الاثنين، 24 أكتوبر 2022

        بَعيداً عن السياسةِ (32):

ذكرياتي مع الإخوانِ المسلمينَ في سوريّا (3)؟!

بسم اللهِ الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

لم يكن الإخوانُ المسلمون في سوريّا عامّةً، وفي مدينتنا «حماة» يكوّنون في الستينات ظاهرةً قويّةً متميّزة، بل كان عددهم يسيراً جدّاً، ربما لا يزيد على بضع مئات، وكان طلبةُ المدارس هم الشريحةَ الأوسع والأبرز.

ولأنّ الإشتراكيين والناصريّين والإقطاع؛ لم يكن يستفزّهم وقاحةُ وصلفُ البَعثيين، وشتمهم للربّ والدين، فكان الإخوانُ المسلمون الأقليّةُ هم الذين تصدّوا للبَعثيين، ووقفوا في وجه إطلاقهم العباراتِ الكفريّة:

حطّ المشمش على التفاح

دين محمّد ولّى وراح.

يلعن يومك يا حطّين

والخائن صلاح الدين.

آمنت بالبعث ربّا لا شريك له

وبالعروبة ديناً ما له ثان.

وكلّ الذي كان يمكننا أن نفعله نحن الطلبةَ؛ هو رشق مسيراتهم الضالة هذه بالحجارة، ثم نهرب!

لكنّهم من شدّة طغيانهم وحماقتهم بآن واحدٍ؛ كانوا يرشقوننا بالرصاص الحيّ!

في بدايات عام (1964) وفي شهر شباط تقريباً؛ رجع المهندس السيّد مروان خالد حديد الرفاعيّ، من مصرَ، يحمل شهادة البكالوريوس في الهندسة الزراعية.

ومن دون مشاورة الإخوان المسلمين، ولا موافقتهم؛ قادَ مسيرةً طلّابية كبيرةً، تندّد بتمادي الحرس القومي، ومجموعات قطعان البعثيين الملاحدة على حرمات الدين.

ومن دون مشورةِ أحدٍ؛ جعل من مئذنة جامع السلطان «محطّةً إذاعيّة» له، يذيع منها البيانات الإرشاديّة إلى الشعب، ومنها يذيع البيانات التحذيريّة للبعثيين والحرس القوميّ ورجالات الحكومة.

كان محافظ حماة في تلك الأيّام؛ الرجل الملحد عبدالحليم خدّام، وهو من مدينة بانياس الساحل.

كان شابّاً صلفاً مغروراً، وملحداً في آن واحد، فوقف في وجه الشيخ مروان وشباب الإخوان بكلّ غطرسةٍ ووقاحةٍ، واستدعى الجيش، وحاصر جامع السلطان، الذي هدمته الدبابات، وفيه أكثر من ستين طفلاً بين الثانية عشرةَ والسادسة عشرة، وفيه عددٌ من الشباب مع الشيخ مروان حديد، الذي لم يكن يحمل سوى سيفٍ قصير في يده!

دارت معركةٌ قصيرةٌ، لكنها شرسة، بين عددٍ من الشباب المسلحين، الذين لا يتجاوز عددُهم سبعةَ شباب، وبين دبّابات وجنود جيش السلطة، انتهت باستشهادِ عددٍ من الشباب المقاتلين، واعتقال البقيّة.

لم يكن شيخنا محمد الحامد وسائر مشايخ حماة موافقين على الصدام مع الدولة؛ لأنّ الدولة مجرمة ظالمة، ولديها جيش كبير، وليس لدينا مسلّحون ولا مدرّبون، ولا أسلحة!

وكنت مُلازماً في تلك الأثناء للشيخ مروان في جامع السلطان، لا أكاد أفارقه!

لم أكنْ ألحظ أنه يريد صراعاً مع السلطة، وليس بين يديه أيّ مؤشّراتٍ تدلّ على ذلك، إنما كان يقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، من وجهة نظره!

وقد جرت اشتباكاتٌ بين بعض قطعاتِ الجيش وبين الأهالي، في عددٍ من احياء مدينة «حماة» ذهب ضحيّتها عشراتُ القتلى من الطرفين.

عَقِبَ انتهاء معركة حماة، وخروج الشهيد مروان ورفاقه من السجن، بجهودِ الشيخ محمد الحامد ومشايخ المدينة؛ التقينا شيخنا مروان، وغدونا نحضر دروسَه ودروسَ الشيخ محمد الحامد ودروس شيخنا غسان.

كان الشيخ محمد الحامد، والشيخ غسان ينهيان عن حضور مجالس الشيخ مروان، بدعوى أنّه متحمّسٌ زيادةً على اللزوم، وأنه قد يعرّض المدينة للدمار.

كان الشيخ غسان يقول: الشيخ مروان شيخنا وحبيبنا، لكن شيخي الحامد نهاني عن حضورِ دروسه أو مجالسته، وأخذ عليّ بذلك عهداً، وأنا ألتزم بقول شيخي، وعهدي له.

نحن الشباب لم نكن نعي حقيقةَ الموقف ولا أبعادَه أبداً، بل كان يستهوينا الرجل الشجاع الكريم المهذّب.

كان للشهيد مروان هيئةٌ وهيبةٌ «كارزما» جاذبة جدّاً، وكان في غاية الأدب والتهذيبِ، عندما يخاطب الصغير، وعندما يخاطب الكبير!

الشيُ الوحيدُ الذي كان يحرجنا عنده؛ طولُ صلاته!

إن صلّى الصلوات الجهريّة؛ فصلاته طويلة!

وإن صلّى الظهر والعصر؛ فصلاته طويلة، لكنها دون صلاة الجهر!

ويبدو أنّه استفاد هذه العادةَ من إخوان مصر، فقد تعرّفت عام (1976) على أقلّ من عشرين شخصيّة منهم، كانت صلاة جميعهم طويلة!

كانت صلاة شيخنا محمود الرياحي إمام جامع الأحدب طويلةً متقنةً، لكنها على الربعِ من صلاة شيخنا مروان تقريباً.

وصلاتي طيلةَ عمري؛ تشبه صلاة شيخنا محمود الرياحي، أو أطول قليلاً، وليست هي مثل صلاة شيخنا الشهيد مروان أبداً!

لم يكن للّهو وضياعِ الوقت مكانٌ لدى الشيخ مروان، كان رجلاً جادّاً صاحب رسالة!

فكان دائم القراءةِ، كثيرَ التلاوة للقرآن العظيم، كثيرَ التعليم، كثيرَ الحوار.

وكانت قيادة الإخوان المسلمين تحاول تهدئته وكبح جماحه، لكن من دون جدوى!

وأقول لله تعالى، وللأمانة: لم يكن إخوانُ سوريّا على مستوى القيادةِ ولا على مستوى القاعدةِ؛ جهاديّين، أو عنفيين أبداً أبداً.

وعندما بدأنا بتدريب الشباب على استعمال المسدس، عام (1971) لم يكن أحدٌ من شباب الإخوان يحسن استعمال المسدّس، بل كانت رؤيته ترعبهم أجمعين!

فالذين يؤرّخون للإخوان بأنهم دمويّون جهاديّون؛ لا يعرفون من الحقيقة شيئاً!

ولا أدلَّ على كذبِ هؤلاءِ، ومتابعتهم للقنوات الفضائيّة المأجورة، من أنّ رجال الإخوان المسلمين السوريين؛ يملأون دول الخليج وتركيا والعراق، منذ الأمس البعيد والأمس القريب، واليوم، وغداً، ولم يصدر عن أحدٍ منهم حدَثٌ أمنيٌّ واحدٌ، في حدود علمي.

فمن أراد أن يكون منصفاً محايداً؛ فعليه أن يفرّق بين كيانِ الإخوان المسلمين السوريين، منذ نشأته على يد شيخنا مصطفى السباعي، في أوائل الأربعيناتِ، وحتى اليوم، فهذا كيانٌ ديمقراطيٌّ سلميّ، لا يؤمنُ بالصراع العسكريّ مع السلطة أبداً.

وبين مجموعة الشهيد مروان حديد، التي أطلق عليها فيما بعد اسم «الطليعة المقاتلة» فهذه تحتاج إلى وقفة يسيرة أيضاً.

خرج الشهيد مروان من السجن، في صيف عام (1964) وليس لديه هدفٌ سوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

في شهر تشرين الأوّل، أخبرنا بأنّه سيزور الشيخ مصطفى السباعي في مشفاه بدمشق، وقال: قد تكون هذه آخر مرّةٍ نراه فيها على قيد الحياة.

رغبتُ أن أسافرَ معهم، فاعتذر الشيخ مروان، وقال لي: هذا سيعرّضك لسخط والدك، فلا أرى لك ذلك، لكني سأسلّم لك عليه، وأسأله أن يدعو لك.

غاب الشهيد مروان ثلاثةَ أيّامٍ في دمشقَ، ثمّ عاد إلى حماة، فكنّا في انتظاره بالزاوية التي غدَت تعرف بزاوية الشيخ مروان.

صلّى العشاء، فصلّينا خلفَه، ثمّ حدّثنا عن الشيخ مصطفى السباعي، وعن قصيدته الأخيرةِ التي  أوصى بها أهله وجيرانه وإخوانه بأولاده.

ثمّ قال لنا الشهيد مروان: وضع شيخنا الدكتور السباعي أمانةً ثقيلةً، وعدته بالقيام عليها وتحقيقها.

قال لي: يا أخي يا شيخ مروان: «لا بدَّ من طليعة مؤمنة قويّة، آخذةٍ بشتى أسباب القوّة البدنيّة والعسكريّة؛ لتدافعَ عن رجالات الدعوة، وتحمي مكتساباتها».

نحن لا نريد صراعاً مع أحدٍ، لكننا نرفض رفضاً قاطعاً أن يساق إخواننا في سوريا إلى المعتقلات والمشانق، بتهم فاجرةٍ ملفّقة، كما فعل عدوّ الله عبدالناصر بإخواننا في مصر.

المسلم عزيز، والمؤمن القويّ خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف.

لا أتذكّر أن الشهيد مروان اتّخذ أيّ خطوة عمليّةٍ في اتّجاه القوّة، إلى بدايات عام (1969) عندما اتّخذ المركز التنفيذيّ للإخوان المسلمين قراراً بالمشاركة بتدريب الشباب على السلاح، بالتفاهم مع «أبو عمّار».

عندها ندَب الشهيد مروان الشبابَ إلى التدرّب على السلاح، في معسكرات الإخوان المسلمين، التابعة لمنظمة فتح، والتي عُرفت بقواعد الشيوخ!

كان في الدفعة الأولى التي التحقت بقواعد الشيوخ، من حماة؛ مجموعة مكوّنة من ستّة أفراد، منهم الدكتور الشهيد عبدالستار الزعيم، والدكتور رشيد عيسى.

وكانت الدورة التدريبيّة الثانية (63) أخاً مسلماً، منهم (48) أخٌ من الإخوان الحمويّين تقريباً، وكنت أنا من المشاركين بهذه الدورة.

وقد كنت متفوّقاً بجميع المفردات التدريبيّة، وخاصّة في الرمي والجري وتسلّق الحبال.

في بداية عام (1970) حضر شيخنا الكبير عبدالعزيز العلي، واستدعاني أنا خصّيصاً وقال: يأمرك شيخك مروان؛ أن تعود فوراً، وتلتحق بجامعتك، فوالدتك أحرجت الشيخ مروان كثيراً، وقد تدرّبتَ، وحصّلت ما تريد!

جئتُ لأرفضَ، فقال: وأنا آمرك بذلك، فلا تعترضْ، ولا تستنكف، في الصيف القادم إن شاء الله تعالى؛ يمكنك أن تعود إلى التدريب.

رجعتُ إلى سوريا، والتحقتُ بجامعة دمشق، وكان الدوام في السنة الأولى إلزاميّاً، وفي نهاية الأسبوع نزلت إلى حماة، وزرت أسرتي، ثم زرت الشيخ مروان، وأبلغته رسالةً شفوية من «أبو أسامة».

وإلى منشورٍ تالٍ، أتحدّث فيه عن ذكرياتي في جماعة الإخوان المسلمين، إن شاء الله تعالى.     

والله تعالى أعلم

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى اللهُ على سيّدنا محمّد بن عبداللهِ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كل حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق