الأحد، 26 مارس 2023

   مَسائِلُ مِن الفِقْهِ والأُصولِ (4):

هل تصومُ الحائضُ والنفساءُ رمضانَ؟!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ عددٌ من الإخوةِ والأخواتِ يقولون ما خلاصته: عندنا أناسٌ يقولون:

لا يجوز للمرأةِ الحائضِ أو النفساء؛ إفطارُ أيّامِ حيضها، أو نفاسِها، في شهر رمضان، وأناسٌ آخرون يقولون: لا يجوز للحائض والنفساء أن تفطرا في أيّام الحيض والنفاس، ولا يجوز لهما تركُ الصلاةِ في وقتها أيضاً.

ويقولون: ليس في كتابِ الله تعالى دليلٌ على إعفاء الحائض والنفساءِ من الصوم والصلاة، وحديثُ عائشةَ وحدها - صحَّ أم لم يصحَّ - هو خبرُ آحادٍ، لا يصلح لإبطالِ فريضةٍ، أو تأخيرها عن وقتها، فما تقولون أنتم شيخَنا»؟

أقول وبالله التوفيق:

يحسنُ تخريج حديثِ عائشةَ الواردِ في هذه المسألةِ؛ لأنني قرأت لبعضهم تضعيفَه بضعفِ معاذةَ العدويّة، أو جهالتِها!

بإسنادي إلى الإمامِ البخاريّ في كتاب الحيض، باب لا تقضي الحائض الصلاة (321) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: ثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: ثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَتْني مُعَاذَةُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزي إِحْدَانَا صَلاَتَهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبيِّ e فَلاَ  يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلاَ نَفْعَلُهُ([1]).

مدارُ حديثِ عائشةَ في الكتبِ الستّةِ على معاذةَ العدويّة؛ رواه عنها:

عاصم بن سليمان الأحول، عند عبدالرزاق (1277) وابن راهويه (1385) وأحمد (25951) ومسلم (335) والسرّاج الثقفيّ (444).

وعبدالله بن زيد أبو قِلابةَ الجَرميُّ، عند ابن راهويه (1386) والدارميّ (1001) والترمذي (130).

وقتادةُ بن دِعامةَ السدوسيُّ، عند البخاريّ (321) والنسائيِّ في المجتبى (2318) وفي الكبرى (2639).

ويزيدُ بن أبي يزيدَ الرِشْكُ، عند أبي داود الطيالسيّ (1675) وغيره.

ومعاذةُ بنتُ عبدالله العدويّة: ليست مجهولةً، بل هي أكثر من مشهورةٍ، إذ المجهول عند المحدّثين؛ هو من لم يرو عنه، سوى راوٍ واحدٍ، وبعضهم يضيف: ولم يُوَثَّقْ!

ومعاذة روى عنها هذا الحديثَ وحده أربعةُ من المحدّثين الكبار!

بينما روى عنها عند البخاريّ ومسلم هؤلاء الأربعة، وإسحاق بن سويدٍ، عند مسلم (1995) فيمَ روى عنها في الكتب التسعة عشرة رواة، وذكر المزيّ في ترجمتها (35: 308) ستةَ عشرَ راوياً، رووا عنها، ونقل عن ابن معين قولَه بها: «ثقة حجة»!

أمّا أنها ضعيفة؛ فهذا كلام جاهلٍ، ليس لديه تقوى ولا علم، فلم يترجمها في الضعفاءِ أحدٌ ممن صنّف في هذا النوع من الرجالِ، ولا الذهبيّ في الميزان.

وترجمها محمد بن سعد في الطبقات الكبرى (8: 365) وقال: « ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ أَنَّهَا أَسْلَمَتْ وَبَايَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلم».

وترجمها ابن حبّان في الثقات (5: 466) وقال: «كانَت من العابداتِ، وَكَانَت تَقولُ: صَحِبتُ الدُّنْيَا سبعينَ سنة، فَمَا رَأَيْت فِيهَا قُرَّةَ عينٍ قطُّ».

وترجمها الدارقطنيّ في كتاب «أسماء التابعين، ممن صحّت روايتهم عن الثقات» (1: 347).

فمعاذةُ إذنْ روى عنها أكثرُ من خمسةَ عشرَ راوياً، وذُكرت في الصحابةِ، ولم تُجْرَحْ قطّ، ووثّقها ابن معينٍ، وابن حبّانَ، وصحّح لها أحاديثَ في صحيحه، منها (1192، 1195، 1349، 1443، 2529) والدارقطنيّ، وصحّح لها في كتابه العلل (2: 107) و(14: 429) وصحّح  لها حديثَ الباب، في العلل (14: 429) أيضاً.

 وصحّح حديثَ البابِ البخاريّ ومسلم وأبو عوانةَ وابن حبّان وأبو نعيم، وغيرهم.

على أنّ معاذَةَ لم تنفرّد بهذا الحديثِ عن عائشة، بل تابعها عليه راويان:

الأوّل: الأسودُ بن يزيد النخعيّ، عند الدارميّ في السنن (1000) والترمذيِّ في الجامع (787) وقال: حديث حسن.

والثاني: ابنُ أخيها القاسمُ بن محمّد بن أبي بكر، عند أبي يعلى في مسنده (2637) وفي إسناده ليث بن أبي سُليم الليثيّ، قال فيه ابن حجر في التقريب (5685): «صدوق اختلط جدّاً، ولم يتميّز حديثُه فتُرك» وحديثُه هذا قد ضبطه تماماً، وهذا لفظه عند أبي يعلى (2637): «عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْهَا عَنِ الْحَائِضِ، تَقْضِي الصِّيَامَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟

فَقَالَتْ لَها عائشةُ: «أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَقْضِي الصِّيَامَ، وَلَا نَقْضِي الصَّلَاةَ» فهذا لفظٌ مطابقٌ دلّ على أنّ ليثاً قد حفظ.

وترجم الذهبيّ في النبلاء (6: 179): ليثَ بن أبي سُليمٍ فقال: «مُحَدِّثُ الكُوْفَةِ، وَأَحَدُ عُلَمَائِهَا الأَعْيَانِ، عَلَى لِيْنٍ فِي حَدِيْثِهِ، لِنَقصِ حِفْظِهِ».

فالحديث بمجموع متابعاته الثلاث؛ صحيح مستفيضٌ عن عائشةَ رضي الله عنها!

يضافُ إلى هذا؛ أنّ عائشة ذاتها؛ لم تنفرد عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم بمضمون هذا الحديث!

قال الإمام البخاريّ في صدرِ «بابٌ لاَ تَقْضي الْحَائِضُ الصَّلاَةَ» الذي أخرج فيه حديثَ معاذةَ عن عائشة  (321):  «وَقَالَ جَابِرُ بن عبدالله وَأَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبيِّ e: (تَدَعُ الصَّلاَةَ) وهذا تعليقٌ بصيغةِ الجزم، والمحدّثون يرون ما جزم البخاريّ بتعليقِه صحيحاً.

ودليل صحّة قول المحدّثين ههنا؛ ما أخرجه البخاريّ في كتاب التمني، باب قول النبيّ e : (لو استقبلت من أمري) (7230) من حديث عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ e فَلَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَدِمْنَا مَكَّةَ لأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ»

وفيه: «وكَانَتْ عَائِشَةُ قَدِمَتْ مَكَّةَ، وَهْيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ e (أَنْ تَنْسُكَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَطُوفُ وَلاَ تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرَ).

وجملة (تدع الصلاة) مثل جملةِ (غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَطُوفُ وَلاَ تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرَ) في المعنى، والبخاريّ من أكثر المحدّثين روايةً بالمعنى.

وأمّا حديثُ أبي سعيدٍ الخدريّ؛ فأخرجه البخاريّ في الحيضِ، باب ترك الحائضِ الصومَ (304) وفي الزكاة (1462) من حديث زيد بن أسلم عن عِياض بن عبدالله، عن أبي سعيدٍ قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ e في أَضْحًى، أَوْ فِطْرٍ، إِلَى الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ! تَصَدَّقْنَ، فَإِنّي أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ).

فَقُلْنَ: وَبِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: (تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ. مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ؛ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: (أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ؟) قُلْنَ: بَلَى.

قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟) قُلْنَ: بَلَى

قَالَ: (فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا).

وأخرجه مسلم في الإيمان، بإسنادِ البخاريّ نفسه، عقبَ حديث عبدالله بن عمر (80)  ولم يسق لفظه، إنما قال: «بمثل معنى حديث ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم».

وأخرج مسلم في الباب نفسه حديثَ عبدالله بن عمر (80) وفيه:

قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا نُقْصَانُ العَقْلِ وَالدِّينِ»؟

قَال: (أَمَّا نُقْصَانُ العَقْلِ؛ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ، فَهَذَا نُقْصَانُ العَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللَّيَالِي مَا تُصَلِّي، وَتُفْطِرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدِّينِ).

فحديثُ عائشةَ في ترك الحائضِ الصيامَ؛ لم تنفرد به معاذةُ عنها، ولم تنفرد به عائشة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، بل تابعها عليه عبدالله بن عمر وأبو سعيد الخدريّ، رضي الله عنهم.

وقال أبو بكر بن المنذر في كتابه الأوسط (2: 202): « فَأَخْبَرَ «الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم»أَنْ لَا صَلَاةَ عَلَيْهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الصَّوْمُ فِي حَالِ الْحَيْضِ.

ثُمَّ أَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ بَعْدَ الطُّهْرِ، وَنَفَى الْجَمِيعُ عَنْهَا وُجُوبَ الصَّلَاةِ، فَثَبَتَ قَضَاءُ الصَّوْمِ عَلَيْهَا بِإِجْمَاعِهِمْ وَسَقَطَ عَنْهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ».

وسبق أن نقلنا قولَ الترمذيّ في اتّفاق العلماء على هذا الحكم.

وانظر موسوعة الإجماع للقاضي سعدي أبو جيب (1: 653) فقد نقل القاضي سعدي أنّ بعضَ الخوارجِ خالفوا في ذلك، فقالوا بوجوب صيامِ الحائض في رمضان؛ لأنّ الصيامَ لا يحتاج إلى طهارة.

وحتى لا يُظَنَّ بأن الإباضيّة المعاصرينَ ممّن يقول بما يقوله أولئك الخوارج؛ أحببت أن أنقل بعضَ كلام شيخنا مفتي سلطنة عمان الشيخِ أحمد الخليلي في كتابِ المعتمد في فقه الصيام والزكاة (ص: 85) قال حفظه الله تعالى، وهو يعدّد شروطَ صحّة الصوم:

«الشرط الثالث: الطهارةُ من الحيض والنفاس؛ شرطٌ لصحة الصيامِ، فالحائض والنفساء؛ لا يصحّ ولا يُشرَع في حقّهما الصيام، بل يمنعان منه في الحال، وتؤمران بقضاء الصيامِ في المآل، بنصّ السنّةِ وإجماعِ الأمّة».

وقد وُجّه إلى شيخنا أحمد الخليليّ قريبٌ من السؤال الذي أجيبُ عليه ههنا، إذ قال سائله: «هناك دعواتٌ تقول: إنّ المرأة لا تطالب بترك الصلاةِ والصيام في فترة الحيض أو النفاس؛ نظراً لعدم وجودِ نصٍّ صريحٍ من القرآن»؟

فأجاب شيخنا: «الأمّة مجمعةٌ بأنه لا يجوز للحائضِ أن تصلي ولا أن تصوم، والذين يريدون أن يحصروا الإسلام في القرآن وحده، من غير تعويلٍ على السنّة؛ هم هادمون للقرآن، هم كافرون بالقرآن وحده؛ لأنّ الله تعالى أمرنا بالرجوع إلى النبيّ عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام، وطاعتِه، ولا تكون طاعتُه إلّا باتّباع سنّته، والله أعلم».

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.



([1]) من حديث مُعاذةَ العدويّة عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ أخرجه الطيالسيّ في مسنده (1675) وعبدالرزاق في المصنّف (1277، 1278) وإسحاق بن راهويه في مسنده (1385، 1386) وأحمد في مسند الأنصار (40: (24036) (41: (24633، 24660، 24886) (42: (25109، 25520) (43: (25951) ومسلم في الحيض، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض (335) والدارمي في الطهارة، باب في الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة (980) وابن ماجه في الطهارة وسننها، باب ما جاء في الحائض لا تقضي الصلاة (631) وأبو داود في الطهارة، باب في الحائض لا تقضي الصلاة (262) والنسائي في الحيض والاستحاضة، باب سقوط الصلاة عن الحائض (382) وفي الصيام، باب وضع الصيام عن الحائض (2318) والترمذي في الطهارة، باب ما جاء في الحائض أنها لا تقضي الصلاة (130) قال أبو عيسى: «هذا حديث حسن صحيح، وقد روي عن عائشة من غير وجه أن الحائض لا تقضي الصلاة، وهو قول عامة الفقهاء في أنّ الحائضَ تقضي الصومَ، ولا تقضي الصلاة» وفي كتاب الصوم (787) أخرجه الترمذيّ من حديث إبراهيم بن يزيد النخعيّ عن الأسود بن يزيد النخعيِّ، عن عائشة، وقال: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُعَاذَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَيْضاً.

وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا نَعْلَمُ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافًا؛ أنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ» وغيرهم، وانظر التحفة [12: 17964] والإتحاف [17: 23221].

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق