الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

 أفرادُ الإمامِ البخاريّ (8):

إمامةُ الباغي على الإمام الشرعيّ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمامِ البخاريّ في كتاب الأذانِ، باب إمامةِ المفتونِ والمبتدعِ (695) قَالَ أَبُو عَبْدِاللهِ([1]): وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ «الفريابيّ»([2]): ثَنا الأَوْزَاعيُّ: ثَنا الزُّهْريُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَديِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ «بْنِ عَفَّانَ»  وَهْوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ، وَنَزَلَ بِكَ مَا تَرَى، وَيُصَلّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ، وَنَتَحَرَّجُ.

فَقَالَ: «الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ، فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ؛ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ.

وَإِذَا أَسَاؤا؛ فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ»([3]).

وَقَالَ الزُّبَيْديُّ «محمد بن الوليد»: قَالَ الزُّهْرِيُّ «محمد بن مسلم»: «لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ([4]) إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا»([5]).

مدار حديثِ عثمانَ رضي الله عنه، على عبيدالله بن عدِيّ بن الخيار النوفليّ، رواه عنه:

حميد بن عبدالرحمن بن عوفٍ، عند البخاري (695) وعند أحمد في فضائل الصحابة (872) وابن شبّة في تاريخ المدينة (4: 1216) وعبدالله بن أحمد في فضائل عثمان (173) والدارقطني في العلل (273) وغيرهم.

وسعد بن إبراهيم الزهريّ، عند ابن شبة في تاريخ المدينة (4: 1217)  والدارقطنيّ في العلل (273).

وعروة بن الزبير، عند الدارقطنيّ في العلل (273) والبيهقيّ في السنن الكبير (5311، 5856) وابن عبدالبَرِّ في التمهيد (10: 291)

وعُبيدُاللهِ بنُ عديِّ بن الخيار: لم يترجمه الذهبيّ في الميزان([6]) وترجمه ابن حبّان في الثقات (3: 248) وقال: وُلد في زمان رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وترجمه مرّةً أخرى في التابعين (5: 64) وقال: يروي عن عمر وعثمان، رضي الله عنهما

ولم يذكر له روايةً عن الرسول.

وترجمه المزي في تهذيبه (19: 112) وقال: كان من فقهاء قريش.

وترجمه ابن حجر في تهذيبه (7: 36) ونقل توثيقه عن ابن سعدٍ والعجليّ

فإسنادُ هذا الأثر؛ صحيح غريب، لم يروه عن عثمان، سوى عبيدالله بن عديّ.

قال عداب: أورد ابن حجر في الفتح (3: 233) من طرق عديدةٍ، وبأسانيد قوية أنّه صلى بالناس يوم حصار عثمانَ أيضاً؛ الإمامُ عليّ بن أبي طالب، وأبو أمامة بن سهل بن حُنيف، وقيل: صلى أيضاً أبو أيوب الأنصاري وطلحة بن عبيدالله y.

قال: وليس واحدٌ من هؤلاء هو المقصودَ بإمام الفتنة، وإنما هو عبدالرحمن بن عُديس البلوي، أو كنانة بن بشر الليثيّ، ورجّح هو الثاني.

وعبدالرحمن بنُ عُديسٍ (ت: 36 هـ) عدّه في الصحابةِ كثيرون، وقال ابنُ البرقيِّ والبَغَويِّ

وغيرهما: كان ممن بايع تحت الشجرة، كما في الإصابة لابن حجر (4: 281).

وقال الذهبيّ في تاريخ الإسلام (2: 298): «له صُحْبة، وبايع تحت الشجرة، وله رواية، ثمّ نقل عن محمد بن يحيى الذهليّ أنه قال: «لَا يحلّ أن يُحدّث عنه بشيء، هو رأس الفتنة».

وهذا ما حصل فعلاً، فليس له في كتبِ الروايةِ أيّ حديث!

وهذا يثيرُ تساؤلاً مهمّاً لسادتنا أهل السنّة: أنتم تقولون بعدالةِ جميع الصحابة، وهذا صحابيّ رضوانيّ، فلم سَلَبتُم العدالةَ عنه؟

قلتم: هو رأس الفتنة في الخروج على عثمان رضي الله عنه!

قلنا: ومعاوية رأس الفتنة في الخروج على عليّ عليه السلام؟

هذا هو النصب، مهما حاولنا التفسير والتسويغ!

بقي أن نشير إلى مسألةِ الصلاة خلفَ المخنث، والتي علّقها البخاريّ عن محمد بن الوليد الزُبيديّ قال: قال الزهريّ.

قال ابن بطّال في شرح صحيح البخاري (2: 328): « وأما قول الزهريّ: لا نصلي خلف المُخَنّثِ إلا من ضرورة» فوجه ذلك أن الإمامة عند جميع العلماء؛ موضع للكمالِ، واختيار أهل الفضل، و المُخَنّثِ مُشبّه بالنساءِ، فهو ناقصٌ عن رُتبةِ مَن يَستحق الإمامة.

وإنما ذكر البخاريُّ هذه المسألة فى هذا الباب؛ لأن المُخَنث مُفْتَتَن في تشبهه بالنساء، كما أنّ إمامَ الفتنةِ والمبتدعَ، كلُّ واحد منهم مفتون فى طريقته!

فلما شملهم معنى الفتنةِ؛ شمَلَهم الحُكمُ، فكرهنا إمامتَهم، إلا مِن ضرورة».

وقال ابن حجر في الفتح (3: 236): «قَوْلُهُ الْمُخَنَّثُ: رَوَيْنَاهُ بِكَسْرِ النُّونِ «المُخَنِّثُ » وَفَتْحِهَا «المُخَنَّثُ».

فَالْأَوَّلُ «المُخَنِّثُ»: الْمُرَادُ بِهِ، مَنْ فِيهِ تَكَسُّرٌ وَتَثَنٍّ وَتَشَبُّهٌ بِالنِّسَاءِ.

وَالثَّانِي «المُخَنَّثُ»: الْمُرادُ بِهِ مَنْ يُؤْتَى «مِن قِبَلِ الرِجالِ»([7]).

وَبِهِ جَزَمَ أَبُو عبدالملك البونيّ([8]) فِيمَا حَكَاهُ ابن التِّينِ مُحْتَجّاً بِأَنَّ الْأَوَّلَ لَا مَانِعَ مِنَ الصَّلَاةِ خَلْفَهُ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ أَصْلَ خِلْقَتِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُرَادَ مَنْ يَتَعَمَّدُ ذَلِكَ، فَيَتَشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ ذَلِكَ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ، وَلِهَذَا جَوَّزَ الدَّاوُدِيُّ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهُمَا مُراداً.

وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، بِغَيْرِ قَيْدٍ، أَخْرَجَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْهُ وَلَفْظُهُ: قُلْتُ «للزهريِّ»: فَالْمُخَنَّثُ؟ قَالَ: لَا، وَلَا كَرَامَةَ، لَا يُؤْتَمُّ بِهِ».

قال ابن حجر: «وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ».

وجاء في الموسوعة الفقهية الكويتية (36: 265): «الْمُخَنَّثُ ضَرْبَانِ:

أَحَدُهُمَا: مَنْ خُلِقَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَتَكَلَّفِ التَّخَلُّقَ بِأَخْلاَقِ النِّسَاءِ وَزَيِّهِنَّ وَكَلاَمِهِنَّ وَحَرَكَاتِهِنَّ، بَل هُوَ خِلْقَةٌ خَلَقَهُ اللهُ عَلَيْهَا، فَهَذَا لاَذِمٌ عَلَيْهِ وَلاَ عَتَبَ وَلاَ إِثْمَ وَلاَ عُقُوبَةَ، لأَِنَّهُ مَعْذُورٌ لاَ صُنْعَ لَهُ فِي ذَلِكَ.

وَالثَّانِي: مَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ خِلْقَةً، بَل يَتَعَمَّدُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ فِي الأَْقْوَال وَالأَْفْعَال، وَبِاخْتِيَارِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمَذْمُومُ الَّذِي جَاءَ فِي الأْحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ لَعْنُه».

وفيها أيضاً (36: 267) تحت عنوان: «الصَّلاَةُ خَلْفَ الْمُخَنَّثِ» نقلوا كلامَ الزهريّ المتقدّم، وكلامَ ابن بطّال.

ونقلوا في الموسوعة (36: 266) عن عددٍ من علماء الحنفيّة؛ أنّ «الذِي فِي كَلاَمِهِ لِينٌ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ خِلْقَةً، وَلَمْ يُشْتَهَرْ بِشَيْءٍ مِنَ الأْفْعَال الرَّدِيئَةِ «المُخَنِّث» فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ».

ختاماً: إنَّ تجويزَ الصلاةِ خلفَ البرّ والفاجر؛ مذهب جمهورِ أهل السنة، وللأسف! ومذهب مالك؛ اشتراط العدالةِ في إمام الصلاةِ، وهو الذي لا حقَّ سواه عندي.

فإذا كان هذا الذي في أعضائه تكسّرٌ وتثنٍّ خِلقةً «المُخَنِّث» وكان عدلاً مقبولَ الشهادةِ؛ فالصلاة وراءه صحيحة، والأولى اختيار الأئمّة الرجالِ، أصحاب الهيبةِ والوقار.

وأمّا الذي يتفنّن في تثنّيه وتكسّره، تشبهاً بالنساء؛ فهو ملعون بكلام الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، والملعون ساقط العدالة، وأنا لا أجوّز الصلاةَ خلفَه، ولا خلف الذي يعمل عملَ قوم لوطٍ - فاعلاً أو مفعولاً به - ولا الزاني أيضاً؛ لأنّ هؤلاء ليسوا بعدولٍ، إذا لم يُحَدّوا، عليهم لعنةُ الله تعالى وسخطه.

وإذْ إنّ أكثرَ أئّمةِ المساجدِ في زماننا؛ مجهولون لدينا؛ فأفضل ما نفعله إذا دخلنا مسجداً نجهل حالَ إمامِه؛ أن نصلّي مُقتدينَ بالجماعة؛ لأنّ نيّة اقتداء المأمومِ بالإمامِ على وجه الركنية أو الشرطيّة أو الوجوبِ - على اختلاف أقوال الفقهاء التي لا تنقضي - جميعها مبنية على حديث (الأعمال بالنيّة) وقد بيّنا في منشورٍ سابق أنّه حديثٌ فرد مطلق غريبٌ في طبقاتٍ أربع، وهو حسنٌ، لا يبلغ حتى رتبة الصحيح الغريب، وقلت ثمّة: لا يصلح هذا الحديثُ، الذي لم يصحَّ أو يحسن في الباب غيره، لبناء شواهق من الأحكام عليه، وإنّ أقصى ما يمكن أن نبني عليه المندوب والأولى!

ولو أنّ مسلماً دخل المسجدَ بنيّة صلاة الجماعةِ، ثم لم ينوِ الاقتداء بأحدٍ؛ فصلاته جماعةً صحيحةً، وتفضل صلاة المنفرد بسبعٍ وعشرين درجةً، إنْ شاء الله تعالى.

واللهُ تَعالى أعلَمُ. 

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

 



([1]) في بعض النسخ: قال محمد بن إسماعيل، بدلَ قال أبو عبدالله. وانظر السلطانية ص (178) حاشية (10).

([2]) قال ابن حجر في الفتح (3: 232): « قَوْلُهُ: «وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ» هُوَ الْفِرْيَابِيُّ.

قِيلَ: عَبَّرَ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أَخَذَهُ مِنْ شَيْخِهِ فِي الْمُذَاكَرَةِ، فَلَمْ يَقُلْ فِيهِ: حَدَّثَنَا.

وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مِمَّا تَحَمَّلَهُ بِالْإِجَازَةِ أَوِ الْمُنَاوَلَةِ أَوِ الْعَرْضِ.

وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظِ، مُنْقَطِعٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى!

وَالَّذِي ظَهَرَ لِي بِالِاسْتِقْرَاءِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ، لَكِنَّهُ لَا يُعَبِّرُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ، إِلَّا إِذَا كَانَ الْمَتْنُ مَوْقُوفاً، أَوْ كَانَ فِيهِ رَاوٍ لَيْسَ عَلَى شَرْطِهِ، وَالَّذِي هُنَا مِنْ قَبِيلِ الْأَوَّلِ.

وَقَدْ وَصَلَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ «في مستخرجه على صحيح البخاريّ» مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الذُهليّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرْيَابِيُّ» قال عداب: هذا متّصل، سواء كان في المذاكرة، أم في مجلس التحديث، وقد استعمل البخاري صيغةَ «قال لنا» هنا، وفي التاريخ الكبير، والمسألة تحتاج إلى منشورٍ خاصّ بها،  عسى أن ييسر الله الكريم نشرَه.

([3]) من حديث عبيدالله بن عديّ بن الخيارِ عن عثمان بن عفانَ قولَه؛ أخرجه أحمد ابن حنبل في فضائل الصحابة (872) وعمر بن شبّة في تاريخ المدينة (4: 1216) وعبدالله بن أحمد في فضائل عثمان (173) والدراقطني في العلل (3: 39) والبيهقي في السنن الكبير (3: 124 و225) وابن عبدالبر في «التمهيد» (10: 291) والاستذكار له (2: 389) وانظر الجمع بين الصحيحين للحميديّ (107) وتحفة الأشراف (7: 264) وليس في الإتحاف (11: 69).

([4]) في (ك): «المونث» كذا رسمت في الهامش، وعليها علامة صح؟

([5]) قال في الفتح (2: 246): «وقد رواه معمر عن الزهريّ، بغير قيد الضرورة، أخرجه عبدالرزاق في المصنّف (2: 397) عنه، ولفظه: «قلت: فالمخنث؟ قال: لا ولا كرامة، لا يؤتمّ به».

([6]) هذا مصطلح، استعملتُه في كتبي؛ كنايةً عن أنّ الراوي غير مترجم في جميع كتب الضعفاء، وفي ميزان الاعتدال، فكأنني قلت: هذا الراوي غير مجروح باتّفاق!

([7]) التفرقة بين فتح النون وكسرها؛ لا أتذكّر أنني قرأته لغير ابن حجر، رحمه الله تعالى.

([8]) جاء في ترتيب المدارك (7: 259) ما نصّه:

أبو عبدِالملك البُوني: اسمه مَروان بن عليٍّ القَطان، أندلسي الأصل، سكن «بُونَة» من بلاد إفريقية، وكان من الفقهاء المتفنّنين، ألّف في شرح الموطأ كتاباً مشهوراً حسناً، رواه عنه الناس».

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق