الثلاثاء، 17 مايو 2022

      اجتماعيات (61):

مُرضِعتي مَسيحيّة أرثوذكسيّة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ).

بسبب ظروفٍ عائليّةٍ خاصّةٍ؛ كانت سيدتي الوالدةُ رحمها الله تعالى لا تستطيعُ إرضاعي، عندما وَلَدتني.

وبعد عدّة أشهرٍ من ولادتي، تقربُ من ستّة أشهر؛ أصابتني عصاً غليظةً على رأسي، فبقيتُ أصرخُ ثلاثَ سنين، ومُتّ وكفّنوني، ثم أعادني الله تعالى إلى الحياةِ بفضله ورحمته بوالدتي، والله تعالى أعلم.

في ظلّ هذا الوضعِ الطارئ؛ لم تبقَ امرأةٌ في حيّ الفرّايةِ، أو في حيّ الباب القبلي، إلّا أرضعتني، تقريباً.

وكانت والدتي رحمة الله عليها سجّلت لي أسماءَ النساء اللواتي أرضعنني، وبقيت لديّ قائمة بأسمائهن، حتى غادرت سوريّا في عام (1975م) ثم لا أعرف عن مصير القائمة شيئاً!

في السنوات الخمس الأولى من عمري؛ عِشتُ في بيت جدّي محيي الدين النشتر الأيوبيّ، أضعاف ما عشتُه في بيت جدي الشريف إبراهيم الحمش الحسينيّ، رحمه الله تعالى، بسبب اختلاف البيئة والنشأة والطباع بين والدي ووالدتي، رحمهما الله تعالى.

وليس هذا فحسب، بل بين طباعِ والدي، وسائر البشرِ الذين خلقهم الله تعالى في زماننا!

عَقِبَ إصابتي في رأسي - وأنا رضيعٌ - أقامت والدتي في منزل أهلها ستةَ عشر شهراً متواليةً، كما حدّثتني، ولم تكن جميع نساء قراباتها تستطيع إسكاتي عن الصراخ!

ولأنها لا تستطيع إرضاعي؛ فقد كانت ترضعني من أيّ امرأةٍ أقبلُ - حضرتي - أن أرضع منها.

ومن جملة اللواتي أرضعنني امرأتان مسيحيّتان:

إحداهما: الست سامية خانم، من أغنياء المسيحيين، وأعيانهم في مدينة حماة، وقد أرضعتني على مدار سنتين مع ابنتها مريم (ماري)!

والثانية: مريم الجوج، وكانوا ينادونها «ريم» من فقراء المسيحيين في باب القبلي، أو حيّ المدينة، وهذه أرضعتني مرّاتٍ عديدةً، ثمّ رفضتُ الرضاعَ منها، ونسيت حتى هيئتها.

كانت ساميةُ خانم معلّمة صناعة السجّادِ والخياطةِ والتطريز في تلك المنطقة.

وعقب خَتْم والدتي حفظَ القرآن الكريم، في الثانية أو الثالثة عشرة من عمرها؛ تَلمذَت والدتي عليها فيما تحسنه من صنعة.

حدّثتني والدتي قالت: كان زوجُ الست سامية، من كبار التجار، وكان يغيب الشهرَ والشهرين، لا يأتي إلى بيته، وإذا جاءَ؛ عَطّلتِ البناتُ اللواتي يتعلّمن الفنون عند الستِّ سامية، وكان لا يبقى في حماة أكثر من ثلاثةِ أيام.

قالت لي والدتي: كانت سامية تحبّها كثيراً، وتحبّ أن تقرأ لها ربعاً من القرآن الكريم، قبل بَدْء العمل، وكانت تحبّ سورتي يوسف ومريم كثيراً!

وكانت تشرح للبناتِ معاني بعض الكلماتِ التي لا يفهمنها، ثمّ أسلمت بعد أربع سنواتٍ من تلمذة والدتي عليها.

وَلدَت مرضعتي سامية خانم أربعَ بناتٍ، وتوفي زوجها، قبل زواج والدتي من والدتي بسنةٍ أو أكثر، فأقرأتها والدتي القرآن الكريم كاملاً، وأقرأتها ربع العبادات من متن أبي شجاع، وربع العبادات من متن القُدوريّ، وهذا جلّ ما تحسنه والدتي!

عندما وقعت حادثةُ اعتقال الشهيد مروان حديد، رحمه الله تعالى، في صباح يوم الاثنين (30/ 6/ 1975) استطعتُ أنا الهربَ من بين أيدي رجالِ الأمن العسكريّ الذي داهَمنا - وكنت في زيارةٍ عائليّة للشهيد - مروان.

نزلتُ إلى حماة بطريقةٍ غريبةٍ، لا تكاد تصدَّق، وكان بصحبتي أخ حبيب، يدعى السيّد «ميّاد الرضويّ» وهو رفيق طريقٍ، ليس غير!

كان الوضع في مدينة حماة متشنجاً جداً، وهم يبحثون عني في كلّ مكان!

فلم أجد من يؤويني في بداية نزولي إلى حماة، فلجأتُ إلى مرضعتني الست سامية، وهناك زارتني والدتي أمّ عداب واطمأنت عليّ!

كانت صداقتي مع الخوري عبدالله، راعي كنيسة الروم الأرثوذكس في حيّ المدينة؛ وطيدةً جدّاً، مذ كانت مرضعتي السيّدة سامية تأخذني معها إلى الكنيسة، قبل أن تُسلِم، وأنا طفل صغيرٌ، وتقول لهم: هذا ابني فيصل!

وحين كَبُرت؛ كان الخوري يدعوني في كلّ عامٍ في أيّأم عيد الميلاد، إلى قراءةِ سورة مريم، وإلقاء قصيدةٍ بالمناسبة.

وقد كان في دفاتري الشعريّة تسعُ قصائدَ في مديح السيّد المسيح وأمه مريم عليهما السلام.

 ولا أعرف أنّه كان يعامل أحداً غيري بمثل هذه المعاملة، ثقةً بالست سامية التي كانت متديّنة محتشمة، بل محجّبةً، حتى قبلَ أن تسلم، وكانت موضع احترام جميع أهل الكنيسة.

فأنا ليس لي موقفٌ عدائيّ مع المسيحيين أبداً، كما تبادَر إلى بعض الناس!

بل إنّني أتألّم غايةَ الألم على أخواتي المسيحيّات الأربع، بناتِ الست سامية، وأتمنى لو أستطيع انتشالهنّ من الوضع الذي هنّ فيه، وجميعهنّ ما زلن على قيد الحياة!

إنّما يجب أن ننطلقَ من الموقف الشرعيّ، الذي لا يزعزعه الهوى والعاطفة!

وحسبنا الله ونعم الوكيل.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(.

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلَّم تَسليماً

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق