الاثنين، 14 نوفمبر 2022

أفرادُ الإمامِ البخاريّ من أحاديث أبي هريرة (5):

تحوّل «آزر» والدِ نَبيّ اللهِ إبراهيمَ يومَ القيامةِ؛ إلى ضِبْعانٍ!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

بإسنادي إلى الإمام البخاريّ في كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (واتّخذ اللهُ إبراهيمَ خليلاً) (3350) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بنُ عَبْدِاللهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي([1]) أَخِي عَبْدُالْحَمِيدِ عَنِ ابنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ: لاَ تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ: فَالْيَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ!

فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: «يَا رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ، فَأَيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي الأَبْعَدِ»؟ فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى: (إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ).

ثُمَّ يُقَالُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ؟

فَيَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ بِذِيخٍ([2]) مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ، فَيُلْقَى فِي النَّارِ).

وأعاده البخاريّ في التفسير، باب (ولا تخزني يوم يبعثون)  (4769) قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ: ثَنا([3]) أَخِي عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ! إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِنِي([4]) يَوْمَ يُبْعَثُونَ! فَيَقُولُ اللهُ: (إِنِّي حَرَّمْتُ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ).

وأعاده البخاريّ في الباب نفسه (ولا تُخزني يوم يبعثون) رقم (4768) قال:

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بنُ طَهْمَانَ([5]): عَنِ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدِ بنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،  عَنِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ([6]) رَأَى([7]) أَبَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَلَيْهِ الْغَبَرَةُ وَالْقَتَرَةُ) ([8]) الْغَبَرَةُ: هِيَ الْقَتَرَةُ([9]).

مَدارُ حديثِ أبي هريرةَ في الباب على محمد بن عبدالرحمن بن المغيرةِ القرشيّ، المعروف بابن أبي ذئبٍ، رواه عنه:

إبراهيم بن طهمان الخراساني، عند البخاري (4768) والنسائيّ في الكبرى (11311)

وعبدالحميد بن عبدالله ابن أبي أويسٍ؛ عند البخاريّ (3350، 4769).

قال الفقير عداب: تقدّم في نقد الحديثِ الأوّل من أفراد البخاري (120) وهو الحديثُ الأوّل من أحاديث أبي هريرة الأفراد؛ عنده الكلام على سعيدٍ المقبري، وقلت هناك:

سعيد بن أبي سعيد - كيسان - المقبريّ؛ في حديثه علّتان:

الأولى: أنه اختلط قبل موته بأربع سنين!

والثانية: أنه اختلطت عليه أحاديثُه عن أبي هريرة، وأحاديثُه عن أبيه، عن أبي هريرة!

وجوابي على العلتين معاً؛ أنّ ابن أبي ذئبٍ من كبار أصحابِ سعيدٍ، وهو ممّن يميّز رواياتِ سعيدٍ!

روى عن سعيدٍ، عن أبيه، عن أبي هريرة، كما عند البخاري (1088، 1309، 1235، 1903، 2566).

وروى عن سعيدٍ، عن أبي هريرة، كما عند البخاري (119، 120، 176، 795، 1223).

فيكون الحكمُ على هذا الحديث؛ أنّه حديثٌ فردٌ مطلقٌ حسنٌ غريبٌ، لم يروه بهذا السياق، من طريق مقبولٍ عن أبي هريرة، سوى سعيدٍ المقبريّ، تفرّد به عنه ابن أبي ذئبٍ!

وقد رُوي معنى هذا الحديث عن أبي هريرة، من وجه أخر، أخرجه البزار في مسنده (9864) والحاكم في المستدرك (8750) من حديث حمَّاد بن سَلَمة عن أيوب السختيانيّ, عن محمد بن سيرين, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يلقى الرجل أباه يوم القيامة، فيقول: يا أبت هل أنت مطيعي اليوم؟ أو هل أنت نافعي اليوم فيقول: نعم، فيأخذ بيده، فينطلق به حتى يأتي به الله تبارك وتعالى وهو يعرض الخلق، فيقول: أي ربِّ: إنك وعدتني ألا تخزيَني فيعرض عنه تبارك وتعالى عنه، ثم يقول مثل ذلك، فيمسخ الله أباه ضِبْعاناً، فيهوي في النار، فيقول: أبوك؟ فيقول: لا أعرفك.

قال البزّار: «هَذَا الحديثُ لاَ نَعْلَمُ رَوَاهُ عَنْ أَيُّوبَ, عن مُحَمَّد بن سيرين, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, إلا حمَّادُ بن سَلَمة.

 وقال الحاكم: « «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ».

قال عداب: الحديث ليس على شرطِ مسلمٍ، ولا على شرطِ البخاريّ، إذ لم يخرّج البخاريّ ومسلمٌ بهذا الإسناد عن أبي هريرة أيَّ حديث!

إنّما أخرج البخاريّ في كتابِ العقيقة (5471) حديثاً واحداً متابعةً، من حديث حمّاد بن سلمة عن أيّوب السختيانيّ، عن محمد بن سيرين، عن سلمانَ بن عامر الضبيّ (مع كلّ غلامٍ عَقيقة).

إنما هذا الإسنادُ صالحٌ للمتابعة، وإزالة الغرابة عن الحديث.

ومن المعلوم أنّ صحّةَ الإسنادِ؛ لا تستلزم صحّةَ المتن، فقد يكون أحدُ الرواةُ وَهِم في نسبة الحديثِ كلّه، وقد يكون وهم في بعض مفرداته!

قال ابن حجر في فتح الباري (14: 112): «اسْتَشْكَلَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَصْلِهِ، وَطَعَنَ فِي صِحَّتِهِ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَهُ: هَذَا خَبَرٌ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلِمَ بأَنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ، فَكَيْفَ يَجْعَلُ إبراهيمُ مَا صَارَ لِأَبِيهِ خِزْياً، مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ»!

وَقَالَ غَيْرُهُ: «هَذَا الْحَدِيثُ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ؛ تَبَرَّأَ مِنْهُ).

وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ؛ أَنَّ أَهْلَ التَّفْسِيرِ اخْتَلَفُوا فِي الْوَقْتِ الَّذِي تَبَرَّأَ فِيهِ إِبْرَاهِيمُ مِنْ أَبِيهِ.

فَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَمَّا مَاتَ آزَرَ مُشْرِكًا، وَهَذَا أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ مِنْ طَرِيقِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سعيد بن جُبَير عَن بن عَبَّاسٍ، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

وَفِي رِوَايَةِ: (فَلَمَّا مَاتَ؛ لَمْ يَسْتَغْفِرْ لَهُ).

وقيل: إِنَّمَا تَبَرَّأَ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَمَّا يَئسُ مِنْهُ، حِينَ مُسخُ، عَلَى مَا صُرِّحَ بِهِ فِي رِوَايَة بن الْمُنْذِرِ الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا، وَهَذَا الَّذِي أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ أَيْضاً...»

وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ بِأَنَّهُ تَبَرَّأَ مِنْهُ لَمَّا مَاتَ مُشْرِكاً، فَتَرَكَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُ!

لَكِنْ لَمَّا رَآهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ أَدْرَكَتْهُ الرَّأْفَةُ وَالرِّقَّةُ، فَسَأَلَ اللهَ فِيهِ، فَلَمَّا رَآهُ مُسِخَ؛ يَئِسَ مِنْهُ حِينَئِذٍ، فتبّرأ مِنْهُ تبرؤاً أَبَدِيّاً.

وَقِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَمْ يَتَيَقَّنْ مَوْتَهُ عَلَى الْكُفْرِ، بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ آمَنَ فِي نَفْسِهِ، وَلَمْ يَطَّلِعْ إِبْرَاهِيمَ عَلَى ذَلِكَ، وَتَكُونُ تَبْرِئَتُهُ مِنْهُ حِينَئِذٍ، بَعْدَ الْحَالِ الَّتِي وَقَعَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا أَدْخَلَ اللهُ أَبَاهُ النَّارَ، فَقَدْ أَخْزَاهُ لِقَوْلِهِ: (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ؛ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وَخِزْيُ الْوَالِدِ؛ خِزْيُ الْوَلَدِ، فَيَلْزَمُ الْخُلْفُ فِي الْوَعْدِ، وَهُوَ محَال!

 وَلَو لم يَدْخُل النَّارَ؛ لَزِمَ الْخُلْفُ فِي الْوَعِيدِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (إِنَّ اللهَ حَرَّمَ الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ) وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ إِذَا مُسِخَ فِي صُورَةِ ضَبُعٍ، وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ؛ لَمْ تَبْقَ الصُّورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخِزْيِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ!

وَجَوَابٌ آخَرُ: هُوَ أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَفَاءً بِمَا وَعَدَهُ.

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِِ؛ تَبَرَّأَ مِنْهُ.

قال ابن حجر: وَمَا قَدَّمْتُهُ يُؤَدِّي الْمَعْنَى الْمُرَادَ، مَعَ السَّلَامَةِ مِمَّا فِي اللَّفْظِ مِنَ الشناعة، وَالله أعلم».

قال عداب: كلّ هذه الاحتمالات، التي أوردها ابن حجر، وسبقه إلى بعضها غيره؛ لا تحلّ الإشكالاتِ التي في متن الحديث!

قال الله تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ، كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا، حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ، إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ (4) [الممتحنة].

هذه الآيةُ صريحةٌ في أنّ إبراهيم يَعلَمُ بأنّ قَبولَ استغفاره، وإجابة دعائه مشروطةٌ بالإيمان (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) [النساء].

فإذا مات أبو إبراهيم على الشرك؛ فلا يلومنّ إلّا نفسه، ولا يلحقُ إبراهيمَ عليه السلام خزيٌ ولا مَعرّة.

ولو كان ما زعموه صحيحاً؛ لَلَحِق الخزيُ سائرَ الصحابةِ الذي أدرك آباؤهم الإسلام، ثم ماتوا على الشرك!

فلمّا مات «آزر» على الشرك؛ تبرّأ إبراهيم منه مباشرةً، وصار لديه علمٌ بمصير والده؛ لأنه نبيّ يوحى إليه، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا؛ أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى، مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ، إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للهِ؛ تَبَرَّأَ مِنْهُ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

 فكيف تبيّن له، إلّا بمعرفته بطبيعة والده المصرّةِ على الشرك، أو بإعلام الله تعالى إيّاه أنّ أباه مات مشركاً؟

وشأنُ إبراهيم في هذا؛ شأنُ نوحٍ عليهما السلام، فإبراهيم حزن لأجلِ والده، فاستغفر له ودعا، ونوحٌ حزن على ولده الغريق، فاستغفر له ودعا، فجاءه التهديد الإلهيّ الحاسم: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي، وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ، وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَانُوحُ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ، إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ، فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي، وَتَرْحَمْنِي؛ أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) [هود].

والأصل في مسألة الشفاعة النَسَبيّة؛ قول الله تعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ؛ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ، فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) [المؤمنون].

ولا أريد أن أسوقَ الأحاديث الواردةَ في هذه المسألة؛ لأنني أنازع في صحّتها، فانظر منها البخاريّ في الوصايا (2753) والتفسير (4771) ومسلماً في الإيمان (206).

هل كان إبراهيم يعلم بهذه الحقيقة المبدئيّة العقديّة، أو كان لا يعلم؟

بلى كان يعلم، وهو إمام المتبرّئين من الصلة النسبيّة، إذا لم يصاحبها الإيمان، كما تقدّم قريباً!

قال الله تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ (22) [المجادلة].

واللهُ تَعالى أعلَمُ. 

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.



([1]) في (ب): «حَدَّثَني».

([2]) الذيخ: الذكر من الضباع.

([3]) في بعض النسخ: حدثني.

([4]) في بعض النسخ: تُخزِيَني.

([5]) وصله النسائيّ في الكبرى (10: (11311) قال: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَفْصِ بْنِ عَبْدِ اللهِ: حَدَّثَنِي أَبِي: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، به، بأتمّ منه وأجمل سياقةً، بينما اختصره البخاريّ جدّاً.

وساقه بتمامه ابن حجر في تغليق التعليق (4: (4768) من طريق حمزة بن محمد الكنانيّ الحافظ عن الإمام النسائيّ، به مثلَه.

ولست أدري سببَ تعليقِ البخاريّ هذا الحديث على إبراهيم، وقد روى عنه موصولاً بإسناد النسائيّ ذاته في صحيحه حديثين (1593، 5130).

وفي تغليق التعليق، ومقدمة فتح الباري، وفي الفتح (14: 109) كان اهتمام ابن حجر بوصلِ المعلّق، ولم يكن اهتمامُه بفلسفة التعليق!

وقد روى البخاريّ في صحيحه من طريق إبراهيم بن طهمان (23) روايةً، أكثرُها معلّق، والموصول منها ثمانية أحاديث (1071، 1117، 1485، 1593، 2576، 4371، 5130، 5293) ليس فيها من حديث إبراهيم بن طهمان عن ابن أبي ذئبٍ، سوى هذا الحديث المعلّق.

([6]) في (ب): « عَلَيْهِ السَّلاَمُ » بدون كلمة صَلاة.

([7]) في بعض النسخ: يرى.

([8]) من حديث محمد بن عبدالرحمن بن أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المقبريّ، به مرفوعاً؛ أخرجه النسائيّ في الكبرى (10: (11311) والحاكم في كتاب التفسير، باب قراءات النبي e (2936) وقال: «صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» وقد وهم في استدراكه على البخاريّ، والبيهقيُّ في البعث والنشور (93) والبغويّ في شرح السنة (15: (4310) ومحمد بن طولون في تفسير قوله تعالى (إنّ إبراهيمَ كان أمّةً) (ص: 53) جميعهم من طريق البخاريّ، وانظر الجمع بين الصحيحين للحميدي (3: (2524) والتحفة [9: 13024] والإتحاف [14: 18479].

وأخرجه البزار في مسنده (17: (9864) والحاكم في المستدرك (4: 8750) من حديث حمَّاد بن سَلَمة عن أيوب السختيانيّ, عن محمد بن سيرين, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, عَنِ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بنحوه.

([9]) قال ابن حجر في الفتح (14: 110) ما معناه: أخذ البخاريَ تفسير القتَرَةِ بالغبرة؛ من كلام أبي عبيدة معمر بن المثنّى، إذ قال في كتابه مجاز القرآن (1: 277) في تفسير سورة يونس (وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ): «القَتَرُ: جمعُ قَتَرَة، وفى القرآن الكريم: (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ): وهو الغُبار».

قال ابن حجر: «وقال غير هؤلاء: القَتَرةُ: ما يغشى الوجهَ من الكرب، والغَبَرة: ما يعلوه من الغبار، وأحدهما حسيّ (الغُبار) والآخر معنويّ (القتَر)». 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق