟

وقد اختلفَ المؤرخون في نسب أبي لؤلؤة على أقوال:

(1) فذهب قوم إلى أنّه مجوسيّ، فقد نقل ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1: 108، 112) والطبراني في المعجم الأوسط (1: 181) وفي الكبير (1: 70) عن ابن عبّاس مثلَ ذلك.

ونقل ذلك عبدالرزاق في مصنّفه (5: 474) وابن أبي شيبة في مصنّفه (7: 439) نقلا ذلك عن ابن شهاب الزهريّ.

ونقل ابن شبّةَ في تاريخ المدينةِ (3: 913) عن محمد بن عمرو بن علقمة؛ أنّه كان مجوسيّاً.

(2) ونقل الآجريّ في الشريعة (4: 1924) عن المسوَر بن مخرمة، والحاكم في المستدرك (3: 97) عن أبي رافع مولى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ أنّ أبا لؤلؤة نصرانيّ.

ونصّ ابن حبّان في السيرة من الثقات؛ أنّه كان نصرانيّاً.

(3) وقال ابن عبدالبَرّ في الاستيعاب (3: 1155): حَدَّثَنَا خَلَفُ بن قاسم: حدثنا الحسن بن رشيق: حدثنا الدَّولابِيُّ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُجَاهِدٍ بن مسلم الكابليّ قَالَ: اخْتُلِفَ عَلَيْنَا فِي شَأْنِ أَبِي لُؤْلُؤَةَ!

فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ مَجُوسِيّاً.

وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ نَصْرَانِيّاً.

حَدَّثَنَا أَبُو سِنَانٍ سَعِيدُ بْنُ سِنَانٍ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيِّ، قَالَ: كَانَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ أَزْرَقَ نَصْرَانِيًّا!

وَجَأَهُ بِسِكِّينٍ لَهُ طَرَفَانِ، فَلَمَّا جُرِحَ عُمَرُ؛ جُرِحَ مَعَهُ ثَلاثَةَ عَشَرَ رَجُلا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ أُخِذَ، فَلَمَّا أُخِذَ؛ قَتَلَ نَفْسَهُ».

أمّا عن وَلَد أبي لؤلؤةَ المحدّث؛ فليس له ولد محدّث، أو غير محدّث، إنما كانت له بنت صغيرة، قتلها عبيدالله بن عمر مع آخرين، في فورةِ غضبه!؟

أمّا الإِمَامُ، الفَقِيْهُ, الحَافِظُ, المُفْتِي, أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ القُرَشِيُّ, المَدَنِيُّ, أبو الزنادِ عبدُالله بن ذكوان،و كنيته أبو عبدالرحمن، كما وصفه الذهبيّ في النبلاء (6: 161) فقد قال ابن حبّان في مشاهير علماء الأمصار (ص: 215) وفي الثقات (7: 6) جازماً: «كان ذكوان أخا أبي لؤلؤةَ قاتل عُمَر بن الخطاب.

وكان أبو الزناد من فقهاء المدينةِ، وعُبّادهم، وكان صاحب كتاب لا يَحفَظُ، مات سنة إحدى وثلاثين ومائة، وقد قيل سنة ثلاثين ومائة»!

وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق (28: 48): «قالوا: كان ذكوانُ أخا أبي لؤلؤةَ قاتل عمر، بولادة العجم».

ومثله قال الذهبيّ في الكاشف (1: 549) وقال في تذهيب تهذيب الكمال له (5: 138): « قال أحمد بن صالح المصري: أبوه ذكوان أخو أبي لؤلؤة، قاتل عمر رضي الله عنه».

وبعضُ العلماء استغرب الأمرَ، واستفظعه فيما يبدو، فقال: «قالوا، وقيل: إنّ ذكوان أخو أبي لؤلؤة».

والذي يظهر لي أنّ أبا لؤلؤةَ كان قد أعلنَ إسلامَه، وأعلنت ابنتُه الصغيرة إسلامها معه.

سواءٌ أعلنه معتقداً، أم متّقياً، فالنتيجة عندي سواء!

وإلّا كيف لأبي لؤلؤةَ أن يكون مجوسيّاً أو نصرانيّاً، وتكون ابنته الصغيرةُ مسلمةً، والصغير يتبع أحسن أبويه ديناً؟

لكنْ لما ارتكب هذه الفظاعةَ الإجراميّة في قتل خليفة المسلمين عمر بن الخطّاب؛ لم يشاؤوا أن يُلصقوا قتلَه برجلٍ مسلم، فقالوا: قتله مجوسيٌّ أو نصرانيّ، بقرينة أنّه من سبي نهاوند كما قالوا، وعهده بالمدينة قريب!

وكان للصراع السنيّ الشيعيّ أثر كبيرٌ في ذلك، إلى درجة أنّهم يقولون عن سبعين أو ثماني مليوناً من الشيعة الإمامية: إنهم مجوس!؟

تماماً مثلما قالوا: إنّ الذين قتلوا خليفةَ المسلمين الآخر عثمان بن عفّان رضي الله عنه؛ هم الغوغاء والأعراب، وحقيقة الأمر أنّ أكبر المحرّضين على عثمان؛ هم طلحةُ والزبير وعائشة، وكثير من الأنصار، ومات ابن مسعود وعبدالرحمن بن عوفٍ، وهما لا يكلّمان عثمان، رضي الله عنهم.

بيد أنّ الصحابةَ الذين حرّضوا على عثمان، لتسليطه بني أميّة على رقابِ الناس وأموالِهم؛ لم يكونوا يريدون قتلَه فيما ظهر لي إنّما كانوا يريدون خلعَه فحسب!

قال الإمام المزيّ في ترجمة عثمان من تهذيب الكمال (5: 128) رقم (4436) من الطبّعة المصغّرة ما نصّه: قال الحسن البصريّ يصف عهد عثمان: «أرزاقٌ دارّة، وخير كثير، وذات بَين حَسَنٍ، ما على الأرضِ مؤمن يخاف مؤمناً، إلّا يَوَدُّه ويبصّره ويألفُه.

فلو صبر الأنصار على الأثرةِ؛ لوسعهم ما كانوا فيه من العطاء والأرزاق، ولكنّهم سلّوا السيفَ مع مَنْ سلَّ، فصار عن الكفّار مغمداً، وعلى المسلمين مسلولاً إلى يوم القيامة».

هذا الكلام يؤكّد الذي ذكرتُه قبلَ قليل، لكنّ أهلَ السنّة وهم السواد الأعظم من الأمّة،  ربما من أجل خواطر الصحابةِ الذين كانوا في حزب البغاة؛ انتهجوا منهج السكوتِ عمّا جرى بين الصحابة، وبالغوا في تعظيمهم، واصطبغت ثقافة الأمة بثقافة القصّ والحذف والاختصار والتعمية والإماتةِ، حتى لم يعد أحدٌ يَعرفُ أين الحقيقة، وللأسف!

رحم الله عثمان بن عفّان، ورحم الله طلحة والزبير وعائشة، وسامحهم فيما جَنَوه على هذه الأمّة، فهو أرحم الراحمين.

ونقل المزيّ في الموضع نفسه (5: 128) عن الإمام عليٍّ عليه السلام قال:

«مَن تبرّأ من دين عثمان؛ فقد تبرّأ من الإيمانِ، والله ما أعنت على قتله، ولا أمرت به، ولا رضيت».

قال الإمام ابن رجب الحنبليّ في رسالتِه: الفرق بين النصيحة والتعيير (ص: 24):

« لما قُتِل عثمان رضي الله عنه لم ترَ الأمةُ أحقَّ من علي رضي الله عنه فبايعوه.

فتوصّل من تَوصّل إلى التَنفيرِ عنه؛ بأن أظهر تَعظيمَ قتل عثمان وقُبحَه - وهو في نفس الأمر كذلك - ضُمَّ إلى ذلك أنَّ المؤلَّب على قتله، والساعي فيه علي رضي الله عنه.

 وهذا كان كذباً وبُهتاً، وكان علي رضي الله عنه يحلف ويُغلِّظُ الحَلِفَ على نَفيِ ذلك وهو الصادقُ البارُّ في يمينه رضي الله عنه

وبادروا إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً، ثم إلى قتال أولاده رضوان الله عليهم واجتهد أولئك في إظهار ذلك وإشاعته على المنابر، في أيام الجُمَع وغيرها من المجامع العظيمةِ، حتى استقر في قلوب أتباعهم أنّ الأمر على ما قالوه، وأنّ بني مروان أحقُّ بالأمر من عليٍّ وولده لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره.

فتوصلوا بذلك إلى تأليف قلوبِ الناس عليهم، وقتالهم لعلي وولده من بعده، وثبت بذلك لهم الملك، واستوثق لهم الأمر.

وكان بعضُهم بني أميّة - يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلامًا، ما معناه: «لم يكن أحدٌ من الصَحابة أكفأ عَن عُثمانَ مِن عَليٍّ» فيقال له: لِمَ تسبُّونه إذًا؟ فيقول: «إنّ المُلكَ لا يقوم إلا بذلك».

ألا قبّح الله ملكاً لا يقوم إلا على الافتراء والدماء!

ختاماً: أعاذنا الله تبارك وتعالى من الوقوع في إراقةِ الدماء، فقد أخرج أحمد، والبخاري في الدِياتِ (6862) من حديث عبدالله بن عمر قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ؛ مَا لَمْ يُصِبْ دَماً حَراماً).

اللهم حفظتنا من هذا، فيما مضى من أعمارنا؛ فاحفظنا واحفظ إخواننا وأحبابنا من الخوض في أعراض ودماء المسلمين، ما بقي من أيّامنا يا أرحم الراحمين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.