الخميس، 13 أكتوبر 2022

      تقويمُ الكتب الإسلامية (5):

العوامل النفسيّة المؤثّرة على الناقد!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

من الكتبِ التي اقتنيتها من معرض الكتاب العربيّ في استانبول، قبلَ أيّامٍ معدوداتٍ؛ كتابُ «العوامل النفسيّة المؤثّرة في حكم الناقد على الراوي» للدكتور مسعود محروس كونيّ، صدر عن مؤسّسة نماء للبحوث والدراسات، عام (2022م).

جاء الكتابُ في (216) صفحة، أوضح فيها الباحثُ أبرزَ العوامل النفسيّة التي تطرأ على الناقدِ في علوم الجرح والتعديل، في تقويمه لهذا الراوي أو ذاك!

وذكر من بين العوامل النفسيّة؛ كلامَ الأقرانِ بعضهم ببعض، والغضب، والتحامل، والمحاباة، والمبالغة، والاختلاف في التوجّه الفكريّ، والاجتهاد الفقهيّ.

ومن ذلك مسألة قول الراوي بخلق القرآن، ومسألة مخالطة الراوي للسلطان بنصح أو عمل، ومسألة أخذ الراوي الأجرة على التحديثِ، ومسألة تناول الراوي النبيذَ على مذهب الكوفيّين.

وقد جمع الباحثُ معلوماتٍ مفيدةً كثيرةً، في مباحثِ كتابه، لكلّ عاملٍ من هذه العوامل النفسيّة.

بيد أنّه كان مسوّغاً لكلّ ما صدر عن النقّاد من تنطّع وتشدّدٍ وضيق صدر، بدعوى أنهم بشرٌ من البشر!

ذكرَ الباحثُ دوافعَ وأسبابَ كلام الأقرانِ، بعضهم في بعض (ص: 46) وحصرها في ثلاثة دوافع: الحسد، والمنافسة، والعداوة والمنافرة، ثم قال:

«ويقف القارئ لهذه المواقف متعجّباً ومتسائلاً: أليس من الأولى أن يكون المطفئ لنيران هذه الأدواء؛ هم أهل العلم؟

فلماذا يقع بينهم ما يقع بين الناس، وهم أهل الاقتداء، والأمر بالمعروفِ، والنهي عن المنكر؟

لا تعدو الإجابةُ على هذا التساؤل كونهم بشراً غيرَ معصومين».

أقول: ممّا ينبغي ملاحظتُه هنا؛ أنّ أحدَ الطرفين هو الحاسد، وهو الذي يثير حفيظَةَ المحسود، ويدفعه إلى الكلام فيه دفعاً.

فالحاسدٌ إنسانٌ ناقصٌ، قليلُ التزكية، قليلُ التربية الإيمانيّة، ولا يجوز بحالٍ من الأحوالِ أن يُعتذر عنه، بمثل ما اعتذر كاتب هذا الكتاب، بقوله (ص: 46): «الحسد قلّما ينفكّ عنه أحدٌ من الناس، إلّا من عصم الله، وهو مرض من الأمراض، يقع فيه العلماء وغيرهم».

هذا كلام غير دقيق، فالمؤمن الصالح؛ لا يحسد أحداً على شيءٍ، بعدما يقرأ قول الله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) وقوله الكريم (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)؟

ما دام الحسدُ شرّاً، يُستعاذ منه، وما دام الله تعالى هو الذي فاضل بين عباده في الرزق والعلم والمنزلة، فعلام تحسد الناسَ؟

أليس الحسدُ في باطنه اعتراضاً على الله تعالى في أقداره وأفعاله؟

قصة صغيرة بالمناسبة:

كنت أعملُ في الكويت «دهّاناً» وكان كفيلي المحسن الفاضل عبدالله المطوّع القناعي «أبو بدر» وقد حدّثني هو أنّه أحد أغنياء الكويت العشرة.

استمع إلى محاضرة لي، فأعجب بها، فطلب مني أن أزوره في مكتبه في اليوم التالي!

تركت عملي، وزرته، فأثنى عليّ كثيراً، ثم اعتذر مني بعدم انتباهه لما لديّ من علم، وأخرج من مكتبه ظرفاً مختوماً، لم أر ما في داخله، وقال: هذه خمسة آلاف دينار كويتيّ، استعن بها على عملك، وأشرفْ على العمّال، والتفت إلى علمك!

وإذا احتجتَ إلى خمسة آلاف دينار أخرى؛ فأنا حاضر!

قلت له: أنا لا أحسن الإدارة يا أبا بدر، أنا طالب علمٍ، أعمل بهذه المهنة لأعيش من ورائها، ريثما يهيّئ الله لي عملاً مناسباً، أستقرّ فيه.

ربما أخذت نقودك هذه، فخسرتها غداً، أو بعد غدٍ، فمن أين آتيك بخمسة آلاف، أو عشرة آلاف دينار، لا لا يا أبا بدر، أنا هكذا بخير وعافية، ودخلي في كلّ شهر ممتاز، لا يسرّني أن أكون مديناً لأحدٍ بدينارٍ واحد!

قال: لا يا أبا محمود لا، هذه هدية لك، أنت رجل عالم، وحقّك علينا كبير كبير، وهذا بعض حقّك علينا والله!

قلت له: لا والله لا أمسكها بيدي، ولا أقبل منها ديناراً، لكن ما دمت تراني طالب علم؛ فساعدني بالقبولِ في إحدى جامعات السعودية؛ لأكمل دراستيّ، بارك الله تعالى لك في أهلك ومالك.

واستدعاني مرة أخرى في رمضان، فأنفق في ليلةٍ واحدة قرابةَ نصف مليون دينارٍ كويتيّ!

تأثرت كثيراً، حتى بكيت، ولم أتمالك نفسي، إعجاباً بفضله وكرمه!

عندما انتبه إليّ؛ قال: لا تغترّ يا أبا محمود، والله ما هو بكرمٍ، إنما هو الزكاة وثلث الوالد!

لم أحسد أبا بدر، ولم أتطلّع إلى ماله، ولم أقل لو أنه أعطاني كما يعطي الجمعيّات الخيريّة!

بل هو عرض عليّ عشرة آلاف دينار، فرفضت جازماً، وعن طيب خاطر!

عودٌ على بدء:

في إحدى مسائل الاختلاف الفكريّ، وهي مسألة خلق القرآن؛ عرض الباحث للمسألة منذ ابتداء نشأتها (ص: 99) وجعلَ محورَ الحقّ في مسألة خلق القرآن؛ رأيَ أحمد ابن حنبل الخطأ أصلاً، بل لم يكن أحمد يعرف ما يريد!

إذا قلتَ: القرآن مخلوقٌ؛ فأنت كافر!

وإن قلت: القرآن غير مخلوق؛ فأنت مبتدع!

وإن قلت: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فأنت جهميّ.

وإن قلت: القرآن كلام الله تعالى، ولم تقل شيئاً؛ فأنت واقفيّ، والواقفيّ شرٌّ من الجهميّ!

هل هذا موقفُ رجلٍ عالم، يعرف ما يريد؟

والكلام الذي يقولونه في تفسير موقف أحمدَ؛ ليس إلّا من أجل التسويغ السخيف، وعدم تجرّئهم على القول بأنّ أحمد لا يعرف هذه المسألةَ، ولا يعرف كيف يجيب بها!

ومن جهلِ الأمّة وتعصّبها؛ تفخيمُ وتعظيم أحمد ابن حنبلٍ لأنه خالفَ السلطان الهاشميّ [انتبه!] وإسقاط مثل الحسين الكرابيسيّ الإمام العلم الجبل!

قال الحافظ الذهبيّ: «ولا ريب في أنّ ما ابتدعه الكرابيسيّ، وحرّره في مسألة التلفظ، وأنه مخلوق؛ هو حق، لكن أباه أحمد لئلّا يتذرّع إلى القول بخلق القرآن، فسدّ الباب؛ لأنك لا تقدر أن تُفرز التلفظ من الملفوظ، الذي هو كلام الله، إلّا في ذهنك».

انتبه أخي القارئ إلى قول الذهبيّ: «ابتدعه الكرابيسيّ» ثم إلى قوله بعد كلمات «هو حقّ» تقديس أحمد هي المشكلة في عقولهم!

أمّا اعتذاره عن أحمد؛ فهو بارد متكلَّف، لو كان أحمد يعرف هذا المعنى لقالَه أصلاً، ما الذي يمنعه من قوله؟

عندما قال الكرابيسيّ «تلفّظك بالقرآن؛ غير الملفوظ» بلغ قولُه أحمدَ، فقال: «هذه بدعة»!

فلمّا علم الكرابيسيّ بقول أحمد قال: «أيّ شيءٍ نعمل بهذا الصبيّ؟

إن قلنا: مخلوق؛ قال: بدعة!

وإن قلنا: غير مخلوق؛ قال: بدعة»!

وقد تنطّع الإمام أحمد في هذه المسألة إلى درجةٍ مزعجة!

نقل عنه ابن شاذان الهمذاني أنه قال: «من قال: لفظه بالقرآن مخلوق؛ فهو جهميٌّ مخلّد في النار، خالدًا فيها، ثم قال: وهذا شرك باللهِ العظيم» طبقات الحنابلة (1: 109).

وقال أبو بكر السراج: سألتُ أحمد عن رجل يقول: القرآن مخلوق؟ فقال: كافر.

وسألته عمّن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق؟ قال: جهمي» طبقات الحنابلة (1: 270).

وقال ابن هانئ في مسائله (1865): وسمعت أحمد يقول: أخزى اللهُ الكرابيسي، لا يجالسُ، ولا يكلّم، ولا تُكتب كتبه، ولا يجالسُ من جالسه» وذكره بكلام كثير.

وقيل له ما لا أحصي: مَن قال: القرآن مخلوق؛ فهو عندك كافر؟

قال: نعم، هو عندي كافر».

وفي كتاب الإبانة لابن بطة (1: 338): قال المرّوذيُّ:

قلت لأبي عبدالله: إن الكرابيسي يقول: من لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ فهو كافر؟

قال: بل هو كافر، مات بِشر المريسيُّ، وخلَفَه حسين الكرابيسي».

بمجرّد أن نقل له المرّوذيُّ قولاً عن الكرابيسيّ؛ رماه بالكفر!

ولو كان أهل الحديثِ في تلك الأيّام، يعقلون شيئاً من العلوم العقليّة؛ لقدّموا حسيناً الكرابيسيّ، ولم يلتفتوا إلى قول أحمد الذي كان يتخبّط غايةَ التخبّط، في هذه المسألة، التي لا تستحقّ الجدالَ أصلاً!

الإمامان علي ابن المدينيّ ويحيى بن معين؛ قالا بخلق القرآن، خوفاً من تعذيب ابن أبي دؤاد الظالم، ثم اعتذرا من أحمد؛ فلم يقبل عذرهما، وأمر بترك الرواية عنهما!

وقد ظلّ إلى آخر عمره مستمسكاً بهذا الموقف الباطل من أساسه!   

وقد أطال الباحث في مسألة خلق القرآن، ثم عقد مبحثاً عن تصوّر الإمام أحمد للخلاف في مسألة خلق القرآن، ليس تحته سوى الاعتذار البارد!

الكتاب بوجهٍ عامٍّ مفيد، لكنّ الباحثَ من أتباع المنهج السلفيّ، فيما ظهر لي، وأتباع المنهج السلفيّ يعظمون أهل الحديثِ، مع أنّ أكثرهم عامّة، يحسنون «حدّثنا، وأخبرنا» ولا يحسنون شيئاً وراء ذلك!

فكرة الكتابِ جيّدة جديدةُ الطرح، كما قال مقدّم الكتاب، الدكتور عبدالرزاق أبو البصل، لكنّ معالجة الموضوع تسويغية وتفسيرية، ولم تخرج بنتائج حُكميّة على أفعال أولئك الظالمين من النقّاد!

والبحثُ الذي نحتاجه أكثرَ من هذا البحث؛ هو «الدوافعُ النفسيّة وراء تحديثِ الرواة بأحاديثهم».

مثال ذلك:

حديث أنس بن مالك: (لا يحب الأنصار إلّا مؤمن، ولا يبغضهم إلّا منافق)!

وحديثه (توفي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم، ولم يحفظ القرآن إلّا أربعة، كلهم من الأنصار).

وحديثه بزيارة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم لأمّ أنس وخالته، ونومه عندهما، وكانت خالته تفلي رأسه!

ما دوافعه وراء هذا كلّه؟

وهل تُقبل أحاديثُه هذه وأمثالها، بعد أن ظهر فيها تعصّبه الشديد لقومه الأنصار؟

وأحاديث أم المؤمنين عائشة، التي فيها أنّه كان يحبّها أشدّ الحبّ، وأنّ الناس كانوا يتحيّنون دورها حتى يتحفوا الرسول بهداياهم.

وكيف نوفّق بين أحاديثها التي من هذا الطراز، وبين نزولِ القرآن العظيم محذّراً لها ومهدّداً وموعداً؟

وموقف ابن الزبير من مسألة المتعة، وتهديده ابن عباس بأنه سيرجمه لو فعلها، هل هذا الموقف الذي لم يقل به أحد غيره؛ أثرٌ من آثار ولادته من نكاح متعة؟

وهل تركه الصلاة على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في خطب الجمعة، حتى لا يرفع بنو هاشم رؤوسهم ويفخروا عليه؛ يؤثّر على عدالته؟

الدوافع النفسيّة التي تصاحبُ رواياتِ بعضِ الصحابةِ والتابعين والرواة؛ تحتاج إلى درسٍ عميقٍ، بعيداً عن التسويغ والاعتذار، فنحن نريد الوقوف على الحقيقة؛ لنلتزمها وندين الله بها، ومعاذ الله أن يكون هدفنا ردّ السنّة، أو الطعن في الصحابة، أو التشكيك بعدالتهم، كما يتفلسف الغوغاء الرعاع!

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق