الاثنين، 30 مايو 2022

 مَسائلُ حَديثيّةٌ (38):

وفاةُ أبي طالبٍ على غيرِ الإسلام (1)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

في المنشورات السابقة؛ خرّجنا الأحاديثَ التي تشير إلى أنّ أبا طالبٍ في ضحضاحٍ من نار، وتبيّن معنا أنّ جميعها ضعيفٌ، لا يثبت بمثله حقّ، ولا يَبطل باطل!

وفي هذا المنشور؛ سأخرّج حديثَ المسيّب بن حزْن المخزوميّ، وحديثَ أبي هريرة اللذين ينصّان صراحةً على أنّ أبا طالب رفضَ أن ينطق بالشهادتين، وماتَ على الشرك!

بإسنادي إِلى الإمام البُخارِيِّ في الجنائز، باب:  إذا قال المشرك عند الموت: لا إله إلا اللهُ (1360) قال رحمه الله تَعالَى: حَدَّثَنا إسْحاقُ «ابن راهويه»: أَخبَرَنا يعقوب بن إِبراهيمَ «الزهريّ» قال: حَدَّثَنِي أَبي «إبراهيم بن سعدٍ» عن صالِح «بن كيسان» عن «محمّد بن مسلم» ابن شهاب «الزهريّ» قال: أَخبَرَني سَعِيد بن المسيب «المخزوميّ» عن أبيهِ «المسيّب بن حزن» أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ؛ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ وَعَبْدَاللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.

قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَالِبٍ: (يَا عَمِّ، قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ، كَلِمَةً، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ).

فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟

فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَمَا وَاللهِ، لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ).

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) [التوبة].

زاد البخاريّ في تفسير سورة القصص (4772): (وأنزل اللهُ في أبي طالب: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص] فيكون قد نزل في أبي طالبٍ آيتان، وليست واحدة!

وبإسنادي إلى الإمام مسلمٍ في كتاب الإيمان (25) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَّادٍ «المكيّ» وَ«محمّد بن يحيى» ابْنُ أَبِي عُمَرَ «العَدَنيّ» قَالَا: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ «بن معاوية الفزاريُّ» عَنْ يَزِيدَ بنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ عِنْدَ الْمَوْتِ: (قُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) فَأَبَى!

فَأَنْزَلَ اللهُ: (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [القصص].

قال عدابُ تابَ الله عليه:

قبل أن ندرس سند الحديثِ، ونحكمَ عليه؛ نناقشُ مسألة نزول آيتين من القرآن الكريم، تدلّان على عدم إيمان أبي طالب!

من المعلوم لدى المبتدئين من طلبة العلم أنّ تأخّر البيان عن وقت الحاجة إليه ممتنع، وأبو طالب توفّي في السنة العاشرة من البعثة، أو بعد ذلك، وآية سورة القصص مكيّة على الصحيح، وهذا لفظها:

(وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ؛ أَعْرَضُوا عَنْهُ، وَقَالُوا: لَنَا أَعْمَالُنَا، وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ، سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55).

إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56).

وَقَالُوا: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ؛ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا (57) [القصص].

فالآية السابقة تصف حال المؤمنين، والآية التالية توضح أنّ المقصودَ بضمير (أحببتَ) الذين قالوا: (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ؛ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا) ولم يكن أبو طالبٍ يقول هذا الكلامَ أبداً، إنما كان ناصراً دينَ الله عزّ وجلَّ، وحامياً لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان يقول: «ولقد علمت بأنّ دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً» ويقول للرسول: «اذهب بلّغ ما أنزل الله إليك، فوالله لا أُسلمُك لشيءٍ أبداً»!

وأمّا الآية الثانية في سورة التوبة (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113).

فقريشٌ جميعها قرابةٌ للرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليس أبا طالبٍ وحده!

وسورة التوبةِ مدنيّةٌ ومن أواخر ما نزل من القرآن العظيم، فهل يصحّ في العَقلِ تأخّر البيان اثنتا عشرةَ سنة بعد وفاةِ أبي طالب؟!

فإنْ صحّ هذان الحديثان؛ عددناهما مُوضحَين لآية سورة القصص المكيّة، وإن لم يصحّ؛ فتبقى الآيتان على عمومهما، في جميع مَن يمكن أن يندرج تحت دلالتهما، وليس لأبي طالبٍ علاقةٌ بهما!

مدارُ حديث المسيّب بن حزنٍ عَلى محمد بن مسلم ابن شهاب الزُّهْريّ، رواه عنه:

- شعيبُ بن أبي حمزةَ الأمويّ، عند البُخاريّ (4772) و(6681).

- وصالحُ بن كيسانَ، عند البُخاريّ (1360) ومُسلِم (24).

- ومعمر بن راشد الكاهليّ، عند البُخاريّ (3884) و(4675) ومُسلِم (24).

- ويونس بن يزيدَ الأيليِّ، عند مُسلِم (24).

ومدار حديثِ أبي هريرة على يزيدَ بن كيسانَ، رواه عنه:

مروان بن معاوية الفزاريّ، عند مسلمٍ (25).

ومحمّد بن عبيد الطنافسيّ، عند أحمد ابن حنبلٍ (9310).

ويحيى بن سعيد القطّان، عند مسلم (25) والترمذيّ (3188) وقال: «حسن غريب، لا نعرفه إلّا من حديث يزيد بن كيسان».

ويزيدُ بن كيسان الكوفيّ، ترجمه العقيليُّ في الضعفاء (4: 389) وابن عديّ في الضعفاء (9: 176) والذهبيّ في ميزان الاعتدال (4: 438) وقال:

«وثقه النسائي، وقال أبو حاتم: لا يحتج به، وقال يحيى بن سعيد القطان: هو صالح وسط، ليس ممن يعتمد عليه».

قال الفقير عداب:

يحسن أن أقول هنا: إنّ البخاريّ احتفى بحديثِ المسيّب بن حزن، أيّما احتفاء!

فقد أخرجه في كتاب الجنائز، وكتابِ المناقب، وكتاب التفسير، وكتاب الأيمان والنذور!

وكان تعامل ابن حجر مع هذا الحديث غريباً بعضَ الشيء!

فحين راح يشرحه في أوّل موضعٍ ورد فيه الحديث، في كتاب الجنائز (1360) لم يَقل شيئاً مفيداً في تقويم الحديث، إنما قال: سيأتي الكلام مستوفىً عليه في تفسيرِ سورة براءة.

وعند الرجوع إلى تفسير سورة براءة  (4675) قال: سبق شرحُه في كتاب الجنائز، ويأتي الإلمام بشيءٍ منه في تفسير سورة القصص!

وفي تفسير سورة القصص (4772) قام بشرح الحديث، فكان ممّا قال (14: 125 - 127):

(1) «لَمْ تَخْتَلِفِ النَّقَلَةُ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ!

وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِمُتَعَلَّقِ (أَحْبَبْتَ) فَقِيلَ: الْمُرَادُ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ، وَقِيلَ: أَحْبَبْتَهُ هُوَ، لِقَرَابَتِهِ مِنْكَ».

(2) وقال: «يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُسَيَّبُ حَضَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فَإِنَّ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهُوَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَيْضاً!

وَكَانَ الثَّلَاثَةُ يَوْمَئِذٍ كُفّارًا، فَمَاتَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى كُفْرِهِ، وَأَسْلَمَ الْآخَرَانِ.

وَأَمَّا قَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ مَرَاسِيلِ الصَّحَابَةِ؛ فَمَرْدُودٌ؛ لِأَنَّ قائلَ ذلك اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْمُسَيَّبَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ، عَلَى قَوْلِ مُصْعَبٍ الزبيريّ، وَهو مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، عَلَى قَوْلِ الْعَسْكَرِيِّ!

قَالَ ذلك الشارح: فَأَيًّا مَا كَانَ؛ فَلَمْ يَشْهَدْ المسيّبُ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ تُوُفِّيَ هُوَ وَخَدِيجَةُ فِي أَيَّامٍ مُتَقَارِبَةٍ فِي عَامٍ وَاحِدٍ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ نَحْوَ الْخَمْسِينَ» انْتَهَى.

وَوَجْهُ الرَّدِّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ الْمُسَيَّبِ تَأَخَّرَ إِسْلَامُهُ؛ أَنْ لَا يَشْهَدَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ، كَمَا شَهِدَهَا عَبْدُاللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ!

وَعَجَبٌ مِنْ هَذَا الْقَائِلُ، كَيْفَ يَعْزُو كَوْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، إِلَى الْعَسْكَرِيِّ، وَيَغْفُلُ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ ثَابِتاً، فِي هَذَا الصَّحِيحِ، الَّذِي شَرَحَهُ، كَمَا مَرَّ فِي الْمَغَازِي وَاضِحاً» وسيأتي الردّ على كلام الحافظ.

(3) قال: «قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اسْتَغْفَرَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ، وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَلَا أَزَالُ أَسْتَغْفِرُ لِأَبِي طَالِبٍ حَتَّى يَنْهَانِي عَنْهُ رَبِّي، فَقَالَ أَصْحَابُهُ: لَنَسْتَغْفِرَنَّ لِآبَائِنَا كَمَا اسْتَغْفَرَ نَبِيُّنَا لِعَمِّهِ؛ فَنَزَلَتْ.

وَهَذَا فِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ، قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقاً.

وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ، فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَها، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِ النُّزُولِ».

قال عداب: مَدارُ حديثِ الباب على ابن شهاب الزهريّ، رواه عن سعيد بن المسيب المخزوميّ، ورواه سعيد عن أبيه المخزوميّ، والذين حضروا وفاة أبي طالبٍ، ثلاثتهم من بني مخزوم!

فأين بنو هاشم، وأين بنو المطّلب، بل أين إخوانُ أبي طالبٍ وأبناؤه عليٌّ وجعفرٌ وعقيلٌ؟

علينا أن لا نستعجلَ النتيجةَ، بل نسير في منهجنا النقديّ المعتاد، فأقول:

علينا أن نترجمَ أعمدةَ الإسنادِ:  المسيّبَ بن حَزنٍ، وسعيدَ بن المسيّب، وابنَ شهابٍ الزهريّين!

(أ) المسيّب بن حَزْن المخزومي؛ لم يرو عنه سوى ولده سعيدٍ؛ وقد اختلف في صحبته.

فذكره الأكثرون في الصحابة، وذكره ابن حبّان في التابعين من كتاب الثقات؛ لأنه لم يُصرّح في روايةٍ أنّه سمع من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً، كما هو منهج ابن حبان!

وهذه الرواية العجيبةُ، على الاحتمالِ، كما يقول ابن حجر!

فهل تثبتُ بالاحتمال قضايا و أحكام؟ فضلاً عن رمي إنسانٍ بالكفر؟

ولم لا يكون الاحتمالُ الآخرُ هو الأقوى؟

(ب) سعيد بن المسيّب إمامٌ ثقة، من المحالِ أن يختلق مثلَ هذه الرواية!

(ج) محمد بن مسلم ابن شهاب الزهريّ، هو إمام ثقة حافظ عند أهل السنّة!

وأنا لن أشكّك في سعةِ حفظه هنا، لكنّني لا أقبل حديثَه فيما يؤيّد بدعته، فقد كان الرجل ناصبيّاً، وشرطيّاً من شرط طواغيت بني أميّة، ومن المعلوم أنّ المبتدعَ إذا روى ما يؤيّد بدعته؛ يردّ حديثُه لشبهةِ نصرته لبدعته!

قال ابن حبّان في المجروحين (1: 258): «وَلَسْتُ أَحْفَظُ لِمَالِكٍ وَلا لِلزُّهْرِيِّ فِيمَا رَوَيَا مِنَ الْحَدِيثِ شَيْئًا مِنْ مَنَاقِبِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ أَصْلاً».

ومناقب عليّ الصحيحةُ تزيد على خمسين حديثاً في نقدي، وغير الصحيحة مئات!

فلماذا لم يرو هو مالكٌ شيئاً منها، ثم يجيء ليروي ما يؤذي الإمام عليّاً وأهلَ البيت؟

ولنستمعْ إلى أحدِ كبّار نقّاد الحديثِ، ماذا يقول في هذين الحديثين البغيضين!

قال الحافظ ابن القطّان في بيان الوهم والإيهام (2: 470):

«حديثُ المسيّب؛ هُوَ عِنْدِي مُرْسل، لَا من جِهَة الِاحْتِمَال الَّذِي فِي قَول الصَّحَابِيّ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، من أَن لَا يكون سمع ذَلِك، لَكِن من جِهَة أَنّ الْمُسيّب بن حزن بن أبي وهب، إِنَّمَا هُوَ وَأَبوهُ من مسلمة الْفَتْح.

وَإِن شُكَّ فِي هَذَا، لم يُشَكَّ فِي أَنه لم يُشَاهد هَذِه الْقِصَّة الْوَاقِعَة فِي أول الْأَمر، وَلَا فِيهِ أَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أخْبرهُم بذلك، وَلَا يجوز أَن يَقُوَّل من ذَلِك مَا لم يَقُلْ؛ لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا تلقّى ذَلِك من مُشاهدٍ، كَعبدالله بن أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، فقد أسلم بعد ذَلِك، وَحسن إِسْلَامه، أَو تَلَقّاهُ من غَيره مِمَّن لم يُشاهِدْ وفاةَ أبي طالبٍ.

وَمَا حَكَاهُ الْمسيب من ذَلِك، إِنَّمَا هُوَ بِمَثَابَة مَا لَو قَالَ:

(نَام رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، عِنْد الْبَيْت، فَجَاءَهُ جِبْرِيل فَأسْرى بِهِ).

أَو (تَحنّث فِي غَار حراء، فَجَاءَهُ الْملك) وَشِبْهِ ذَلِك، مِمَّا يُعلَم أَنه لم يُشَاهِدهُ.

وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذِه الْقِصَّة من قَوْله: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لِعَمِّهِ عِنْد الْمَوْت: (قل لَا إِلَه إِلَّا اللهُ) هو مِثلُ هَذَا سَوَاء؛ لِأَن أَبَا هُرَيْرَة لم يُشَاهِدْ ذَلِك، وَلم يقل لنا: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قلت لِعَمِّي عِنْد الْمَوْت.

وَلَا فَرْق بَين مَا يُخبرُ بِهِ مِن هَذَا، مَن يُعلَم أَنّه لم يَلقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ، وَبَين مَا يُخبِرُ بِهِ، مِمَّا كَانَ قبل ميلاده.

[يريد كحديث عائشة في بدء الوحي، وحديثها في أنواع نكاح الجاهلية، فكلا الحديثين مما كان قبلَ أن تولَد]!

وَلَيْسَ بِنَافِع فِي هَذَا أَن يُقَال: إِن الْمسيّب بنَ حزن مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة، فَإِن ذَلِك مُتَأَخّر عَن وَقت هَذِه الْقِصَّة، فَلَا بُد أَن يكونَ غَيرُه هُوَ الَّذِي أخبرهُ بهَا، أَو يكون سمع هُوَ ذَلِك من النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، يخبر بِهِ عَن نَفسه وَعَن عَمّه، وَلَكِن لَيْسَ بِالِاحْتِمَالِ يجْزم بالاتّصال، فَاعْلَم ذَلِك».

قال عداب:

علينا أن نعالجَ مسألةَ أنّ المسيّب بن حزن، ممّن بايع تحت الشجرة!

ترجم ابن سعد في الجزء المتمم للطبقات الكبرى (167) الْمُسَيِّبَ بْنَ حَزْنٍ، وذكر قصّة بيعة الشجرة، ثمّ قال: قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الواقديّ: وَلَا نَعْرِفُ هَذَا عِنْدَنَا، وَإِنَّمَا أَسْلَمَ الْمُسَيِّبُ بْنُ حَزْنٍ مَعَ أَبِيهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ».

وترجمه ابن قانع في معجم الصحابة (3: 126) وذكر قصة بيعة الشجرة، ولم يزد!

وترجمه ابن حبان في ثقاتِ التابعين (5: 436) وقال: يروي عَن أَبِيه حَزْن - ولأبيه صحبة - روى عَنهُ ابْنُه سعيد بن الْمسيب، وحَزنٌ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَة».

وترجمه أبو نعيم في معرفة الصحابة (5: 2598) وقال: «كَانَ الْمُسَيِّبُ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَقُتِلَ حَزْنٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ».

وأخرج حديثَ وفاةِ أبي طالبٍ على الشرك من طريقه، ثم قال:

حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْحَضْرَمِيُّ: ثنا يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ: ثنا قَيْسٌ عَنْ طَارِقٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي الْمُسَيِّبُ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، فَرَجَعْنَاهَا مِنْ قَابِلٍ، فَطَلَبْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ , فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا» رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو عَوَانَةَ، وَإِسْرَائِيلُ، وَعَبْدُالْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ طَارِقِ بنِ عبدِالرحمن.

وهذا الحديثُ أخرجه البخاريّ في المغازي (4163) ومسلم في الإمارة (1859) وهو عُمدةُ الذين قالوا: إنّ المسيّب بن حزن، ممّن بايع تحت الشجرة!

وفي إسنادِه طارقُ بن عبدالرحمن البجَليُّ الأحمسيّ.

قال الإمام أحمد في العلل (781): لَيْسَ حَدِيثه بِذَاكَ!

وقال النسائيّ في الضعفاء (314): ليس بالقويّ.

وترجمه العقيليّ في الضعفاء (2: 227) ونقل كلام الإمام أحمد، ثمّ أخرج من طريقه حديثاً، وقال: لا يتابَع عليه!

وترجمه ابن عديّ في الضعفاء (5: 183) ونقل عن يحيى القطّان قولَه: ليس هو عندي بأقوى من عبدالرحمن بن حرملة!

وعبدالرحمن بن حرملة؛ ترجمه الذهبيّ في ميزان الاعتدال (2: 556) وقال: ضعفه يحيى بن سعيد القطان، وقال أبو حاتم: لا يُحتَجُّ به.

وختم ابن عديّ ترجمة طارق بقوله: له أحاديثُ، وليست بالكثيرة، وأرجو أنه لا بأس به.

وفي ميزان الاعتدال (2: 332): قال أبو حاتم: لا بأس به، يكتب حديثه.

وقال ابن حجر في التقريب (3003): صدوق له أوهام

وقد مرّ معنا في حديثٍ سابق أنّ «الصدوق» إذا تفرّد بأصلٍ؛ كان حديثه منكراً، فكيف إذا كان صاحب أوهام، ولا يحتجّ به؟

قال الذهبيّ في الميزان (3: 140): «إنّ تفرُّدَ الثِقةِ المُتْقِن؛ يُعَدُّ صَحيحاً غريباً، وإنّ تَفرّد الصَدوقِ ومَنْ دونَه؛ يُعَدُّ مُنكَراً».

وبهذا يبطلُ القولُ بأنّ المسيّب من أصحاب الشجرة!

 ختاماً: المسيّب بن حزن؛ هو والدُ سعيدٍ، ولذلك لا نستطيع أن نقول هو مجهول، وإن لم يرو عنه سوى راوٍ واحدٍ، لكنه مجهول الحال، وهو ليس بصحابيّ على الراجح؛ لأنه لم يثبت له حديثٌ عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، هذا أوّلاً.

وثانياً: إنّ ابنَ شهاب الزهريّ ناصبيٌّ فاسق، أنا شخصيّاً لا أقبل أيّ رواية ينفرد بها.

لكنّ منهج المحدّثين أنهم يقبلون من المبتدع الثقة رواياتِه التي لا تؤيّد بدعته.

ثالثاً: ليس في سياقةِ إسناد الحديثِ أنّ المسيّب حضرَ القصّة، ولا هو صرّح بمن حدّثه بها، فيكون في هذا الإسناد المسيّبُ مجهول الحال، وفي القصّة إرسال، وهاتان علّتان تضافان إلى علّة عدم قبول رواية المبتدع فيما يؤيّد بدعته!

أمّا حديثُ أبي هريرة؛ ففيه علّتان:

الأولى: أنّ أبا هريرة أسلم سنة سبعٍ أو ثمانٍ من الهجرة، بعد وفاة أبي طالبٍ بعشر سنوات، فحديثُه مرسل، وأبو هريرة مدلّسٌ، كما يقول شعبة بن الحجّاج!

والثانية: أنّ يزيد بن كيسان؛ ضعيفٌ، ليس ممّن يُحتجّ به، وهو صاحب أوهام!

فيكون الحديثان ضعيفين، لا يصلحان حتى للترغيب والترهيب، فضلاً عن صلاحيتهما لإثباتِ أمرٍ عقديّ كاتّهام إنسانٍ بالكفر!

وعليه، فتكون الآيتان عامّتين، يندرج تحتهما كلّ من يصلح لذلك، ولا علاقة لهما بأبي طالبٍ رضي الله تعالى عنه.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق