مِنْ عِبَرِ التاريخ (5):
بَراءَةُ معاويةَ
المنافقِ من سبّ الإمام عليّ عليه السلام!؟
بسم الله
الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا:
عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا
تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا:
إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا:
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب أحدُ نواصب
العراق منشوراً مطوّلاً، يردّ فيه على الدكتور الشنقيطيّ، الذي نقلَ عن صحيح مسلمٍ
أمرَ معاويةَ سعدَ بنَ أبي وقّاص بسبّ الإمام عليّ عليه السلام!
فأخذته الغيرةُ
الناصبيّة، فكتب تعقيباتٍ وتوضيحات مختصرة على ذلك!
وأنا سأقتطع
مقاطع واضحةً تامّةَ المعنى من كلامه، وأردّ عليها.
قال صاحبُ
المنشور:
(أؤكد أنه لم
يرد في صحيح مسلم ولا في غيره من الصحاح؛ ما يثبت دعوى الدكتور الشنقيطي.
نعم هناك رواية
أخرى في مسلم أن رَجلاً من آل مروان كان واليا على المدينة أمر سهلاً بشتم علي
فامتنع سهل، وربما هذا سبب الخلط عند الدكتور.
نص عبارة
معاوية لسعد (ما منعك أن تسب أبا التراب؟) وليس لمعاوية في هذا الحديث إلا هذه
العبارة، وهي سؤال يمكن أن يُحمل على أكثر من قصد، لكن لو كان معاوية يقصد أمره
بالسب لما جاء بالكنية (أبا التراب) وهي من أساليب الاحترام كما هو معلوم في لغة
العرب، خاصة أن هذه الكنية أطلقها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان علي
يحب هذه الكنية كثيرا جاء في البخاري: (ما كانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أحَبَّ إلَيْهِ
مِن أبِي تراب) يؤيد هذا الفهم أن سعدا أخذ يسرد مناقب علي ويمدحه ومعاوية يسمع
وكان باستطاعته أن يوقفه) انتهى كلامه.
قال الفقير
عداب:
أخرج البخاريُّ
في المناقب (3703) ومسلمٌ في فضائل الإمام عليّ عليه السلام (2409) واللفظ له، من
حديث أبي حازمٍ سلمةَ بن دينارٍ الأعرج عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ:
اسْتُعْمِلَ عَلَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ مِنْ آلِ مَرْوَانَ، فَدَعَا سَهْلَ بْنَ
سَعْدٍ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتِمَ عَلِيًّا؛ فَأَبَى سَهْلٌ فَقَالَ لَهُ أَمَّا
إِذْ أَبَيْتَ؛ فَقُلْ: لَعَنَ اللهُ أَبَا التُّرَابِ!
فَقَالَ سَهْلٌ:
مَا كَانَ لِعَلِيٍّ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَبِي التُّرَابِ، وَإِنْ كَانَ
لَيَفْرَحُ إِذَا دُعِيَ بِهَا) الحديث بطوله!
والإمام
البخاريّ لم يعجبه مطلعُ الحديثِ، فقصقصه كعادته، وتصرّف به كأنّه من مكتوباتِه
الشخصيّة، فقال: حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى سَهْلِ
بْنِ سَعْدٍ، فَقَالَ: هَذَا فُلَانٌ لِأَمِيرِ الْمَدِينَةِ يَدْعُو عَلِيّاً
عِنْدَ الْمِنْبَرِ، قَالَ «سهلٌ» فَيَقُولُ مَاذا؟ قَالَ «الرجلُ المبلّغ»: يَقُولُ
لَهُ: أَبُو تُرَابٍ!
فَضَحِكَ «سهل»
قَالَ: «وَاللهِ مَا سَمَّاهُ إِلَّا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وَمَا كَانَ لَهُ اسْمٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُ» الحديث!
قال عداب:
واضحٌ جدّاً أنّ واليَ المدينة الأمويَّ الملعونَ، أراد بقوله: «يشتم
عليّاً» لعنَه!
وانظر إلى
إمامنا البخاريَّ كيف حرفَ الحديثَ عن سننه، فبدلاً من (أن يشتم عليّاً) و (العن
أبا تراب) صارتا (يدعو عليّاً عند المنبر) وأدخل البخاريّ كلمة (فضحك) سهل؛
ليتفكّر القارئ بأمرٍ آخر بعيداً عن الموضوع، يدعو عليّا عند المنبر وعليّ مات؟
ربما سيفكّر القارئ
كما يفكّر الوهابيون النواصب: كيف يجوز أن يدعوَ عليّاً وهو ميت، ودعاء الميت شرك؟
وقد كان
المسلمون يتحرّجون من لعنِ الإمام عليّ عليه السلام، فكان ولاة بني أميّة لعنهم
الله تعالى، يطلبون من وجوه الصحابة أن يسبّوا أبا تراب، تخفيفاً عليهم، وليس من
باب التقدير والاحترام كما زعم صاحب المنشور، والنصّ واضحٌ جليّ!
وأخرج البخاريُّ
في المناقب (3706) ومسلم في فضائل الإمام عليّ عليه السلام (2404) واللفظ له، من
حديث عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سعدٍ رضي الله عنه
قَالَ: أَمَرَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ سَعْداً، فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ
أَنْ تَسُبَّ أَبَا التُّرَابِ؟
فَقَالَ
«سعدٌ»: أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا، قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَنْ أَسُبَّهُ!
لَأَنْ تَكُونَ
لِي وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ، سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَهُ - وقد -
خَلَّفَهُ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ
خَلَّفْتَنِي مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نُبُوَّةَ بَعْدِي)؟
وَسَمِعْتُهُ
يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ: (لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ)؟ قَالَ «سعدٌ»: فَتَطَاوَلْنَا
لَهَا، فَقَالَ: ادْعُوا لِي عَلِيًّا، فَأُتِيَ بِهِ أَرْمَدَ، فَبَصَقَ فِي
عَيْنِهِ، وَدَفَعَ الرَّايَةَ إِلَيْهِ، فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ!
وَلَمَّا
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا
وَأَبْنَاءَكُمْ) دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلِيًّا وَفَاطِمَةَ وَحَسَنًا وَحُسَيْناً، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ
أَهْلِي).
والبخاريّ أخرج
حديثَ سعدٍ، واقتصر على جملةٍ واحدةٍ فحسب (أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي
بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى) ويبدو أنّه استكثرَ على الإمام عليّ بقيّة
مناقبه!
قال صاحب
المنشور: (إنّ كلمة اللعن لم ترد في حديث معاوية لا على سبيل الأمر -كما ذكر
الشنقيطي- ولا على سبيل السؤال حتى!
وإنما ورد
السؤالُ عن السبّ، وبين السب واللعن فرقٌ كبير، لمن يعرف اللغة والشرع، مع أن
معاوية لم يأمر بهذا ولا بذاك)!
قال الفقير
عداب: كلام صاحب المنشور باطلٌ من جذوره!
أمّا أوّلاً:
فأنا أعرف صاحب المنشور بالضعف العلميّ، لكنْ لا أظنّه يجهلُ أنّ جميع المحدّثين
يروون بالمعنى، وجميع المصنّفين بالحديث النبويّ يقصقصون ما في الحديث من إساءةٍ
للصحابة، ومن أقلّهم في ذلك مسلم، ومن أكثرهم أحمد والبخاريّ.
وأمّا ثانياً:
فكلمة (أمر سعداً) تستتبع مأموراً به يفسّره ما بعده، وهو واضح جليّ.
(أمر معاويةُ
سعداً أن يسبّ أبا تراب، فقال له باستفهامٍ إنكاريٍّ: مالك لا تسبُّ أبا تراب)؟
فقال له سعدٌ
بالحرف: (أَمَّا مَا ذَكَرْتُ ثَلَاثًا، قَالَهُنَّ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَلَنْ أَسُبَّهُ) وتعمية الكلام إمّا مقصودةٌ من أحد
الرواةِ، أو لضعفه في اللغةِ مثل صاحب المنشور!
فمعاوية عليه
غضب الله وسخطه؛ استنكر على سعدٍ أنّه لا يسبّ الإمام عليّاً، فطلب منه بصيغة
الاستفهام الإنكاريّ أن يسبّ أبا تراب!
ليس من باب
التوقير، إنما من باب التخفيف على سعد رضي الله عنه.
وأمّا: ثالثاً:
فقد قال الراغب في مفرداته (ص: 391): «السبُّ: الشتمُ الوجيع»!
وقال ابن
الأثير في النهاية (4: 255): «أَصْلُ اللَّعْن: الطَّرْد والإبْعاد مِنَ اللهِ.
وَمِنَ الخَلْقِ:
السَّبُّ والدُّعاء» فالسبّ من البشر هو اللعن، واللعن هو السبّ والدعاء! وهذا ما
قرره ابن منظورٍ في اللسان (13: 387).
فدعوى كاتب
المنشور أنّ (بين السبّ واللعن فرقٌ كبير، لمن يعرف اللغة والشرع) وصوصةٌ وتشبّع
فارغان!
الخلاصة:
معاوية (لا رضي الله عنه) أمر سعداً رضي الله عنه أن يسبّ أبا ترابٍ بصيغة
الاستفهام الإنكاريّ، التي يستخدمها حتى جهّال العرب وعوامّهم حتى هذا اليوم!
ويكون قول صاحب
المنشور (فكلمة (أمر) واضح أنها ليست من كلام معاوية ولا هي من كلام سعد، وإنما هي
مدرجة من أحد الرواة، فهي ليست بحجة ولا هي من صلب الحديث، والمأمور به غير مذكور
أصلا) أغرب وأعجب!
كيف سيعبّر
راوي القصّة إذا لم يقل: (أمر معاويةَ سعداً) ولماذا عبّر سعدٌ بقوله (لن أسبّه)
هذا هو شأنُ عبّاد عجل المسلمين معاوية، يحرّفون الكلم عن مواضعه!
قال صاحب
المنشور (تساءل أحد الإخوة عن مناسبة توجيه هذا السؤال لسعد بن أبي وقاص؟
نعم فسعد لم ير
الوقوف مع علي في حروبه الداخلية، لا مع عائشة وطلحة والزبير رضي الله عنهم، ولا مع معاوية، فاعتزل (الفتنة)
وكان ينادي الناس بذلك.
فربما ظن
معاوية أن سعداً كان له موقف من علي أبعد من مجرد الاعتزال).
انظر إلى الكلام المبطّن، أخي القارئ!؟
(فربما ظن
معاوية أن سعداً كان له موقف من علي أبعد من مجرد الاعتزال).
ماذا يعني هذا الكلام؟
أيعني أنّ سعداً كان يبغض عليّاً فوق اعتزاله، وهذا يسوء معاويةَ؟
أم كان معاويةَ يخشى أن يكون سعدٌ يحبّ عليّاً؟
لا ريب أنّ كلام سعدٍ يوحي باحترام كبيرٍ للإمام عليّ، بل يتمنى لو كان له
واحدةٌ من خصاله، وهو ما واجه به معاوية!
ومعاوية لم يسأل سعداً عن سبب تقديره لعليٍّ، فهذا لا يعنيه، إنما هو
يستنكر عليه عدمَ امتثاله لتوجيهاته بلعنه أمام ولديه الحسن والحسين، فأجابه سعدٌ
بشجاعةِ الفارس النبيل!
قال صاحب المنشور (إنّ وقت الحوار بين معاوية وسعد كان بعد مقتل سيدنا
علي على يد بعض جيشه المنشقين عنه (الخوارج) ومبايعة الحسن والحسين رضي الله عنهما
-أي لمعاوية- في عام الجماعة.
فكيف يُعقل أن
معاوية يأمر سعدا الآن بلعن علي، وهو المعروف على الأقل بحنكته السياسية؟
وهو يعلم أن
جيش علي أصبح جزءاً من جيشه بعد الصلح مع الحسن، والعراق أصبح ولاية من ولاياته).
وجواب ذلك: أنّ
الذي أمر بقتل عليّاً على الراجح؛ هو معاوية نفسُه، وألّف لذلك مسرحيّة، نجا منها
هو والمنافق الآخر عمرو بن العاص، بحفظ الله لهما دون عليّ عليه السلام!
وهذا ما فهمه
تلميذ الإمام عليّ النجيبُ أبو الأسود الدؤليّ، فهو أعلم وأصدق من جميع نواصب
الأمة، يقول:
(ألا أبلغ
معاويةَ بن حربٍ
فلا قرّت عيون
الشامتينا
أفي شهر الصيام
فجعتمونا
بخير الناس
طرّاً أجمعينا
ومن بعد
النبيّ، فخير نفسٍ
أبو حسن، وخير
الصالحينا) صلاة الله وسلامه عليه.
أمّا عن حنكة
معاوية السياسيّة؛ فهكذا يقول النواصب!
ولو كان لديه
حنكةٌ سياسيّة؛ ما ذبح حجر بن عديٍّ وستّةً من أصحابه.
ولو كان لديه
حنكة سياسيّة؛ ما منع جيش عليٍّ من ورود الفرات، حتى ورده جيش عليّ على الرغم من
أنفه!
ولو كان لديه
حنكةٌ سياسيّة وذرّة من دين؛ ما قتل محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما وأحرقه في جوف
حمار، بعدما استسلم!
وخير من كلامي هذا كلّه؛
كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة، الحكمة (200): (وَاللهِ مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي،
وَلكِنَّهُ يَغْدِرُ وَيَفْجُرُ، وَلَوْلاَ كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ؛ لَكُنْتُ مِنْ
أَدْهَى النَّاسِ، وَلَكِنْ كُلُّ غَدْرَة فَجْرَةٌ، وَكُلُّ فَجْرَة كَفْرَةٌ،
وَلِكُلِّ غَادِر لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاللهِ مَا
أَُسْتَغْفَلُ بالْمَكِيدَةِ، وَلاَ أُسْتَغْمَزُ بالشَّدِيدَةِ).
فمعاوية
غادر فاجر، وليس حكيماً، ولا لديه حنكة، إنما استمال رعاعَ أمراءَ الأعراب بالمال، فأوصلوه إلى مبتغاه و(الأعراب
أشدّ كفراً ونفاقاً).
وبقيّة
كلامه؛ هو كلام أهل السنّة الممجوجُ، الذي سوّغوا بمثله لكلّ جبّار ظالم أن يحكم
الأمّة، وأن يورّث الحكم لبنيه وذويه، حتى لو كانوا فجّاراً مثلَ يزيدَ والوليد !
قال
ياقوت الحمويّ في معجم البلدان - مادّة «سجستان» (3: 191) وهو يعدّد فضائلَ أهلها:
قال محمد بن بحر الرّهني
الكرماني «وهو أحد المصنّفين من مدينة رُهْنَة»: وأجلّ من هذا كلّه أنّه لُعِن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه على منابر الشرق والغرب، ولم يلعن على منبرها «سجستان»
إلّا مرّة، وامتنعوا على بني أميةَ، حتى زادوا في عهدهم: (أن لا يُلعَن على مِنبرهم
أحدٌ، ولا يَصطادوا في بلدهم قُنفذاً ولا سلحفاةً.
وأي شرف أعظم من امتناعهم
من لعن أخي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، على منبرهم وهو يلعن على منابر
الحرمين مكة والمدينة)؟
وقال
ابن رجب في رسالته «الفرق بين النصيحة والتعيير» (ص: 23 - 25) ما نصّه:
«والثاني: أن يُظهر الطعن عليه ليَتوصلَ بذلك إلى
هواه وغرضه الفاسد، في قالب النصح والذب عن علماء الشرع.
وبمثل
هذه المكيدةِ؛ كان ظلم بني مروان وأتباعِهم، يستميلون الناس إليهم وينفِّرون
قلوبهم عن علي بن أبي طالب والحسن والحسين وذريتهم رضي الله عنهم أجمعين.
وأنه لما قُتِل عثمان رضي
الله عنه لم ترَ الأمّة أحقَّ من علي رضي الله عنه فبايعوه.
فتوصّل مَن توصّل إلى
التنفير عنه، بأن أظهر تعظيمَ قتلِ عثمان وقُبحه - وهو في نفس الأمر كذلك - ضُمَّ
إلى ذلك أن المؤلَّب على قتله والساعي فيه علي رضي الله عنه وهذا كان كذباً
وبهتاً.
وكان علي رضي الله عنه
يحلف ويغلِّظ الحلف على نفي ذلك وهو الصادق البارُّ في يمينه رضي الله عنه وبادروا
إلى قتاله ديانةً وتقرُّباً.
ثم إلى قتال أولاده رضوان
الله عليهم، واجتهد أولئك في إظهار ذلك، وإشاعته على المنابر في أيام الجُمَع
وغيرها من المجامع العظيمةِ، حتى استقر في قلوب أتباعهم أن الأمر على ما قالوه وأن
بني مروان أحقُّ بالأمر من علي وولده؛ لقربهم من عثمان وأخذهم بثأره!
فتوصلوا بذلك إلى تأليف
قلوب الناس عليهم، وقتالهم لعليٍّ وولده من بعده، وثبت بذلك لهم الملك، واستوثق
لهم الأمر، وكان بعضهم يقول في الخلوة لمن يثق إليه كلاماً معناه: «لم يكن أحدٌ من
الصحابة أكفأ عن عثمانَ من علي».
فيقال له: لِمَ تسبُّونه
إذن؟ فيقول: «إن المُلك لا يقوم إلا بذلك».
ومراده أنه لولا تنفير
قلوب الناس على علي وولده ونسبتُهم إلى ظلم عثمانَ؛ لما مالت قلوب الناس إليهم؛
لما علموه من صفاتهم الجميلة وخصائصهم الجليلة.
فكانوا يسرعون إلى
متابعتهم ومبايعتهم، فيزول بذلك ملك أمية وينصرف الناس عن طاعتهم».
قال الإمام الذهبيّ في
النبلاء (3: 39): «قَدْ كَانَ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ أَهْلِ صِفِّيْنَ؛ مَا
هُوَ أَبْلَغُ مِنَ السَّبِّ: السَّيْفُ!
فَإِنْ صَحَّ شَيْءٌ؛
فَسَبِيْلُنَا الكَفُّ وَالاسْتِغْفَارُ لِلصَّحَابَةِ، وَلاَ نُحِبُّ مَا شَجَرَ
بَيْنَهُم، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْهُ، وَنَتَوَلَّى أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ
عَلِيّاً».
الشاهدُ الذي أريده من
كلام الذهبيّ: أنّ مقاتلةَ الإمامِ عليّ؛ أبلغُ في البغضاء والخصام من سبّه
«وَنَتَوَلَّى أَمِيْرَ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيّاً» لأنّه على الحقّ، وجميع خصومه
كانوا على الباطل، وكانوا ظالمين له، عليه السلام، وساءٌ كانوا من السابقين أم
كانوا من اللاحقين، هذا حكمنا الدنيويّ على جميع البغاة، أمّا في الآخرة؛ فأمرهم
إلى الله تعالى.
ومَن منّا لا يرجو النجاةَ
للزبير وطلحة وعائشة، رضي الله عنهم؟
ختاماً: أخرج البخاريّ في
كتاب الصلاة (447) ومسلم في الفتن (2915) من حديثِ أبي سعيد الخدريّ قال: أخبرني
مَن هو خيرٌ مني قال: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ
لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْفُضُ
التُّرَابَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) يَقُولُ عَمَّارٌ: «أَعُوذُ
بِالله مِنْ الْفِتَنِ» فمعاويكم هذا إذن يدعو إلى النار، بل هم حامل لواء
المنافقين إليها.
حشَر الله تعالى مَن يحبّه
ويدافع عنه معه، حيث شاءت عدالةُ الله العظيم!
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمدُ للهِ على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق