الأربعاء، 16 نوفمبر 2022

  التَصَوُّفُ العَليمُ (22):

رجالُ التصريفِ عند الصوفيّة!؟

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب إليّ أحد الإخوة الأصدقاء ما نصّه: «يدور كلامٌ عند بعضِ المريدين، حولَ التصريفِ من أسيادنا الصالحين والأولياء، وأنّ الله أعطاهم التصريف بأمور.

ونسمع كذلك بدولة الصالحين وأهل الله، وأنّه أكو «يوجد» اجتماع.

إذا سمح وقتُكم؛ أوضحوا لنا هذا الموضوع بمقالٍ، او حسب ما ترونه مناسباً...».

أقول وبالله التوفيق:

في كلام الأخ الفاضل مسألتان:

الأولى: مسألة التصرّف.

والثانية: دولة أهل الله تعالى، واجتماعهم السنويّ، أو الفصليّ؛ لتدارس أحوال البلاد لا أدري!

أنا الفقير إلى الله تعالى؛ لا أتجاوز حدودي، ولا أتكلّم بقالَ وقيلَ في أمور التصوّف!

التصوّف: تجربة سلوكيّةٌ وروحيّة خاصّة، تظهر آثارُها المباركةُ على أفرادٍ من الصوفيّة، ولا تظهر بالضرورةِ على أيدي جميعِ المنتسبين إلى التصوّف!

أعرف أناساً أكبرَ مني سنّاً، سلكوا طريقَ الصوفيّة قبلي بسنين، والتزموا بأورادهم أكثر مني أيضاً، وماتوا، وفي قلوبهم حسرةٌ أنّهم لم يروا الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، فضلاً عن رؤيته في اليقظة!

فالكلام في المسألةِ الثانيةِ؛ لا أعرف عنه شيئاً، سوى كلامِ بعضِ الناس، من قبيل: قال، وقيلَ، وزعموا.

لا أعرف؛ لأنّ حدودي في دائرة التصوّف معلومةٌ لديّ، فربما كان هناك دولة لأهل الله تعالى، يَلتقي فيها الأولياء والصالحون، لكنني لست منهم جزماً!

وكوني لستُ منهم؛ لا يسوّغ لي أن أكذّبَ ما يقال؛ لأنّ الإسلام مراتبُ، ولأنّ الإيمان مراتب، وكذلك الإحسانُ مراتب ومقامات، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه!

أمّا عن المسألة الأولى: وهي مسألةُ التصرّفِ أو التصريف؛ فهي مسألةٌ مختلطةٌ على كثيرٍ من الصوفيّة أنفسِهم، فضلاً عن غيرهم!

إنّ الشيعةَ بفرقهم الثلاثِ، والصوفيّة من أهل السنّة؛ يشتركون في انتسابهم إلى الإمام عليّ عليه السلام، ويرون ولايته فرضاً في أعناقهم، ويرونه سيد الأولياء.

وكثيرٌ من الصوفيّة تنتهي سلاسل أسانيد طرقهم إلى الشيخ معروف الكرخيّ، عن الإمامِ عليّ الرضا، عن أبيه الإمام موسى الكاظم، عن أبيه الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام عليّ زين العابدين السجّاد، عن الإمام الحسين، عن الإمام عليّ بن أبي طالبٍ، عليهم  جميعاً سلامُ الله تعالى ورحمته وبركاته.

ومن المعلوم لدى طلبةِ العلم؛ أنّ الإماميّةَ من الشيعةِ، يُضفون على الأئمة الإثني عشر صفاتٍ خارقةً، ويمنحونهم العصمة والوحيَ والولاية التكوينيّة!

والولايةُ التكوينيّةُ؛ هي التصرّف بهذا الكونِ، أو بشيءٍ منه، بأمرٍ من الله تعالى، وَفقَ الحكمة الإلهيّة، التي يعرفونها عن طريق نوعٍ ما من أنواع الوحي!

وفي هذا الجانبِ؛ تأثّر الصوفيّةُ بالإماميّةِ تأثّراً كبيراً، ولذلك ترى أكثرَ أتباع الطرق الصوفيّة يقولون: شيخنا محفوظ، ويعتقدون أنّ كلامَ شيخهم حقٌّ مطلقٌ، لا يعتريه سهو ولا غفلة ولا نسيان ولا هوى!

فعندما يقول الشيخ مثلاً: أُمرتُ أن أجعل فلاناً خليفةً، وأن أرسله إلى الصين؛ لينشر الطريقةَ هناك، وسأكون أنا وأهلُ الله تعالى معه، في دعوته إلى الطريق؛ لا يخطر في بالِ مريدٍ من المريدين أنّ هذا الأمرَ ليسَ من الله تعالى، ولا من رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وليس سوى رغبة باطنية داخليّة، يريد الشيخ تحقيقَها، لكنهم لسذاجتهم يرون ذلك أمراً إلهيّاً، لا يعتريه أدنى شكٍّ!

وأنا الفقير لي تصوّفي الخاصّ، ولي أحوالي الخاصّة، ومن جملة تصوّفي أنني لا أعتقد بعصمةِ الشيوخِ، ولا بحفظهم، ولا بعلمهم اللدنيّ، ولا ببعد كلامهم عن الهوى والرغبات البشرية!

ومع هذا؛ فقد أكرمني الله تعالى بأمورٍ كثيرةٍ، ربما لم يحصل على بعضها كثيرون من شيوخِ وأولياءِ وأقطابِ الصوفيّة، كما يلقّبونهم!

مسألةُ التصريفِ التي عايشتُها واقعيّاً، وليس نقلاً عن أحدٍ؛ تتلخّص بهذه الكلمات:

- ثقةٌ  عاليةٌ بالله تعالى.

- ثقة عاليةٌ بإيمان الواثق وصفاء عقيدته.

- استجابةُ الله تعالى لدعاءٍ ظاهرٍ أو باطن!

وسأمّثل ببعض الأمثلة التي وقعت منّي أو عليّ، بَعيداً عن تجارب الآخرين!

أوّلاً: ختمت حفظ القرآن العظيم في جامع الإمام الحسين بالقاهرة، عالم (1976م) في مدّة زمنيّة قياسيّة، ولكي أحافظ على حفظي للقرآن الكريم؛ كان عليّ أن أقرأ خمسةَ أجزاء من القرآن الكريم يوميّاً.

استمرّتْ هذه الحال برهةً من الزمان؛ لم أكن فيها إطلاقاً عداب الحمش الذي يحدّثكم اليوم!

لم أكنْ أدعو الله تعالى إلّا في الصلاة امتثالاً، وصرت أستحيي من الدعاء لسرعةِ الإجابة، بل لحصول الإجابة بمجرّد أن يختلج الأمرُ في صدري!

- إذا أردتُ أن يحضر إليّ أحد تلامذتي أو زملائيّ، بمجرّد التوجه القلبي يحضر، ومن دون تخلّف مطلقاً!

- إذا حضر إليّ ضيوفٌ وأنا في جامع الأزهر، أو جامع الحسين، أو في جامعة أمّ القرى؛ لا أحتاج إلى اتّصالٍ هاتفيّ لأقولَ لأهلي: حضّري طعاماً لخمسة ضيوف!

أتوجّه قلبياً إليها، فتتلقى الخبر، وتجهّز الطعام المطلوب، وهذا يعرفه كثيرون من زملائي في الجامعة، وبعضهم كان يسألني، فلا أردّ عليه أيَّ جوابٍ!

- في حادثة جهيمان، تعرضت للتوقيفِ عدّةَ مرّاتٍ، فكنت متى عُرضت على الضابط يرحّب بي، ويعتذر، ويودعني إلى الباب.

- في العراق حدثت من هذا النوع حوادث لا تكاد تحصى، أقتصر على حادثة واحدة منها.

دعونا الناسَ إلى قيامِ ليلةِ السابع والعشرين من رمضان، وأخبرناهم بأننا سنتسحّر جميعاً في المسجد الذي كنت إماماً وخطيباً فيه.

تشاورتُ مع اللجنة الاجتماعيّة في المسجد، فكان توقّع جميعنا أنّ الذين سيقيمون ليلة القدر لن يتجاوزوا مائة مصلٍّ!

أعطيتهم من مالي الذي استخلفني الله تعالى فيه وحدي؛ ما يكفي لتجهيز السحور، جهزوا القدور والرز واللحم وتوابعهما على هذا الأساس!

عندما حان وقتُ السحور؛ امتلأ المسجدُ أكثرَ من صلاة الجمعة، وتخوّف الإخوةُ من عدمِ كفاية الطعام للحاضرين، وتخوّفت أنا أكثرَ منهم، خصوصاً أنْ ليس بإمكاننا فعلُ شيءٍ قُبيلَ أذان الفجر!

توجهتُ إلى الله تعالى، ثمّ صنعتُ ما صنع الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم بتغطية قدور الطعام، وقلت للمشرف على الطعام: لا تكشفوا القدر نهائيّاً، وكلما غرفتم غرفة؛ سمّوا الله تعالى، وصلّوا على الرسول، وأكثروا من الطعام واللحم، ولا تخافوا.

تسحّر جميع الحاضرين، وبقيت القدور ملأى، فوزّعوها في اليوم التالي على كثيرٍ من عائلات الحيّ المجاور، وبيّض الله وجوهنا وأكرمنا.

- عندما أقمت في عمّان من عام (2002 - 2014م) لم أستطع استخراج رخصةَ قيادة سيّارة؛ لأنّ السلطات هناك تشترط أن أكون حاصلاً على إقامة، وإذ أنا من دون تصريح عمل؛ فليس بالإمكان استخراج إقامة!

شكوتُ إلى أحدِ دراويش الصوفيّة هذا الوضعَ، ساخطاً على تلك الأنظمة البالية!

فقال لي حفظه المولى: أنت لا تحتاج إلى رخصة قيادة، ما دمت في هذا البلد؛ فلن يُوقفك أحدٌ، وعلى مسؤوليتي!

طيلةَ اثني عشر عاماً أقود السيارة؛ لا والله لم يوقفني شرطيّ مرورٍ، سوى مرّة واحدةٍ!

وحين اقتربَ من السيارةِ؛ سلّمَ عليّ وصافحني، وقال لي: ادع لي يا شيخنا!

- قرب منزلنا في تركيا بحيرةٌ جميلةٌ، كنّا نتنزّه على ضفافها أحياناً!

خرجت إليها مع أحد الإخوة - والدنيا صحو تامٌّ - فوجدناها شبه جافّة، فحزنت كثيراً، وقلت لصديقي، وسيقرأ كلامي مثلما ستقرؤونه أنتم، ما معناه:

يا أخي علينا أن نستسقي لأهل تركيا، فيهم خير كبير، ومساجدهم ملأى من المصلّين!

قال: متى نجمع عدداً من الشباب ونخرج للاستسقاء؟

قلت له: اركب السيارة!

ركب السيارةَ، وركبت بجانبه، فبدأت السماء تمطر، وظلّت كذلك حتى صباح اليوم التالي، وأظنّ إلى ظهر اليوم التالي!

- كانت السماء صافيةً صاحيةً، فخرجت مع عددٍ من تلامذتي إلى قرب تلك البحيرة، وكنّا قرّرنا أن نتغدى ثمّة، ومعنا اللحم والفحم وتوابعهما!

عندما وصلنا إلى حيث نريد الجلوس؛ بدأتِ السماء تمطر، فتأثّرت ممّا جرى، والتفتّ إلى السحاب، وأشرت إليه بيدي، وقلت: رُحْ ولا ترجع إلى ما بعد صلاة المغرب!

صلّينا المغرب، وبدأت الدنيا تمطر، فقال الشباب وهم يضحكون: انتهت المهلة، هيّا بنا قبل أن نغرق بالمطر، أو كلاماً كهذا.

هذه الأمور التي يشهد الله تعالى على وقوعها ووقع أمثالها؛ هي التي يسمّيها الصوفيّةُ (التصريف) وليست هي من التصريفِ، ولا من التصرّف، ولا من الولاية التكوينية بشيءٍ البتّة!

إنّما هي إجابةُ دعاءٍ ظاهرٍ أو باطنٍ، يكرم الله تعالى به من يشاء من عباده، وقتَ ما يشاء الله تعالى، وليس وقتَ ما يشاء العبد!

وأنا شخصيّاً لا أعتقدُ بأكثر ممّا قلت، ولا أعتقد أبداً بأنّ الوليّ الصالح يتصرّف بعد وفاته، وأيّ شيءٍ يحدث من قبيل ما سبق؛ فهو محضُ إكرامٍ من الله تعالى لبعض عباده الأحياء والأموات، وليس لعبدٍ من عباد الله تعالى تصرّفٌ بذاتِه، فضلاً عن أن يتصرّف بهذا الكون النَظيمِ، الذي لا يتصرّف به إلّا الواحدُ الأحد، بقوله العظيم (كن)!

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق