الثلاثاء، 3 مايو 2022

التَصَوُّفُ العَليمُ (16):

هل التواضُعُ صفةٌ إيمانيّة!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كثيرٌ من الإخوةِ يطالبني بالتواضعِ، ويرونني مستكبراً، أو مغروراً، أو معتدّاً بنفسي!

أقول وبالله التوفيق: أنا رجل مسكينٌ ضعيفٌ، من أين يأتيني الغُرورُ، وأنا مدينٌ بعلمي الذي هو رأس مالي كلّه، لأناسٍ ساعدوني في مسيرتي العلميّة إداريّاً ومالياً وأدبياً؟

و(الكبر: بطر الحقّ، وغمط الناس) أخرجه مسلم في الإيمان (91).

وبَطرُ الحقّ: إنكارُه، وغمطُ الناس: احتقارُهم والتَعالي عليهم.

وعائذٌ بالله أن  يكون في صدري شيءٌ من هذا، أو ذاك!

لكنّ ثمّةَ فرقاً كبيراً بين أن تكونَ جاهلاً، وتريد مني أن أقول: إنك عالم.

وبين أن تكون عالماً، وأقول: إنك جاهل!

ويَعلمُ متابعو صفحتي أنني إذا قرأت مقالاً جيّداً؛  أثني على صاحبه وأدعو له، وإذا لزم الأمر؛ شاركتُه، حتى لو كان كاتبه من جيل أحفادي.

- أمّا مسألة التواضع هذه؛ فلم ترد آيةٌ واحدةٌ في القرآن الكريم، فيها لفظة «تواضع» أو مشتقاتها.

قال ابن فارس في مقاييسه (وَضَعَ): الْوَاوُ وَالضَّادُ وَالْعَيْنُ: أَصْلٌ وَاحِدٌ، يَدُلُّ عَلَى الْخَفْضِ لِلشَّيْءِ وَحَطِّهِ... والْوَضِيعُ: الرَّجُلُ الدَّنِيُّ.

- وأمّا الحديث الذي أخرجه مسلمٌ متأخّراً في بابه، ليبيّن علّته في صفة الجنة (2865) من حديث الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى عَنْ الْحُسَيْنِ بن واقدٍ، عَنْ مَطَرِ بن طهمان: حَدَّثَنِي قَتَادَةُ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِاللهِ بْنِ الشِّخِّيرِ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ قَالَ:

قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَطِيبًا فَقَالَ: (إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ: تَوَاضَعُوا، حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) فلو صحّ الحديث؛ كان التواضع المقصودُ (لَا يَفْخَرْ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ) وليس إظهارَ المسكنةِ، ووضاعة النفس ودناءتها، كما تعنية كلمة التواضع!

وهذا المتن من أوهام مطرِ بن طهمان وزيادته على هشام الدستوائيّ عن قتادة، وهشامٌ ثقة ثبتٌ، ومطرٌ، قال فيه أبو حاتم وأبو زرعة: صالحٌ، يعني إذا توبع، وقال الحافظ ابن حجر: صدوق كثيرُ الخطأ! 

والزيادةُ في المتون والأسانيدِ، إنما تقبلُ من الثقة الحافظ، وليس من كثير الأوهام والأخطاء!

وجميعُ الأحاديثِ التي وردت فيها كلمة (تواضع) ضعيفةٌ، لا يصح منها شيء!

وحديث (من تواضع لله؛ رفعه الله تعالى) إسناده ضعيف، لكنّ تعاملَ العبدِ مع الله تعالى؛ ليس كتعامل العبدِ مع العبد!

فنحن عبادُ الله تعالى وعبيده، وكلّما خضعنا وتذللنا بين يدي خالقنا ورازقنا؛ كان أتمّ لعبوديتنا.

وجميعُ الأحاديثِ التي وردت فيها كلمة (تواضع) ضعيفةٌ، لا يصح منها شيء!

    - نعم جاء في القرآن الكريم:

(لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) [الحِجْر].

قال الراغب (خفض): الخَفْضُ: الدَعَةُ والسير الليّن، وقوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) هو حَثٌّ على لين الجانب، والانقياد لطاعتهما.

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ؛ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) [المائدة].

قال الراغب (ذلّ): الذلّ متى كان من جهة الإنسان نفسه لنفسه - من دون قهر الآخرين - فهو محمود، نحو قوله تعالى (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وتأتي الذِلّة بمعنى اليُسر والسهولة.

أقول: هذا قيدٌ مشروط بــ «مَن» يرتدُّ، والمؤمنون ما زالوا يملأون الوجود!

ومهما يكن تأويلُ الآية؛ فإنّ الذلّة على المؤمنين؛ ليست هي الضَعَةَ والمسكنةَ، وإظهار التماوُتِ حقّاً أو تصنّعاً؛ بدليل قوله تعالى في الباب نفسه (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) [آل عمران].

فلم يكن الصحابةُ رضي الله عنهم بيومِ بَدرٍ ولا بغير بدرٍ، يوصفون بالضَعةِ ولا المسكنةِ!

قال الإمام الطبري في تفسيره (7: 169): (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ): يعني: قليلون، في غير مَنَعَةٍ من الناس».

فثقافةُ التواضع التي عمّت المجتمعَ الإسلاميَّ كلّه - وللأسف - والتي صارت علماً على الأخلاق الحميدة؛ لم تُبْنَ على آيةٍ قرآنيّة، ولا على حديثٍ صحيح!

وليس هذا فحسب، بل يُعابُ على المسلم إذا كان عزيزَ النفس، يرفض إهانتَها وضعفَها أمامَ أيِّ أحد!

إذا قلتُ: شيخي فلان عالم بالفقه الشافعيّ، لكنّه لا يعرفُ في علم الأصول شيئاً؛ فهذا لا يعني أنني أمدح نفسي بأنني أعلم منه في الأصول!

إذا قلت: ليس في مشايخي السوريين واحدٌ يحسن علم نقدِ الحديث؛ فهذا لا يعني أنني أمدحُ نفسي بأنني أعلم منهم في علم نقد الحديث، كما فهم بعض الناس، إنّما يعني أنهم كذلك!

وأنا لست في حاجةٍ إلى مثل هذا اللفّ والدوران، بل أقول بكلّ وضوح وصراحة: أنا الفقير أعلم من جميع شيوخي المحدّثين في نقد الحديثِ، في سوريا وفي العالم كلّه!

تحدّثاً بنعمة الله تعالى، وليس غروراً ولا كبراً ولا غمطاً للناس الذين علّموني، جزاهم الله خيرَ الجزاء!

والذي يماري في ذلك؛ فليذكر لي اسمَ عالم واحدٍ في سوريا والعراق والحجاز ومصر، أحسنَ في نقد عشرةِ أحاديثَ، من مثل ما نقدتُ به مئاتِ الأحاديثِ، في صحيحي البخاري ومسلمٍ!

وليذكر لي اسم عالمٍ واحدٍ من شيوخي، كتب أكثر من عشرة آلاف صفحة في علومِ الحديث، في سوريا والعراق والعالم!

وإلى المشايخ السوريين الوعّاظِ خاصّةً أقول: أنتم أجهل خلق الله تعالى في علوم الحديثِ، وتمييز الصحيح من الضعيف!

ولهذا فإنّ ثقافة السوريين الإسلاميّة مبنتاةٌ في أكثرها على الأحاديث الضعيفة والمنكرة!

وحتى أولئك الوعّاظ «الدعاة» الذين يَظهرون منكم على شاشات التلفاز، يحفظون من الأحاديث الضعيفةِ والمنكرة وحكايات القُصّاص؛ أكثر ممّا يحفظون من الأحاديث الصحيحة بكثير

فأنتم تسهمون بزيادةِ تشويه ثقافة الأمة، بدعوى فارغة سخيفة:

(الأخذ بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال) جاهلين أو متجاهلين أنّ العاميّ الذي يسمع منكم حديثَكم الباطلَ يظنّ أنه صحيح النسبةِ إلى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

بل أنتم أنفسُكم في حقيقةِ الأمر لا تحسنون التمييز بين الغثّ والسمين، والصحيح والضعيفِ أصلاً!

والقلّة القليلة من طبقة زملائنا وتلامذتنا؛ نشاطُهم في تصويب ثقافة الأمّة على وسائل التواصل الاجتماعيّ؛ معدومٌ، أو محدودٌ جدّاً.

وسيحاسبكم الله تعالى على الاستمرار في تشويه ثقافة الأمة!

ختاماً: من آداب أهلِ الإسلام، بعضهم مع بعضٍ: اللطفُ والرحمةُ ولين الجانب.

وليس الخضوعَ والخنوعَ، والتماوتَ والمسكنة والمجاراةِ على الباطل، أو المجاملات التي تملأ دنيا المسلمين!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق