مَسائِلُ مِن التَفسيرِ وعُلومِ القرآن:
مقدّماتٌ ممهّدات للتفسيرِ
التعليميِّ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله]الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[[العلق: 4- 5].
وأفضل الصلاةِ والسلام على من
خاطبه ربه تعالى بقوله: ]وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[[النحل: 44].
أمّا بعد: يحسنُ التذكير
ببعضُ الأمور المهمّةِ، حتى لا يَستدرك عليُّ بعضُ أهلِ الاختصاص من القرّاءِ
الكرام.
أوّلاً: يذهبُ بعضُ علماءِ
التفسيرِ وعلومِ القرآن، إلى أنّ علومَ النحوِ والصرف والبلاغة والبيان والوضع
والنحتِ والاشتقاقِ، والنسخ والتخصيصِ، والمبهمات والأمثال وأسرار التكرار، وأسباب
النزول، وإعجاز القرآن، ونحوها؛ ليست من علومِ القرآن، وليست من علوم التفسير!
وطبيعةُ هذا المنشورِ
الثقافيّةُ - غيرُ التخصصية - لا تحتمل مناقشةَ هذا الكلامِ تأييداً أو رفضاً،
إنّما الذي أقوله: جميعُ هذه العلومِ، ومعها أصول الفقه، والفقه المقارن، وعلمُ
الفلك، وعلم الطبّ... جميعُها تُعينُ المفسّر على استجلاءِ معاني ومباني كلام اللهِ
عزّ وجلَّ.
ثانياً: بعد كتابتي أكثرَ من
(1000) صفحة في الناسخ والمنسوخ؛ فلم يعد أحدٌ في حاجةٍ إلى هذا العلم كلّه.
وإذْ ليس في القرآن الكريم
ناسخ ولا منسوخٌ بالمعنى الأصوليّ؛ فلم يعد بالتفسيرِ حاجةٌ إلى معرفةِ مكيّةِ
السورةِ ومدنيّتها، إنّما يحتاجُه من يؤمن بنظريّة (التدرّج) في التربية والإعداد
والبناء.
ثالثاً: معرفةُ المحكم
والمتشابه، من أهمّ ما يتعيّنُ على المفسّر معرفته، وإذْ قد اختلفَ العلماءُ
كثيراً في معنى المحكم والمتشابه؛ فالذي أذهب إليه؛ أنّ دلالةَ النصِّ على
المرادِ، إنْ كانت نصّاً أو ظاهراً، حسب المصطلحات الأصوليّة؛ فتكون الآيةُ أو
الكلمةُ في الآيةِ محكمةً.
وإنْ احتملت الآيةُ أو
الكلمةُ
معانيَ متعدّدةً؛ فهي من المتشابه.
والمتشابه عند الفقير عداب ثلاثة فصول: [وأعني
بالفصلِ هنا: قطعةٌ من الباب مستقلة بنفسها، منفصلةٌ عما
سواها].
الفصل الأوّل: ما لا يُدرك حقيقة معناه وذاته، وهو
كلُّ ما يتّصل بالوجودِ الحقِّ (اللهِ) تبارك وتعالى.
فمهما حاولنا التعرّفَ إلى ماهيّةِ الذات الإلهيّة
وكنهها، انطلاقاً من الأسماء والصفاتِ التي رضي الله تعالى أن يُسمّى، أو يوصف
بها؛ وجدنا قول الله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ
يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) [سورة الإخلاص].
وقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [سورة
الشورى].
وقوله تعالى: (ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ، لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ،
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) [سورة الأنعام].
الفصلُ الثاني: ردّ المتشابه إلى المحكم، وهذا
كثيرٌ في القرآن الكريم، وهو ممكن غير عسير.
مثال ذلك: إضافة الوَجهِ إلى الله تعالى.
فقد أضيفت كلمة (وجه) إلى الله تعالى في القرآن
الكريم، على أنحاء:
(أ) وجه الله:
(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ ).
(وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللهِ
)
(ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).
(وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ،
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).
(إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ، لَا
نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا).
(ب) وجه ربّ:
(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
رَبِّهِمْ).
(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى).
(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ).
كلّ عربيٍّ يعرفُ لغتَه نحواً وصرفاً وبلاغةً؛ يفهم
أنّ كلمةَ (وجه) في جميع هذه الآياتِ، لا يُرادُ منها صورةٌ بكيفٍ أم بدون كيف!
إنّما يفهم من جميعِها (ثوابَ الله تعالى ورضاه)
وما تتضمنه هاتان الكلمتان من مَعاني العَفوِ والقُربِ والحبِّ!
ما عدا الآيةَ الأخيرة (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)
فالمراد منها أنّ الله تبارك وتعالى وحده الحيّ القيوم الباقي، الذي لا يفنى!
والذين يقولون بأنّ (وجه الله) صفةٌ ذاتيّة له؛
مجانين حقّاً، والذين ينفون المجاز والكنايةَ في عصرنا هذا؛ هم أغبى شريحةٍ في هذه
الأمة.
إذا كان وجه الله تعالى صفةً ذاتيّة حقيقيّة له،
وهو وحده الباقي؛ فأنت بين خيارين:
إمّا أنّ الذاتَ الإلهيّة وجه وحسب!
وإمّا أن تؤوّل، والتأويل لا يكون إلّا بردّ
المتشابه إلى المحكم!
وهكذا يكون ردُّ المتشابه (وجه) إلى المحكم (ليس
كمثله شيءٌ).
ومهما قال السلفُ والخلفُ من (وجه لا كوجوهنا)
و(وجه بلا كيف) و(ووجه يليق به تعالى) فلا بدّ من التشبيه تصوّراً وخيالاً،
والسلفُ أجمعون ليس كلامهم حجّة!
إذْ دلالةُ كلمةِ (الوجه) إذا حُملت على حقيقتها،
في جميع لغاتِ العالمِ؛ فليس لها سوى معنى واحدٍ، لدى الإنسان والحيوان والطائر
والزاحف والسابح!
الفصل الثالث: ترجيحُ أحد المعاني من استنطاقِ
السياقِ والسباق، فإنّ الكلمة القرآنية قد تدلُّ على معنى واحدٍ، في أيّ موضع جاءت
في القرآن الكريم، مثل (الله - محمد - نوح - عيسى - القرآن - التوراة - الزبور)
وقد تدلّ على معانٍ متعددة، مثل (الإيمان - الإسلام - الإحسان
- الزكاة - الإنفاق) والسياق والسباق، ووحدةُ النظم القرآني؛ ترشد المفسّر إلى
مرادِ الله تعالى، من هذه الكلمة هنا، ومراده منها هناك.
رابعاً: الأصلُ في التفسيرِ عند الفقير عداب؛ حملُ
المعنى على حقيقةِ دلالته اللغوية، إذْ هو الأصل في جميع لغاتِ العالم، إلّا إذا
تعذّر حملُ الكلمة على ظاهرها، لما تقدّم وغيرِه.
وليس حملُ الكلمة على معناها الظاهر؛ يعني ما يفهمه
عوامُّ زماننا، إنّما حملُها على المعاني التي كان يفهمها ويتداولها العربُ قول
عصر التوليد!
فنحن لا نعرف من العربيّة سوى الإطار العامّ، أمّا
حقيقة اللغة العربيّة، وذوقها، وفقهها؛ فالمخاطبون بها، والذين يفهمونها حقَّ
الفهم في زماننا مثلاً؛ هم أمثال: مصطفى الرافعيّ وعبّاس العقّادِ والزيّات وسيّد قطب.
فمَنْ ظنّ من العوامِّ أنّ ما يعرفه هو من اللغةِ؛
هو اللغةُ التي نزل عليها القرآن الكريم، وبلغته يُفَهم كلُّه؛ فقد ظنّ باطلاً!
ولو ذهب مثل هذا الجاهلِ إلى واحدٍ من كتب أمير
البيان الرافعي، وقرأ له صفحاتٍ في كتاب «وحي القلم» أو «أوراق الورد» أو حتى «إعجاز
القرآن» لعرفَ حقَّ المعرفةِ صدقَ ما أقول!
ولا أدلّ على ذلك من أنّ الإمامَ أبا منصور
الأزهريّ الهرويّ (ت: 370 هـ) كتب كتاباً يقع في (300) صفحةٍ، سمّاه «الزاهر في
غريبِ ألفاظِ الشافعيّ» (ت: 204 هـ) رحمهما الله تعالى.
وأنّ الإمامَ أبا العبّاس الفيّومي (ت: 770 هـ) كتب
كتابا ضخماً يقع في (754) صفحةً، سمّاه «المصباح المنير في غريبِ الشرحِ الكبير».
والشرح الكبيرُ عنوانه «فتحُ العزيز بشرح الوجيز»
لإمام الشافعيّة في عصره عبدالكريم بن محمّد القَزوينيّ (ت: 623 هـ).
والوجيز المقصود هنا: هو «الوجيز في فقه الإمام
الشافعيّ» للإمام أبي حامد الغزالي محمد بن محمد (ت: 505 هـ) رحمهم الله تعالى.
أمّا التفسير الإشاريّ، والتفسيرُ الباطنيّ؛ فليس
لهما في تفسيري الذي أقدّمه للناس أيُّ مكانٍ، إذْ التفسير الأوّل يقوم على رؤىً
قلبيّةٍ أو ذوقيّةٍ، لا أرى صحّةَ تصديرها للناسِ، على أنها تفسيرٌ لكلام الله
تعالى.
وأمّا الثاني «الباطني» فله أسسٌ وقواعدُ فلسفيّةٌ
وتأويليّةٌ تحكّميةٌ، لا يمكن أن تكون ديناً بحالٍ من الأحوال!
وقد طالعتُ مؤخّراً كتابَ «أساس التأويلِ» للنعمان
بن حَيّون المغربيّ الإسماعيليّ (ت: 363 هـ) وهو من أوّله إلى آخره تأويلٌ لآياتٍ
منتقاةٍ من كتاب الله تعالى، بينها وبين لغةِ العربِ أحياناً أوهى من خيط
العنكبوت!
خذ على ذلك مثالاً أخي القارئ الكريم:
قال الله تعالى: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها، وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى، وَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا (189) [سورة البقرة].
قال النعمانُ الباطنيُّ في أساس التأويل (ص: 268)
في تأويل هذه الآية ما نصّه: «محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم أفضلُ البُيوتِ،
وبابُه عليٌّ أفضل الأبواب، الذي مَن دخله كان آمناً.
قال الله عزّ وجلَّ (بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ
الرَّحْمَةُ، وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) [سورة الحديد].
وكلُّ من خالفَ دعوةَ الأساسِ الباطنةَ، وأقامَ على
الظاهرِ بغير الباطنِ؛ فهو في ظاهر العذاب.
وعليٌّ صلوات الله عليه؛ أفضل بابِ حدودِ اللهِ،
الذين هم النطقاءُ، وحكمةُ الله محفوظة مكنونةٌ في بيوته، وأفضلُ بيوته محمّد صلّى
الله عليه وآله وسلّم، وأفضلُ أبواب بيوته هو أساسه، فأخبرَ العالمَ بمضمراتِ
القلوبِ، وهو المُخبِرُ عن محجوبات الغيوب؛ أنّ ما حجبه عن الفراعنة؛ لا يصلون
إليه، ولا يعلمونه» انتهى بتمامه!
وهذا الكلامُ من أوّله إلى آخره؛ لم يفسّر الآيةَ
أصلاً، وصلتُه بمعناها واهية!
وليس بنا حاجةٌ كبيرةٌ إلى المقدّماتِ، فالتفسير
الواقعيُّ يوضح منهجنا في التفسير الواضح لغير المختصّين، من أقربِ طريقٍ.
والله تعالى أعلم.
والحمد لله ربّ العالمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق