الجمعة، 21 أكتوبر 2022

        مِنْ عِبَرِ التاريخِ (24):

ذكرياتي مع عِزّة إبراهيم الدوري!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتبَ إليّ أحدُ القريبين من الأستاذ عزّة الدوريّ يقول:

«نحن نعلم أنّك لم تكن على وفاقٍ تامٍّ مع الأستاذ عزّة الدوريّ، عندما كنت تعيش في العراق، والرجل قد مات، ونعتقد أنّك لو تحدّثت عنه، ستنصفه حيّاً وميتاً.

ونحن اليومَ على أعتابِ ذكرى وفاته الثانية، فنرجو أن تتحفنا بصفحة واحدةٍ، من ذكرياتك معه، وشكراً لكم شيخنا».

أقول وبالله التوفيق:

عِزّةُ بن إبراهيمَ الحَربيّ الدوريّ، من مواليد عام (1942م) وقد توفي في السادس والعشرين من تشرين الأوّل (2020م) فهو أسنّ منيّ بسبعِ سنواتٍ، رحمه الله تعالى رحمةً واسعة.

قبل الحديثِ عن بعضِ ذكرياتي مع الأستاذ عزّة إبراهيم؛ يحسن الحديثُ عن فكر الأستاذ عزّة إبراهيم، وفلسفته السلطويّة؛ لنفهم أسباب اختلافي معه في كثيرٍ من المواقف التي امتدّت ما بين (1992) وحتى عام (2002م).

كان اللقاء الأوّل مع الأستاذ عزّة الدوريّ، في فندق الرشيد، بتاريخ (14/ 1/ 1992م) بحضور الشيخ حازم أبو غزالة، وعددٍ من مرافقيه، وبحضور الدكتور محمد بن سعيد حوّى - في غالب ظني - وحضور صديقي الدكتور الشهيد عبدالله فاضل، وزير الأوقاف العراقي آنئذٍ، رحمه الله تعالى!

في هذا اللقاء، كانت أوّلَ مشادّةٍ كلاميّة بيني وبينه، بشأنِ الخادماتِ في فندق الرشيد، وبشأن الخمور المعروضة حتى في غرفِ الضيوف المؤتمِرينَ!

كان ممّا قلته له: أنتم تزعمون الدفاعَ عن الإسلام، وأحضرتمونا إلى هنا تحت عنوان «المؤتمر الإسلامي الشعبي» لتضحكوا علينا؟

أيُّ إسلامٍ هذا الذي تتحدّثون عنه، عن الخمور الموجودة في كلّ غرفةٍ من غرف الفندق؟

عن هؤلاء الفتيات السافراتِ المثيرات؟

كان الأجدر بكم أن تجيدوا الضحكَ علينا على الأقلّ، فتزيلوا هذه الخمورَ، وتغيّبوا هذه الفتيات، اللواتي لا يعطين صورةً حسنةً عن بناتِ العراق!

غضبَ الأستاذ عزّة وقال: نحن لسنا منافقين، حتى نبدو أمامك بوجهٍ، ونبدو خلفك بوجهٍ آخر!

اسمع يا شيخ عداب: قادتكم كلُّهم كذّابون دجّالون، لا أستثني سوى عمّك الشيخ سعيد حوّى، رحمه الله تعالى، فقد كان رجلاً عالماً صوفيّا، نحسبه يريد وجه الله تعالى.

فكن مثل عمّك الشيخ سعيد، قل كلمتك بالمعروف، ولا تجرّ المقابل إلى الإصرار على المنكر!

اسمع يا شيخ عداب: نحن نطبّق الإسلام أكثرَ من جميع الدول العربيّة، ما عدا السعودية التي كنت تقيم فيها!

قوانيننا كلّها مستمدّة من الشريعة الإسلاميّة، ما عدا بعض الموادِّ التي اقتضت الظروف الدوليّة بوجودها، فلا يحقّ لأحدٍ أن يزاود علينا!

ثمّ تعالَ أقلْ لك: أنت هنا ضيف علينا، فتمنح لنفسك الحقَّ بأن تقول ما تشاء!

لو كنت في بلدك سوريا، هل كنتَ تتجرّأ على مثل هذا الكلام أمام الرئيس حافظ الأسد، أو نائبه عبدالحليم خدّام، أو أيّ واحدٍ من قيادات الدولة هناك؟!

أنا أعرف أنّك من قياداتِ الإخوان المسلمين، وأعرف طموحاتكم إلى السلطةِ، لكن نحن لن نسمح لأحدٍ أن يقترب من هذا الكرسيّ، ومن يقترب من هذا الكرسيّ؛ سنمزّقه تمزيقاً، سنسحقه سحقاً!

قاطعته وقلت له: لا يا أستاذ عزّة، أنت مخطئ تماماً، فلا أنا من قيادات الإخوان، ولا الإخوان يعترفون أنني منهم أصلاً، آسف المعلومات التي وصلتك مضلّلة تماماً!

أمّا كرسيّك هذا؛ فسامحك الله به عشرة في عشرة، أنا لا أريد الكرسيّ، ولا أريد السلطة، أنا خادم مطيعٌ لعبدٍ حبشيٍّ يطبق الإسلام، الذي يعنيني تطبيق الإسلام، لا يعنيني أبداً أن يكون تطبيقه في المجتمع والدولة عن طريقي، أو عن طريق الإخوان، أو عن طريقك!

يا أستاذ عزّة: أنت تقول: إنني ضيفٌ عليكم، ما هذه الضيافة الفائقة التي تقدّمها إليّ وإلى المشايخ الحاضرين، في الساعاتِ الأولى لوصولنا إلى العراق؟

نحن لسنا خصومكم، نحن وقفنا موقفاً كلّفنا السجن والطردَ وقطع الرزق، من أجل العراق، فما كان المأمول منكم مثل هذا الاستقبال الحافل! 

وعلى كلّ حال، أنا لست ضيفاً عليك يا أستاذ عزّة، أنا ضيف الرئيس صدّام حسين، وحين ألتقيته؛ سأحدّثه عن هذه الجلسة، فلا يكن في صدرك حرج من ذلك!

قال: أنا بطبعي حادّ المزاج، ولم أقصد الإساءةَ، إنما أحببت أن أكون معك صريحاً، كما أنت صريح، العراق بلدك الثاني، وأهلاً وسهلاً بك!

ضحكت وقلت له: العراق بلدي الأوّل، وليس بلدي الثاني، فجدّي الثاني عشرَ موصليّ هاجر إلى مدينة حماة، ومَن يَكن جدّه موسى الكاظم عليه السلام؛ لا يستطيع أحدٌ أن يمنعه من الانتماء إلى العراق، ولا من حقّ أحدٍ أن يمنّ عليه بعراقيّته!

وقف الأستاذ عزّة، واستأذن، فوقف المشايخ جميعاً، ولم أقف له، فمدّ يده وصافحني، وقال: لنا لقاءاتٌ أخرى إن شاء الله تعالى!

هذه أهمّ ذكرياتِ هذا الموقفِ الأوّل مع الأستاذ عزّة إبراهيم.

في اليوم الثاني حدّثني الدكتور عبدالله فاضل؛ أنّ كلامي بلغ الرئيسَ صدّام حسين، فغضب لوجودِ الخمورِ والفتيات السافراتِ، وقال: الشيخ عداب معه كلّ الحقّ، ما هذه الغفلة التي ركبتكم؟

وأمر بسحب الخمور من جميع غرف الفندق، وغيّب البنات، فلم توجد بنت واحدةٌ في ساحات الفندق، طيلةَ أيامِ المؤتمر.

وفي اليوم الأخير؛ همس الوزير عبدالله فاضل في أذني قائلاً: أمر السيّد النائب بأن تكون في لجنة إعداد قرارات المؤتمر، فكنت مع عدد من الأفاضل، منهم الدكتور عرفان عبدالفتّاح رحمه الله تعالى، والدكتور بشّار عوّاد العبيديّ.

وكأنّ أوامرَ جاءتهم بأن لا يعارضوني في شيءٍ، فكان تقرير المؤتمر كما أردتُه أنا تماماً، وكلُّ شيءٍ عدّلته؛ أبقوه كما هو.

عقب انتهاء المؤتمر؛ أكرموا المؤتمرين بزياراتٍ إلى أماكن أثريّة في بغدادَ وخارجَ بغداد، لكنني لم أشاركهم، ولم أذهب معهم.

جاء إليّ وزير الأوقاف، وسألني عن سبب مشاركتي مع الوفد؟

فقلت له: والله لم يَرُقْ لي هذا المؤتمر، ولا جميع المؤتمِرين، هذا مؤتمرٌ إعلاميٌّ، لا أظنكم ستطبّقون شيئاً من قراراتِ هذا المؤتمر!

عندما أردنا السفرَ إلى عمّان الأردن؛ جاء إليّ الوزير، وقال: السيّد الرئيس يبلّغك تحياته وشكرَه، ويقول لك: حبّذا لو بقيتَ في ضيافتنا أيّاماً أخرى!

فودّعت أخي الدكتور محمّد سعيد حوى، فسافر، وبقيتُ في العراق!

في اليوم التالي لسفر المؤتمرين مباشرةً؛ عادتْ الخمور والفتيات، وعاد الرقص والغناء في قاعات الفندق، ويبدو لي أنّ الفندق يؤجّر قاعاته للأعراس والحفلات الاجتماعية!

فلم أستطع النومَ دقيقةً واحدةً تلك الليلة!

في صباح اليوم التالي؛ حملتُ حقيبتي، وخرجتُ مِن الفندق، وطلبت من أحد سائقي «التاكسي» أن يأخذني إلى فندق متوسّط الأجر، نظيف، ليس فيه خمور ولا فتيات!

فأخذني السائق إلى فندق «الساحة» في طرف حيّ المنصور.

ما هي إلّا ساعات، حتى حضر وزير الأوقاف إلى الفندق غضبانَ، إذ كيف أغادر الفندق من دون إخباره؟

قلت له: لا تلمني يا دكتور عبدالله، أنا رجل ملتزم بديني، منذ خلقني الله تعالى، وإلى هذه اللحظة، فلا أريد أن أتنازل عن شيءٍ من ديني، لا من أجلك، ولا من أجل صدّام حسين، أنتم دعوتموني لتكرموني - كما قلتم - وليس لتهينوني وتقهروني!

حملني معه في السيّارة، وأعادني إلى فندق الرشيد، الذي لم أرَ فيه فتاةً واحدةً، ولا رأيت زجاجة خمر، طيلةَ ثلاثةِ أسابيع قضيتُها في العراق!

في هذه الأثناء؛ اتّفقتُ مع وزير الأوقاف على أن أغادر العراق؛ لترتيب أمور أهلي في الأردن، وأعود متى شئتُ، فوظيفتي محجوزة!

وإلى منشور آخرَ أحكي فيه بعضَ ذكرياتي مع الأستاذ عزّة إبراهيم الدوري.

رحمه الله تعالى وغفر له.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق