مَسائلُ حديثيّةٌ (17):
كيفَ نستقبلُ شهرَ رمضان؟!
بسم الله الرحمن الرحيم
(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا
بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
كتب إليّ يقول: إنّ كلام المشايخ عندنا متضاربٌ في
استقبال رمضان:
- أحدهم يروي لنا حديثاً يقول: إنّه حديثٌ صحيح!
- فإذا عرضناه على غيره من المشايخ؛ قال: بل هو
حديث ضعيف!
- وشيخ ثالثٌ يقول: بل هو حديث ضعّفه الشيخ
الألباني، أو حسّنه الشيخ شعيب!
فما أيسر السبل التي تجعلني أهتدي إلى أفضل الطرق
في استقبال شهر رمضان، في ضوء الأحاديث الصحيحة؟!
أقول وبالله التوفيق:
لست أدري سببَ تعلّق أمّتنا بالرواياتِ، وعدم
سؤالها عن الآيات القرآنية الكريمات؟
والله تعالى يقول: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً
وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) [العنكبوت].
وقال الله تعالى أيضاً: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ
مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) [سورة
البقرة].
(حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا
أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا
يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا
مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) [سورة
الدخان].
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [سورة القدر].
ومن الأحاديث الصحيحةِ عند العلماء:
(1) ما أخرجه البخاري في كتاب الإيمان (8) ومسلم في
الإيمان (16) من حديث عبدالله بن عمر، رضي الله عنهما قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ،
وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالْحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ).
(2) وأخرج البخاريّ في الإيمان (37) ومسلم في صلاة
المسافرين (760) من حديث أبي هريرة؛ أنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:
( مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
(3) وأخرج البخاريّ في كتاب الصوم (1901) ومسلم في
صلاة المسافرين (760) من حديث أبي هريرة عن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ:
(مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَاباً؛
غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ).
(4) وأخرج البخاريّ في أبواب بَدْءِ الوحي (6)
ومسلم في الفضائل (2308) من حديث عبدالله بن العباس، رضي الله عنهما قال: (كانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا
يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ
لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلرَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
(5)
وأخرج البخاريّ في كتاب الصوم (1894) ومسلم في الصوم (1151) واللفظ له، من حديث
أبي هريرة؛ أنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: كُلُّ
عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعمِائَة
ضِعْفٍ.
قَالَ
اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ]إِلَّا
الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ
مِنْ أَجْلِي[.
لِلصَّائِمِ
فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ.
وَلَخُلُوفُ
فِيهِ؛ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ).
هذه الأحاديث كافيةٌ في بيان فضل شهر رمضان، وفي
بيان فضل صيامه وقيام لياليه، وفضل الصبر وضبط اللسانِ وسائر الجوارح، وفضل الجودِ
والإنفاق فيه.
- أمّا حديثُ سلمانَ الفارسيّ رضي الله عنه:
فقد أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (1887) من حديث عَلِيِّ
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ سَلْمَانَ
قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ يَوْمٍ
مِنْ شَعْبَانَ فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ،
شَهْرٌ مُبَارَكٌ، شَهْرٌ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، جَعَلَ اللهُ
صِيَامَهُ فَرِيضَةً، وَقِيَامَ لَيْلِهِ
تَطَوُّعًا.
مَنْ تَقَرَّبَ فِيهِ بِخَصْلَةٍ مِنَ الْخَيْرِ،
كَانَ كَمَنْ أَدَّى فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ.
وَمَنْ أَدَّى فِيهِ فَرِيضَةً؛ كَانَ كَمَنْ
أَدَّى سَبْعِينَ فَرِيضَةً فِيمَا سِوَاهُ.
وَهُوَ شَهْرُ الصَّبْرِ، وَالصَّبْرُ ثَوَابُهُ
الْجَنَّةُ، وَشَهْرُ الْمُوَاسَاةِ.
وَشَهْرٌ يَزْدَادُ فِيهِ رِزْقُ الْمُؤْمِنِ، مَنْ
فَطَّرَ فِيهِ صَائِمًا كَانَ مَغْفِرَةً لِذُنُوبِهِ وَعِتْقَ رَقَبَتِهِ مِنَ
النَّارِ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ
أَجْرِهِ شَيْءٌ).
قَالُوا: لَيْسَ كُلُّنَا نَجِدُ مَا يُفَطِّرُ
الصَّائِمَ؟
فَقَالَ الرسول: (يُعْطِي اللهُ هَذَا الثَّوَابَ
مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا عَلَى تَمْرَةٍ، أَوْ شَرْبَةِ مَاءٍ، أَوْ مَذْقَةِ لَبَنٍ).
وَهُوَ شَهْرٌ أَوَّلُهُ رَحْمَةٌ، وَأَوْسَطُهُ
مَغْفِرَةٌ، وَآخِرُهُ عِتْقٌ مِنَ النَّارِ، مَنْ خَفَّفَ عَنْ مَمْلُوكِهِ
غَفَرَ اللهُ لَهُ، وَأَعْتَقَهُ مِنَ النَّارِ.
وَاسْتَكْثِرُوا فِيهِ مِنْ أَرْبَعِ خِصَالٍ:
خَصْلَتَيْنِ تُرْضُونَ بِهِمَا رَبَّكُمْ، وَخَصْلَتَيْنِ لَا غِنًى بِكُمْ
عَنْهُمَا.
فَأَمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَانِ تُرْضُونَ
بِهِمَا رَبَّكُمْ؛ فَشَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ،
وَتَسْتَغْفِرُونَهُ.
وَأَمَّا اللَّتَانِ لَا غِنًى بِكُمْ عَنْهمَا؛
فَتُسْأَلُونَ اللهَ الْجَنَّةَ، وَتَعُوذُونَ بِهِ مِنَ النَّارِ.
وَمَنْ أَشْبَعَ فِيهِ صَائِماً؛ سَقَاهُ اللهُ
مِنْ حَوْضِي شَرْبَةً، لَا يَظْمَأُ حَتَّى يَدْخُلَ الْجَنَّةَ).
هذا حديثٌ إسنادُ ضعيف، لضعف راويه عليّ بن زيدِ بن
جدعان.
لكنّ أكثر معانيه جميلةٌ مطلوبة شرعاً.
فيجوز لكلّ صائمٍ العملُ بمضمونه، من دون اعتقاد
مضاعفةِ الأجور فيه.
بمعنى: يُستحبُّ لك أنّ تستبشر بقدوم شهر رمضان،
لكنْ ليس لك أن تعتقد بأنّ مجرّد صيام رمضان يُدخِلُ الجنّة، كلّا!
فلا بدّ لدخول الجنّة من إخلاص النيّة لله تعالى،
والابتعاد التامّ عن الشرك الجليّ والخفيّ، والتوبةِ النصوحِ عن الكبائر، وردّ
المظالمِ إلى أصحابها!
وهكذا بقيّة الترغيباتِ المذكورةِ في متن الحديث.
- وأمّا حديثُ أنس بن مالك:
فقد أخرجه الترمذيّ في كتاب الزكاة (663) من حديث صَدَقَةَ
بْنِ مُوسَى الدقيقيّ عَنْ ثَابِتٍ البنانيِّ، عَنْ أَنَسِ بن مالك، رضي الله عنه
قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الصَّوْمِ
أَفْضَلُ بَعْدَ رَمَضَانَ؟
فَقَالَ: (شَعْبَانُ لِتَعْظِيمِ رَمَضَانَ).
قِيلَ: (فَأَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ)؟ قَالَ
الرسولُ: (صَدَقَةٌ فِي رَمَضَانَ).
وهذا حديثٌ ضعيف أيضاً.
قَالَ الترمذيّ عقب تخريجه: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ،
وَصَدَقَةُ بْنُ مُوسَى؛ لَيْسَ عِنْدَهُمْ بِذَاكَ الْقَوِيِّ».
ختاماً: أنصح إخواني جميعاً بقراءة باب «وظائف شهر
رمضان» في كتاب «لطائف المعارف فيمَ لمواسمِ العامِ من الوظائف» للعالِم الربّاني
الصالح زين الدين ابن رجبٍ الحنبليّ (ت: 795 هـ) رحمه الله تعالى.
جعل الله تعالى شهر رمضانَ مباركاً عليكم، وكلّ رمضان وأنتم بخير وعافية وأمانٍ، وسلامٍ من البلاء والابتلاء، ومن الزلازل والفيضانات، ومن المحن ما ظهر منها وما بطن.
واللهُ المستعان.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ
تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله،
وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.
والحمد لله على كلّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق