السبت، 22 أكتوبر 2022

       مِنْ عِبَرِ التاريخِ (26):

ذكرياتي مع عِزّة إبراهيم الدوريّ (3)!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنَا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا، وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ.

رَبَّنَا: لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

عَقب خُطبتي الشهيرة في العراق، بجامعِ «أمّ الطبول»؛ استدعاني الرئيس صدّام حسين، فالتقيته في قصر الرئاسة، للمرّة الأولى، لقاءً استمرَّ (80) دقيقة!

انتقدتُ أمامه ما شاهدته في مساجد العراقِ، من جهلٍ تامٍّ بتلاوة القرآن الكريم، وجهلٍ أطمّ بالحديثِ النبويّ الشريفِ، وكان ممّا قلته له:

أيليق بك وأنت ابن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنت حاكم العراق؛ أن لا أجدَ إماماً واحداً في المساجد التي صلّيتُ بها يحسن تلاوةَ القرآن الكريم تلاوةً صحيحة؟

أيليقُ بكم يا سيادةَ الرئيس، أنْ لا يكون في مساجد بغدادَ حلقةٌ واحدةٌ لتعليم القرآن الكريم، وخصمكم النصيريّ حافظ الأسد، يتخرّج من مدارسه لتعليم القرآن خمسُ مائة حافظٍ للقرآن الكريم في كلّ عام؟

يا سيادةَ الرئيس: أنت لست بعثيّاً، ولا يليق بك أن تكون بعثيّاً أبداً!

إنّ الذي ينتسب ويفخر ويعتزّ بانتمائه إلى الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإلى الإمام عليّ والإمام الحسين عليهما السلام؛ إنما يفتخر بما كانوا عليه من نصرةِ الدين، ومحاربة الظلم والظالمين، ولا يرتضي بالمسيحيّ ميشيل عفلق مرشداً له!

ماذا لدى عفلق من فهم للإسلامِ ليعطينا إيّاه؟

أنا لا أقول لك: الغِ حزبَ البعثِ؛ لأنّ الدول لا تقوم إلّا على عصبية قبليّة، أو على عصبيّة سياسيّة، إنما أقول لك: أسلِمْ حزبَ البعث، وإنك على ذلك لقادر!

قال: كيف يكون ذلك؟

قلت له: أنا أكتب إليك مخطّط تعليم القرآن والحديثِ الشريفِ لأئمة وخطباء المساجد، وأكتب إليك مخطّط أسلمة حزب البعثِ، والأمّة!

يا سيادةَ الرئيس: الأمة كلها جاهلة بدينها، وكلّها تحتاج إلى إعادة تأهيل!

يا سيادةَ الرئيس: إنّ أخطر ما في بلدكم هذا؛ الطائفيّة المقيتة، وهذه الطائفيّة هي التي ستدمّر العراق!

قاطعني وقال: ماذا نفعل؟ قدرنا أن يكون العراق هكذا سنّةً وشيعة!

الشيعة في العراق يكوّنون (60 - 62%) من السكان، هل أقتلهم كلهم مثلاً؟

هذا القصر الجمهوري (80%) من موظفيه من الشيعة، هذا وضع بلدنا!

قلت له: لم أقصد هذا يا سيادةَ الرئيس، أقصد أنّ هناك انقساماً حادّاً بين أهل السنة والشيعة، قد يقود إلى دمار البلد!

لم أصلِّ الجمعةَ في مَسجدٍ من مساجد العراق، إلّا كفّر خطيبُه الشيعةَ!

هو لا يقول: الشيعة كفّار أبداً!

لكنه يفلسف المسألة فيقول: احذروا أولئك الزنادقة الكفرة المجرمين، الذي يكفّرون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ويتّهمون أمهات المؤمنين بالزنا والعهر، ويقولون بتحريف القرآن الكريم!

احذروهم، فهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى، وهؤلاء أخطر عليكم من جميع أعداء الإسلام!

هذه الإسطوانة يجب أن تغيّر يا سيادةَ الرئيس؛ لأنّ الشيعة - كما تقولون أنتم - (60%) من السكان، فهذا يعني أن السنة العرب والكرد والتركمان (40%) فإذا كان الكرد (15%) وهم منفصلون عَمليّاً عن العراق، وباقي الطوائف (5%) فيبقى العرب السنّة في حدود (20%) لا يمكن لهم أمامَ الحقدِ الذي يكرّسونه في نفوس الشيعةِ أن يصمدوا أمامهم أبداً.

يا سيادةَ الرئيس: أنا أعيش في المجتمع أكثر منك بكثير، ووجودك هو السدّ الفاصل بين العراق، وبين أنهار الدماء، فعلينا التعاونُ على معالجة المسألة الطائفيّة في حياتك، أطال الله في عمرك، وأنا سأكتب إليك كيف نعالجها.

اقتنع السيّد الرئيس بعدد من مقترحاتي:

- حلقات القرآن الكريم.     

- أسلمة حزب البعث.

- مراجعة المناهج الدراسيّة.

- معالجة الطائفيّة، وفق منهج رفيقٍ، طويل المدى!

- إلزام بنات المدارس والجامعات بلباس موحّد، ساتر، مع وجوب لبس البنطال، وتكون التنّورة إلى حدّ الركبة، في الحدّ الأدنى.

- لفت نظر وزير الأوقاف، إلى ضرورة عقد دوراتٍ للأئمة الخطباء، والالتقاء بهم أسبوعيّاً، وتوجيههم إلى تغيير خطابهم الطائفيّ التحريضيّ.

وطلب مني أن أحضر هذا الاجتماع الأسبوعي، وأن أزوّد وزير الأوقاف بأفكار معتدلة، يلتزم بها الخطباء، في طريق ردم الهوّة السحيقة بين السنة والشيعة.

وأخبرني بأن أعمل في هذا المشروع بصمتٍ، وأن تكون صلتي به مباشرةً.

بعدما كتبتُ إليه خططاً لجميع ما تقدّم ذكره؛ عهد إلى الأستاذ عزّة إبراهيم بالإشراف على الحملةِ الإيمانية، ومن ههنا بدأت الحساسيّة بيني وبين الأستاذ عزّة إبراهيم!

هو يرى نفسه الرئيسَ الأعلى للحملة الإيمانيّة، وأنا لم أكنْ أراجعه في شيءٍ، ولا أرجع إليه في شيء، إنّما كنت إذا أردت شيئاً؛ أراجع الرئيس صدام مباشرة!

كان الدكتور بشّار عوّاد رئيس جامعتنا، فااتفقت معه على إقامةِ مسابقةٍ لحفظ وتجويد القرآن العظيم، على أن تكون جوائزها منّي أنا، فأعلن الرجل عن ذلك، وبدأتُ بمجالس تعليم القرآن الحكيم في الجامعة، ثمّ عُزلَ الدكتور بشار!

فلمّا سمع بذلك عزّة إبراهيم عاتبني، وقال لي: هل تظنّ جامعة صدّام ملكك الشخصيّ، تتصرّف فيها من دون الرجوع إلى أصحاب الشأن؟

وعندما أقمت ندوة التصوّف الأولى، وحضرها أناس كثيرون، وأنفقت عليها من جيبي للطعام والشراب ومكافآت الأبحاث؛ أقام مؤتمراً للتصوف، أطلق عليه (الأوّل) ولم يعدّ الندوةَ التي أقمتهاا على مدى يومين شيئاً!

وهكذا، وهكذا !

فلم أكن أقوم بشيءٍ من دون مشورته؛ إلّا حاول تعطيلَه أو إفشالَه!

وأنا لم يكن قصدي معاندَته أأومخالفتَه أبداً، إنّما كنتُ ملتزماً بما اتّفقت عليه مع الرئيس صدّام من جهة، ولأنني حادَّ المزاجِ، وكان هو أشدّ حدّةً، إلى جانب سلطته الرسمية، وأنا لم أكن أراه، أو أرى أحداً من القيادةِ في العراق تستحقّ أن أخضع لها، بكلّ صراحة، وهذا يرجع إلى خُلوّي من المعرفة السياسيّة المرنة!

في أحدِ مجالس العلمِ الخصوصية، التي كان يحضرها عليّ ولده إبراهيمُ بن عزّة إبراهيم؛ حدّثني إبراهيم بانّ والده عاتب عليّ!

قلت له: لم ذلك؟

قال: جميع المشايخ والعلماء يحضرون إلى بيتنا دوريّاً، وأنت وحدك الذي لا تحضر مجالس الوالد، وإذا التقيتَه؛ لا تزيد على أن تقول له: أهلاً أبا أحمد، بينما المشايخ يخاطبونه «سيّدي» ويقبلون رأسه ويده!

يعني والدي نائب خليفة المسلمين بالمصطلح الشرعي، وأنت لا تعامله كذلك!

قلت له: اسمع يا إبراهيم: أنا أقبّل أيدي فلانٍ وفلانٍ وفلانٍ من العلماء وحتى الدراويش، لكنني لا أقبّل يد السلطان، ولو قطع رأسي!

لو كان والدك وعمّك الرئيس صدام حسين يريدان وجه الله تعالى؛ لجلسا بين يديّ عشرين سنةً كمجلسك هذا، يطلبان العلوم الدينية، أفيطمحان لأن أقبّل أيديَهما أيضاً؟

كانت علاقتي مع الأستاذ عزّة إبراهيم طيلةَ عشر سنواتٍ، ظاهرها فيه الرحمةُ والمجاملةُ، وباطنُها فيه الكيدُ من طرفٍ واحدٍ فحسب!

ولا أريد تعدادَ المواقفِ الصعبة، التي أحرجني فيها الأستاذ عزّة إبراهيم، فهي كثيرة وكثيرة جدّاً، لا أدري ما كانت دوافعه إليها، إنما الذي أدريه يقيناً أنّ الإنسانَ العراقيَّ لا يقبل منافسةَ غيرِ العراقيّ البتة، وأنّ العراقيَّ يُبغضُ من يحسن إليه؛ لأنه يرى نفسه الأعلى، وأنّه هو وحده الجدير بعون الآخرين!

بقيت نقطةٌ واحدةٌ؛ يجب إيضاحها للأحباب من جهةٍ، وللخصوم الكاذبين من جهة أخرى!

يقول أولئك السفلة الكاذبون: إنني كنت تابعاً لعزّة إبراهيم، وقد أوضحت أننا لم نكن على وفاق أبداً، طيلةَ وجودي في العراق!

ويقولون: إنّ عزّة الدوري هو الذي منحني شهادةَ الدكتوراه، وأنا أقول: إنّ عزة الدوري هو الذي أوحى إلى لجنة المناقشة بردّ رسالتي الأولى، ولم يعجبه موقفي من اللجنة في أثناء المناقشة!

ويقولون: إنني كنت ملازماً له، وهذا كذب عراقيٌّ محض!

فأنا لم أزُرْ الأستاذ عزة إبراهيمَ في قصره، ولا مرّةً واحدةً في حياتي مختاراً!

ودخلت بيته ثلاثَ مرّاتٍ لا رابع لها، بناءاً على طلبه، كان يرسل إليّ سيارةً فيها رجالٌ من أمنه الخاصّ، يحضرونني إليه.

مرّةً دعاني إلى اجتماعٍ عامٍّ للمشايخ، كان فيه أكثر من (300) من عمائم العراق.

وقد دافع عني يومَها، وقال لبعض الحاضرين: الشيخ عداب لا يجامل على حساب دينه وعقيدته، لو كان يجامل على ذلك؛ لجاملنا نحن القيادة، الشيخ عداب يعرف ما يعمل!

ومرّةً دعاني لأتعشّى معه في حديقة قصره، منفردَيْنِ، وكان الرجل - فيما بدا لي - زاهداً غير متكلّف في أمور الطعام والشراب.

كان أحد خدم القصر يشوي لنا الكباب أمامنا، وعَقب شواءِ شيشين منه؛ قدّم إليّ الأستاذ عزّة لفافةً مكونة من رغيف صغير، وفي داخلها شيش كبابٍ واحدٍ حارٍّ، ليس معه لبن ولا خضارٌ، ولا أيّ مقبّلات!

وأكل هو لفافة مثلها، ثم سألني: أتريد لفافة ثانية؟ قلت: لا وبارك الله بكم، فأكل هو لفافةً ثانيةً، وقام فغسل يديه على حوض شجرة!

هذه وليمةُ عزّة إبراهيم، من أوّلها إلى آخرها، لم يكن معها سوى الماء!

والمرّة الثالثة: نسيتُ مناسبتَها - والله - وربما من أجل تعليم ولده إبراهيم!

لا والله، ثم لا والله، ثمّ لا والله، لا أعرف منزل الأستاذ عزة الدوري أين يكون، ولا كيف أذهبُ إليه، ولا أذكر أنني دخلت بيته سوى هذه المرّات الثلاث!

وهؤلاء أولاد الأستاذ عزّة - حفظهم الله تعالى - أحياءٌ يرزَقون.

أخيراً: كان الأستاذ عزّة الدوريّ رجلاً صوفيّاً فاهماً الفكرَ الصوفيَّ والسلوكَ الصوفي، كأحسن ما يكون، وليس كما يقول خصومه من أنّه جاهل، هذا غُبنٌ فاحشٌ!

وكان الرجل زاهداً في حياته - فيما بدا لي - وكان عابداً كثيرَ الصلاةِ، كثيرَ الذِكر.

وتربية أولاده؛ خير من تربية سائرِ علماءِ الشريعة الذين عرفتهم في العراق، من دون استثناءِ أحدٍ منهم على الإطلاق!

أولادُه وبناته ملتزمون بالدين، ملتزمون بالأدب، ملتزمون بطلب العلم الشرعيّ.

غيرَ أنّ باب السياسةِ؛ شيءٌ آخر، لا أفهمه، ولا أستطيع الجمع بين الدينِ، وبين ظلم السياسة، ولؤم السياسةِ، واستباحتها لدماء المسلمين.

لو أردتُ أن أكتب مجلّداً كاملاً عن تفصيلات العلاقةِ الهشّةِ، بيني وبين الأستاذ عزّة الدوري؛ لفعلت، ولكنْ لأنني فهمت طبيعةَ الإنسان العراقيّ؛ فلم يعد لذكرها فائدة!

كلّ عراقيّ عرفتُه، متى اختلفتَ معه؛ غدوتَ في نظره شيطاناً، واستباح منك كلَّ شيءٍ، علاوةً على أنّ العراقيّ يرى نفسه فوق الخلق أجمعين، فلا يحتمل المنافسة، ولو كان هو على باطلٍ ومنافسه على حقّ، وما صدرَ عن الأستاذ عزّة إبراهيم تجاهي؛ لا يخرج عن هذه الدائرة أبداً!  

ختاماً: رحم الله الرئيس صدّام حسين، ورحم الله نائبه عزة إبراهيم، ورحم الله جميع إخوانهما ورفاقهما في قيادةِ دولة العراق، فقد عادوا إلى دينهم ورشدهم حقّاً وصدقاً، بعد عام (1992).

وإنّ جميعَهم؛ أشرف من أولئك العملاءِ اللصوص الذين تآمروا مع أعداءِ الدين والوطن على العراقِ وشعبِه وعليهم.

وجميعُ المراقبين المخضرمين الذين عاشوا المرحلتين؛ يدركون الفرقَ الكبيرَ بين حرص نظام الرئيس صدّام حسين على بناء العراق وتقدّمه وصلاح أهله، وبين ما جرى ويجري منذ عام (2003) وإلى يومنا هذا.

والله تعالى أعلم

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق