الاثنين، 16 مايو 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (33):

التَخْفيفُ عَن أبي طالب (2)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشور السابق (32) درسنا حديثَ العبّاس بن عبدالمطّلب رضي الله عنهما في التخفيف عن أبي طالب، رضي الله عنه، وتبيّن لنا أنّ إسناده ضعيف جدّاً، وأانّ متنه مخالفٌ لعددٍ من الآيات القرآنية الكريمة، التي تثبتُ أنّ العذابَ لا يخفّف عن الكافر إذا دخل نارَ جهنّم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) [فاطر].

وفي هذا المنشور (33) سأخرّج حديثَ أبي سعيدٍ الخدريّ في الباب نفسه، إن أعانني الله تعالى، ووفّقني إلى ذلك.

أقول وبالله التوفيق:

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب المناقبِ من جامعه الصحيح، باب قصة أبي طالب (3885) قال رحمه الله تعالى:

حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ «بن سعدٍ»:حَدَّثَنَا «يزيدُ بنُ عبداللهِ» ابْنُ الْهَادِ «الليثيّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَبَّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذُكِرَ عِنْدَهُ عَمُّهُ «أبو طالبٍ» فَقَالَ: (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ)

حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ وَالدَّرَاوَرْدِيُّ عَنْ يَزِيدَ بِهَذَا، وَقَالَ: (تَغْلِي مِنْهُ أُمُّ دِمَاغِهِ).

قال عداب: يريد البخاريّ أن يقول: مدار حديث أبي سعيدٍ على يزيد بن الهاد، رواه عنه الليث بن سعدٍ وعبدالعزيز بن أبي حازمٍ، وعبدالعزيز بن محمد الدراوَرْديُّ.

وأعاده البخاري في الرقاق (6564) من طريق عبدالعزيز بن أبي حازمٍ، وعبدالعزيز بن محمد الدراوَرْديُّ عن يزيدَ ابن الهادِ، به مثلَه.

وأخرجه مسلم في كتاب الإيمانِ من صحيحه (210) من طريق الليث بن سعدٍ عن يزيدَ ابن الهاد، به مثلَه.

وقد تتبّعت مواضعَ تخريجه في كتب الروايةِ؛ فوجدتُ حديثاً آخر عن أبي سعيدِ الخدريّ، أخرجه أحمد ابن حنبلٍ في مسنده (11100، 11739) وعبد بن حُمَيدٍ في مسنده (875) والحاكم في المستدرك (8734) وصحّحه على شرطٍ الشيخين، من حديث حمّاد بن سلمة.  

قال الإمام أحمد في المسند(11100، 11739): حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ، وَمِنْهُمْ فِي النَّارِ إِلَى كَعْبَيْهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فِي النَّارِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اغْتُمِرَ فِي النَّارِ إِلَى أَرْنَبَتِهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي النَّارِ إِلَى صَدْرِهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدِ اغْتُمِرَ فِي النَّارِ).

وأخرج أبو عوانةَ الإسفراينيّ في مستخرجه (351) والبيهقي في البعث والنشور (1073) من حديثِ زُهَيْر بن محمدٍ التميميّ عن سُهَيْل بن أبي صالحٍ، عن النَّعْمَانِ بنِ أَبِي عَيَّاشٍ، عن أبي سَعِيدٍ، أَنَّ رَسولَ اللهِ  صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً، يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْن مِن نَارٍ، يَغْلِي دِمَاغُهُ مِن حَرَارَةِ نَعْلَيْه).

فصار بينَ أيدينا روايتان لحديثِ الباب عن أبي سعيدٍ:

إحداهما: تجعل أهونَ الناس عذاباً أبا طالب.

والثانية: لا تسميّه، إنّما تحكي أمراً عاماً يشمل صنفاً من الناس، ربما كانوا ألوفاً، أو أكثر (إِنَّ أَدْنَى أَهْلِ النَّارِ عَذَاباً)! 

ويتعيّن علينا نَقْدُ الروايتين، بدلاً من حمل رواية أبي سعيدٍ المجملة على الواضحة البيّنة، كما صنع أبو عوانة والبيهقيّ وغيرهما!

مَدار حديث أبي سعيد الخدريّ، الذي يعيّن أبا طالبٍ لهذا العذاب عند البخاري ومسلم على يزيد ابن الهاد، عن عبدالله بن خبّاب.

- فمن يزيد ابن الهاد هذا؟

قال الحافظ ابن حجر في التقريب (7737): «ثقة مكثر (ت: 139 هـ).

- أمّا عبدالله بن خبّاب:

فقد ترجمه ابن عديّ في ضعفائه (5: 390) وساق حديثه هذا في أبي طالب، ونقل عن الجوزجانيّ قوله فيه: 

«عَبدالله بن خبّاب الذي يروي عنه ابنُ الهاد، سألتُ عنه، فلم أرهم يَقِفون على حدّه ومعرفته» وفسّر القيسراني  كلام الجوزجانيّ، فقال في ذخيرة الحفاظ  (2917): «حَدِيث: ذُكِر عِنْد النَّبِيّ صلّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمُّه أَبُو طَالبٍ، فَقالَ: لَعَلَّه تَنْفَعهُ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة؛ فَيجْعَل فِي ضخصاح من نَار، يبلغ كعبيه، يغلي مِنْهُ دماغه.

رَوَاهُ عبد الله بن خباب: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ.

وَعبدُالله هَذَا؛ يُشْبِهُ الْمَجْهُولَ، روى عَنهُ يَزيدُ بنُ عبدالله ابن الْهَاد» وأعاد الكلام في موضع آخر من الذخيرة (5308): «عبدُالله هَذَا يُشبه الْمَجْهُول، روى عنه يزيدُ بنُ عبدالله ابن الهاد».

وقال ابن عديّ أيضاً: «حَدَّثَنَا ابن المديني عَن يَحْيى بْن بُكَير، عن الليثِ بن سعد، عنِ ابن الهاد، بهذا الإسناد مقدار خمسة أحاديث.

وحدّثناه ابن مَهْدِيٍّ عَن أَبِي مُصْعَبٍ، عنِ ابن أبي حازم، عنِ ابن الهاد بهذا الإسناد بخمسةِ الأحاديثِ التي يرويها الليث عنِ ابن الهاد، عن عبدالله بن خبّاب».

قال عداب: وقد روى البخاريّ في صحيحه نسخة الليث هذه كلّها، وفرّقها في صحيحه (646، 1963، 3885، 4798، 5018، 6985، 6997) مثلما روى نسخة ابن أبي حازم عن يزيدَ: (1967، 6853، 6564، 6989، 7045).

أمّا مسلمٌ فلم يرو في صحيحه لعبدالله بن خبّاب، سوى حديث الباب، ربما خرّجه لشاهدِه من حديث العبّاس السابقِ، ظنّا منه أنّ أحدهما يقوّي الآخر!

ختاماً: قد وثّق عبدالله بن خبّابٍ عددٌ من الحفّاظ، واعتمده البخاريُّ فيما رأيتَ، وإلّا فالرجلُ شبهُ مجهول في أحسن أحواله.

وبه تكون رواية خبّابٍ عن أبي سعيدٍ ضعيفةَ الإسنادِ أيضاً، وإن أخرجها الشيخان في صحيحيهما.

وهي مُنكرةُ المتن؛ لأنها تخالف قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) [البقرة].

وسيأتي مزيدُ بيانٍ لحديثِ أبي سعيدٍ، في منشورٍ تالٍ، وإنما أخرت الكلام على الرواية الأخرى؛ لأنني سأخرجها هي وحديثَ ابن عباسٍ، وحديثَ أبي هريرة، وحديثَ النعمان بن بشيرٍ؛ لأنها جميعاً من بابةٍ واحدة (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ؛ رَجُلٌ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ) ليس في جميعها ذِكْرٌ لأبي طالبٍ، ولا لغيره!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

       والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق