الأحد، 4 مايو 2025

        مسائل حديثيّة

صلَةُ نُسخةِ أبي ذرٍّ الهرويّ بفتح الباري!؟

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى)

أمّا بعد: كتب إليّ يقول: «سمعتُ أحدَ المتحدّثينَ على القنواتِ الفضائيّة يقول: لا يوجد نسخةٌ أصليّة من كتاب «فتح الباري» للحافظ ابن حجر العسقلانيّ، إنّما المطبوع نسخةٌ ملفّقةٌ، فمتن صحيح البخاري شيءٌ، وشرحُه شيءٌ آخر!

وتجد الحافظ في بعض الأحيان يشرح كلماتٍ ليس لها وجودٌ في متنِ صحيح البخاريّ الذي جعل فتح الباري شرحاً له، فما رأيكم بهذا الكلام)؟ انتهى.

أقول وبالله التوفيق: الكلام في هذه المسألة طويلُ الذيلِ، وإنْ ضبط هذا الناقلُ؛ فذلك المتحدّثُ على إحدى القنواتِ مغرضٌ أو جاهل!

أوّلاً: نصّ الحافظ ابن حجر في آخر مقدّمته لفتح الباري، عقب سياقة أسانيده، إلى روايات صحيح البخاري؛ أنّه اعتمد نسخة الحافظ أبي ذرّ الهرويّ عن شيوخه الثلاثة.

قال في مقدمة فتح الباري «بعد هدي الساري» من طبعة مؤسسة الرسالة العالمية (1: 11): «انتهى الغرضُ الذي أردتُه، من التَوصيلِ الذي أوردته.

فليقع الشروعُ في الشرحِ، والاقتصارُ على أتقن الروايات عندنا، وهي روايةُ أبي ذرٍّ عبداللهِ بن أحمد الهروي عن مشايخه الثلاثة؛ لضبطِه لها، وتمييزه لاختلافِ سياقِها، مع التنبيه إلى ما يُحتاجُ إليه ممّا يخالفها، وبالله تعالى التوفيق».

وفريق تحقيقِ فتح الباري بمؤسسة الرسالة، برئاسة الشيخ شعيب الأرناؤوط - عفا الله عنه - ألمَحوا في مقدمة تحقيقهم لهذا الكتاب الكبير الماتع، إلى أنّهم لم يَقفوا على نسخةِ أبي ذرٍّ، فاستعانوا بمتن صحيح البخاريّ من النسخة اليونينية.

قالوا في هدي الساري (1: 61): «الروايةُ التي اعتمدها الحافظ ابن حجر في شرحه صحيح البخاري؛ هي رواية أبي ذرٍّ الهرويّ عن مشايخه الثلاثةِ: الكُشْميهَنيّ، والمستملي، والسَرْخَسيّ، ثلاثتهم عن الفِرَبْريِّ؛ لكونها أتقن الروايات عنده.

علماً بأنّ الحافظَ ابن حجرٍ؛ لم يسرد متونَ أحاديثِ صحيح البخاري بألفاظها في شرحه، فاعتمدنا في إثباتِ المُتونِ على النسخة اليونينية، بوصفها أضبط نسخةٍ أشارت إلى روايات صحيح البخاريّ بدقّةٍ متناهية» ... إلخ.

ولم يبدِ فريق التحقيقِ سببَ اعتمادهم على النسخة اليونينية المتقنةِ حقّاً، كما قالوا.

وسبب ذلك واضحٌ ظاهرٌ، إذْ لم تكن نسخةُ أبي ذرٍّ معروفةً في أيّام تحقيقهم فتحَ الباري، عام (2013م).

وأوّلُ من كَشفَ عن وجود نسخة أبي ذرٍّ الهرويّ في إحدى مكتبات المخطوطات باستانبول؛ هو الدكتور الشريف محمد مجير الخطيب الحسينيّ، في عام (2017م) جزاه الله خير الجزاء.

وقد صُوّرت نسخةُ أبي ذرٍّ تصويراً جميلاً واضحاً، وعُرضَتْ للبيع على نطاق محدودٍ، وأهداني الشريف صالح بن سليمان الحسنيّ نسخة منها، فله الشكر الجزيل.

ونحن في «المركز الهاشميّ للبحث العلميّ» قابلنا صحيح البخاريّ على ثلاث نسخٍ أصيلةٍ، جميعها فروعٌ عن اليونينية، هي: نسخة النويريّ، ونسحة البقاعيّ، ونسخة الكازرونيّ، ومن ضعف همّتي وتردّدي في نشر ما أنجزه؛ لم ننشر نسختنا هذه، مع أننا انتهينا من تحقيقها وتخريجها منذ أعوام!

وعقب حصولي على نسخةِ أبي ذرٍّ هذه؛ لم تعد نسخةُ النويريّ ذاتَ قيمةٍ كبيرةٍ في نظريّ، إذْ إنها ليست سوى فرعٍ عن اليونينيةِ، التي طُبعت عليها النسخة السلطانية الممتازة!

ولأنني أقوم بتحقيق «كتابِ التوحيدِ» من فتح الباري، في هذه الأيّام، لما له من أهميّةٍ كبرى في بيان مذهب السلفِ في إثبات صفاتِ الله تعالى الخبريّةِ؛ فقد شرعتُ بمقابلةِ نسختنا الثلاثيّة، على نسخةِ أبي ذرّ.

وسأجعلَ نسخةَ أبي ذرٍّ هي الأصلَ في سياقة متون أحاديث كتاب التوحيد؛ ليتطابقَ الشرحُ مع المتن، إنْ أعانني الله تعالى على ذلك.

ختاماً: لو سكتَ الذي لا يَعلَم؛ لقلَّ الخلافُ بين أهل العلم!

والله تعالى أعلم.

     والحمد لله على كلّ حال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق