التَصوّفُ العليمُ:
جامعُ أخلاقِ التَصوّف !؟
بسم الله الرحمن الرحيم
(الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَسَلامٌ عَلَى عِبادِهِ
الَّذِينَ اصْطفَى).
أمّا
بعد: كتب إليّ يقول: ذاتَ يومٍ طلبتُ منك أنْ تُرشدني إلى كتابٍ يتحدّث عن الأخلاق
الإسلامية، فأرشدتني إلى كتاب «دستور الأخلاق في القرآن» للدكتور محمد بن عبدالله
دراز المصريّ (ت: 1377 هـ) وكتاب «الأخلاق الإسلاميّة» للشيخ عبدالرحمن بن حسن
حبنّكة الميداني (ت: 1425 هـ).
وقلتَ
لي: إنّ هذين أفضل كتابين قرأتَهما في «الأخلاق» وهما كافيان!
بيد
أنّني عندما تعرّفت إلى الكتابين؛ وجدتُ صفحاتهما تقرُبُ، أو تزيدُ على (2000)
صفحة، وأنا طالبُ علم صوفيّ صغير، يكفيني أنْ أقرأ صفحةً أو صفحتين في الأخلاق
الحميدةِ!
وأنت
تدري أنّ للصوفيِّ أورادَه ورواتبَه الثابتةَ، التي لا يستطيع تركَها يوماً
واحداً، فمن أين يأتي بالوقتِ ليقرأ ويفهم (2000) صفحة؟!
أقول
وبالله التوفيق:
كان
عددٌ من شيوخي، ومنهم سيّدي «محمد الحافظ التجاني» رضي الله عنهم يقولون لي ما
معناه: «لا تَجْبَه
الفقيرَ «الصوفيَّ» بالعِلم؛ فغالبُ الصوفية لا صبرَ لهم عليه، إنّما قابلْهم بما
يرقّق القلبَ، ويُدمع العينَ، ويحبّبهم بالله تعالى وبرسولِه صلّى الله عليه وآله
وسلّم!
العلمُ
الشرعيُّ ثقيلٌ، يحتاجُ إلى صبرٍ وحِلمٍ ووقتٍ طويل، ولهذا أهلُه، وهم قليلون في
كلِّ عصرٍ ومصر» انتهى!
قال
الله تبارك وتعالى: (خُذِ الْعَفْوَ، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ، وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ).
وقد
رُوي عن الرسولِ صلّى الله عليه وآله وسلم حديثٌ ضعيفُ الإسنادِ، جميل المتن، يشرح
هذه الآيةَ الكريمة.
فعن
عقبةَ بن عامرٍ الجُهنيّ الصحابيّ قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ الله: مَا نَجَاةُ
هَذَا الْأَمْرِ؟
فَقَالَ
لِي: (يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ: صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ،
وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ) قَالَ عقبةُ: ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِي:
(يَا
عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ: (أَمْلِكْ لِسَانَكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ،
وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ) أخرجه الإمام أحمد في موضعين من مسنده.
قال
الراغب الأصبهاني في كتابه «الذريعة إلى مكارم الشريعة» (ص: 96):
-
«العَفوُ عمّن ظلمك؛ نهايةُ الحِلْم والشجاعةِ.
-
وإعطاءُ من حرمكَ؛ نهايةُ الجُود.
-
ووصلُ مَن قَطعك؛ نهايةُ الإحسانِ، و اللهُ أعلم».
قال
الفقير عداب: كتاب الذريعة هذا - على وجازته - من أرقى كتب الأخلاق، وأنا أوصي به
إخواني القرّاء!
وفي
شرحِ نحوِ متن هذا الحديث؛ قال العلّامةُ المناوي في كتابه «فيضُ القدير» (2: 45):
«قال بعضُهم: مَن قابلَ الإساءةَ بالإحسانِ؛ فهو أكملُ أفرادِ بني الإنسانِ، وهو
المُستحِقُّ لقَصْرِ وَصفِ «الإنسانيّةِ» عليه حقيقةً، أو ادّعاءاً ومُبالغةً!
ومِن
ثمراتِ هذا الخُلُق؛ صَيرورةُ العَدوِّ خَليلاً، أو صَيرورتُه قَتيلاً وتَنْتَكِلُ
به سهامُ القدرةِ الإلهيّةِ تنكيلاً!
قال
حُجّة الإسلام الغزالي: «رأيتُ في الإنجيل، قال عيسى عليه السلام: (لقد قيل لكم مِن
قَبْلُ: إنّ السِنّ بالسِنِّ، والأنفَ بالأنفِ والأُذنَ بالأذُنِ!
والآن
أقول لكم: لا تُقابلوا الشَرّ بالشَرِّ، بل: مَن ضَرَبَ خَدّكَ الأيمنَ؛ فحَوّل
إليه الأيْسَرَ، ومَن أخذَ رِداءَك؛ فأعْطِه إزارَك) ونحوُ هذا اللفظ في إنجيل
متّى - الإصحاح الخامس (38 - 40).
قال
الفقير عداب: لا ريبَ أنّه لا يَقدرُ على هذه الأخلاقِ سوى بعضِ الربانيين!
قال
العلامة المُناويّ في الكتاب نفسه (3: 386): «حاولَ بَعضُهم جمعَ الأخلاقَ الحَسنةِ،
فقال: الإحسانُ والإخلاصُ والإيثارُ واتّباعُ السُنّةِ والاستقامةُ والاقتصادُ في
العِبادةِ والمَعيشةِ، والاشتغالُ بعُيوبِ النَفسِ عَن عُيوبِ الناسِ، والإنصافُ
وفِعْلُ الرُخَصِ أحياناً والاعتقادُ مع التَسليمِ، والافْتِقارُ الاختياريُّ
والإنفاقُ بغيرِ تَقتيرٍ وإنفاقُ المالِ لصيانةِ العَرضِ، والأمرُ بالمعروفِ، وتَجنُّبِ
الشُبهةِ واتّقاءُ ما لا بأسَ بهِ لما بِه بأسٌ، وإصلاحُ ذاتِ البَينِ، وإماطةُ
الأذى عن الطريقِ، والاستشارةُ والاستخارةُ والأدبُ والاحترامُ وإجلالُ أفاضلِ البَشَرِ
والأَزمنةِ والأمكنةِ، وإدخالُ السرور على المُؤمنِ، والاسترشادُ والإرشادُ بتربيةٍ
وتَعليمٍ، وإفشاءُ السلامِ والابتداءُ بهِ، وإكرامُ الجارِ وإجابةُ السائلِ
والإعطاءُ قبلَ السُؤالِ واستكثارُ قَليلِ الخَيرِ مِن الغَيرِ، واستصغارُ عَظيمهِ
مِن نَفسهِ،وبَذلُ الجاهِ والجُهدِ،والبِشرُ والبَشاشَةُ والتَواضعُ والتوبةُ والتَعاونُ
على البِرِّ والتَقوى،والتُؤَدَةُ والتَأنّي وتَدبيرُ المَنزلِ المَعيشةِ،والتَفكُّرُ
والتَكبُّرُ على المُتَكَبِّرِ،وتَنزيلُ الناسِ مَنازلهم،وتَقديمُ الأهمِّ،والتَصبّرُ
والتَغافُلُ عَن زَلَلِ الناسِ، وتَحَمّلُ الأذَى والتَهنئَةُ والتَسليمُ لمجاري
القَدَرِ، وتَرْكُ الأذَى وبِطانَةِ السوءِ ومُعاداةِ الرجالِ والتَكلُّفِ والمِراءِ
والتَحْميضُ لدَفعِ المَلالَةِ، والتَحدُّثُ بالنِعمةِ والتَكثيرُ مِن الإخوانِ
والأعوانِ، وتَجمُّلُ الملبسِ والتَسميةُ باسمٍ حَسَنٍ، مع تَغييرِ اللَقَبِ القَبيحِ،
والتَوسعةُ على العِيالِ، وتَجَنُّبُ مَواقِعِ التُهَمِ ومَواضعِ الظُلْمِ والكلامِ
المَنهيِّ عنه، والتَعَرُّف باللهِ، والتَطبّبُ بالطِبّ النَبويِّ والثباتُ في
الأمورِ، والثَقةُ باللهِ وجِهادُ النَفسِ، وجَلْبُ المصالحِ والحُبُّ في اللهِ
والبُغضُ في اللهِ، والحِلْمُ والحَياءُ وحِفظُ الأمانةِ والعَهدِ والعِرضِ، وحُسنُ
الصَمتِ، والتَفهيمُ والتَعَقُّلُ في المَقالِ، والسَمْتُ والظَنُّ الحسنُ والحَزمُ
وطَلبُ المَعيشةِ والمُعاشرةُ والحَميّةُ وخِدمةُ الصلحاءِ والفقراءِ والعلماءِ
والإخوانِ والضَيفِ، والخشوعُ وخَوفُ اللهِ، وخِداعُ الكُفّارِ ودَرءُ المَفاسدِ
ودوامُ التَفَكُّرِ والاعتبارِ والدَأَبُ في طَلبِ العِلمِ والذِلّةُ للهِ والرِفْقُ
في المُعايَشةِ ورحمةُ الصِغارِ والمساكينِ واليَتيمِ والحيوانِ والمريضِ، والرِضا
بالدّونِ مِن المجالسِ والرجاءُ والرِقّةُ للمتأَذّي، والزهدُ والسخاءُ والسماحُ
والسلامُ عند اللقاءِ حتى على مَن لا تَعرفُه والشجاعةُ والشهامةُ والشفاعةُ
والشكرُ والصَبرُ والصِدقُ والصُلحُ والصداقةُ والصُحبةُ وصِلَةُ الرَحمِ والصَمتُ
والصومُ وضَبطُ النَفسِ عن النُفْرةِ، وطهارةُ الباطن والعِفّةُ والعَدلُ والعَفوُ
والعُزلةُ وعُلوُّ الهِمّةِ والغَضبُ للهِ والغَيرةُ الحَميدَة للهِ والغِبطَةُ
والفَزعُ إلى الصلاةِ عندَ الشَدائدِ والفِراسةُ وفِعْلُ ما لا بُدَّ منه، والقيامُ
بحقِّ الحقِّ في الخَلقِ، وقبولُ الحَقِّ وقولُه وإنْ كانَ مُرّاً، والقَناعةُ وقَضاءُ
حوائجِ الناسِ وكظمُ الغَيظِ وكفالةُ اليَتيمِ ولقاءُ القادِمِ ولزومُ الطَهارةِ
والتَهَجُّدُ والصلواتُ المأثورةُ والفَوائدُ الجميلةُ والمُداراةُ والمُخاطبةُ بلِينٍ
ومحاسبةُ النَفسِ ومخالفَتُها والمُعاشرةُ بالمعروفِ، ومَعرفةُ الحقّ لأهلِه ولِمَن
عَرّفه ذلك ومَحبّةُ أهلِ البَيتِ والمكافأةُ والمِزاحُ القَليلُ والعَدلُ والنَهيُ
عن المُنْكَرِ والنُصْحُ والنَزاهةُ والوَرعُ وهَضْمُ النَفسِ، واليَقينُ، ونحوُ
ذلك» انتهى من فيض القدير.
ختاماً:
ليس لي في هذا المنشورِ، سوى تقطيعِه وضبطِ كلماته، تخفيفاً عن بعضِ إخواني
القرّاء، وأرجو من جميع إخواني الدعاءَ بالعافيةِ وحسن الختام.
والحمد
لله على كلِّ حال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق