الثلاثاء، 5 سبتمبر 2023

  مَسائل حديثية (51):

خُطورةُ القرآنيين المعاصرين على الإسلامِ كلّه!

بسم الله الرحمن الرحيم

(رَبَّنا: عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا، وَإِلَيْكَ أَنَبْنا، وَإِلَيْكَ الْمَصيرُ.

رَبَّنا: لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا، وَاغْفِرْ لَنَا.

رَبَّنَا: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِين).

كتب أحدُ المتخصصين بعلوم الحديثِ، والحاصل على درجة «الدكتوراه» بهذا التخصص منشوراً بعنوان «الإجماعات المزعومة وأثرها في الجمود».

ختم مقاله هذا بقوله: «والحقُّ لا يثبت بالأكثرية والجمع الكبير، ولم يأمرنا الله تعالى في كتابه العزيز الاستدلالَ بكمِّ الناس وإجماعِهم، وإنما أمرنا بالدليل والبرهان.

 على أن دعاوى الإجماع تخضع في كثير منها لأبعاد سياسية أو بيئية أو سلطوية.

فهو سلطة للتسليم بكثير من الآراء وأحوال المتقدمين على أنها دين مجمع عليه، والأصح أن ما كانوا عليه هو إنتاج لمرحلة سياسية بيئية فقهية، لا تصلح أن تمثل دين الله تعالى في كل عصر.

لتبقى حُجّة الله علينا بهدي القرآن والسنة الصحيحة الموافقة له» انتهى المقصود من مقاله.

علّقت على منشوره هذا بقولي: «قلت أنت يا دكتور: (لتبقى حجة الله علينا بهدي القرآن والسنة الصحيحة التي توافقه).

وأنا أقول: أحاديث الأحكام الصحيحة من غير تكرار الصحابي؛ لا تتجاوز ألف حديث، هذه يمكن عرضها على دلالات القرآن الكريم.

لكن يبقى لدينا خمسةُ آلاف حديث في الترغيب والترهيب والإرشاد والتربية والفضائل، ماذا نعمل بها؟

إذا جاءك حديث في صحيح البخاري (3659) يقول فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لامرأة: (إذا لم تجديني؛ فأتي أبا بكر).

أو حديث في صحيح مسلم (78): (لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق).

هات لنرى كيف ستثبت صحته أو ضعفه بالعرض على القرآن العظيم، من دون النظر في الأسانيد»؟

فأجاب بجواب طويلٍ قائلاً: «مصداقاً لقول الله تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيءٍ) فلن يَعسر أن تجد جوابا لكل شيء.

ولذلك النظرُ إلى القرآن الكريم ليس فقط في حرفية نصوصه، وإنما في مقاصده ومحاوره، ولذلك لن تعسر أن تحكم على مثل هذه الأحاديث التي تفضلت بها مثل:

(لا يحبك إلا مؤمن...) على أنها أحاديث موضوعة؛ لأنها تخالف النسق والمقصد القرآني في ربط النفاق والإيمان بحب شخص فقط؛ لأنه ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم والله تعالى لم يجعل محمداً أبا أحدٍ من رجالنا من أجل ذلك!

أضف إلى أنّ البعد السياسي واضح في الحديث، وأحاديث الفتنة ملأت كتب الحديث للأسف سواء عند الشيعة أو السنة، وحتى اعتباراتِ حب النبي صلى الله عليه وسلم أو الكفر لمن خالفه، هي اعتبارات بحكم رسالته ونبوته، لا بحكم شخصه.

فكيف يكون لعلي رضي الله عنه منزلةٌ أعلى من منزلة النبوة والرسالة، والذي يؤكد ذلك كثرة الوضع على علي رضي الله عنه.

ومنها الصحيفة الصادقة المضطربة والتي زُعم أن النَبيَّ خصه بها.

لذلك سعة مقاصد القرآن وقواعده العامة كفيلة بضبط كل شيء، فضلا عن أحاديث الترغيب والترهيب المبنية أصلاً على التساهل عند المحدثين، والتي معظمها يتكلم عن الغيب، من روايات أهل الكتاب حتى أصبح اليهود يحدثون النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الجنة وطعامهم وأحداث يوم القيامة وكيف أن الأرض على أصابع الرحمن.

لتدل كلُّها على أن معظم هذه الأحاديث التي تُدعى الترغيب والترهيب؛ مبنية على الكذب والوضعِ، والمسيئة لدين الله تعالى ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم وللأسف!

ما أغرقنا به المتقدمون من مثل هذه الرواياتِ؛ أصبحنا نُحرج بكثرة رَدّها والطعن بها» انتهى كلامه بتمامه.

أقول وبالله التوفيق: كلامُ كاتب المنشور واضحٌ في أنّ كلّ حديثٍ يرى هو عدمَ توافقه مع ما يفهمه من مقاصد القرآن الكريم؛ هو حديثٌ موضوع!

وإذ إنّ الله تعالى يقول في القرآن الكريم: (ما فرّطنا في الكتاب من شيء) فلا بدّ من وجود ما يدلّ على وضعِ حديث (لا يحبّك إلّا مؤمن) بدلالةِ أنّ متن الحديثِ يعطي لعليٍّ عليه السلام من الفضلِ أكثرَ مما يعطي للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وأنا لن أناقشَ كلامَه هذا أبداً، إذ هو لا يستحقّ المناقشةَ؛ لأنّه يجعل فهم كلّ إنسانٍ حاكماً على الأحاديث الواردة عن الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم!

بإسنادي إلى الإمام مسلم في كتاب الإيمان، باب الدليل على أنّ حبَّ الأنصار وعليّ من الإيمان (78) قال: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَأَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ (ح).

وحَدَّثَنَا يَحْيى بنُ يَحْيَى، وَاللَّفْظُ لَهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيِّ بنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرٍّ قَالَ: قَال عَلِيٌّ: «وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِنَّهُ لَعَهْدُ النَّبِيّ الأُمِّيِّe إِلَيَّ: (أَنْ لا يُحِبَّنِي إِلا مُؤْمِنٌ، وَلا يُبْغِضَنِي إِلا مُنَافِقٌ([1])»([2]).

تعيين مدار الحديث:

مدار حديثِ عليّ عليه السلام في الباب على سليمان بن مهران الكاهليّ المعروف بالأعمش، رواه عنه:

(1) عبدالله بن نمير، عند أحمد في مسنده (642) وفي فضائل الصحابة (961) وابن ماجه (114).

(2) وعبيدُالله بن موسى، عند أبي يعلى في مسنده (291) وأبي عوانة في مستخرجه (62).

(3) والفضل بن موسى، عند النسائي في المجتبى (5018) وفي السنن الكبرى (8433).

(4) ومحمد بن خازم، أبو معاوية التميميّ «الضرير» عند مسلم (78) وابن أبي شيبة في المصنف (32064) وابن ماجه (114).

(5) ومِندَل بن عليّ، عند ابن الأعرابي في معجمه (642).

(6) ووكيع بن الجراح، عند مسلم (78) وابن أبي شيبة في المصنف (32064) وأحمد في مسنده (731) وفي فضائل الصحابة (948) وابن ماجه (114).

(7) ويحيى بن عيسى الرملي، عند الحميديّ (58) والترمذيّ في جامعه (3736) وقال: حسن صحيح.

 فهؤلاء سبعةٌ من الثقات اتّفقوا على أنّ الأعمشَ حدّثهم بهذا الحديث، فإنْ كان الحديث موضوعاً، كما يقول الدكتور كاتب المقال؛ فهؤلاء برآء من وضعه، إنّما يتّهم بوضعه المدارُ أو مَن فوقه!

تراجم أعمدة الإسناد:

(1) الإمام عليّ عليه السلام: أعلم الصحابة وأتقاهم وأورعهم وأشرفهم وأشجعهم، أفيُحتَملُ أنّه هو الذي وضع الحديث؟

(2) زِرُّ بن حُبيشٍ: ترجمه الذهبيّ في تذكرة الحفّاظ (1: 46) وقال: «الإِمَامُ، القُدْوَةُ، مُقْرِئُ الكُوْفَةِ مَعَ السُّلَمِيِّ، أَبُو مَرْيَمَ الأَسَدِيُّ، الكُوْفِيُّ» وقال مثل ذلك في النبلاء (4: 166).

أفيُحتَملُ أنّ هذا الإمام القدوةَ؛ هو الذي وضع الحديث؟

(3) عديّ بن ثابتٍ الأنصاريّ: ترجمه الذهبيّ في النبلاء (5: 188) وقال: «الإِمَامُ الحَافِظُ الوَاعِظُ» قَالَ أَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ وَالعِجْلِيُّ وَالنَّسَائِيُّ: ثِقَةٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوْقٌ.

أفيُحتَملُ أنّ هذا الإمام الحافظَ؛ هو الذي وضع الحديث؟

(4) سليمان بن مهران الأعمش: ترجمه الذهبي في تذكرة الحفاظ (1: 116) وقال: «الحافظُ الثِقة، شيخ الإسلام أبو محمد سليمان بن مهران الأسديّ مولاهم» وترجمه في تاريخ الإسلام (3: 883) وقال: أَحَدُ الأَئِمَّةِ الأَعْلامِ.

وترجمه في النبلاء (6: 226) وقال: الإِمَامُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، شَيْخُ المُقْرِئِيْنَ وَالمُحَدِّثِيْنَ».

أفيُحتَملُ أنّ هذا الإمام، شَيْخُ المُقْرِئِيْنَ وَالمُحَدِّثِيْنَ؛ هو الذي وضع الحديث؟.

الحقيقةُ أنني لست أدري ما أقول: هل يعرف كاتب هذا المقال «تعيين المدار» وهل يعرف أنّه متى روى ثلاثةُ رواةٍ ثقات عن المدار، واتّفقوا على متن الحديثِ، أو على معناه، فكلّ ما يطرأ على الحديث من عللٍ؛ تلحق تَبِعَته المدار أو مَن علاه من الرواة!

- والمدار هو الإمام الأعمش، روى له البخاريّ (377) روايةً، وروى له مسلم (329) حديثاً، فإذا اتّهمناه بوضع حديث الباب (لا يحبّك إلا مؤمن) فهذا يعني أنّ في صحيح البخاري ومسلم (706) أحاديث موضوعة، من رواية راوٍ واحد!

- أمّا شيخُه عديّ بن ثابت؛ فقد روى له البخاري ومسلم (62) روايةً، منها عند البخاريّ (38) روايةً.

فإذا اتّهمناه بوضع حديث الباب (لا يحبّك إلا مؤمن) فهذا يعني أنّ في صحيح البخاري ومسلم (64) حديثاً موضوعاً، من رواية راوٍ واحد!

- وشيخ عديّ في هذا الحديث هو المقرئ زِرُّ بن حُبيشٍ، روى له البخاري ومسلم (13) حديثاً، منها (5) أحاديث عند البخاريّ!

فهل يمكن أن تّهمه بوضع هذا الحديث؟

ختاماً: أنا أطالب أخي كاتب هذا المنشور؛ أن يعيّن لنا - نحن المؤمنين بصحّة هذا الحديث - مَن المتَهَم بوضع هذا الحديث؟

الأعمش، أم عديّ بن ثابت، أم زرّ بن حُبيشٍ، أم عليّ بن أبي طالب؟

وحسبنا الله ونعم الوكيل

(رَبَّنا: ظَلَمْنَا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنا؛ لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).

هذا.. وصلّى الله على نبيّنا محمّد بن عبدالله، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليماً.

والحمد لله على كلّ حال.


([1]) كَلمةُ الكُفرِ، وَكلمةُ النِّفاقِ؛ تُطلقانِ، وَيرادُ مِنهما الرَّغبةُ عَنْ الإِسلامِ، وَتُطلقانِ وَيرادُ مِنهُما كُفرُ النِعمةِ، أَوْ الاِتِّصافِ بِصفةٍ مِنْ صِفاتِ الكافرينَ وَالمنافقينَ. وَمِمِّا لا رَيبَ فيهِ أَنَّ كَلَّ مَنْ خَرجَ عَلى عَليٍّ وَحاربَهُ؛ فَهوَ يُبغضُهُ، وَمِنْ المحالِ أَنْ يُرادُ بِذلكَ رِدَّةُ مُحاربيهِ عَنْ الإِسلامِ، أَوْ إِبطانُهمْ الكُفرَ وَإظهارُ الإِيمانِ، إِنَّما المُقصودُ النِّفاقَ العَمليَّ، وَصِفاتُ النِّفاقِ مَعروفةٌ في الشَرعِ.

([2]) مِنْ حَديثِ الأَعمشِ عَنْ عَديّ بْن ثابت بِهِ مَرفوعاً؛ اِنْفردَ بِهِ مُسلمٌ عَنْ البُخاريِّ، وَأَخرجَهُ أَحمدُ في مُسندِ العَشرةِ (643، 1065) وَابْنُ حِبّانَ في صَحيحِهِ (6924) وَأَبو عَوانةَ في المُسْتَخْرَجِ (1147) وَابْنُ ماجَهْ في المقدمةِ، بابُ فَضلُ عَليٍّ بْنِ أَبي طالبٍ (114) وَالنَّسائيُّ في الإِيمانِ، بابُ عَلامةُ الإِيمانِ (5018) وَابْنُ أَبي شَيبةَ في مُصنفِهِ (32064) وَالبزارُ في مُسندِهِ (560) وَابْنُ أَبي عاصمٍ في السُنةِ (1325) وَابْنُ الأَعرابيِّ في المعجمِ (642) وَأَبو يَعلى في مُسندِهِ (445) وَالتِرمِذيِّ في كِتابِ المناقبِ، بابُ مَناقبِ عَليٍّ (3736) وَقالَ: حَسنٌ صَحيحٌ.

وَأَخرجَهُ أَبو يَعلى في مُسندِه ِ(445) مِنْ حَديثِ النَضرِ بْنِ حُميدٍ الكوفيِّ عَنْ أَبي الجارودِ، عَنْ الحارثِ الهَمدانيِّ عَنْ عَليِّ، وَإِسنادُهُ ضَعيفٌ، لا يُغيَّرُ مَدارَ الحَديثِ بِمِثلِهِ.

وَلِلحَديثِ شاهدٌ مِنْ حَديثِ أُمِّ سَلمةَ رَضي اللهُ عَنها، عِندَ التِرمذيِّ في كِتابِ المناقبِ، في مَناقبِ عَليٍّ (3717) وَأَحمدَ في فَضائلِ الصَّحابةِ (2: 648) وَفَضائلِ الراشدينَ لِأَبي نُعيمٍ (66) وَاللطيفِ لِابْنِ شاهينَ (128) وَقالَ التِرمذيُّ: حَسنٌ غَريبٌ، وَشاهدٌ مِنْ حَديثِ عِمرانَ بْنِ الحُصينِ، عِندَ الطَبرانيِّ في الأَوسطِ (2: 337) وَشاهدٌ مِنْ حَديثِ ابْنِ عَباسٍ عِندَ الطَبرانيِّ في الأَوسطِ أَيضاً (5: 87) وَأَسانيدُ جَميعِها ضَعيفةٌ، وَلَيسَ مِنْ مَنهجِنا تَقويةَ الضَعيفِ بِمثلِهِ.

وَأَخرجَ التِرمذيُّ (3717) مِنْ حَديثِ أَبي سَعيدٍ الخُدريِّ قالَ: «إِنْ كُنّا لَنَعرفُ المنافقينَ نَحنُ مَعشر الأَنصارِ؛ بِبِغضِهمْ عَليَّ بْنَ أَبي طالبٍ» قالَ التِرمذيُّ: حَديثٌ غريبٌ، يَعني: هُوَ حَديثٌ ضَعيفٌ.

وَقَدْ أَخرجَ ابْنُ عَساكرَ في تاريخِ دِمشقَ (42: 287) مِنْ طَرقٍ عَديدةٍ عَنْ جابرٍ نَحوَهُ، وَفي أَسانيدِها ضُعفاءُ، يقوّي بعضها بعضاً، عند من يقوي بالشاهد الضعيف!

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق