الأحد، 17 أبريل 2022

      مَسائل حديثية (30):

شرُّ الطعامِ؛ طَعامُ الوليمة!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

رآني أحدُهم في وليمةٍ، فعاتبني بقوله: أيليق بالشريف عداب؛ أن يكونَ في وليمةٍ، والرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: (شرُّ الطعامِ؛ طَعامُ الوليمة)!؟

أقول وبالله التوفيق:

ليس الفقيرُ عدابٌ ممّن يحضُر طعامَ الولائم، ويعتذر عن حضورِ الولائم، إلّا في حالات نادرة!

لكنْ هل قال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا الحديثَ فعلاً؟

أخرج البخاري في كتاب النكاح (5177) ومسلم فيه (1432) من حديث عبدالرحمن بن هرمز الأعرج عن أبي هريرة أنه كان يقول:

«شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى لَهَا الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ الْفُقَرَاءُ.

وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»

فهذه الرواية موقوفةٌ على أبي هريرة من قوله.

وأخرج مسلم عَقبَ هذا الحديث (1432) من حديث ثابتِ بن عياض الأعرج عن أبي هريرة؛ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: وذكر الحديث بمثلِه.

فجعله ثابتٌ الأعرج مرفوعاً.

وقد عالج مسلمٌ مسألةَ تعارض الوقف والرفع على النحو الآتي، فقال:

(1) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ «فيما روى» عَنْ ابْنِ شِهَابٍ «في روايتِه» عَنْ الْأَعْرَجِ «فيما رواه» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ... الحديث.

(2) وحَدَّثَنَا «محمد بن يحيى» ابْنُ أَبِي عُمَرَ «العدني»: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ «بن عيينة» قَالَ: كَانَ أَبِي غَنِيًّا فَأَفْزَعَنِي هَذَا الْحَدِيثُ، حِينَ سَمِعْتُ بِهِ، فَسَأَلْتُ عَنْهُ الزُّهْرِيَّ.

قلتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ، كَيْفَ هَذَا الْحَدِيثُ (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ)؟

فَضَحِكَ، فَقَالَ: لَيْسَ هُوَ (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْأَغْنِيَاءِ) حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ) ثُمَّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ.

يريد الزهريّ أنّه يقول: طعامُ الوليمةِ؛ ليس كلَّ طعامِ الأغنياء!

(3) قال مسلم: وحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ قال: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ (ح)

وَمَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: (شَرُّ الطَّعَامِ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ) نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.

(4) وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوَ ذَلِكَ » يريد أنّ هؤلاء جميعاً جعلوا الحديثَ موقوفاً من قول أبي هريرة!

(5) وحَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ثَابِتًا الْأَعْرَجَ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (شَرُّ الطَّعَامِ؛ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُمْنَعُهَا مَنْ يَأْتِيهَا، وَيُدْعَى إِلَيْهَا مَنْ يَأْبَاهَا) «وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ».

مفادُ هذا؛ أنّ مسلماً يريد أن يقول: اتّفق رواة الحديثِ من طريقي سعيد بن المسيّب وعبدالرحمن بن هرمز، على جعل الحديث موقوفاً من قول أبي هريرة.

وخالفهما ثابتُ بن عياضٍ، فجعله مرفوعاً من قول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

وقد قدّمَ مسلمٌ الأقوى - كما نصّ في مقدمة كتابه - ثمّ ذكر المخالفةَ، وهذا ترجيحٌ منه لرواية الوقف على رواية الرفع!

لكنّ مسلماً لم يوضح ذلك صراحةً، ولم يشرح أسبابَ هذا الترجيح، ونحن سنقوم بذلك!

الإمامُ سعيد بن المسيّب؛ أعلم تلامذة أبي هريرةَ وأخصّهم به، فهو صهره على ابنته!

وقد روى له البخاريّ عن أبي هريرة خمسة عشر حديثاً!

والإمامُ عبدُالرحمن بن هرمز الأعرج، من أخصّ تلامذة أبي هريرة به، وقد روى له البخاريّ عن أبي هريرة ثمانية أحاديث!

أمّا ثابتُ بن عياضٍ؛ فلم يرو له البخاريّ في صحيحه شيئاً، وليس له في الكتب التسعة كلها سوى هذا الحديث الواحد الذي أخرجه مسلم ليبيّن علّته!

وهذا يعني ترجيح رواية سعيد بن المسيّب والأعرج على رواية ابن عياضٍ هذا؛ لأنّه ليس من علماء الحديث، وليس من خواصِّ أبي هريرة.

وأهل العلل تكلّموا على هذا الحديثِ، بنحو كلامي عنه، فلا حاجة بنا إلى التطويل!

وقد رجّح بعض العلماءِ أنّ الحديث موقوفٌ روايةً، لكنه مرفوعٌ حكماً، بدليلين:

الأوّل: أنّ آخر الحديث (فقد عصى الله ورسوله) لا يمكن لأبي هريرة أن يقوله اجتهاداً.

والثاني: أنّ أوّل الحديث في حكم المرفوع أيضاً، إذ من الثابت كما يقولون أنّ إطعامَ الطعامِ من أحبّ الأعمال إلى الله تعالى.

وجوابي أنّ الحديثَ كلّه من أوّله إلى آخره من كيسِ أبي هريرة، وإليكَ بيان ذلك!

أوّلاً: سئل الرسولُ صلّى الله عليه وآله وسلّم: أيّ الإسلام خير؟

قال: (تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ، وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ) أخرجه البخاري في الإيمان (12) ومسلم فيه (39).

وطعامُ الوليمةِ داخلٌ في إطعام الطعام.

ثانياً: ندب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم أصحابه إلى إجابة دعوة الوليمة فقال: (إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوَلِيمَةِ؛ فَلْيَأْتِهَا) أخرجه البخاري (5173) ومسلم (1429) من حديث عبدالله بن عمر مرفوعاً، وابن عمر أعلم وأفقه وأتبع للأثر من أبي هريرة وغيره!

فهل يدعو الرسول أصحابه إلى شرّ طعام؟

ثالثاً: كيف يقول أبو هريرة: شرّ الطعام؛ طعام الوليمة، ثم يقول: «وَمَنْ تَرَكَ الدَّعْوَةَ؛ فَقَدْ عَصَى اللهَ وَرَسُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» كيف يلبّي المسلم الدعوةَ إلى شرّ طعامٍ؟

رابعاً: ندب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم مَن تزوّج بصنع الوليمة، فقال لبعض أصحابه: (أولم ولو بشاة!) أخرجه البخاري (2049) ومسلم (1427).

يعني أولم بقدر ما تستطيع، وأقلّها أن تجعل وليمتك على شاةٍ واحدة، ووليمة الزفاف يحضرها الأهلَ والأصدقاء، وليست خاصّةً بالفقراء.

خامساً: عاش أبو هريرة فقراً مدقعاً، جعله يحسّ بآلام الفقير أكثرَ من إحساس أكثر الأغنياء، فاجتهد بأنّ الأغنياء لا يُحضِرون الفقراء ولائمهم، بل لا يصنعونها للفقراء أصلاً!

والمدعوّون الأغنياء؛ ليسوا في حاجة إلى طعام الغنيّ، ولا ريب في أنّ الأحوجَ هو الأولى!

خِتاماً: يدخل تحتَ الوليمةِ؛ دَعوة ذوي الأرحام، ودعوة الأقارب، ودعوة الأصدقاء وفي كلّ ذلك خير وبركةٌ وتآلفٌ وتقارب، فهل جميع هؤلاء يتناولون شرَّ طعام.

لكنّني أندب إخواني الأغنياء إلى الانتباه إلى الفقراء، فلا يطعموهم فتاتَ طعامهم، ولا يُعطوهم القليلَ من مالهم، إنما يكرمونهم بما يكفيهم، و(لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها).

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.  

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق