الجمعة، 20 مايو 2022

       مَسائلُ حَديثيّةٌ (35):

التَخْفيفُ عَن أبي طالب (4)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

خرّجت في المنشور (31) حديثَ أبي لهبٍ، وفي المنشور (32) درسنا حديثَ العبّاس بن عبدالمطّلب رضي الله عنهما في التخفيف عن أبي طالب، رضي الله عنه، وتبيّن لنا أنّ إسناده ضعيف جدّاً.

وفي المنشور التالي له (33) درسنا حديثَ أبي سعيدٍ الخدريّ المخرَّجَ في الصحيحين، وتبين لنا أنّ في إسناده راويا مجهولا، وأنّ توثيق المجهولَ لا قيمةَ له البتّة!

ودرسنا في المنشور السابق (34) حديث أبي عثمان النهديّ عن ابن عبّاسٍ، الذي أخرجه مسلم في صحيحه.

وتبيّن لنا أنّ أسانيدَ هذه الأحاديثَ الثلاثةَ؛ ضعيفةٌ لا يبثت بمثلها حقٌّ، ولا يَبْطُلُ باطلٌ، وهي مخالفةٌ لعددٍ من الآيات القرآنية الكريمة، التي تثبتُ أنّ العذابَ لا يخفّف عن الكافر، إذا دخل نارَ جهنّم (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) [فاطر].

وفي هذا المنشور (35) سأدرسُ حديثَ أبي سعيدٍ الخدريّ، المخرَّجَ خارجَ الصحيحين، ثمّ أخرّج الأحاديثَ الموافقةَ له في اللفظ، أو في المعنى!

أقول وبالله التوفيق:

أُذَكِّرُ أوّلاً بأنّ متن حديث أبي سعيدٍ، الذي في الصحيحين، عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه سئل عمّا إذا كان نفع عمّه أبا طالب بشيء؟ فقال: (لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ) ثمّ أقول:

بإسنادي إلى الإمام أحمد في مسنده الكبير (11100، 11739) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا حَسَنٌ وَعَفَّانُ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيِّ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ «المنذر بن مالك» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ:

 قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا رَجُلٌ فِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ، وَمِنْهُمْ فِي النَّارِ إِلَى كَعْبَيْهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فِي النَّارِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ اغْتُمِرَ فِي النَّارِ إِلَى أَرْنَبَتِهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ فِي النَّارِ إِلَى صَدْرِهِ مَعَ إِجْرَاءِ الْعَذَابِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَدِ اغْتُمِرَ فِي النَّارِ).

وأخرجه عبد بن حُمَيدٍ في مسنده (875) والحاكم في المستدرك (8734) وصحّحه على شرطٍ الشيخين، من حديث حمّاد بن سلمة.

مدار حديثِ أبي سعيدٍ الخدريّ هذا، على حمّاد بن سلمة البصريّ، عن سعيد الجريريّ بإسناده.

وحمّاد بن سلمةَ إمامٌ من أئمة المسلمين.

وسعيد الجُريريّ من ثقاتِ المسلمين.

وأبو نَضرةَ المنذر بن مالك بن قُطَعَةَ من ثقات المسلمين، وله عشراتُ الأحاديثِ في صحيح مسلمٍ وغيره عن أبي سعيدٍ.

فممّا أخرجه له مسلم (18، 185، 438، 565، 672).

نعم في حفظِ كلّ واحدٍ منهم شيءٌ يسير - كما في شأن البشر أجمعين - لكن لا يَصِلُ إلى درجة التخليط، أو إلى درجةِ الجهالة، كما تقدّم في الأحاديث السابقة.

ولم أقلْ هنا: إنّ متنَ الحديثِ مخالفٌ لعددٍ من الآياتِ القرآنية الكريمةِ؛ لثلاثةِ أسباب:

الأوّل: لأنّ إسنادَ الحديث صحيح، وحسّنتُه أنا على مبدئي في الاحتياطِ بقَبول المأثور، وليس التساهل بتصحيحها، كما فعل ويفعل الأكثرون.

والثاني: لأنْ ليس فيه اتّهامُ إنسانٍ معيّنٍ بأنّه من أهل النار؛ لأنّ الحكمَ على إنسانٍ أنّه من أهل النار؛ أمرٌ عقديّ، يحتاج إلى متواترٍ أو مشهور!

والثالث: لأنْ ليس في لفظ الحديث تخفيفٌ!

فالذي يدخل جهنّم؛ يعذّب في الدرْك الذي يستحقّه في حكم الله تعالى، ثمّ لايخفف عنه العذابُ أبداً.

وبهذا المعنى أقول دائماً: لا يدخل أحدٌ من المؤمنين النارَ أبداً، ومَن دخلها؛ فلن يخرج منها أبداً، ولا تصلح جميعُ الروايات المنكرةُ، الواردةُ بذلك لإدخال مؤمنٍ النارَ، ولا لإخراج واحدٍ دخل فيها!

وبهذا يمكننا الحكمُ على إسناد حديثِ أبي سعيدٍ هذا بأنّه حسن لذاته.

وما دام حديثُ أبي سعيدٍ وصل إلى درجة حسنٍ لذاته؛ فيمكننا أن نقوّيه بشاهدٍ غيرِه، ونقوّي به غيرَه، ممّا لم يصل إلى هذه الدرجة، إنما نرفض تقوية الضعيف بالضعيف، وتقوية الضعيف بالمجهول، وتقوية المجهول بالمخلّط، وهكذا!

أمّا متنُه؛ فهو ترهيبٌ عامٌّ يتحدّث عن أهوال النار ودركاتها، والله تعالى بيّن لنا أنّ عذابَ النار يتفاوتُ، وأنّ النار دركات، فقال جلّ شأنه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) [النساء].

ولهذا الحديث شواهدُ عديدةٌ أشرتُ إليها فيما تقدّم، سأخرّجها تِباعاً، في منشور تالٍ، إن شاء الله تعالى.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

     والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق