الأربعاء، 13 أبريل 2022

 التَصَوُّفُ العَليمُ (13):

رُؤيةُ الرَسولِ في المنامِ واليقظَةِ!؟

صلّى الله عليه وآله وسلّم

بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحيمِ

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(رَبَّنَا: افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

سألني: هل رأيتَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام؟

قلت له: إي والله، رأيته في المنام كثيراً وكثيراً جدّاً، ولله الحمدُ والمنّة!

قال: هناك حديث يقول: إنّ مَن رأى الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام؛ فسيراه في اليقظة!

- فهل هذا الحديثُ صَحيحٌ؟

- وهل تكون الرؤيا في الدنيا، أو في الآخرة؟

- وهل رأيتَه أنتَ يقظةً، وكيف؟

- وما السبيلُ إلى رؤيتِه في المنام، أو في اليقظة؟

أقول وبالله التوفيق:

رأيتُ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صوَرٍ عديدةٍ!

فأوّل مرّة رأيتُه في المنام، كنت صغيراً جدّاً، ربما في الابتدائي، فهِبتُه وفزعتُ من رؤيته صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأخبرت والدتي بذلك!

سألتني الوالدة رحمها الله تعالى: هل قال لك شيئاً، أو قلت له شيئاً؟

قلت لها: هو قال لي كلاماً كثيراً، لكنني نسيتُه، وكأنّه حذّرني من إغضابِك، ونهرني لذلك، فخفتُ منه كثيراً، ولم أقلْ شيئاً!

ثمّ رأيته يقظةً في الصفّ الثالث الإعدادي، في صلاةِ فرض العشاء، وفي جامع الأحدبِ، مُقابلَ الميضأةِ!

وانتهت الصلاةُ وأنا أبكي بكاءً شديداً، فظنّ بعض زملائي أنني أتصنّع البكاء من خشية الله تعالى!

وأنا إنما كنت أبكي من رهبة نار جهنّم التي شاهدتها، مثل البحر المحيط الأحمر!

لكنني لم أكن لأجرؤَ على التصريحِ بما شاهدتُ؛ لأننا شبابٌ صغار، لا يصدّق بعضنا بعضاً بأقلَّ من هذا بكثير، وقد قصصتُ عليكم الرؤيا سابقاً!

بعد الصف التاسع هذا، توالت رؤايَ لسيدي رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنصحني جدّي بأن لا أتكلّم بشيءٍ من هذا، وقال لي: هذه خصوصيّة!

قلت له: ما مَعنى خصوصيّة؟

قال: اسمع الكلام، واسكت، ولا تحدّث أحداً بما ترى!

مضت سنواتٌ طويلة، ولم أحدّث أحداً برؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، إلى سنة (1976) عندما فاتحني سيدي الشريف محمّد سليمان أحمد الشندويلي رحمه الله تعالى، قال: قصّ عليّ ما رأيتَ الليلةَ، قبل أن يحضرَ الأولاد - يقصد زملائي في حلقة القرآن العظيم - فإذا حضرَ أحدُهم؛ فاسكت!

فجئتُ لأقول له: إنني ممنوعٌ من قَصِّ هكذا رؤى؛ قال: لا تخف، قصّ ما ترى على عالمٍ أو ناصحٍ، وإيّاك وقصَّ الرؤى على حسود!

قلت له: كيف أعرف الحسودَ؟

قال: عُدَّ كلّ مَن حولك حساداً، وإن كان قليلٌ منهم ليس كذلك!

قصصت عليه الرؤيا، فقال: اذهب إلى جدّك الإمام الحسين، وسلّم عليه، وقصّ عليه الرؤيا بقلبك، وادعُ الله تعالى هناك  بما شئتَ، ولا تنسني من الدعاء، ففعلتُ!

أنجزتُ حصّتي من القرآن عنده، ثمّ ذهبتُ إلى زاويةِ المغربلين، فإذا بسيّدي الشريف محمّد الحافظ التجاني رحمه الله تعالى، ينتظرني في مسجد الزاوية، وهو يبتسم!

قال: هيهِ يا شيخ فيصل، حدّثني بما رأيتَ الليلةَ، وراحَ يبكي!

حدّثته بما رأيتُ، فتبسّم، ثم بكى فرحاً واستبشاراً؛ لأنّ الرؤيا كانت تخصّه!

فعددتُ طلب كليهما بأن أقصّ عليهما رؤياي، وفي يومٍ واحدٍ إذناً بقصِّ الرؤى!

وكان لي أخ حبيبٌ يُظهِر أنّه يُحسن تفسيرَ الرؤى، فصرتُ أقصّ عليه رؤايَ!

وكلّما قصصتُ عليه رؤيا؛ قال لي: صدقتَ!

قلت له مرّةً: كلّما قصصتُ عليه رؤيا؛ تقول لي صدقتَ، فكيف تعرفُ أنني صادقٌ في رؤيايَ، أو غير صادق؟

قال: متى تماديتَ أو كذبتَ في رؤيا؛ سأقول لك: تماديتَ، وعندها ستعرف بنفسك!

رأيت الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم في صورة جدّي السيّد إبراهيم!

ورأيته في صورة الملك الحسين بن طلال، ثلاثَ مرّاتٍ!

ورأيته في صورة الدكتور الشريف راشد بن راجح العبدلي، قبل أن أراه، وقال لي يومها: (موعدنا في موسم الحجّ من العام القادم) وفعلاً قدّر الله لي الحجّ عام (1399) بطريقةٍ تشبه المعجزة!

ورأيتُه مرّةً أسمرَ اللون، قصيرَ القامة، فبكيت وخفتُ كثيراً، فقصصت الرؤيا على سيّدي الحافظ التجّاني، فقال: ولم تبكي، أنسيتَ أنّك رأيتَه صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهل يَتمكّن كلّ أحدٍ من رؤيتِه؟

لا تحزنْ، أَكثِرْ من الصلاة والسلام عليه؛ يَبيضَّ لك وجهه الشريف!

أمّا حديث (مَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ؛ فَسَيَرَانِي فِي الْيَقَظَةِ، وَلَا يَتَمَثَّلُ الشَّيْطَانُ بِي) فأخرجه البخاري في التعبير (6993) ومسلمٌ في الرؤيا (2266).

وللحديث ألفاظ متعدّدة، من أجل اختلافها؛ اختلف العلماء في تفسير الحديث!

وقد أوضحَ الحافظُ ابن حجر في فتح الباري (12: 384) فما بعدها أوجهَ اختلاف العلماء في تفسير هذا الحديث، ثمّ لخّصها بقوله:

«وَالْحَاصِلُ مِنَ الْأَجْوِبَةِ سِتَّةٌ:

أَحَدُها: أَنَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى (فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَةِ).

ثَانِيها: أَنَّ مَعْنَاهَا سَيَرَى فِي الْيَقَظَةِ تَأْوِيلَهَا بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ أَوِالتَّعْبِيرِ!

ثَالِثُها: أَنَّهُ خَاصٌّ بِأَهْلِ عَصْرِهِ، مِمَّنْ آمَنَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ.

رَابِعُها: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الْمِرْآةِ، الَّتِي كَانَتْ لَهُ، إِنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ!

وَهَذَا مِنْ أَبْعَدِ الْمَحَامِلِ.

خَامِسُها: أَنَّهُ يَرَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بِمَزِيدِ خُصُوصِيَّةٍ، لَا مُطْلَقٌ مَنْ يَرَاهُ حِينَئِذٍ، مِمَّنْ لَمْ يَرَهُ فِي الْمَنَامِ!

سَادِسُها: أَنَّهُ يَرَاهُ فِي الدُّنْيا، حَقِيقَةً، وَيُخَاطِبُهُ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْإِشْكَالِ»!  

والإشكال الذي يقصده ابن حجر؛ هو قولُه قبل هذا الكلام:

« وَنُقِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّالِحِينَ؛ أَنَّهُمْ رَأَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ، وَسَأَلُوهُ عَنْ أَشْيَاءَ كَانُوا مِنْهَا مُتَخَوِّفِينَ، فَأَرْشَدَهُمْ إِلَى طَرِيقِ تَفْرِيجِهَا، فَجَاءَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ.

قُلْتُ - والقائل ابن حجر: وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا، وَلَوْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ؛ لَكَانَ هَؤُلَاءِ صَحَابَةً، وَلَأَمْكَنَ بَقَاءُ الصُّحْبَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ!

وَيُعَكِّرُ عَلى هذا القولِ؛ أَنَّ جَمْعًا جَمًّا رَأَوْهُ فِي الْمَنَامِ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ رَآهُ فِي الْيَقَظَةِ، وَخَبَرُ الصَّادِقِ لَا يَتَخَلَّفُ!

وَقَدِ اشْتَدَّ إِنْكَارُ الْقُرْطُبِيِّ عَلَى مَنْ قَالَ: مَنْ رَآهُ فِي الْمَنَامِ؛ فَقَدْ رَأَى حَقِيقَتَهُ، ثُمَّ يَرَاهَا كَذَلِكَ فِي الْيَقَظَة»!

وقال ابن حجر: «وَقد تَفطّن ابنُ أَبِي جَمْرَةَ لِهَذَا، فَأَحَالَ بِمَا قَالَ عَلَى كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ!

فَإِنْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ تَعَيَّنَ الْعُدُولُ عَنِ الْعُمُومِ فِي كُلِّ رَاءٍ!

ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَامٌّ فِي أَهْلِ التَّوْفِيقِ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ؛ فَعَلَى الِاحْتِمَالِ، فَإِنَّ خَرْقَ الْعَادَةِ قَدْ يَقَعُ لِلزِّنْدِيقِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ وَالْإِغْوَاءِ، كَمَا يَقَعُ لِلصِّدِّيقِ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ وَالْإِكْرَامِ، وَإِنَّمَا تَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُمَا بِاتِّبَاعِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ».

وأقول: نستنتج من هذه الاختلافاتِ الأمورَ الآتية:

أوّلاً: حصلَ هذا الاختلاف الكبيرُ، مع أنّ الحديث عندهم صحيح؛ لكنْ لمّا كان الحديث آحاديّاً، مَظنونَ الثبوت، وما دام مظنون الثبوت؛ فالاجتهاد في فهمه سائغٌ، وعدمُ اعتمادِه، سائغٌ لدى مَن يرى المتن منكراً، من العلماء أيضاً.

ثانياً: نستنتج من كلام الحافظ ابن حجر أنّه لم ير الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً، حتى تاريخ انتهائه مِن «فتح الباري» لأنّه لو كان رآه؛ لكان جوابُه غيرَ جوابِه هذا!

ثالثاً: إذْ لم يتّفق العلماء على قولٍ واحدٍ في دلالة متن الحديث، إنما اختلفوا فيها، فتبقى المسألة على الاحتمال، وترجيح أحد الاحتمالين، إنما يكون بالوِجْدان!

والمثبتُ في الممكنات؛ مقدّم على النافي!

بقي الكلامُ في هل تكون رؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً، رؤيا عينٍ أم رؤيا قلب؟

حكى الإمام السيوطيُّ وكثيرون غيرُه أنّها رؤيا عين، وقد حدّثني غير واحدٍ من شيوخي أنّهم أُخبروا بأنّها رؤيا عين، وقليلٌ منهم مَن قال لي: إنّه رآه صلّى الله عليه وآله وسلّم يقظةً رأيَ عين!

وفي مثلِ هذه المسائل، لا أحبَّ النقولَ أبداً، إنما أحبّ نقلَ تجربتي الشخصيّة كما هي!

وأنا الفقير إلى الله تعالى؛ لم أرَ الرسولَ صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولا غيرَه من الأنبياء ولا أئمة آل البيت والصحابة والصالحين، رأي عينٍ باصرةٍ قطّ!

إنّما هي الرؤيا القلبيّة، وحسب!

والرؤيا القلبيّة ليست مستنكرةً لدى السادة الصوفيّة أبداً، بل إنهم بنوا عليها «الرابطة الروحيّة» والرابطةُ الروحيّة؛ يستطيع كلّ امرئٍ تجربتَها، وستتحقّق نتائجُها لكثيرين، لكنّ الأكثرين لن يروا شيئاً!

قال لي غير واحدٍ من شيوخي، وبه أقول:

الرابطة الشريفة لا تفيدُ المرابين والزناة واللوطيين والقتلة والسحرة، حتى وإن تابوا من جرائمهم هذه.

سألت أحدهم: أليس الإسلام يجبّ ما قبلَه، أليست التوبةُ تجبّ ما قبلَها؟

قال لي: وما علاقة هذا بذاك؟

هل تظنّ أنتَ أحدَ هؤلاء الفجرةَ التائبين، رأى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في المنام، حتى نفترضَ إمكانَ رؤيتِه الرسولَ يقظةً؟

ونحن لا نعلمَ أحداً من أهل الموبقات، حصلت له هذه الرؤيةُ الشريفة!

أمّا السبيل إلى رؤية الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، مناماً أو يقظةً، فتحتاجُ إلى مَنشورٍ خاصّ.

والله تعالى أعلم.

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على سيّدنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً

والحَمْدُ للهِ على كلِّ حالٍ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق