مِنْ عِبَرِ التاريخِ (10):
أصحابُ عَقَبةِ تَبوكَ مِن
الصَحابةِ!؟
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ
تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
المسلمونَ في مسألةُ الصحابةِ؛ مُتناقضونَ تناقضاً
قبيحاً، وأعدل المذاهب في هذه المسألة؛ هو مذهب الزيديّة!
بينما أهل السنّة والشيعةِ على طَرَفَي نقيضٍ من
الغلوِّ القبيح!
فبينما يجعلُ أهلُ السنّةِ جميعَ مَن رأى الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم عدلاً جليلاً مَقبولَ الرواية، بمن في ذلك الطلقاء
والمنافقون والأعراب والمجاهيلُ؛ تجد الشيعةَ الإماميّةَ ساخطين على جميعِ
الصحابةِ، إلّا ثُلّةً لا تتجاوزُ (30) صحابيّاً، موالينَ للإمامِ عليّ عليه
السلام!
وأهلُ السنّةِ والشيعةُ الإماميّة معاً؛ يعتمدون على رواياتٍ آحاديّةٍ،
بعضها صحيح السندِ، لكنّه من الأفراد المطلقةِ التي لا يثبتُ بها - عندي - حلالٌ
ولا حرامٌ، فضلاً عن إثباتِ إيمانٍ وكفرٍ ونفاق، والمسائلُ العقديّةُ تحتاجُ إلى
اليقينِ!
ومسألةُ «مُحاوَلةِ قتلِ الرسول صلّى الله عليه
وآله وسلّم» عَقِبَ عَودَتِه من غزوة تبوك؛ هي إحدى المسائلِ الشائكةِ، التي تَنسِبُ
إلى أكابرِ الصحابةِ عند أهل السنّة هذه المحاولةَ الإجراميّة، وتَصِمُهم بالردّةِ
والنفاقِ!
وقد سألني عددٌ من الإخوةِ عن هذه المسألةِ - منذ
سنواتٍ وإلى هذه السنةِ- وأنا أتجاهَل الجوابَ عنها، وأكتفي بقولي: لا يثبتُ أنّ
هؤلاء الصحابةَ الكبارَ رضي الله عنهم؛ همّوا بمثل هذه الكارثةِ الإيمانيّة.
إلى أنْ كانتْ ليلةُ أمس، إذ ظهرَ أمامي مقطعُ
فيديو، تحت عنوان «الصحابةُ الذين أرادوا قتل الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم»
لرجلٍ رافضيٍّ.
استمعتُ هذا المقطعِ إلى نهايتِه، فوجدتُه مَقطعاً
جيّدَ العرضِ والتناول، قويّاً، يُمكن أن يقتنع به جميع المستمعينَ إليه، سوى
نقّادِ الحديث!
فرأيتُ من الضروريّ مناقشةَ ما جاء في هذا المقطع،
وبيانَ وجه الحقّ في هذه المسألة الوبيئة!
بإسنادي إلى الإمام مسلم في مسنده الصحيح، كتابِ
صفاتِ المنافقين (2799) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الْكُوفِيُّ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ:
حَدَّثَنَا أَبُو الطُّفَيْلِ «عامرُ بنُ واثلةَ الليثيّ الصحابيّ (ت: 110 هـ)» قَالَ:
كَانَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْعَقَبَةِ «يعني
ممّن شهدَ غزوةَ تبوك» وَبَيْنَ حُذَيْفَةَ «بن اليمان» بَعْضُ مَا يَكُونُ بَيْنَ
النَّاسِ «من اختلافٍ وخصومةٍ» فَقَالَ «حُذيفةُ لمن شهدها»: أَنْشُدُكَ باللهِ، كَمْ
كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ «يعني الذين همُّوا بقتل الرسول صلّى الله عليه وآله
وسلّم» فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ «الحاضرون من الصحابةِ»:أَخْبِرْهُ إِذْ سَأَلَكَ!؟
قَالَ «ذاك الرجل»:كُنَّا نُخْبَرُ أَنَّهُمْ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ!
«قال حذيفةُ»: فَإِنْ كُنْتَ مِنْهُمْ، فَقَدْ
كَانَ الْقَوْمُ خَمْسَةَ عَشَرَ!!
وَأَشْهَدُ باللهِ أَنَّ اثْنَيْ عَشَرَ مِنْهُمْ
حَرْبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ، فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ
الْأَشْهَادُ، وَعَذَرَ ثَلَاثَةً قَالُوا: مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَلِمْنَا بِمَا أَرَادَ الْقَوْمُ!
وَقَدْ كَانَ صلّى الله عليه وآله وسلّم فِي
حَرَّةٍ «أرضٍ صخريّة فيها حجارةٌ سوداء!».
فَمَشَى، فَقَالَ: (إِنَّ الْمَاءَ قَلِيلٌ، فَلَا
يَسْبِقْنِي إِلَيْهِ أَحَدٌ)!
فَوَجَدَ قَوْماً قَدْ سَبَقُوهُ، فَلَعَنَهُمْ
يَوْمَئِذٍ»!
هذا نصُّ رواية الإمام مسلمٍ، وما بين « » توضيحٌ
مني لأنّ في سياقِ الروايةِ بعضَ الغموض، وقد حذف مُسلمٌ اسمَ الصحابيّ الذي كان
يحاور حذيفة، كعادة كثير من المحدّثين، وللأسف، وهذا الصحابيّ هو أبو موسى
الأشعريّ، كما في مصنّف ابن أبي شيبة (37104) (7: 445)!
وأخرج مسلمٌ في صفات المنافقين (2977 مكرّر) من
حديث قيسِ بن عبّاد الضُبَعيِّ قال: قُلْتُ لِعَمَّارِ «بنِ ياسرٍ»: أَرَأَيْتُمْ
صَنِيعَكُمْ هَذَا الَّذِي صَنَعْتُمْ فِي أَمْرِ عَلِيٍّ «عليه السلام» أَرَأْيًا
رَأَيْتُمُوهُ، أَوْ شَيْئاً عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ «عمّار»: مَا عَهِدَ إِلَيْنَا رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئاً لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى النَّاسِ
كَافَّةً!
وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ «بنُ اليمان»أَخْبَرَنِي عَنْ
النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (فِي أَصْحَابِي اثْنَا عَشَرَ
مُنَافِقاً، فِيهِمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ، حَتَّى يَلِجَ
الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ، ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ، تَكْفِيكَهُمُ
الدُّبَيْلَةُ).
قال أسودُ بن عامر: «وَأَرْبَعَةٌ: لَمْ أَحْفَظْ
مَا قَالَ شُعْبَةُ فِيهِمْ»!
وجاء تفسير الدُبَيلَةِ في رواية أخرى للحديث ذاته
(2977) عند مسلم، وفيه: (ثَمَانِيَةٌ مِنْهُمْ تَكْفِيكَهُمُ الدُّبَيْلَةُ:
سِرَاجٌ مِنْ النَّارِ، يَظْهَرُ فِي أَكْتَافِهِمْ حَتَّى يَنْجُمَ مِنْ
صُدُورِهِمْ) وأخرجه أحمد في أوّل مسند الكوفيين (18885) وفي باقي مسند الأنصار
(23319) بنحوه.
لكنّ من المناسب أن أسوق الحديثَ من مسند الإمام
أحمد (23792) فهو ههنا أتمّ، وتتوضّح منه قصّةُ عقبة تبوك!
قال
أحمد: حَدَّثَنَا يَزِيدُ «بن هارون»: أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ - يَعْنِي ابْنَ
عَبْدِ اللهِ بْنِ جُمَيْعٍ - عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ «عامر بن واثلة» قَالَ:
لَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ
تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِياً، فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا
يَأْخُذْهَا أَحَدٌ!
فَبَيْنَمَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُ بِهِ حُذَيْفَةُ،
وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ؛ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى
الرَّوَاحِلِ، غَشَوْا عَمَّارًا، وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ!
فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: (قُدْ، قُدْ) حَتَّى
هَبَطَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يعني: من العقبة».
فَلَمَّا
هَبَطَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ نَزَلَ، وَرَجَعَ
عَمَّارٌ.
فَقَالَ:
يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ
الرَّوَاحِلِ، وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ قَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟ قَالَ:
اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ!
قَالَ:
أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَيَطْرَحُوهُ «عن العقبة!».
قَالَ
«أبو الطفيل»: فَسَأَلَ عَمَّارٌ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «انتبه إلى قصّ الإمام أحمد اسمَ الصحابيّ أبي موسى!»
فَقَالَ: نَشَدْتُكَ بِاللهِ، كَمْ تَعْلَمُ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ فَقَالَ:
أَرْبَعَةَ عَشَرَ!
فَقَالَ:
إِنْ كُنْتَ فِيهِمْ، فَقَدْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ، فَعَذَرَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً قَالُوا: وَاللهِ مَا
سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللهِ، وَمَا عَلِمْنَا مَا أَرَادَ الْقَوْمُ!
فَقَالَ
عَمَّارٌ: أَشْهَدُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِينَ حَرْبٌ للهِ وَلِرَسُولِهِ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.
قَالَ
الْوَلِيدُ: وَذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ أَنَّ رَسُولَ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذُكِرَ لَهُ: أَنَّ فِي الْمَاءِ قِلَّةً،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنَادِيًا فَنَادَى: (أَنْ
لَا يَرِدَ الْمَاءَ أَحَدٌ قَبْلَ رَسُولِ اللهِ).
فَوَرَدَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ رَهْطًا قَدْ وَرَدُوهُ
قَبْلَهُ، فَلَعَنَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ»!
وأخرجه
أبو بكرٍ البزّارُ في مسنده (2800) [7: 227] وقال:
«هَذَا
الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى بِهَذَا اللَّفْظِ إِلَّا عَنْ حُذَيْفَةَ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ
رُوِيَ عَنْ حُذَيْفَةَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ
أَحْسَنُهَا اتِّصَالًا، وَأَصْلَحُهَا إِسْنَاداً، إِلَّا أَنَّ أَبَا
الطُّفَيْلِ، قَدْ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
أَحَادِيثَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ هَذَا؛ فَمَعْرُوفٌ، إِلَّا أَنَّهُ
كَانَتْ فِيهِ شِيعِيَّةٌ شَدِيدَةٌ، وَقَدِ احْتَمَلَ أَهْلُ الْعِلْمِ
حَدِيثَهُ، وَحَدَّثُوا عَنْهُ ».
وأعاده
في الموضع نفسه (2803) مختصراً، وقال: «قَالَ أَحْمَدُ «البزّار» بَقِيَ فِيهِ
كَلَامٌ تَرَكْتُهُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ لَا نَعْلَمُهُ يُرْوَى مِنْ حَدِيثِ
أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنْ حُذَيْفَةَ، إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ».
والكلام
الذي تركه فيما يظهر؛ هو ما أورده ابن حزمٍ في المحلّى (12: 160) بقوله:
«وَأَمَّا
حَدِيثُ حُذَيْفَةَ؛ فَسَاقِطٌ؛ لِأَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ،
وَهُوَ هَالِكٌ، وَلَا نَرَاهُ يَعْلَمُ مَنْ وَضَعَ الْحَدِيثَ!
فَإِنَّهُ
قَدْ رَوَى أَخْبَارًا فِيهَا أَنَّ «أَبَا بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ،
وَطَلْحَةَ، وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ؛ أَرَادُوا
قَتْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْقَاءَهُ مِنْ
الْعَقَبَةِ فِي تَبُوكَ»!
وَهَذَا
هُوَ الْكَذِبُ الْمَوْضُوعُ، الَّذِي يَطْعَنُ اللَّهُ تَعَالَى وَاضِعَهُ،
فَسَقَطَ التَّعَلُّقُ بِهِ، وَالْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» وكلامُ ابن
حزمٍ في الوليد غير مقبولٍ أبداً، إنّما الرجل في حيّز أن لا تقبَل مفاريدُه،
ويرفضُ من حديثه ما يؤيّد بدعتَه.
قال
الفقير عداب:
نحنُ
لا نأمَنُ الفتنةَ والانقلابَ على أحدٍ غير رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم،
لكنّ الله تبارك وتعالى أخبرنا في القرآن الكريم أنّه رضي عن قومٍ من أصحابِ
الرسول، فقال تعالى:
(وَالسَّابِقُونَ
الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ
بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ
تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ (100) [التوبة].
(لَقَدْ
رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ
مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا (18) [الفتح].
ولا
يخالفُ أحدٌ في أنّ أبا بكر وعثمان، رضي الله عنهما من السابقين، ولا يماري أحدٌ
منهم في أنهم ثلاثتهم ممّن بايعَ الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم تحتَ الشجرة!
فهل
سخط الله تعالى عليهم، بعدما رضي، وهل كان غيرَ عالم بردّتهم ونفاقهم، ثمّ ظهر له
وبدا؟!
نعوذ
بالله من الهوى!
إنّ
حديثَ حذيفةَ الوارد في صحيح مسلمٍ ومسندِ أحمدَ ومصنّفاتٍ كثيرةٍ أخرى؛ مداره على
الوليد بن عبدالله بن جُميعٍ.
قال
العقيليّ في الضعفاء (4: 317): «الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ جُمَيْعٍ
الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ اضْطِرَابٌ.
حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: كَانَ
يَحْيَى «القطّان» لَا يُحَدِّثُنَا عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ، فَلَمّا كَانَ
قَبْلَ مَوْتِهِ بِقَلِيلٍ، أَخَذْتُ «أحاديثَه» مِنْ عَلِيٍّ الصَّائِغِ ,
فَحَدَّثَنِي بِهَا , وَكَانَتْ سِتَّةَ أَحَادِيثٍ»
وترجمه
ابن حبّان في الثقات (5: 492) قائلاً:
الْوَلِيد
بن عبد الله بن جَمِيع الزُّهْرِيّ، يروي عَن أبي الطُّفَيْل، روى عَنهُ وَكِيع
وَابْنه ثَابت بن الْوَلِيد، ولم يزدْ.
لكنّه
ترجمه في المجروحين (3: 78) وقال: «كَانَ مِمَّن ينْفَرد عَن الْأَثْبَات بِمَا
لَا يشبه حَدِيث الثِّقَات، فَلَمَّا فحش ذَلِك مِنْهُ؛ بَطل الِاحْتِجَاج بِهِ.
أَخْبَرَنَا
الْهَمدَانِي قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن عَلِيٍّ: قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ «القطّان»
لَا يُحَدِّثُ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ.
وترجمه
ابن عديّ في ضعفائه (8: 355) وختم ترجمته بقوله:
«للوليد
بن جُمَيعٍ أحاديثُ، وروى عَن أبي سَلَمَة، عن جَابِر.
ومنهم
من قَالَ: عَنْهُ، عَن أَبِي سَلَمَةَ، عَن أبي سَعِيد الخدري، حديثَ الجساسة
بطوله، ولاَ يرويه غير الْوَلِيد بْن جميع هذا».
كلام
ابن عديّ:« لاَ يرويه غير الْوَلِيد بْن جميع هذا» يعني أنّه لا يُقبَل منه ما
ينفرد به!
ولخّص
ابنُ كثيرٍ أقوال العلماء فيه، في كتابه التَكميل (2: 99) فقال:
«قال
ابن معين والعجلي: ثقة.
وقال
أحمدُ ابنُ حنبلٍ وأبو داود وأبو زرعة: لا بأس به.
وقال
أبو حاتم: صالح الحديث.
وقال
الحاكمُ صاحب المستدرك: لو لم يَذكره مُسلمٌ في صحيحه؛ كان أولى».
بينما
أخرج له في المستدرك (730) وقال: « «قَدِ احْتَجَّ مُسْلِمٌ بِالْوَلِيدِ بْنِ
جُمَيْعٍ وَهَذِهِ سُنَّةٌ غَرِيبَةٌ لَا أَعْرِفُ فِي الْبَابِ حَدِيثًا
مُسْنَدًا غَيْرَ هَذَا».
يريد
أن يقول: هذا الحديث من مفاريد ابن جُميع!
وأخرج
له حديثين (3389، 8685) وقال: صحيح الإسنادِ ولم يخرجاه!
وساق
ابن كثيرٍ أيضاً كلام الفلّاسِ وابن حبّان.
خلاصة
الكلام في الوليد بن جُميعٍ: أنّ العقيليَّ وابنَ حبّان وابن عديّ ترجموه في
الضعفاء.
وهؤلاء
ثلاثتهم لا يضعّفون الراوي بتشيّعه، إنّما يضعّفون الراويَ إذا كان ضعيفَ الحفظِ، أو
روى ما يؤيّد بدعته.
وبدعةُ
هذا الراوي ظاهرةٌ في حديثِه، وهي بغضُ أبي بكرٍ وعمر وعثمان، رضي الله عنهم، وعدّهم
من المنافقين!
فتضعيفهم
إيّاه؛ يعني أنّه لا يُقبَل منه ما ينفردُ به من الرواياتِ، وقصّة العقبةِ هذه
منها.
وقد
ثبتَ عن الإمام محمّد عليّ المعروف بابن الحنفيّة عليهما السلامُ أنّه قال:
قُلْتُ
لِأَبِي: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟
قَالَ
علي عليه السلامُ: أَبُو بَكْرٍ، قُلْتُ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ عُمَرُ،
وَخَشِيتُ أَنْ يَقُولَ: عُثْمَانُ فَقُلْتُ: ثُمَّ أَنْتَ؟ قَالَ: «مَا أَنَا
إِلَّا رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» أخرجه البخاري في المناقب (3671) وأبو داود في
السنّة (4629).
ومهما
حاولنا حملَ الحديثِ على هضمِ الإمامِ عليّ عليه السلامُ نفسَه؛ فلا يجوز بحالٍ من
الأحوالِ أنْ يُظَنّ بالإمامُ أنّه يخدع أمّة الإسلام، فيقول عن صحابيين: إنهما
خير هذه الأمة، وهما من المنافقين!
وأخرج
البخاريّ في المناقب (3685) ومسلم في فضائل الصحابة (2389) منْ حديث عبدالله ابْنِ
أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وُضِعَ عُمَرُ عَلَى
سَرِيرِهِ، فَتَكَنَّفَهُ النَّاسُ يَدْعُونَ وَيُصَلُّونَ، قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ
وَأَنَا فِيهِمْ، فَلَمْ يَرُعْنِي إِلَّا رَجُلٌ آخِذٌ مَنْكِبِي، فَإِذَا
عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ!
فَتَرَحَّمَ
عَلَى عُمَرَ، وَقَالَ: مَا خَلَّفْتَ أَحَداً أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أَلْقَى
اللَّهَ بِمِثْلِ عَمَلِهِ مِنْكَ!
وَايْمُ
اللهِ: إِنْ كُنْتُ لَأَظُنُّ أَنْ يَجْعَلَكَ اللهُ مَعَ صَاحِبَيْكَ!
وَحَسِبْتُ
أنِّي كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَقُولُ: (ذَهَبْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَدَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو
بَكْرٍ وَعُمَرُ، وَخَرَجْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ).
وهذان
حديثان صحيحان، لا يوازن بهما حديثُ ابن جُميعٍ ولا أمثالُه.
وقد
يقال: نستثني من حديثِ ابن جميعٍ ما جاء عن عليٍّ في حقّ أبي بكرٍ وعمر، ومن
تبقّى؛ فهم منافقون!
ونقول:
هذا كلام باطلٌ، فما جاء بإسنادٍ واحدٍ، إمّا أن يقبلَ كلّه، أو يرفضَ كلّه، ما
دام فرداً مطلقاً!
ورميُ
هؤلاء الصحابة الكرام بالنفاق؛ لا يُعرفَ إلّا من طريق الوليد بن جميعٍ هذا!
على
أنّ المنافقين يبغضون عليّ بن أبي طالبٍ، وسعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه، كان
يثني على الإمام عليّ، وروى من فضائله!
فقد
أخرج البخاريّ في المغازي (4416) ومسلم في فضائل الصحابة (2404) من حديث مُصْعَبِ
بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سعدِ بن أبي وقّاص؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى تَبُوكَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلِيًّا، فَقَالَ عليٌّ:
أَتُخَلِّفُنِي فِي الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ؟
قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ نَبِيٌّ بَعْدِي)؟
نحن
يمكنُ أن نعتبَ على هذا الصحابيّ أو ذاك، ونقول: أخطأ هذا الصحابيّ وذاك!
لكنْ
لا يجوز لنا بحالٍ من الأحوال أن نتركَ صريحَ القرآن العظيم، والأحاديثَ الصحيحة، الواردة
في الثناء على إيمانهم وتقواهم، من أجل روايةٍ منكرةٍ، يرويها شخصٌ فيه طائفيّة
شديدةٌ كما يقول أبو بكر البزّار، وهو من المترجمين في كتب الضعفاء الأصيلة
الثلاثةِ: ضعفاء العقيلي وابن حبّانَ وابن عديٍّ.
رضي
الله عن أبي بكرٍ وعمر وعثمان، وعن بقيّة العشرة، وعن سائر صحابةِ رسول الله تعالى
المؤمنين، غير المنافقين والمرتدين والطلقاء الطغاةِ الباغين.
والله تعالى أعلم.
(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق