السبت، 22 أكتوبر 2022

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ (25):

ذكرياتي مع عِزّة إبراهيم الدوريّ (2)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كان ممّا اشترطتُه على وزير الأوقاف العراقيّ السيد عبدالله فاضل السامرائيّ، وأبلغه إلى الرئيس صدّام حسين، رحمهم الله تعالى؛ أنني مستعدٌ للإقامة في العراق، لكن بشروط:

- الشرط الأوّل: أن يسمح لي بأن أمارس الإمامةَ والخطابة، وأن أنتقد الرئيس صدام حسين وسياساته على المنبر، إن لم أجد وسيلةً أخرى أوصل بها كلامي إليه!

- الشرط الثاني: أن يسمح لي بالتدريس الجامعيّ، مثلما كنت أدرّس في السعودية.

- الشرط الثالث: أن يقبلوني في مرحلةِ «الدكتوراه» من دون قيدٍ أو شرطٍ!

فكلّ من يقول: إنّه ساعدني بالقَبول أو زكّاني عند الرئيس؛ فهو كذّاب!

- الشرط الرابع: أرفض أن أُمنَحَ منزلاً أو سيّارةً أو مرافقاً أو حرساً، أو مرتّباً، أيّ مرتب!

وافقوا على شروطي، فرجعت في (7 / 3 / 1992م) من الأردنّ إلى العراق، للإقامة والعمل هناك.

 عقب عودتي إلى العراق؛ لقيني رجلٌ من آل «بنيّة» وطلب مني أن أقوم بمهمة الإمامةِ والخطابةِ والتعليم في مسجدهم الكبير!

وافقتُ على ذلك، بشرطِ عدم التدخّل بما يخصّ مهمّتي أبداً أبداً، وأنا أتحمّل تبعاتِ كلامي أمام السلطات الحكوميّة، وبشرطِ عدم الأجر الماديّ!

وافق الرجل، وبدأت العمل في مسجد البنيّة، إمامةً وخطابةً وتدريساً، وإفتاءً على مدار الساعة؛ إذ كان المسجد مجاوراً لمجمّع انطلاق السياراتِ إلى بقيّة محافظات العراق!

في اليوم الثاني لعملي في مسجد البنيّة، وعقب تسليمي من صلاة الظهر؛ استدرت إلى الناس، لأداء التسبيحات جماعيّاً، كما هو المعتاد، فرأيت الأستاذ عزة إبراهيم قد فاتته ركعتان من صلاة فريضة الظهر، وهو يصلّيهما، فطلبت من المؤذّن أن يخفض صوته، حتى لا يشوّش على المسبوقين.

عقب انتهاء التسبيحات؛ قمتُ فصلّيت الراتبة البعدية، فكان الأستاذ عزّة ما زال يصلّي!

لم أجد من اللياقةِ أن أخرج من المسجد قبل السلام عليه، فهو ضيفي من جهة، وظننت أنه زارني قاصداً، وليس موافقةً!

عقب انتهائه من الصلاة؛ رفع يديه وراح يدعو، فاقتربت منه، وأمّنت على دعائه.

فلمّا قام؛ صافحته، ورحّبت به، لكنه عانقني وابتسم في وجهي، ثم قال: لي على صلاتك ملاحظتان، إذا سمحت لي؟!

قلت: تفضّل!

قال: لا تؤاخذني، أنت جديدٌ على البلد، ومن المفروض علينا أن نعرّفك بطبيعة الناس هنا.

هذا المكان؛ هو مركز المدينة التجاريّ والنقلي، وصاحب العمل يشقّ عليه طولُ الصلاةِ، مما قد يدعوه إلى تركِ الجماعة، فلو خفّفت قراءتك، واقتصرت على ثلاث تسبيحاتٍ في الركوع والسجود. 

الملاحظة الثانية: أنك تطيل الجلوس الأخير كثيراً، وهذا يشقّ على مَن هو في مثل سنّي أو أكبر مني، فلو اقتصرت على الصلوات الإبراهيم إلى (في العالمين إنك حميد مجيد) ثمّ جعلت الدعاء بعد السلام، إن شئت!

لم يعجبني كلامه يومها، لكنني جاملته وقلت له: جزاك الله خيراً، أحاول التَخفيفَ مع التمام، إن شاء الله تعالى.

ثمّ صار يصلّي عندي مرّةً أو ثنتين أو أكثر، في كلّ أسبوع، فلاحظتُ أنه يصلي عَقِب فريضة الظهر ثماني ركعات، لكنّ صلاته خفيفة، مثلُ صلاة الحنفيّة!

كان مسجد البنيّة - كما سبق - مجاوراً لمجمع سيارات وباصات المحافظات، فكان أعظمَ سروري؛ كثرةُ الفتاوى التي أجيب عليها في كلّ يوم، والتي لا تقلّ عن ثلاثين فتيا يوميّاً!

لكنّ الشيءَ الذي أحزنني، ودعاني إلى ترك مسجد البنيّة؛ عجزي عن القيام بمساعدة جميع المحتاجين والمعوزين، الذين يطلبون مساعدتي لأسبابٍ شتّى!

أنا لا أتقاضى مرتّباً على عملي، ولم يترك المشرفون على المسجد لديّ أيَّ مبلغٍ ماليٍّ لمصلحة المعوزين والسائلين، من أبناء السبيلِ، والزاعمين أنهم ضاعت نقودهم، والزاعمين أنهم لا يملكون أجرة طريق!

عندما وجدتُ نفسي مضطراً إلى مساعدة كلِّ طالبٍ للمساعدة، ولا يمكنني القيام بذلك؛ لزمت بيتي، وتركتُ المسجد!

زارني المشرف على المسجد من آل «بنية» وسألني عن سبب تركي للمسجد؟

قلت له: هذا المسجد المبارك؛ يحتاج ميزانية دولة، وأنا لست دولة، بل أنا لا دخل لي في العراق حتى اليوم، وقد أنفقت في مسجدكم «كذا وكذا ألف دينار!» للمسافرين والمحتاجين، ولا طاقة لدي على الاستمرار!

قال الرجل مثل كلامٍ يقوله كلّ الناس: أنت لست ملزماً بإعطاءِ أحدٍ شيئاً، ونحن لسنا ملزمين بتخصيص ميزانية لذلك!

قلت له: هذا حقّكم، لكنّ مروءتي لا تسمح لي أن أقول: ليس معي، وفي جيبي ما أعطي هذا السائل!

قال: والحلّ؟

قلت: الحلّ أن تبحثوا عن إمامٍ وخطيبٍ ومدرّسٍ ومفتٍ، لا يكون في وجهه ماء، يستطيع أن يقول للمسافر الذي يزعم أنّ نقوده ضاعت: الله يسهّل عليك!

أنا لا أستطيع فعلَ ذلك، وما فعلتُه في حياتي!

قال: الناس مرتاحون إليك، ونشاطُك الدينيّ ملحوظ، ويأتيك من الله ثواب عظيم!

قلت له: هذا صحيح، لكنّ المسجد يحتاج خمسة آلاف دينار (500 دولار)  في الحدّ الأدنى، في كلّ شهر، وأنا غير قادر على مثل هذا، وأنتم لستم مطالبين بذلك!

تركتُ العملَ في مسجد البنيّة، لهذا السبب، وكان آل البنية أفاضل مهذّبين، لكنّ اختيارهم موقع المسجد كان خطأً كبيراً في نظري؛ لأنّ مثل هذا المسجد؛ يحتاج إلى وقفٍ خاصٍّ على عابري السبيل!

يبدو أنّ الأستاذ عزّة إبراهيم صلّى في المسجد، فلم يجدني، وعلم أنني تركت العمل هناك، فكلّف وزيرَ الأوقاف أن يدعوني إلى زيارته، في موعدٍ حدّده، فذهبتُ إلى وزارة الأوقاف، والتقيت الوزير والأستاذ عزّة.

سألني الأستاذ عزّة عن سبب تركي العمل في أضخم مسجد في بغداد؟

فقصصت عليه القصّة!

فقال: لكنك غير ملزم بهذا!

ودار بيننا الحوارُ الذي دار بيني وبين ابن بنيّة، ولم نخلص إلى نتيجة!

فختمت كلامي: أستاذ عزّة، بارك الله بك، ما الذي يدعوني أن أكذب في كلّ يومٍ عشرَ مرّات، أو عشرين مرّة، وما الذي يجعلني أخجل من السائل؟

وما الذي يدعوني أن أكسر بخاطر السائل الذي قد يكون محتاجاً حقيقةً؟ أنا لا أحتمل مثل هذا!

قال: وماذا نفعل نحن إذن؟

قلت له: أنتم دولة، تستطيعون من زكاة النفط والمعادن؛ أن توظفوا في كلّ مسجدٍ مطروقٍ موظّفاً تحت يده مالٌ من مال الله تعالى؛ ليعطي السائلين على قدر قناعته!

قال: لم يخطر مثل هذا الكلام على بال أحدٍ قبلك!؟

قلت له: لا بأس، الآن قد قلته لك صريحاً، من دون أن يخطر على البال أو لا يخطر!

إذا كنتم ترغبون أن أكون إماماً وخطيباً؛ فليكن ذلك في مسجد مغايرٍ لهذه المواصفات التي تحتاج إلى ميزانيّة، أو إلى إنسان صَلِف الوجه، ولست أنا هذا ولا ذاك!

ثمّ اخترت مسجد المثنّى بحيِّ القاهرة، وافتتحته، حتى من دون إذن الدولة!

أخذت عدداً من طلابي، وكسرت قفل المسجد المغلق منذ سنين، ونظّفناه، وأقمنا الصلاةَ فيه على القاع، من دون فرشٍ ولا سواه، طيلةَ فصل الصيف!

ولمّا سألني وزير الأوقاف: كيف فعلت هذا، من دون إذن، والمسجد أغلق من دون إذن السيد الرئيس؟

قلت له: بل أخذتُ إذناً بذلك!

قال: ممّن؟

قلت له: بلّغ السيد الرئيس ما أقوله لك:

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا؟

أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) [البقرة].

أيّ خرابٍ أكبرُ من أن تمنعوا الناس من أداء الصلاة في بيت من بيوت الله تعالى، سنواتٍ عديدةٍ، حتى لو كان بانيه مجرماً منافقاً؟!

ثمّ لا أعلم - والله - هل جاءت الموافقةُ على افتتاحه أو لا، لكنّ الذي أعلمه أنّ المسجد ظلّ يَعمل منذ افتتحته أنا عام (1992) وإلى يوم الناس هذا!

لكنّ وزارةَ الأوقاف؛ لم تفرش لنا المسجد، ولم تعطنا أدواتٍ كهربائيّة، ولم تساهم بأيّ نفقةٍ من نفقات المسجد، حتى أقالتني وزارة الأوقاف عام (1996م).

وإلى منشور آخرَ أحكي فيه بعضَ ذكرياتي مع الأستاذ عزّة إبراهيم الدوريّ، رحمه الله تعالى وغفر له.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق