الاثنين، 9 مايو 2022

      اجتماعيات (59):

اللسانُ العربيّ واللسان العبريّ!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

سألتني إحدى بناتي قالت:

أليس إسماعيلُ وإسحاقُ؛ ابني سيّدنا إبراهيم عليهم السلام؟

قلت: بلى!

قالت: كيف يكونان أخوين، ولسانُ أحدهما اللسان العبرانيّ، ولسان الثاني اللسان العربي؟

وكيف تكون الأمّة العربيّة أمّةً أخرى، غيرَ الأمّة الإسرائيليّة؟ أودّ أن أفهم ذلك!

أقول وبالله التوفيق:

من المعلوم تاريخيّاً أنّ سيدنا إبراهيم وُلِدَ في مدينة «أور» من أرض العراق، وأنّ والدَه «آزر» أمره بالابتعادِ عن مضاربِ القبيلة!

قال الله تعالى في بيان قصّتهما:

(قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ؟

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ؛ لَأَرْجُمَنَّكَ، وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي؛ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَأَدْعُو رَبِّي.

عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) [مريم].

ترك إبراهيمُ عليه السلام أرضَ بابلَ في العراق، وهاجر إلى أرض الكنعانيين «فلسطين».

في أرضِ الكنعانيين، أو قبلَ هجرته إليها؛ كان قد تزوّج بسيّدتنا سارّة عليها السلام، وهي ابنةُ عمّه كما تقول التوراة!

عاش إبراهيم عليه السلام دهراً من عمره، في فلسطين، وبسبب ظروفٍ حياتيّةٍ معيّنة هاجر إلى مصرَ!

هنالك في مصر، أهداه ملكُها جاريةً قبطيّةً اسمها هاجر!

بعد عودتهم ثلاثتهم من مصر؛ طلبت سارّةُ من إبراهيم أن يتزوّج بهاجر، عسى الله أن يرزقه منها ولداً، إذ حُرم الولدَ من سارّة!

حملت هاجر القبطيّةُ بأبينا إسماعيل العراقيّ، وحين وضعته؛ أسمياه «إسماعيل».

اشتدّت الغَيرةُ بسارّةَ، فطردت جاريتها هاجرَ من بيتها.

فما كان من إبراهيم إلّا أن حملها وابنها إلى حيث أمره الله تعالى، في مكّة المكرمة!

هنالك تضرّع إبراهيم إلى الله تعالى قائلاً: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ، رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ!

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ، وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) [إبراهيم].

ترك إبراهيم زوجتَه هاجرَ وابنه إسماعيلَ هناك، كما أمره الله تعالى، ورجع إلى أرض كنعان، إلى حيث سارّة!

وغدت الملائكة تتردّد إليه، وذات مرّةٍ جاءت، فحصل ما يأتي:

(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى، قَالُوا: سَلَامًا! قَالَ: سَلَامٌ!

فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69).

فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ؛ نَكِرَهُمْ، وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً!

قَالُوا: لَا تَخَفْ، إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70).

وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ، فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ، وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) .

قَالَتْ يَاوَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ، وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا؟ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72)!

قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) [هود].

ثمّ حملت سارّة بإسحاق، وحين وُلد إسحاق، دعا إبراهيمُ ربّه تعالى:

(الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ، إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39).

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40).

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41).

نشأ سيّدنا إسحاقُ بن إبراهيم في كَنَفِ والدَيْه، وبعضِ أقربائِه، ضمنَ الوسط الاجتماعيّ الكنعانيّ الساميّ، فتأثّر بلسانهم وعاداتهم .

بينما  نشأ سيّدنا إسماعيلَ في كنفِ والدَتِه المصريّة المباركة، بعيداً عن والده، ضمنَ الوسط الاجتماعيّ الجُرهميّ الساميّ، فتأثّر بلسانهم وعاداتهم، وتزوّج عدّة زوجاتٍ منهم.

ليس بين أيدينا أدلّة تاريخيّة موثوقة، تنسب قبيلةَ «جرهم» إلى غير الساميين!

وما يقوله ابن الكلبيّ وغيرُه من النسّابة، من تقسيم العرب إلى بائدةٍ وعاربةٍ ومستعربةٍ؛ ليس عليه أيّ دليلٍ تاريخيّ صحيح!

بل جاء في الحديث الشريف، عند الإمام البخاري في الجهاد (2899) وفي أحاديث الأنبياء (3373) وفي المناقب (3507) من حديثِ الصحابيّ سلمةَ بن الأكوعِ الأسلميّ الأزديّ القحطانيّ رضي الله عنه قال: مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَفَرٍ مِنْ «أَسْلَمَ» يَنْتَضِلُونَ.

فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ)!

قَالَ «سلمةُ»: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَيْدِيهِمْ!

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ)؟

قَالُوا: كَيْفَ نَرْمِي وَأَنْتَ مَعَهُمْ؟

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ارْمُوا، فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ).

استدل البخاريّ بهذا الحديث على أنّ بني عدنانَ وبني قحطان كليهما من بني إسماعيل!

وقال ابن حجر في فتح الباري (6: 539): «وَمِمَّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ الْيَمَنَ من ولد إِسْمَاعِيلَ؛ قَول ابن الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ جَدِّ حَسَّانَ بنِ ثَابِتٍ:

وَرِثْنَا مِنَ الْبُهْلُولِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ

وَحَارِثَةَ الْغِطْرِيفِ مَجْدًا مُؤَثَّلا

مَآثِرَ مِنْ آل ابنِ بنتِ مَالك.

وَنَبتِ بنِ إِسْمَاعِيلَ مَا أنْ تَحَوَّلا».

فبنو إسماعيل وبنو إسحاق؛ هم من بني إبراهيم عليه السلام، فلا يختلف نسب هؤلاء عن نسب هؤلاء بشيءٍ!

إنما عاش الأسباطُ بنو يعقوب بن إسحاق وذرياتهم من عصر يوسف عليه السلام، إلى خرجوا من مصر مع موسى عليه السلام، في بيئةٍ مصريّة خالصةٍ، فتأثرت لغتهم بلغة المصريين، ولما خرجوا مع موسى عَبروا معه نهر الأردنّ إلى فلسطين الأرض المقدّسة، وكانت لغتهم مغايرةً بعضَ الشيء للغة الكنعانيين؛ فدعاهم الكنعانيون بالعبرانيين، وصار لسانهم يعرف باللسان العبرانيّ.

بينما عاش إسماعيل وأبناء إسماعيل وذرّياتهم في بيئة الجزيرة العربيّة، وفي بيئة مكّة المكرمة التي كان لقبيلة «جرهم» السيادة فيها.

وكثير من المؤرّخين ينسبون «جرهم» إلى القبائل العربيّة البائدة القديمة، وليس ثمّة دليل على هذا الكلام.

لكنّ المنطقة كانت بلادَ الساميين، فكانت لغةُ جرهم هي فرعاً من اللغة الساميّة، تأثرت بالزمان والمكان، وربما كان يعربُ بن يشجب بارعاً باللغة، أو خطيباً، فنسبت اللغة إليه فكانت اللغة اليعربية، ثم العربية!

وربما سميّت لغة بني إسماعيل بالعربية لأن الإعرابَ: هو الإفصاح والبيان، ولغة بني إسماعيل فصيحة بليغة!

وأما عن خصائص العرب، وعن خصائص العبرانيين؛ فسبب الاختلاف بين الشعبين؛ هو البيئةُ في زمانٍ ومكانٍ مخصوصين!

فطبيعة الذلّ والمسكنة اللتين كانتا السمةَ البارزة للعبرانيين في مصر؛ كان بنو إسماعيل بعيدين عنها كلَّ البعد، في جزيرتهم العربيّة.

بل كانوا هم سادةَ الجزيرة العربية وسدنة البيت الحرام، من لدن رُفعت أركان البيت الحرام على أيدي إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وإلى يومنا هذا.

قال الله تعالى:

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) [البقرة].

وقد أوضحت ذلك وأكثرَ منه في بحثي «من الحكم الربانيّة في اختيار العرب لحمل رسالة الإسلام الخالدة».

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق