بَعيداً عن السِياسةِ:
ليستْ الغِلظَةُ طبعي!
بسم الله الرحمن الرحمن
(الْحَمْدُ للهِ، وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ
الَّذِينَ اصْطَفَى).
أمّا بعد: عَتبَ بعضُ الإخوةِ عليّ؛ لعَدَم مراعاتي
الحكمةَ في الخطاب!
وعتب عليّ آخرون بأنني تسبّبت لهم بأضرارٍ نفسيّة،
أو ماديّة، بسبب جفوتي وغلظتي، وهم محسوبون بأنهم من طلّابي!
أقول وبالله التوفيق:
يُخطئ مَن يُظنُّ بأنني لا أستطيع كتابةَ الكلامِ
الرقيق، أو أنني لا أعرف المجاملةَ وخطابَ الكبار!
والصوابُ: أنّ مَن حولي من علماء الأمة ومفكريها
وأدبائها وشعرائها وإِعلاميّيها، أراهم أجمعين أكتعين يجاملون، ويتقعّرون في كلمات
المجاملة والإطراءِ الغالي، فرأيتُ أنّه يتعيّن عليّ الصَدْعُ بالحقِّ، من دونِ
وجلٍ ولا مداهنةٍ.. هذه هي المسألة فحسب!
ترجم ابن حبّان في الثقات (7: 390) الإمامَ محمّدَ
بنَ عبدِالرحمن ابن أبي ذئبٍ القرشيّ، وكان ممّا قال في ترجمته: «كَانَ من
فُقَهَاء أهل الْمَدِينَة وعُبّادِهم، وَكَانَ مِن أَقُولِ أهل زَمَانه بِالْحَقِّ!
دَعاهم هارونُ الرشيدُ فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ،
وَفِيهِمْ مَالك بن أنس، وَابْن أبي ذِئْب، وَسَائِر فُقَهَاء الْمَدِينَة،
فَسَأَلَهُم عَنْ سيرته [يقصد هارون سألهم: كيف ترون سيرتي في الرعية؟] فكُلّهم
قَالَ مَا حَضَره من تَحْسِين ما هُوَ عَلَيْهِ [أيوه هكذا هم علماؤنا وللأسف]!!
فَسَأَلَ ابنَ أبي ذِئْب عَنْ ذَلِك؟ فَقالَ: إِنْ
رأى أَمِيرُ الْمُؤمنِينَ أَن يُعْفِيَني مِنْ هَذَا؛ فَعَل!
فَقَالَ هارون: سَأَلتُك إِلّا صَدَقتَ!
قَالَ: أمّا بعدَ أنْ سَأَلتَ؛ فَإِنِّي أَرَاك
ظَالِما غشوماً، قَعدتَ فِي أَمرٍ لَيْسَ هُوَ لَكَ، وغَصَبتَه عَمَّن هُوَ لَهُ
بِحَقٍّ!
ثمَّ تَأْخُذُ الْأَمْوَالَ من حَيْثُ لَا يَحِلُّ
لَك، وتُنفقُها فِيما لَا يُرضي اللهَ وَرَسولَه، صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وَلَو وجدتُ
أعواناً؛ لخلَعْتُكَ مِن هَذَا الْأَمرِ، وأدخلتُ فِيهِ مَن هُوَ أَنصح للهِ
وللمسلمينَ مِنْك، فَأَطْرَقَ الرشيد
بِرَأْسِهِ!!
قَالَ مالك: فَضممتُ إِليَّ ثِيَابِي، كي لَا
يُصِيبنِي مِن دَمِه!
فَرفع الرشيدُ رَأسَه، فَقَالَ: أما إِنَّك أصدقُ
الْقَوْم! ثمَّ قَالَ لَهُم: قومُوا وأضعف لِابْنِ أبي ذِئْب فِي الْعَطِيَّة» انتهى
المقصود!
انظُرْ إلى رهافةِ حسِّ مالكٍ، خشيَ أن يتطايرَ دم
ابن أبي ذئب، فيعكّر صفوَ أناقةِ مالكٍ وثيابه البيضاء، ولم يخشَ من إزهاقِ روحِ
عالم جليل!
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام (4: 302): كان مالك
بن أنسٍ لا يأخذُ بحديثِ عبداللهِ بن عمر مرفوعاً (البيّعان بالخيار، ما لم
يتفرّقا) أخرجه البخاريّ (2109) ومسلم (1531) فبلغ ذلك محمّدَ بنَ عبدِالرحمن ابن
أبي ذئبٍ، فقال: «يُستتابُ مالكٌ، فإن تابَ، وإلّا ضُربَتْ عُنُقُه».
قال الإمام أحمد معقّباً على هذه الحادثة: «ابن أبي
ذئب؛ أورعُ وأقولُ بالحقِّ من مالك»! فقد عدّ الإمامُ أحمدُ ذلك الموقفَ من مآثر
ابنِ أبي ذئبٍ، ولم يَعُدَّ ذلك غلظةً ولا جفاءً!
وإنْ كنتُ لا أرى ابن أبي ذئبٍ في فتواه هذه مصيباً!
أيها الإخوةُ الكرام: نحنُ - الشعراءَ - من أقدر
خلق الله تعالى على التلاعُبِ بالألفاظ، واستخدام عبارات الذمّ بما يُشبه المدحَ،
وعباراتِ المدحَ بما يشبه الذمَّ، والتوريةِ والمبالغة والاختصار والاضمار
والتعمية.. أجلْ كلَّ هذا نُحسنُه، ونستطيع أن نُلبسُ الحقَّ ثوبَ الباطلِ، ونخلعُ
على الباطل حُلى الحقّ، فيبدو كأنه هو!
وإليك بعضَ الأبياتِ التي كتبتُها، في عام (1971)
قلت عليّ السلام:
القلبُ صفّق تحناناً وعرفانا
والروح ترقص في الأعطاف تيهانا
والعينُ تبسمُ، والأنداء هازجةٌ
تنساح رقراقةً، تنداح ألحانا
ترتّب اللحنَ أنغاماً تذوبُ لها
كوامنُ النفس إذعاناً وتيهاناً
في بردةِ الشعرِ، بتنا في رفارفها
وفرقدَ الكونِ قد رمناه سكنانا
«ما الشعر إلّا عطاءُ الله يمنحه
صَفوَ الأنام أحاسياً ووُجدانا».
وأستاذي النبيل الشاعر السيّد عبدالغني أحمد
الحدّاد، يقول: إنّ البيتَ الأخير من نظمه هو!
أجل أيها الإخوةُ الكرام:
إنني أستطيع أن أقول:
صاحبَ السموّ الملكيّ المعظّم:
إنّ ما يراه بعضُ ضيّقي العَطنِ، عُشِيِّ النظرِ،
متخلّفي التفكير، من أنّ البرامجَ الترفيهيّة التي فطرتموها وابتكرتموها؛ هي خروجٌ
عن الدينِ، ومحادّةٌ لرسولِ ربّ العالمين!
هُمْ لم يُدركوا أبداً أنّك رجلٌ مترَعٌ بالشجاعةِ،
مجتبىً بالبراعة، متجمّلاً بالوضوح والصراحة!
إنّك تعلم أنّ أيَّ مجتمعٍ في الوجود؛ متفاوتٌ في
الذكاءِ والنباهةِ والأخلاقِ والسلوك!
حتى جيلُ الصحابة نفسه، كان كذلك!
لشجاعتك المفرطةِ، ووضوحك التامّ؛ لم يرق لك أبداً
أن يَسودَ في مجتمعك النفاقُ، ويخشى مواطنوك ظهورَ السِرار، فأرشدتهم إلى أن
يتحلَّوا بالعزيمة الصادقةِ، والإرادةِ الحرّةِ، والاختيار المسؤول (فمَن شاءَ؛
فليؤمن، ومَن شاءَ؛ فليكفر)!
مَنْ أراد أن يذهب إلى المسجدِ، يتعبّد الله تعالى،
بجميع ألوان العباداتِ المشروعة؛ فهو ممدوح!
ومَنْ أرادَ أن يروّح عن نَفْسِه ساعةً أو ساعاتٍ
بالنظر البهيجِ، والسماعِ الرَقيق، ثمّ يعود إلى منزله، فيحسن وضوءَه، ويصلّي ما
عليه من الفرائض، ويستغفر الله تعالى ويتوبَ إليه عدّةَ مرّات، وإذا به أمسى مع (مَنْ
تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحاً، فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ
حَسَنَاتٍ، وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).
أجلْ يا صاحبَ السموّ المكيّ المعظّم:
يقول الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إِنَّ اللهَ
كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنْ الزِّنَا، مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ:
فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ؛ النَّظَرُ، وَزِنَا
اللِّسَانِ؛ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ
ذَلِكَ، أَوْ يُكَذِّبُهُ) أخرجه البخاري (6243) ومسلم (2657) وهذا لفظه.
فإذا كان هذا من القدرِ المحتومِ، واللهُ تعالى
يقول: (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) فعلى
المسلم أن يجتهد غايةَ الاجتهادِ في اجتناب الزنا، ظاهراً وباطناً، وأن يستغفر
الله تعالى ويتوب إليه، كلّما ساقته نفسه الأمّارةُ إلى حفلة ترفيهيّة، والله تعالى
أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين» انتهى وحيُ الشيطان، حاشا
الحديث والقرآن !
أيّها الإخوةُ الكرام: إنّ العالم أكبرُ وأعظم من
الحاكم، خاصّةً إذا لم يكن ذاك الحاكم من أهل العلم والدين، ففي هذه الحال؛ عليه
أن يجتنب غِلاظَ الألفاظ، ثمّ ليعظه وينصحه بكلماتٍ حازمةٍ، وليخوّفه من عذاب
النار وبئس المصير.
والعالم في حال نصحه للحاكم الظالم؛ لا يستجديه،
ولا يتملّقُه، إنّما هو يطالبُه مطالبةَ صاحبِ الحقِّ، برفعِ الظلمِ عن المظلومين،
والاعتذارِ إليهم، وتعويضهم، وأن يتوبَ فوراً عن ظلمه وطغيانه، إنْ كان يؤمن بالله
واليوم الآخر.
(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا: تُوبُوا إِلَى اللهِ
تَوْبَةً نَصُوحاً، عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ،
وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، يَوْمَ لَا
يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنا،
وَاغْفِرْ لَنا؛ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
هذا.. وصلّى الله على سولنا محمّد بن عبدالله، وعلى
آله وصحبه وسلّم تسليماً كثيراً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق