الثلاثاء، 31 مايو 2022

      مَسائلُ حَديثيّةٌ (39):

وفاةُ أبي طالبٍ على غيرِ الإسلام (3)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشور السابقِ (38) خرّجتُ حديثَ المسيّب بن حزْن المخزوميّ، وحديثَ أبي هريرة اللذين ينصّان صراحةً على أنّ أبا طالب رفضَ أن ينطق بالشهادتين، وماتَ على الشرك!

وفي هذا المنشور (39) سأخرّج حديثَ الإمام عليّ عليه السلام، الذي ينصّ على أنّه دفن والدَه، وهو ما يزالُ على الشرك!

بإسنادي إلى الإمام أحمد في مسنده الكبير، مسند العشرة المبشرة (1093) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بن الجرّاح الإمام: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثوريّ الإمامُ  عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السبيعيّ الثقة المدلّس، عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ «المجهول المخلّط في حديثه» عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام، قَالَ: لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ؛ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنَّ عَمَّكَ الشَّيْخَ الضَّالَّ قَدْ مَاتَ، فَقَالَ: (انْطَلِقْ فَوَارِهِ، وَلا تُحْدِثَنَّ شَيْئاً حَتَّى تَأْتِيَنِي)

قَالَ عليٌّ: فَانْطَلَقْتُ فَوَارَيْتُهُ، ثمّ جئتُ، فَأَمَرَنِي، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ دَعَا لِي بِدَعَوَاتٍ، مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهِنَّ مَا عَرُضَ مِنْ شَيْءٍ» وأعاده أحمد في مواضع (759، 807، 1074).

وأخرجه جمع غفيرٌ من طرقٍ كثيرةٍ، لا حاجة بنا إلى ذكرها، إنما نسعى إلى تعيين مدار الحديث:

مدار حديثِ عليّ عليه السلام، على أبي إسحاق السبيعيّ، رواه عنه:

إبراهيم بن طهمان، عند أبي يعلى الموصلي في مسنده (423).

وإسرائيل بن يونس، عند البيهقي في السنن الكبير (1467).

سفيان الثوريّ، عند أحمد (1093) وأبي داود (3214) والنسائيّ (2006).

سلام بن سليم أبو الأحوص الحنفيّ، عند ابن أبي شيبة في المصنّف (11840).

وسليمان الأعمش، عند أبي الشيخ في كتاب الأقران (104) لكن عنده: عن أبي إسحاق عن رجل عن عليّ.

شعبةُ بن الحجّاج، عند أحمد (759) والطيالسيّ (122) والشافعي في مسنده (102) لكن قال البيهقيّ في الخلافيات (1: 530): «هَذا الحديثُ فِيمَا لَمْ يَسْمَعْهُ الرَّبِيعُ مِنَ الشَّافِعِيِّ».

قال البيهقيّ في السنن الكبير (2: 393) في نقد هذا الحديث:

«رواه الثَّوريُّ وشُعبَةُ وشَريكٌ عن أبي إسحاقَ.

ورواه الأعمَشُ عنه، عن رجلٍ، عن عَلِيٍّ.

وناجيَةُ بنُ كَعبٍ الأسَدِيُّ؛ لم تَثبُتْ عَدالَتُه عِندَ صاحِبَي الصحيح!

أخبرَنا أبو عبدِاللهِ الحافظُ: أخبرَنا الحسنُ بنُ محمدِ بنِ إسحاقَ: حدثنا محمدُ بنُ أحمدَ بنِ البَراءِ قال: قال عليُّ ابنُ المَدينيِّ: حَديثُ عليٍّ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أمَرَه أن يوارِيَ أبا طالِبٍ؛ لم نَجِدْه إلا عِندَ أهلِ الكوفَةِ، وفِى إسنادِه بَعضُ الشَّيءِ.

رواه أبو إسحاقَ عن ناجيَةَ، ولا نَعلَمُ أحَدًا رَوَى عن ناجيَةَ غَيرَ أبى إسحاقَ».

قال البيهقيُّ: وقَد رُوِى مِن وجهٍ آخَرَ ضَعيفٍ عن عليٍّ هَكَذا:

حَدَّثَناه أبو محمدٍ عبدُ اللَّهِ بنُ يوسُفَ إملاءً، أخبرَنا أبو إسحاقَ إبراهيمُ بنُ محمدِ بنِ إبراهيمَ الدَّيْبُلىُّ بمَكَّةَ: حدثنا محمدُ بنُ عليِّ بنِ زَيدٍ الصّائغُ: حدثنا سَعيدُ بنُ مَنصورٍ: حدثنا الحسنُ بنُ يَزيدَ الأصَمُّ قال: سَمِعتُ السُّدِّيَّ يُحَدِّثُ عن أبي عبدِالرحمنِ السُّلَمِيِّ، عن عليِّ بنِ أبي طالِبٍ قال: لما توُفِّىَ أبو طالِبٍ أتَيتُ رسولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فقُلتُ: إنَّ عَمَّكَ الشيخَ قَد ماتَ) الحديث.

تَفَرَّدَ الحسنُ بنُ يَزيدَ الأصَمُّ بإِسنادِه هَذا.

وأَخبرَنا أبو سَعدٍ المالينيُّ: أخبرَنا أبو أحمدَ عبدُاللَّهِ بنُ عَدِيٍّ الحافظُ قال: «الحسنُ بنُ يَزيدَ الكوفِيُّ: لَيسَ بالقَوِىِّ، وحَديثُه عن السُّدِّيِّ لَيسَ بالمَحفوظِ».

قال الإمام البيهقيّ: ومَدارُ هذا الحديثِ المَشهورُ على أبي إسحاقَ السَّبيعِيِّ، عن ناجيَةَ بنِ كَعبٍ عن عَلِيٍّ.

قال الإمام البيهقيّ: «وقَد رَوَى إسحاقُ بنُ محمدٍ الفَرْوِيُّ عن عليِّ بنِ أبى عليٍّ اللَّهَبِيِّ عن الزُّهرِىِّ، عن عليِّ بنِ حُسَينٍ، عن عمرِو بنِ عثمانَ، عن أُسامَةَ بنِ زَيدٍ قال: دَخَلَ عليُّ بنُ أبى طالِبٍ إلى رسولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فأَخبَرَه بمَوتِ أبى طالِبٍ» الحديث!

ثمّ قال: «هَذا مُنكَرٌ، لا أصلَ له بهَذا الإسنادِ، وعَلِيُّ بنُ أبي عليٍّ اللَّهَبِيُّ ضَعيفٌ، جَرَّحَه أحمدُ بنُ حَنبَلٍ ويَحيَى ابنُ مَعينٍ، وجَرَّحَه البخاريُّ وأبو عبدِ الرحمنِ النَّسائيُّ.

ويُروَى عن عليٍّ مِن وجهٍ آخَرَ هَكَذا، وإِسنادُه ضَعيفٌ.

وقد طوّل الإمام البيهقيّ في سياق طرق هذا الحديث، وضعّفها كلّها، فمن شاء؛ فليراجعها ثمّة (2: 393 - 398).

وقد كنّا يكفينا كلام الإمام البيهقيّ هذا في تضعيف هذا الحديث القبيح، لكن نودّ أن نزيد الأمر بعضَ الإيضاح!

ترجم الحافظ ابن حجر ناجيةَ بن كعبٍ في تهذيبه (10: 400) وقال: «أمّا ناجية بن كعب الأسديُّ؛ فهو الراوي عن علي بن أبي طالب، فقد قال ابن المديني أيضاً: لا أعلم أحداً روى عنه غير أبي إسحاقَ، وهو مجهول!

وقال العجلي: ناجية بن كعب كوفي ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.

وفرّق البخاريُّ وأبو حاتم ومسلم في الطبقات وغير واحد بين ناجية بن كعب الأسديّ، وبين ناجية بن خفاف العنزيّ، والله تعالى أعلم».   

قال الفقير عداب:

في كلام ابن حجر نظرٌ من عدّة جهات:

الجهة الأولى قوله: «فرّق البخاريُّ ...إلخ» متى قرأت هذا الكلام؛ فاعلم أنّ المترجَمَ ليس معروف العين، وهو مشتركٌ مع غيره، وهذا وحده يضعّف الحديثَ موضع الدرس!

الجهة الثانية: قوله: «ترجمه ابن حبان في الثقات» وهذا غير صحيح!

فقد ترجم في الثقات (4: 351) سَلْمَى بِنْتُ كَعْبٍ أُخْتُ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ تَرْوِي عَنْ عَائِشَةَ.

أمّا ناجية بن كعب؛ فترجمه في المجروحين (1122) وهذه ترجمته بتمامها ثمّة:

«نَاجِية بن كَعْب من أهل الْكُوفَة، وَهُوَ الْأَسدي يَرْوِي عَن عَلِي.

روى عَنْهُ أَبُو إِسْحَاق وَأَبُو حسان الْأَعْرَج.

كَانَ شَيخاً صَالحاً، إِلَّا أَن فِي حَدِيثه تَخْلِيطاً، لَا يشبه حَدِيثَ أقرانه الثِّقَات عَن عَليٍّ.

فَلَا يُعجبنِي الِاحْتِجَاجُ بهِ إِذا انْفَرد، وَفِيمَا وَافق الثِّقَات، فَإِن احْتج بِهِ مُحْتَجٌّ؛ أَرْجُو أَنّه لا يُجرحُ فِي فعله ذَلِك».

وقد تنبّه الشيخ شعيب الأرنائوط من قبل إلى ذلك، في تخريجاته على مسند الإمام أحمد (759).   

الجهة الثانية: نقل ابن حجر عن ابن المدينيّ أنه قال: لم يرو عنه سوى أبي إسحاق وهو مجهول، ثم ذهب فقال في الثقات: ثقة!

وتعقّب البيهقيَّ في التلخيص الحبير (2: 269) فقال: «مَدَارُ كَلَامِ الْبَيْهَقِيّ عَلَى أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَلَا يَتَبَيَّنُ وَجْهُ ضَعْفِهِ، وَقَدْ قَالَ الرَّافِعِيُّ: إنَّهُ حَدِيثٌ ثَابِتٌ مَشْهُورٌ قَالَ ذَلِكَ فِي أَمَالِيه».

أقول: لا يخفى على طالب علم؛ أنّ توثيق العجليّ إذا انفرد؛ لا يعتمد عليه، وناجية بن كعبٍ مجهول الحال في أقلّ تقدير، وقد حكم ابن المديني بجهالته، وحكم ابن حبان بتخليطه، فعلامَ بنيت توثيقك أيها الحافظ ابن حجر؟

الجهة الثالثة: تقدّم في تخريج البيهقيّ للحديث؛ أنّ الشعبيَّ رواه عن أبي إسحاق، عن رجلٍ، عن عليّ، وهذه اللفتة توجبُ التيقّظ لأنّ أبا إسحاق مدلّسٌ، وقد قال: عن ناجية بن كعب، ولم يقل: حدّثني ناجية!

وهذه علّة أخرى تضافُ إلى ما سبق من علل الحديث!

وقد نصّ علماء الحديثِ على أنّ الثقةَ المدلّس إذا بصيغة «عن» عن شيخٍ له، وانفرد هو بذلك؛ لا يُقبل منه ذلك، ويُعدّ حديثه مدلَّساً ضعيفاً!

ختاماً: إنّ حديث ناجيةَ بن كعبٍ عن الإمام عليّ إسناده ضعيف جدّاً، لجهالة ناجية بن كعبٍ وتخليطه، ولتدليس أبي إسحاق السبيعيّ، الذي يستغرب منه أن يروي مثل هذا الحديث!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.   والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق