أفراد الإمام البخاريّ (3):
أنموذجٌ من ظلمِ عربِ الجاهليّة للمرأة!؟
بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ
(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ
أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.
رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.
رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
(رَبَّنَا:
افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).
بإسنادي
إلى الإمام البخاريّ في الصلاةِ، بابُ نَوْمِ
الْمَرْأَةِ في الْمَسْجِدِ (439) قال رحمه الله تعالى: حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ
إِسْمَاعِيلَ «القُرَشيُّ» قَالَ: ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ «حمّادُ بنُ أسامةَ
القرشيُّ» عَنْ هِشَامِ «بنِ عُروةَ» عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ؛ أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنَ
الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ.
قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ، عَلَيْهَا وِشَاحٌ
أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ
بِهِ حُدَيَّاةٌ، وَهْوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحماً، فَخَطِفَتْهُ.
قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ:
فَاتَّهَمُوني بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ([1])
حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا! قَالَتْ: وَاللهِ إِنّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ، إِذْ
مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ.
قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذي اتَّهَمْتُمُوني بِهِ -
زَعَمْتُمْ - وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ.
قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللهِ([2]) e فَأَسْلَمَتْ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ في الْمَسْجِدِ،
أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِيني، فَتَحَدَّثُ عِنْدي، قَالَتْ: فَلاَ
تَجْلِسُ عِنْدي مَجْلِساً إِلاَّ قَالَتْ:
وَيَوْمُ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ([3])
رَبِّنَا * أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَاني
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ، لاَ
تَقْعُدِينَ مَعي مَقْعَداً، إِلاَّ قُلْتِ هَذَا؟
قَالَتْ: فَحَدَّثَتْني بِهَذَا الحديث».
وأعاده البخاريّ في كتاب المناقب، باب أيّام الجاهليّة (3835)
فقال: حَدَّثَنِي
فَرْوَةُ بنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ: أنا
عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ
عَنْها قَالَتْ: أَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ لِبَعْضِ الْعَرَبِ، وَكَانَ
لَهَا حِفْشٌ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينَا فَتَحَدَّثُ([4])
عِنْدَنَا، فَإِذَا فَرَغَتْ مِنْ حَدِيثِهَا قَالَتْ:
وَيَوْمُ
الْوِشَاحِ مِنْ تَعَاجِيبِ رَبِّنَا ... أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ
أَنْجَانِي
فَلَمَّا
أَكْثَرَتْ؛ قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ: وَمَا يَوْمُ الْوِشَاحِ؟ قَالَتْ: خَرَجَتْ
جُوَيْرِيَةٌ لِبَعْضِ أَهْلِي، وَعَلَيْهَا وِشَاحٌ مِنْ أَدَمٍ، فَسَقَطَ
مِنْهَا، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِ الْحُدَيَّا([5])
وَهْيَ تَحْسِبُهُ لَحْماً، فَأَخَذَتْهُ([6])
فَاتَّهَمُونِي بِهِ، فَعَذَّبُونِي، حَتَّى بَلَغَ مِنْ أَمْرِي أَنَّهُمْ
طَلَبُوا فِي قُبُلِي.
فَبَيْنَا
هُمْ حَوْلِي - وَأَنَا فِي كَرْبِي - إِذْ أَقْبَلَتِ الْحُدَيَّا، حَتَّى
وَازَتْ بِرُؤُوسِنَا([7])
ثُمَّ أَلْقَتْهُ، فَأَخَذُوهُ، فَقُلْتُ لَهُمْ: «هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي
بِهِ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ» ([8]).
مدارُ حديثِ عائشة رضي اللهُ عنها؛ على هشامِ بن عُروةَ بن
الزبير، رواه عنه:
- إسماعيل بن أبان الورّاق، عن ابن الأعرابيّ في معجمه
(685)
- حمّاد بن أسامة، عند البخاري (439) وابن خزيمة في صحيحه
(1332) وابن حبّان (1655) وغيرهم.
- وعليّ بن مُسهر الكوفيّ، قاضي الموصل عند البخاريّ (3835)
ومحمّد بن خازم أبو معاوية الضرير، عند أبي بكر بن أبي
الدنيا، في كتاب الفرج بعد الشدّة (87) وعند ابن المقرئ في معجمه (803) والبيهقيّ
في الآداب (765) وغيرهم.
قال الفقير عداب: هشام بن عروةَ بن الزبير؛ ترجمه ابن حبّان
في الثقات (5: 502) وقال: « وَكَانَ حَافِظًا مُتقناً ورعاً فَاضلاً» وترجمه
في المشاهير (583) وقال: «من حفاظ أهل المدينة ومتقنيهم وأهل الورع والفضل في
الدين».
وانظر
ترجمته في تذكرة الحفّاظ (1: 108) والنبلاء (6: 34) والميزان (3: 647) ثلاثتها
للذهبيّ.
وقال
ابن حجر في مقدمة فتح الباري (ص: 448): «هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام،
من صغَار التَّابِعين، مجمع على تثبته، إِلَّا أَنه فِي كِبَره تَغيَّر حِفظُه،
فَتغيّر حَدِيثُ مَن سمع مِنْهُ فِي قَدمتِه الثَّالِثَة إِلَى الْعرَاق.
قَالَ
يَعْقُوب بن شيبَة: هِشَام ثَبتٌ ثِقَةٌ، لم يُنكر عَلَيْهِ شَيْءٌ، إِلَّا بعد
مَا صَار إِلَى الْعرَاقِ، فَإِنَّهُ انبسط فِي الرِّوَايَة عَن أَبِيه، فَأنْكر
ذَلِك عَلَيْهِ أهل بَلَده.
وَالَّذِي
نرَاهُ أَنه كَانَ لَا يحدث عَن أَبِيه إِلَّا بِمَا سمع مِنْهُ، فَكَانَ تساهله
أَنه أرسل عَن أَبِيه مَا كَانَ يسمعهُ من غير أَبِيه، عَن أَبِيه». قال ابن حجر: قلت:
هَذَا هُوَ التَّدْلِيسُ.
وَأما
قَول ابنِ خرَاشٍ: «كَانَ مَالك لَا يرضاه» فقد حُكِيَ عَن مَالك فِيهِ شَيْء أَشد
من هَذَا، وَهُوَ مَحْمُول على مَا قَالَ يَعْقُوب، وَقد احْتج بِهِشَام جَمِيع
الْأَئِمَّة».
قال
الفقير عداب: روى مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه أكثرَ من مائةِ رواية في موطئه، منها:
(8، 59، 61، 71، 77).
فكلامُ
مالك فيه ليس لهذا، إنّما لأنّ هشاماً صدرت عنه كلماتٌ قبيحةٌ، ما كان مالك يترخّص
بمثلها.
والكلام
في هشامِ بن عروةَ كثيرٌ، خلاصتُه؛ أنّ ما رواه عنه أهل الحجاز؛ فهو فيه ضابط، وما
تفرّد به عنه أهل الكوفةِ؛ ففي بعضه تدليسٌ وقلّةُ ضبط، وهذا رأي تلميذه يحيى بن
سعيد القطّان، وانظر طرفاً من أخباره غير الحسنة، في قَبولِ الأخبار للكعبيّ (1:
398 - 400).
ورواةُ
هذا الحديثِ عن هشامٍ، كلّهم كوفيّون عراقيّونَ، فماذا نصنع؟!
خلاصةُ
الحكم على هذا الأثر: هذا أثرٌ موقوفٌ على أمّ المؤمنين عائشة، ترويه عن أمةٍ أو
امرأةٍ مجهولةٍ، لم تسمّها لنا، ولم نعرفها نحن!
لم
يروه عنها؛ إلّا ابنُ أختها عروةُ بن الزبير، تفرّد به عنه هشامُ بن عروة، فهو
فردٌ مطلقٌ غريب، من حديثِ هشامِ بن عروةَ الكوفيّ، لم يروه عنه أحدٌ من أهل
الحجاز فيما وقفت عليه، فإذا نحن طبّقنا نظريّةَ قَبولِ حديثه الحجازيّ، وعدم
قَبول حديثه العراقيّ؛ فهو أثرٌ ضعيفٌ!
لكنّ
الأئمّة لم يلتفتوا في هشامٍ إلى هذا الكلام أبداً، بل أخرجوا من رواية الكوفيين
عن هشامِ بن عروة، فأكثروا، وناهيكَ بصنيع البخاريّ ومسلم دليلاً على ذلك!
انظر
عند البخاريّ الأحاديثَ (20، 130، 147، 228، 262، 317، 320).
وانظر
عند مسلم الأحاديثَ (38، 123، 134، 205، 286، 286، 291) وعشراتِ الأحاديثِ الأخرى،
جميعها من رواية رواةٍ كوفيين عن هشام بن عروة.
ختاماً:
هذا أثرٌ موقوفٌ على عائشةَ، أخرجه البخاريّ في كتاب المساجدِ؛ وهو يبيّن أنواعاً
متعدّدةً من أحكامها، فهذا الحديث أخرجه تحت باب «نوم المرأة في المسجدِ» وبعده
مباشرةً (440) أخرج حديثَ ابن عمر، تحت بابِ «نوم الرجال في المسجد» وأعاده في باب
أيّام الجاهليّة، مستشهداً به على قُبحِ تلك الأيامِ وقسوتها.
وقد
أخرج البخاريّ قبله في الباب نفسه (3834) قصّة امرأة أخرى اسمها زينب، كان لها
قصّة أخرى أيضاً.
وبعد
حديث عائشةَ في الباب ذاته (3836) أخرج حديث ابن عمر، الذي فيه أنّ قريشاً في
الجاهليّة، كانت تحلف بآبائها، فنهى الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحلفوا
بآبائهم!
قال
ابن حجر في الفتح (2: 353): «وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَبِيتِ وَالْمَقِيلِ
فِي الْمَسْجِدِ، لِمَنْ لَا مَسْكَنَ لَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، رَجُلاً كَانَ
أَوِ امْرَأَةً عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ، وَإِبَاحَةُ اسْتِظْلَالِهِ فِيهِ
بِالْخَيْمَةِ وَنَحْوِهَا.
وَفِيهِ
الْخُرُوجُ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَرْءِ فِيهِ الْمِحْنَةُ،
وَلَعَلَّهُ يَتَحَوَّلُ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، كَمَا وَقَعَ لِهَذِهِ
الْمَرْأَةِ.
وَفِيهِ
فَضْلُ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ، وَإِجَابَةِ دَعْوَةِ الْمَظْلُومِ،
وَلَوْ كَانَ كَافِراً؛ لِأَنَّ فِي السِّيَاقِ أَنَّ إِسْلَامَهَا كَانَ بعد
قدومها الْمَدِينَة، وَالله أعلم».
قال
الفقير عداب: لا يتصوّر أحدٌ أنّ الكوخَ الصغير الذي كان لهذه الجاريةِ السوداء -
إن صحّ الأثر - كان في مصلّى المسجد، إنّما كان في زاوية من زوايا ساحة المسجد
الملحقة بالمصلّى!
يدلّ
عليه ما أخرجه البخاريّ في كتاب الوضوء (174) من حديث عبدالله بن عمر قال: «كَانَتِ
الكِلاَبُ تَبُولُ، وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ، فِي زَمَانِ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا
مِنْ ذَلِكَ» فليس من المعقول أنّها كانت تبول في مصلّى المسلمين؛ لأنّ الرسول
صلّى الله عليه وآله وسلّم أمر بتطهير المساجد وتنظيفها وتطييبها، كما هو معلوم.
خِتاماً:
سواءٌ صحّت هذه القصّة عن عائشةَ، أم لم تصحّ؛ ففيها بعض التوجيهات التربويّة التي
أشار إليها الحافظ ابن حجر، وليس فيها شيءٌ منسوبٌ إلى الرسول صلّى الله عليه وآله
وسلّم، وكلّ ما لم يُنسَبْ إلى الرسولِ؛ فليس بتشريع!
واللهُ تَعالى أعلَمُ.
(رَبَّنا: ظَلَمْنَا
أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ).
هذا.. وصلّى الله على
سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً
والحَمْدُ
للهِ على كلِّ حالٍ.
([7])
معاني الغريب في هذا الأثرِ بروايتيه:
الوليدة: الأمةُ المملوكة، الوشاح: ما
تستر به المرأة شعرها، وقد يكون للزينة، والوشاح المقصود هنا: قطعةٌ من أَدَمٍ،
الأدم: الجلدُ، وهي قطعةٌ رقيقةٍ مزيّنة بالجواهر، أو بالأحجار الكريمة، ونحو ذلك،
الحُدَيّاة: تصغير حِدَأَةٍ، هي طائرٍ من الجوارح، طفقوا: شرعوا بتفتيشها وواصلوا،
الخِباءُ: الخيمةُ الصغيرة التي تستتر بها النساء عادةً، الحِفْش: الكوخ الصغير من
طوبٍ خفيفٍ أو قصب.
([8]) من حديثِ هشامِ بن عروةَ بن الزبير، عن
أبيه، عن أم المؤمنين
عائشة رضي الله عنها: انفرد به البخاريّ عن بقيّة التسعة، وأخرجه ابن خزيمة في
جماع أبواب صلاة التطوع في السفر، باب الرخصة في ضرب الخباء واتخاذ بيوت القصب
للنساء في المسجد (1332) وابن حبان في الصلاة، باب المساجد، ذكر إباحة الأخبية
للنساء في المسجد (1655) والبيهقيّ في الآداب (765) وغيرهم، وانظر التحفة [12:
16830] والإتحاف [17: 22452].
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق