الجمعة، 30 يونيو 2023

  المُشْكِلَةُ الشيعيّة (3):

بين صحيح البخاري وصحيح الكُلينيّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

اطّلعتُ على منشورٍ لأحد الإخوةِ الإماميّة، بيّن فيه مزايا كتاب «الكافي» لأبي جعفر الكلينيّ، على كتاب «الجامع الصحيح المختصر» لأبي عبدالله البخاريّ!

فكتبتُ ثمّةَ تعليقةً قلت فيها: «أنا الفقير أكثرُ مَن انتقدَ صحيحَ البخاريّ، وربما كنتُ أقلَّ من انتقد الكافي صحيح الكلينيّ!

بيد أنّ الذي يقارن «صحيح الكليني» بـ«صحيح البخاريّ» كالذي يقول: البصلُ مثل العسل!

فكيف لو قال: البصل «الكليني» أفضل من العسل «البخاريّ»؟

تبقى كارثةً علميّة تماماً» انتهى.

فنالني ما هو معتادٌ مِن جُهّال المقلّدة، ومتعصّبةِ الطائفيين، غفر الله لي ولهم، وسامحني وإيّاهم!

بعد ما تقدّم أقول: إنّ أهمّ أصلٍ من أصول الإسلام؛ هو التوحيد!

وأنا الفقير لا أقبلُ في باب التوحيد سوى آياتِ القرآن العظيم، فلا أقبل حديثاً مرفوعاً، ولا أثراً موقوفاً، ولا خبراً وفتوى عن التابعين، كثروا أم قلّوا!

وهذا هو مذهب الماتريدية والأشاعرة والمعتزلة والزيدية والإباضيّة، وهو مذهب الشريف المرتضى من الإماميّة!

أمّا جمهور الإماميّة، وجمهور أهل الحديثِ من أهل السنة، وجمهور الحنابلةِ؛ فيثبتون مباحثَ التوحيد بخبر الواحد الصحيح عندهم!

وسأدع الكلامَ على «كتاب التوحيد» في صحيح البخاريّ، حتى أنتهي من نقده!

وسأتكلّم على «كتاب التوحيد» في صحيح الكلينيّ الكافي!

يبدأ كتاب التوحيد في مرآة العقول، شرح كافي الكلينيّ بالصفحة (287) من المجلّد الأوّل، وينتهي بالصفحة (492) من المجلّد نفسه، من طبعة شركة الأعلميّ ببيروت، عام (2012م).

وقد حوى كتابُ التوحيد أربعةً وعشرين باباً، هي في حقيقتها سبعةَ عشر باباً.

وكان مجموعُ أحاديث كتاب التوحيد في الكافي (131) حديثاً.

كان عددُ أحاديثِ الباب الأوّل (7) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) مرفوع من دون إسناد، يعني هو ضعيف!

الحديث (4) ضعيف.

الحديث (5) مجهول.

الحديث (6) مجهول.

الحديث (7) مجهول.

وكان عددُ أحاديثِ الباب الثاني (7) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) مرفوع، ونقل المحقّق عن المجلسيّ أنّ بكرَ بن صالحٍ مجهول الحال.

الحديث (4) صحيح.

الحديث (5) حسن.

الحديث (6) مجهول.

الحديث (7) مرسَل.

وكان عددُ أحاديثِ الباب الثالثِ (3) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) مرسل، وفيه عليّ بن عقبة، مجهول الحال.

الحديث (3) كالصحيح!؟

 وكان عددُ أحاديثِ الباب الرابعِ (3) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) صحيح!؟

وكان عددُ أحاديثِ الباب الخامس (3) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح، وآخره مرسل!؟

الحديث (2) حسنْ.

الحديث (3) صحيح.

وكان عددُ أحاديثِ الباب السادس (8) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح.

الحديث (2) صحيح.

الحديث (3) ضعيف!

الحديث (4) ضعيف.

الحديث (5) ضعيف.

الحديث (6) ضعيف.

الحديث (7) ضعيف.

الحديث (8) ضعيف.

الحديث (9) ضعيف.

الحديث (10) ضعيف.

الحديث (11) مجهول كالصحيح!؟

الحديث (12) ضعيف.

وكان عددُ أحاديثِ الباب السابع (8) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مُوَثّق.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) ضعيف!

الحديث (4) مرسل.

الحديث (5) مرفوع.

الحديث (6) ضعيف.

الحديث (7) ضعيف.

الحديث (8) مجهول.

وكان عددُ أحاديثِ الباب الثامن (6) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) صحيح.

الحديث (3) حسن!

الحديث (4) صحيح.

الحديث (5) ضعيف.

الحديث (6) ضعيف.

وكان عددُ أحاديثِ الباب التاسع (2) حديثان، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح.

الحديث (2) مجهول.

وكان عدد أحاديث الباب العاشر (7) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) صحيح!

الحديث (4) حسن.

الحديث (5) ضعيف.

الحديث (6) مجهول.

الحديث (7) صحيح.

وكان عدد أحاديث الباب الحادي عَشَرَ (4) أحاديث، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) ضعيف!

الحديث (4) ضعيف.

وكان عدد أحاديث الباب الثاني عَشَرَ (12) حديثاً، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) ضعيف.

الحديث (2) حسن.

الحديث (3) ضعيف!

الحديث (4) ضعيف.

الحديث (5) صحيح.

الحديث (6) مجهول.

الحديث (7) مرفوع.

الحديث (8) ضعيف.

الحديث (9) مجهول.

الحديث (10) صحيح.

الحديث (11) ضعيف

الحديث (12) صحيح.

وكان عدد أحاديث الباب الثالثَ عَشَرَ (2) حديثين، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليهما؛ الآتي:

الحديث (1) مجهول.

الحديث (2) مرسل.

وكان عدد أحاديث الباب الرابعَ عَشَرَ (2) حديثين، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليهما؛ الآتي:

الحديث (1) ضعيف.

الحديث (2) مجهول.

وكان عدد أحاديث الباب الخامسَ عَشَرَ (9) أحاديثَ، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) ضعيف.

الحديث (2) ضعيف.

الحديث (3) مجهول.

الحديث (4) ضعيف.

الحديث (5) صحيح.

الحديث (6) ضعيف.

الحديث (7) صحيح.

الحديث (8) صحيح، وآخره مرسل!

الحديث (9) حسن.

وكان عدد أحاديث الباب السادسَ عَشَرَ (7) أحاديثَ، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) مرفوع.

الحديث (2) صحيح.

الحديث (3) كالصحيح.

الحديث (4) صحيح.

الحديث (5) موثّق كالصحيح.

الحديث (6) مجهول.

الحديث (7) ضعيف.

وكان عدد أحاديث الباب السابعَ عَشَرَ «باب الروح» الأخير (4) أحاديثَ، وكان حكم العلامةِ محمد باقر المجلسيّ عليها؛ الآتي:

الحديث (1) صحيح.

الحديث (2) حسن.

الحديث (3) مجهول.

الحديث (4) ضعيف.

فيكون عدد الأحاديثِ الصحيحةِ، التي يقول جمهور علماء الإمامية: إنهم يحتجّون بها (22) اثنين وعشرين حديثاً، من مجموع أحاديث كتاب التوحيد البالغة (131) حديثاً!

والسؤال إلى الإخوة الإماميّة الذين شنّعوا عليّ، وظنّوا أنني أتكلّم من منطلق طائفيّ:

أيّ توحيدٍ هذا الذي يُبنى على أحاديثَ منسوبةٍ إلى أئمة أهل البيت عليهم السلام، وفيها:

(22) حديثاً، حكم عليها إمامكم المجلسيّ بحكم (مجهول).

و(37) حديثاً، حكم عليها المجلسيّ بحكم (ضعيف)؟

أفيجوز في عقولكم وقلوبكم ودينكم؛ أن تُشنّعوا على رجلٍ ينصحكم، ويبيّن لكم أنّ أفضلَ كتبكم (الكافي) ساقطٌ من جهة الصنعة الحديثيّة؛ لا تصل نسبة الصحيح فيه إلى (20%) حسب نقد إمامكم المجلسي، أما بحسب نقدي أنا؛ فقد لا يصحّ في هذا الكتاب كلّه حديثٌ واحد، من جهة الصناعة الحديثيّة!!

ومعلوم لدى العوامّ والجهّال، فضلاً عن العلماءِ وطلبة العلم؛ أنّ من غلب حديثُه الضعيفُ على حديثِه الصحيح؛ فهو (متروك) باتفاق أهل العلم بالحديث.

فيكون الكلينيّ المقدّسُ - كما تصفونه - واهيَ الحديث «متروكاً» ويكون كتاب (الكافي) متروكاً أيضاً، ليست أحاديثه صحيحةَ النسبةِ إلى آل البيتِ، فضلاً عن أن يكون صحيحَ النسبةِ إلى المشرّعِ الوحيدِ من البشرِ، رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

فلا الإمامُ عليّ، ولا بقيّة أهل الكساء، ولا بقية الأئمة حتى الحسن العسكريّ عليهم السلامُ مشرّعون، ولا معصومون من الأساس؛ لأنكم بنيتم إمامتهم وعصمتهم وصلاحيتهم للتشريع؛ على مثل هذه الروايات الهزيلةِ الواهية!

أفناصحٌ أنا الفقير لكم، أم غاشٌ ومتحاملٌ عليكم؟

(يَالَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) [سورة يس].

قال الله تعالى:

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) [الكهف].

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 28 يونيو 2023

  مَسائِلُ حديثيّة (39):

 من فقه الدعاءِ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

نحن المسلمين ندعو الله تبارك وتعالى على الدوامِ، وليس في المواسمِ المشهودةِ فحسب!

فنحن ندعو الله تعالى في الصلاة، وقبل الصلاة وبعد الصلاة، وقبل النوم وبعد النوم!

وندعو الله إذا أكلنا، وإذا شربنا، وإذا ركبنا دابّةً أو أيَّ مركبٍ!

حياتنا كلّها تواصلٌ مع الله تعالى بالدعاء!

نحن ندعو الله تعالى امتثالاً لأمره لنا بالدعاء، إذ قال الله تعالى:

(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) [غافر].

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) [البقرة].

ونحن ندعو الله تعالى طمعاً برحمته، وخوفاً من عقابه؛ لأننا خطّاؤون، فقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16).

فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) [السجدة].

(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) [الأعراف].

إنّ قول الله تبارك وتعالى (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يغنينا عن جميع أعداد ومكاييل الثواب الواردةِ في الأحاديث الصحيحة، فضلاً عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة!

وقد نشر أحدهم على صفحته في «الفيسبوك» بشرى سارّة للمؤمنين بمزيدٍ من الثواب والأجر في هذا اليوم الكبير العظيم يومَ عرفه!

فساق لهم الحديث الآتي من كتاب شعب الإيمان (5: 502) [3780] إذ يقول الإمام البيهقيّ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ قال: حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَسَدِيُّ الْحَافِظُ بِهَمَذانَ قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ الطَّيَالِسِيُّ. عَلَّانُ الْحَافِظُ قال: حَدَّثَنَا أَبُو إِبْرَاهِيمَ التَّرْجُمَانِيُّ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَقِفُ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَوْقِفِ فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [مِائَةَ مَرَّةٍ].

ثُمَّ يَقْرَأُ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُ) [مِائَةَ مَرَّةٍ].

 ثُمَّ يَقُولُ: (اللهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَآلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، وَعَلَيْنَا مَعَهُمْ) [مِائَةَ مَرَّةٍ].

إِلَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى: يَا مَلَائِكَتِي، مَا جَزَاءُ عَبْدِي هَذَا؟

سَبَّحَنِي، وَهَلَّلَنِي، وَكَبَّرَنِي، وَعَظَّمَنِي، وَعَرَفَنِي، وَأَثْنَى عَلَيَّ، وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّي؟

اشْهَدُوا «يا» مَلَائِكَتِي أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُ، وَشَفَّعْتُهُ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ سَأَلَنِي عَبْدِي هَذَا لَشَفَّعْتُهُ فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ كُلِّهِمْ) انتهى الحديث!

قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ البيهقيّ: «هَذَا مَتْنٌ غَرِيبٌ، وَلَيْسَ فِي إِسْنَادِهِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَى الْوَضْعِ، وَاللهُ أَعْلَمُ» ومن طريق البيهقيّ أخرجه ابن عساكر في فضل يوم عرفة، رقم (15).

وأورده السخاوي في القول البديع (ص: 210) وقال: «قال البيهقي في الشُعَب: هذا مَتنٌ غريب، ليس في إسناده مَن يُنسب إلى الوضع». قال السخاويُّ: «كلّهم موثوقون، لكن فيهم الطلحيُّ وهو مجهول».

وساقه السيوطيّ من طريق البيهقيّ في اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (2: 106) وقال: «أوردهُ الْحَافِظ ابْن حجر فِي أَمَالِيهِ، وَقَالَ: رُوَاته كلّهم موثوقون، إِلَّا الطلحيَّ، فَإنَّهُ مَجْهُول»

والمقصود بالطلحيّ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّلْحِيُّ، الذي روى هذا الحديثَ عن  عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُحَارِبِيِّ.

وقد ساق السيوطيّ في الموضع نفسه متابعةً لعبدالرحمن الطلحيّ، عند الديلميّ وابن النجار، من طريق أحمد بن ناصح البغداديّ عن عبدالرحمن بن محمد المحاربيّ.

قال الفقير عداب: في هذا الحديث علل شتّى:

الأولى: أنّ عبدالرحمن بن محمد الطلحيّ مجهول، ومعنى مجهول هنا: ليس له ترجمة مفردةٌ أوضحَتْ منزلته في الجرح والتعديل!

والثانية: أنّ متابِعَه أحمد بن ناصح هو شيخ النسائيّ، وقد قال النسائيّ فيه: صالح، ومرة قال: لا بأس به، فهو مقبول الرواية فيما توبع عليه، ممن تقبل متابعته.

وقد اختلفوا في كونه بغداديّاً، أم مصّيصيّاً، ولم يذكروه في الرواة عن المحاربيّ، وليس له في الكتب التسعة عن المحاربيّ أيُّ حديث!

والثالثة: أنّ عبدالرحمن بن محمّد المحاربيّ نفسه، قال فيه ابن حجر في التقريب:

«لا بأس به، وكان مدلّساً» وهو لم يصرّح بسماعه الحديثَ من المحاربيّ!

يضاف إلى هذا أنّ المحاربيّ، عند ابن ماجه (3814) وعند الترمذيّ (3434) وعندهما معاً، روى عن مالكِ بن مِغوَلٍ عن محمد بن سوقة، ولم يرو عنه مباشرةً.

وأخرج له البخاريّ حديثاً واحداً في كتاب الجمعة (966) قال فيه: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى أَبُو السُّكَيْنِ قَالَ حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، الحديث.

وزكريا بن يحيى هذا، قال فيه ابن حجر: صدوق له أوهام، ومن أوهامه تصريحُه بسماع المحاربيّ من محمد بن سوقة!

دليل ذلك أنّ محمد بن العلاء ومحمد بن طريف، عند البيهقيّ في السنن الكبير (9784) في سياقة الحديث ذاته، قالا: «حدثنا المُحارِبِىُّ عن محمدِ بنِ سُوقَةَ، عن سعيدِ بنِ جُبَيرٍ» فيكون الحديث منقطعاً بين المحاربيّ ومحمّد بن سوقة.

وقد ذكرت مرّاتٍ عديدةً؛ أنّ الصدوق ومن لا بأس به، فمن دونهما، إذا تفرد بحديثٍ؛ كان حديثه منكراً.

وهذا الحديث إسناده مدلَّس منقطع، ضعيف، ومتنه منكر، ويكفي أن السيوطيَّ وابن عرّاقٍ أورداه في الموضوعات.

وأمّا الحديث الثاني؛ فقد قال الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق (9: 211) حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي إملاء قا قرئ على أبي الحسن علي بن إبراهيم بن عيسى الباقلاني وأنا حاضر حدثنا أبو بكر بن مالك إملاء نا علي بن الحسن القطيعي حدثنا أحمد بن محمد بن أحمد بن زيد أنا عمرو بن عاصم حدثنا الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يلتقي الخضر وإلياس عليهما السلام في كل عام من الموسم بمنى فيحلق كل واحد منهما رأس صاحبه ويتفرقان عن هؤلاء الكلمات سبحان الله ما شاء الله لا يسوق الخير إلا الله ما شاء الله لا يصلح السوء إلا الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله قال قال ابن عباس من قالهن حين يصبح وحين يمسي ثلاث مرات أمنه الله من الغرق والسرق قال وأحسبه ومن الشيطان والسلطان والحية والعقرب.

وأخرجه في موضع آخر (16: 427) قال: أخبرنا أبو القاسم بن الحصين أنا أبو طالب محمد بن محمد أنا أبو إسحاق المزكي نا محمد بن إسحاق بن خزيمة نا محمد بن أحمد بن زيد أمله علينا بعبادان أنا عمرو بن عاصم نا الحسن بن رزين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال ولا أعلمه إلا مرفوعا إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) قال يلتقي الخضر وإلياس كل عام، وساق الحديث بنحوه، ثمّ قال: قال الدارقطني حديث غريب من حديث ابن جريج لم يحدث به غير هذا الشيخ «الحسن بن رزين» عنه.

وأخرجه المخلّص في جزئه (23) وقال: «قال الدارقطني في المُزَكِّيات: حديث غريب من حديث ابن جريج، لم يحدث به غير هذا الشيخ عنه» يعني الحسن بن رزين.

وأخرج ابن الجوزي ثلاثة أحاديث في اجتماع الخضر وإلياس وغيرهما، ثم قال: «هَذِهِ الأَحَادِيثُ بَاطِلَةٌ... وَأَمَّا حَدِيثُ الْتِقَاءِ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ؛ فَفِي طَرِيقِهِ الْحَسَنُ بْنُ رَزِينٍ.

قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَلَمْ يُحَدِّثْ بِهِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ غَيْرُهُ.

قَالَ الْعُقَيْلِيُّ: وَلَمْ يُتَابِعْ عَلَيْهِ مُسْنَداً وَلا مَوْقُوفاً، وَهُوَ مَجْهُولٌ فِي النَّقْلِ، وَحَدِيثُهُ غَيْرُ مَحْفُوظٍ.

وَقَالَ ابْنُ الْمُنَادِي: هَذَا حَدِيثٌ وَاهٍ بِالْحَسَنِ بْنِ رَزِينٍ، وَالْخَضِرُ وَإِلْيَاسَ مَضَيا لِسَبِيلِهِمَا».

ختاماً: يجب على كلّ مَن ينشرُ للناس أحاديثَ ليتعبّدوا الله تعالى بها؛ أن يكون ممن تخصّص في علوم الحديثِ ونقده!

فإن لم يكن كذلك، وأراد أن ينفع الناسَ؛ فليقتصر على الأحاديثِ التي اشترط أصحابها الصحة فيما يروون، وهي: صحاح البخاريّ ومسلم وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبّان!

أو مثل رياض الصالحين والأذكار للنوويّ، رحمهم الله تعالى أجمعين.

ما لهؤلاء وتلك الروايات الغريبة، المذكورة أصلاً في كتب الموضوعاتِ، ينسبونها إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم كذباً، ويضلّون بها عباد الله تعالى.

والرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث المتواتر:

(إنّ كذباً عليّ؛ ليس ككذبٍ على أحدكم، فمن كذب عليّ؛ فليلج النار).

واللهُ تَعالى أَعلمُ

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

الأحد، 25 يونيو 2023

  اجتماعيات (64):

هَلْ حُبُّ الجمالِ فِطْرَة؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

أخرج الإمام مسلمٌ في كتاب الإيمانِ (91) من حديث عبدالله بن مسعودٍ، رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: (إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال).

وإذا كان جمالُ الله تعالى المناسبُ لذاته المقدّسة الغيبيّة يعني الجلال والكمال، والجمالُ المناسب لأفعاله؛ أنّه لطيفُ بنا، رؤوف رحيم، لا يكلّفنا فوق طاقتنا، يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر؛ فإنّ حُبَّه للجمال يعني حَثّه على بلوغِ الكمالاتِ في التقوى والأخلاق والسلوك.

وإذْ هو تعالى يحبّ الجمالَ؛ فقد خلق الإنسانَ في أحسن تقويم، وخلق لنا جمال السماء وجمال البحار والأنهار، وجمالَ الينابيع والعيون، وجمال الجبال الخضراء والحمراء والبيضاء والسوداء، وجمال الحقول والبساتين، وجمال الحدائق والطيور، وجمال الأصواتِ والنغمات، وجمال الزهور والورود والرياحين، وجمال الغِلالِ والثمارِ، وفطرنا على حبِّ الجمالِ.

وأعظم دليلٍ على هذه الفطرةِ؛ اشتراكُ جميع البشر في حبّ ما تقدَّم كلّه، وسكونهم إليه، ورغبتهم في التمتّع به!

حبّ الجمال فطرة، والجمال: اسمُ جنسٍ يشمل جميعَ ما يندرج تحته ممّا حثّ عليه الشرع ورغّب فيه وندب إليه.

وإذا كان من معاني الجمالِ؛ اكتمالُ صفاتِ الموصوف بالجمال؛ فإنّ عظيمَ صنع الله تعالى في خلقه، وإبداعه كلَّ شيءٍ في هذا الوجودِ، وَفق سنن معلومةٍ ونواميس مطّردةٍ؛ هو من أعظم الجمال.

ولعلَّ انصرافَ ذهن الإنسانِ - إذا ذُكِرَ الجمالُ - إلى جمالِ الإنسان ذاتِه؛ فلأنّ الإنسانَ يَركنُ إلى الصور الحسنةِ، وينفرُ من الصور القبيحة!

فإذا شاهدَ الإنسان مبتلىً من ذوي الإعاقاتِ؛ يصيبُه قَبضٌ وانزعاجٌ، وحتى لا يتحرّك في نفسه جانبَ الإنكار والاعتراض؛ ندبه الشارع الحكيم إلى تذكّر نعمةِ الله عليه؛ ليقوم بحمده وشكره، فيقول: (الحَمْدُ للهِ الَّذِي عَافَانِي مِمَّا ابْتَلَاكَ بِهِ، وَفَضَّلَنِي عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقَ تَفْضِيلًا) أخرجه جمع من المصنفين، من حديث عبدالله بن عمر، ومن حديث أبي هريرة، منهم الترمذيّ في الدعوات (3431، 3432) وهو حديثٌ حسنٌ عندي.

قال الترمذيّ: «وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ «الباقر» أَنَّهُ قَالَ:

إِذَا رَأَى صَاحِبَ بَلَاءٍ؛ يَتَعَوَّذُ، يَقُولُ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يُسْمِعُ صَاحِبَ الْبَلَاءِ».

وممّا يتعيّن الالتفاتُ إليه أنّ سنّةَ الله تعالى في الحياة الدنيا مختلفةٌ عمّا في الآخرة، فقد جعل اختلاف الألوان في الدنيا لوناً من ألوان الجمال الذي ابتدعه، وآيةً من آياتِ قدرته وحكمته، وإن ظنّه بعضهم محنةً لبعض خلقِه به!

قال الله تعالى:

(وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) [النحل].

(يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) [النحل].

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) [فاطر].

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) [الزمر].

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) [الروم].

فقد عَدَّ اللهُ اختلافَ ألسنة البشر وألوانهم؛ آياتٍ وبراهينَ شاهدةً على حكمته وقدرته.

وما دام الأمر كذلك، فالناس بألوانهم وتقاطيعهم؛ متساوون في المنزلة، والتفاضل بينهم لا يكون بجمال الصورة الظاهرة، إنما بالتقوى!

قال الله تعالى:

(يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) [الحجرات].

(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) [الحجّ].

ومسألةُ ألوان الناس يومَ القيامةِ - وربما ألسنتهم أيضاً - مختلفةٌ عمّا هي في الدنيا.

قال الله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) [آل عمران].

وقال جلّ وعزّ: (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) [سورة: طه] زرقاً: يعني سوداً.

وهذا يعني أنّ أهل الجنّة يكونون يوم القيامةَ بيضاً، بينما يكون أهل النار سودَ الألوان.

ولم تكن لدى أمّة العرب - وفي طليعتهم بنو هاشم - مشكلةٌ أو أزمةٌ مع اللون الأسود أبداً، فقد كانت والدةُ جدّنا عليّ الرضا بن موسى الكاظم جاريةً نوبيّةً سمراء!

إنّما كرّس حساسيةَ الألوانِ والتقاطيع؛ الاستعمارُ الغربيّ الملحد المتوحّش، فغدا لدى الأفارقة السودِ حساسيةٌ من كلّ ذي بشرةٍ بيضاء!

وقد ذكرت في منشور سابقٍ؛ أنّ عدداً من إخواننا الأفارقة - من غير العرب - كان تَعلُّمُ تلاوة القرآن عليهم أشقَّ منّا، وكان شيخنا الشريف محمد سليمان أحمد الشندويليّ، رضي الله عنه يعطيني من الوقتِ ما لا يعطي أحداً غيري، ظنّا منه أنني سأكملُ القراءات السبعَ، وأكون من شيوخ تعليم القراءات القرآنية!

ذات يومٍ كنت أقرأ عليه برواية ورش عن نافع، ونزل عليه وعليّ من السكينة ما لم يحدثْ من قبل، فبكى هو، ودمعت عيناي، وكان هذا سبباً في تأخّري على زملائي أكثرَ وأكثر، فنهضوا وهجموا عليّ، وضربوني ضرباً مبرّحاً، وهم يقولون بصوت واحدٍ تقريباً: «أبيض، أزرق، كافر، ملعون» (ههه ههه ههه).

ثم تصالحنا، ودعوتهم إلى بيتي، وأكرمتهم، وأفهمتهم أنّ المسألة ليست أثرةً مني، إنما هو تقدير شيخنا، فربما أنا أساعده مستقبلاً، فأقرؤكم!

كان لنا في مجلس القرآن المبارك هذا زميلٌ حمويّ يحبّ المزاح، فاجتمع ببعض الأفارقةِ وقال لهم: نحن نعرف جمال المرأة بكذا وكذا من الصفات، فكيف تعرفون جمالَها أنتم؟

وسألهم سؤالاً آخر: هل ترغبون أن تتزوجوا من نساءٍ بيضٍ؟

حدّثني أنهم جميعاً رفضوا ذلك وقالوا: نحن نقرفُ من هذا، قصارى ما نفعله هو النظر إليهنّ، وهذا يعني أنّ الأبيضَ يألفُ البيضاءَ، والأسمر يألف السمراء!

وما دام البياض والسوادُ آيتين من آياتِ الله تعالى؛ فأرى أنّ علينا المحافظةَ على بقاء هذا التمايز ظاهراً، فيتزوّج الأسمر من السمراء، والأبيض من البيضاء، ليس من قَبيل العنصريّة - معاذ الله - وإنما لأنّ شيوعَ زواج البيض من السود والعكس؛ سيجعل البشرية كلَّها سوداء؛ لأنّ اللون الأسود غالب.

كان لي زميلٌ حمويٌّ مقرئٌ فاضل ضرير «أبيض، أزرق» على حدّ قول إخواننا الأفارقة، تزوّج سودانيّة، وأنجب منها أولاداً وبناتٍ!

زارني في عمّان قُبيل إجراء عملية السرطان لي، في أواخر عام (2011م) فقلت له:

أنت تزوجت سودانيّة، فأنجبت منها بناتٍ وأولاداً، من سيتزوّج بناتك عندنا في سوريّا؟

قال: ربما لا أحد، لكن يتزوجهّن أهلهنّ في السودان!؟

لم أشأ أن أحرجَه، فسكتُّ!

لكن انظر أخي القارئ الكريم: أولاده وبناته السودُ هؤلاء، سيعيشون في بلدٍ بعيدةٍ حتى عن إخوانِهم من أبيهم، أناسٌ في السودان، وأناسٌ في سوريّا، ومع الزمان؛ ستنقطع أواصر الاتّصال تماماً بين طرفي الأسرة الواحدة، وأنا الفقير أستثقل مثل هذا الأمر، وأرفضه لذريّتي تماماً!

وقد أثّرت فكرتي هذه على بناتي، حتى إنّ بعضهنّ جاوزن الثلاثين من أعمارهنّ إلى أن تزوجن، وهذا غير واردٍ لدى أسرتنا بتاتاً!

وذلك بسبب أنني لم أزوّجهنّ إلّا لشبابٍ حمويّين، لا لمزايا خارقة لدى أولئك الحمويّين، أبداً أبداً، وإنما حتى تبقى الأخواتُ قريباتٍ من بعضهنّ، ولا تتفكّك الأسرة بالتباعد، الذي يورث القطيعةَ والجفاء!

والكلام على مظاهر الجمالِ، وتعلّق النفس الإنسانيّة به؛ يحتاج إلى منشوراتٍ عديدةٍ، هذا أهمّها في نظري.

والله تعالى أعلم.

والحمد لله على كلّ حالٍ.

الخميس، 15 يونيو 2023

  مَسائل حديثية (39):

مكانةُ أبي حنيفةَ في علم الحديثِ

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

السادةُ الحنفيّةُ يَعتقدون - ولا يظنون - أنّ المحدّثينَ ظلموا الإمام أبا حنيفةَ رضي الله عنه، بتضعيفهم إيّاه وتركهم الرواية عنه، ويظهر هذا جليّاً في ترجمته عند البخاريّ في الضعفاء (388) وأبي زرعة في الضعفاء (2: 570، 718) والنسائي في ضعفائه (586) والعقيلي في ضعفائه (1876) وابن حبّان في المجروحين (3: 60) إذ قال: «كَانَ رجلا جدلاً، ظَاهرَ الْوَرع، لم يكن الحَدِيثُ صناعتَه، حدّث بِمِائةٍ وَثَلَاثِينَ حَدِيثاً مَسانيد «يريد: متّصلةَ الأسانيد» مَا لَهُ حَدِيث فِي الدُّنْيَا غَيرها، أَخطَأ مِنْهَا فِي مائَة وَعشْرين حَدِيثاً، إِمَّا أَن يكون أقلبَ إِسْنادَه، أَو غيّر مَتنَه، مِن حَيْثُ لَا يَعلَمُ، فَلَمَّا غلب خَطؤُهُ على صَوَابِه؛ اسْتحقَّ ترك الِاحْتِجَاج بِهِ فِي الْأَخْبَار.

وَمن جِهَة أُخْرَى، لَا يجوز الِاحْتِجَاج بِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَاعياً إِلَى الإرجاءِ، والداعيةُ إِلَى الْبِدَع؛ لَا يجوز أَن يُحْتَجَّ بِهِ عِنْد أَئِمَّتنَا قاطبةً، لَا أعلم بَينهم فِيهِ خلافًا على أَن أَئِمَّة الْمُسلمين وَأهل الْوَرع فِي الدَّين فِي جَمِيع الْأَمْصَار وَسَائِر الأقطار؛ جَرحوه، وأطلقوا عَلَيْهِ الْقدح، إِلَّا الْوَاحِدَ بعدَ الْوَاحِدِ، قد ذكرنَا مَا رُويَ فِيهِ من ذَلِك، فِي كتاب «التَّنْبِيه على التمويه» فأغنى ذَلِك عَن تكرارها فِي هَذَا الْكتاب».

وابن عديٍّ في كامله (8: 235 - 246) وختم ترجمته بقوله: «أَبُو حنيفة لَهُ أحاديث صالحة، وعامة ما يرويه غَلطٌ وتَصاحيف وزياداتٌ فِي أسانيدها ومتونها وتصاحيف فِي الرجال، وعامة ما يرويه كذلك.

ولم يصحَّ له فِي جميع ما يرويه إلا بضعةَ عشر حديثاً، وقد روى من الحديث لعله أرجح من ثلاثمِئَة حديثٍ، من مشاهير وغرائب، وكله على هَذِهِ الصورة؛ لأنه ليس هُوَ من أهل الحديث، ولاَ يحمل عَنْ مَن تكون هَذِهِ صورته الحديثُ».

أمّا الخطيب البغداديّ؛ فترجم له أطول ترجمةٍ في تاريخه كلّه (15: 444 - 573) وفي ختام ترجمته نقل أقوال أئمة الحديث في تضعيفه من جهة حفظه ومعرفته بعلم الحديث، ومن الغريب أنّهم نقلوا تضعيفَه عن تلميذه عبدالله بن المبارك!

كما نقلوا تضعيفه عن الحسن بن صالح بن حيّ، وعن سفيان الثوري، وعن سفيانَ بن عيينة، وعن عبدالله بن نمير، وعن الحجاج بن أرطاه، ويحيى بن سعيد القطّان، وغيرهم، وغيرهم.

وفي رسالتي لدرجة الماجستير (1: 385 - 416) ناقشت أقوال العلماء في موقفهم من أبي حنيفة من جهة آرائِه الكلاميّة، ومن جهة مكانته في علم الحديث وخلصت (1: 398) إلى أنّ الإمام أبا حنيفة علمٌ من أعظم أعلامِ هذه الأمة، وهو عدلٌ فاضلٌ صالحٌ ورعٌ، من كبار العلماءِ الذين وُضع لهم القَبول في الأرض، ولا أزكيه على الله تعالى.

لكنّ ضبطَه للحديثِ فيه نظر، وهو لم يطلب الحديثَ على طريقةِ المحدّثين، ولا تصرّف فيه تصرّفهم، فلم يعجبهم ذلك منه، وأهل الحديث عامّةً لا يغوصون وراء النصوص غوصَ الفقهاء.

ثمّ إنّ القولَ بضعفِ أبي حنيفةَ في علم الحديثِ، أو ثقته فيه؛ لا يعني اليومَ كبيرَ شيء، إذ أسقط المحدّثون رواياته من مصنّفاتهم، حتى إنك لا تجد له حديثاً واحداً مرفوعاً في الكتب الستة الأصول!؟

بل ليس له في الكتب التسعة، سوى حديث واحد عند أحمدَ ابن حنبل في مسنده (23027) حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ: أَخْبَرَنَا أَبُو فُلَانَةَ.

قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ أَحْمَدَ: «كَذَا قَالَ أَبِي، لَمْ يُسَمِّهِ عَلَى عَمْدٍ!؟  وَحَدَّثَنَاهُ غَيْرُهُ فَسَمَّاهُ - يَعْنِي أَبَا حُنَيْفَةَ - عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَاهُ: (اذْهَبْ؛ فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ).

كتبت هذا الكلام في عام (1403 هـ) ما عدا حديثَ أحمد!

ثمّ وقفتُ بعد ذلك على مسندِ أبي حنيفةَ برواية أبي نعيمٍ الأصبهانيّ، ونسختُه، وصنعت له فهارِسَ متعدّدةً، ثمّ رأيتُه مطبوعاً، فتكاسلتُ عن تكميله!

وبعد صدور «القرص المدمج» للمكتبة الشاملة؛ غدا استقراءُ أحاديث أبي حنيفة رحمه الله تعالى بواسطتها ميسوراً، وعَقِبَ الجمع؛ يكمن تصنيفُ أحاديثه إلى أحاديثَ مسندةٍ مرفوعة، وآثارٍ مُسندةٍ عن الصحابة موقوفة، وأخبارٍ عن التابعين، وفتاوى عن علماءِ المسلمين.

قبل ظهور المكتبة الشاملة؛ كنت أستغرب من نُدرةِ روايات أبي حنيفةَ، وأقول في نفسي: عالمٌ كبيرٌ مثل أبي حنيفةَ، ترجمه المزيّ في تهذيبه (29: 417 - 445) ونصّ على أنّه روى عن ثمانين شيخاً، وأنّ الرواة عنه أكثر من (150) راوياً ، وقام باحثٌ جادٌّ، وكتب رسالته للحصول على درجة الماجستير، فلم يجد له في الكتب سوى أقلَّ من ثمانين حديثاً؟!

أمّا اليوم؛ فيمكن للباحث أن يجد لأبي حنيفة في كتب متون السنة والحديث والأثر  أكثر من (2500) روايةٍ، منها المرفوع، ومنها الموقوف، ومنها المقطوع.

ومن المرفوعات؛ يجد المسند المتّصل، والمنقطع، والمعضل، والمرسل، والمعلّق أيضاً.

وجمع هذه الروايات وغيرها؛ تمييزها يحتاج إلى باحثٍ شابٍّ حريصٍ، يقوم بعمله تحت إشراف محدّثٍ متخصّص، حتى إذا استوى ترتيب العمل على الموضوعاتِ أو على المسانيد؛ قام بصناعة عددٍ من الفهارس العلميّة، أحدها لرواة الأحاديث المسندة المرفوعة إلى الرسول صلّى  الله عليه وآله وسلم، ثم يقوم بتخريجها قدر الإمكان، ثم يعرض عملَه على ناقدٍ محايدٍ.

وعقب الانتهاء من هذا الجهد الكبير الضخم؛ يمكن تصويبُ المحدّثين أو تخطئتهم فيما رموا به أبا حنيفة من الضعف في الحديث.

ختاماً: أنا الفقير لا تخفى عليّ الجهودُ العلمية والمنقبية، التي قامت بجهودٍ في بعض ما ذكرتُه، لكنها بين جهودٍ ناقصةٍ وقاصرة، وبين جهودٍ مذهبية هدفها تفخيم أبي حنيفة للحفاظ على قداسة المذهبيّة التي أمقتها تماماً!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

الأربعاء، 14 يونيو 2023

  التَصَوُّفُ العَليمُ (4):

مَعالِمُ التَوبةِ النَصوحِ !؟

بسم الله الرحمن الرحيم                                         

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

طَلَب مني أحدُ الإخوةِ أن أتوبَ إلى الله تعالى، من التعرّض إلى كبار أوليائه، وخواصّ أحبابه، وأشرافِ محبّيه!؟

أقول وبالله التوفيق:

اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك من كلّ ذنبٍ، أو خطيئةٍ، أو خطأٍ ارتكبتُه عامداً، أو ساهياً، أو ناسياً، أو متوهّماً، أو مجتهداً فيه!

وأشهدك يا ربي؛ أنني أحبُّ جميعَ المؤمنين، وأكثرُهم طاعةً لك؛ أحبُّهم إليّ!

وأشهدكَ يا ربي؛ أنني أبغض الكافرين والمنافقين بأعيانهم وأفعالِهم، وأبرأ إليك من أقوالهم وأعمالهم وآثارهم.

وإنّ آل بيت رسولك محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلم؛ أحبُّ الناسِ إليّ بعد النبيين والمرسلين، ومن بعدهم صالحي ذرّيتهم إلى يومِ الدين.

وإنّ صحابةَ نبيّك السابقين الأوّلين، من الأنصار والمهاجرين - ما عدا ندرةً من المغيّرين - هم أحبّ الخلقِ إليّ بعد الآل الطيّبين!

وإنّ العلماءَ العاملينَ، والأئمة المجتهدين؛ أحبُّ إليّ من العبّادِ الصالحين!

وإنني يا ربي عبدُ رقٍّ لأوليائك وعبادِك الصالحين، الذين يوالون ويعادون فيك!

أيها الإخوةُ المؤمنون: إنّ من عبادِ الله الصالحين بعد الصحابةِ الكرام؛ مَن اتّفقت كلمة علماءِ الأمة وعبّادها على الشهادة لهم بالتقوى والصلاح والاستقامة، من أمثالِ معروفٍ الكرخيّ، والسريّ السقطيّ، والجنيد البغداديّ، وعبدالقادر الجيلانيّ، وأحمد الرفاعيّ، سادتي وقُداتي، وبهم إلى الله تعالى قربتي، رضي الله عنهم وعن أمثالهم أجمعين!

ومِن عِبادِ الله تعالى بعد الصحابة الكرام؛ من اختلفت كلمةُ علماءِ الأمّة وعبّادِها في الشهادة لهم بالتقوى والصلاح والاستقامة، من أمثالِ:

شهاب الدين يحيى بن حَبَش السهرورديّ (ت: 587 هـ).

وشرف الدين عمر ابن الفارض الحمويّ (ت: 632 هـ) [يعني من بلدنا حماة]!

ومحيي الدين محمّد بن عليّ ابن عربي الحاتمي (ت: 638 هـ).

وقطب الدين عبدالحقّ بن إبراهيم ابن سبعين الإشبيلي (ت: 669 هـ).

والسيّد أحمدَ بن عليّ البدويّ السطوحيّ الملثّم (ت: 675 هـ).

وعفيف الدين سليمان بن عليّ التلمسانيّ (ت: 690 هـ) وأمثالهِم كثيرين.

وأنا الفقيرُ قد اطّلعت على جانبٍ مما كَتَبَ هؤلاء، أونُقِلَ عنهم، واطّلعت على  جانبٍ كبيرٍ ممّا كُتب عنهم.

وأنا أتوقّف في أحوالِهم، وأكِلُ أمورَهم وأحوالَهم إلى الله تعالى، لا أكفّر ولا أفسّق ولا أضلّل ولا أزندق أحداً منهم ومن أمثالهم.

بيد أنني أنظر إلى ما ثبتَ عنهم، أو نُقِلَ من كتبهم، أو نُسبَ إليهم؛ فأحاكمه إلى كتابِ الله تعالى، وإلى صحيح سنّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى أقوال المجتهدين من العلماء، ثمّ أحكمُ على تلك الأقوال بما تستحقّه من القَبولِ أو الردّ، من دون التعرّضِ إلى أعيانهم.

مع ضرورةِ التنبيه إلى أنّ الفلسفةَ - كلّ الفلسفة - وإن كانت تُعنى بالوجود، إلّا أنّ سبيلها إلى ذلك العقلُ وحده، ولأنّ العقول تتفاوت؛ فستكون نتائجها في تفسير الوجود والحياة متغايرةً من دون شكٍّ، وجميع أضرب الفلسفة؛ لا توصلُ إلى الإيمانِ الذي أراد الله تعالى من عبادِه أن يؤمنوا به.

ومن منجهي أنا الفقيرُ إلى الله تعالى؛ أنني أتأوّل كلامَ الله تعالى، وأقلّب وجوه النظرِ في فهمه على أحسن ما أستطيع، وأتأوّل الثابتَ الصحيح عندي مما نُسبَ ورويَ عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بفهمي أنا وفقهي أنا، مستعيناً بفهم علماءِ الأمّة وأذكيائها من المتقدّمين والمتأخرين والمعاصرين، من دون أن يكون فَهمُ أحدٍ منهم مُلزماً لي في شيءٍ، حتى لو كانوا مائةَ عالم؛ لأنني تيقّنت أنّ المتأخّر يقلّد المتقدّم تتابعاً، من دون تمحيصٍ ولا تقويمٍ، في كثيرٍ من الأحيان.

لكنّني لست مطالباً بأن أتأوّل قولَ أيِّ أحدٍ من البشر، وعلى الذين يتصدّرون للكتابةِ أن يكونوا واضحين، شجعاناً، يقدّمون ما لديهم بمنتهى الصراحة والوضوح!  وبناءً على هذا؛ فلا أجدني متحمّساً لتأويل قول أحدهم: (ما في الجبّة إلا اللهُ) أو قول الآخر: (سبحاني ما أعظم شاني) أو قول ثالث:

وما الكلب والخنزير إلّا إلهه = وما الحقّ إلّا راهبٌ في كنيسة

أو قول غيره: (سبحان من أظهر الأشياءَ، وهو عينُها).

أو قوله: (ما وصفنا الحقَّ بوصفٍ؛ إلّا كنا نحن ذلك الوصفَ).

أو قوله: فما نظرت عيني إلى غير وجهه = ولا سمعت أذني خِلافَ كلامه

 ظاهرُ هذا الكلام كلّه؛ كفرٌ بواح، لا نقرؤه، ولا نقرئه، ولا نقرّه، ولا نتأوّله!

قال الإمامُ الذهبيُّ في النبلاء (23: 48): وَمِنْ أَرْدَأِ تَوَالِيفِ ابن عربي؛ كِتَابُ «الفُصُوْصِ» فَإِنْ كَانَ لاَ كُفْرَ فِيْهِ؛ فَمَا فِي الدُّنْيَا كُفْرٌ، نَسْأَلُ اللهَ العَفْوَ وَالنَّجَاةَ، فَوَاغَوْثَاهُ بِاللهِ»!

ختاماً: بمناسبةِ مطالبتي من بعضكم بالتوبة؛ فإنني أذكّر إخواني القرّاء بما قاله أحدُ أئمّة التصوّف، في معالمِ التوبةِ النصوحِ، رجاءَ أن نتوبَ إلى الله جميعاً وَفقها.

قال أبو الفَيضِ ذو النون بن إبراهيم المصريّ الإخميميّ (ت: 245 هـ) رضي الله عنه وقد سئل عن التوبة؟!

«التَّوْبَةُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِمَعَانٍ سِتَّةٍ:

أَوَّلُهُنَّ: النَّدَمُ عَلَى مَا مَضَى!

الثَّانِي: الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِ الذُّنُوبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.

الثَّالِثُ: أَدَاءُ كُلِّ فَرِيضَةٍ ضَيَّعْتَها، فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى.

الرَّابِعُ: أَدَاءُ الْمَظَالِمِ إِلَى الْمَخْلُوقِينَ، فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ.

الْخَامِسُ: إِذَابَةُ كُلِّ لَحْمٍ ودَمٍ نَبَتَ مِن الحَرامِ.

السَّادِسُ: إِذَاقَةُ الْبَدَنِ أَلَمَ الطَّاعَاتِ، كَمَا ذَاقَ حَلَاوَةَ الْمَعْصِيَةِ»

نقلاً عن مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي (3: 471) رحمه الله تعالى.

أسألُ الله تعالى أن يتوب علينا توبةً نصوحاً، ترضيه تعالى، ويرضى بها عنا ويسامحنا أجمعين.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.